شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

ومن ذلك : حذف الضمّة والكسرة في الإعراب : كقولهم : " قام الرّجل إليّك" ، وذهبت جاريتك و" أنا أذهب إليه". وكان سيبويه يجيز هذا ، وأنشد فيه أبياتا ، وأنشد غيره أيضا ممن يوافقه على هذا الرأي ؛ فمما أنشد سيبويه في ذلك قول امرئ القيس :

فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل (١)

فسكّن الباء من" أشرب". والوجه أن يقول : " أشرب" بالرفع.

وقال أبو نخيلة :

إذا اعوججن قلت صاحب قوّم

بالدّوّ أمثال السّفين العوّم (٢)

ولم يقل : " صاحب" ، ولا" صاحب" ، وهما الوجه.

وقال :

وأنت لو باكر مشمولة

صهباء مثل الفرس الأشقر

رحت وفي رجليك ما فيهما

وقد بدا هنك من المئزر (٣)

وقال : " هنك" وسكّن النون.

وقال لبيد :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النّفوس حمامها (٤)

وقال جرير :

ما للفرزدق من عزّ يلوذ به

إلا بنو العمّ في أيديهم الكرب

سيروا بني العّمّ فالأهواز منزلكم

ونهر تيري فما تعرفكم العرب (٥)

والوجه : " فما تعرفكم".

قال سيبويه : " شبهوا هذه الضّمّات والكسرات المحذوفة بالضمة من عضد ، والكسرة من فخذ ، حين قالوا : عضد وفخذ ، غير أن حذفها من عضد وفخذ حسن مطّرد في الشّعر والكلام جميعا ؛ من قبل أنّه لا يزيل معنى ولا يغيّر إعرابا ، وفيما

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٢٢ ، وخزانة الأدب ٣ / ٥٣٠ ، واللسان (حقب).

(٢) البيتان غير منسوبين في سيبويه ٢ / ٢٩٧.

(٣) البيتان منسوبان للأقيشر الأسدي في الخزانة ٢ / ٢٧٩ ،.

(٤) البيت في ديوانه ٣١٣.

(٥) البيتان في ديوانه ٤٨ ، واللسان (شئث).

٢٢١

ذكرناه يزول الإعراب الذي تنعقد به المعاني ، إلا أنه شبّه اللفظ باللّفظ".

وكان أبو العباس محمد بن يزيد والزجاج ينكران هذا ؛ ويأتيان جوازه وينشدان بعض ما أنشدنا ، على خلاف الرّواية التي ذكرنا ؛ فأما بيت امرئ القيس فأنشداه :

فاليوم أسقى غير مستحقب

و" فاليوم فاشرب غير مستحقب

وأما بيت أبي نخيلة فأنشداه :

إذا اعوججن قلت صاح قوّم.

وأنشدا موضع :

هنك من المئزر :

وقد بدا ذاك من المئزر

وموضع : فما تعرفكم العرب : فلم تعرفكم

وأما بيت لبيد فإن الجزم فيه صحيح ؛ لأن المعنى : تراك أمكنة إذا لم أرضها وإذا لم يأتني موتي". وأراد بالموت هاهنا أسباب الموت التي لا يمكن معها براح المكان ومفارقته من العلل الحابسة له والضرورات الدافعة إلى المقام ، وقد تسمّى أسباب الموت موتا ؛ قال الله تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(١).

وقد يجوز أن يكون الجزم أيضا على المجاورة للمجزوم ، كما قالوا : " هذا جحر ضبّ خرب" و" يرتبط" لو حرّك كان منصوبا على التأوّل الذي تأوّله من يرى تسكينه للضرورة ، ويجعل" أو" في معنى" حتى" وإلى أن ؛ كأنه قال : حتى يرتبط بعض النفوس حمامها ، أو" إلى أن يرتبط". وهو يعني نفسه.

قال أبو سعيد : والقول عندي ما قاله سيبويه في جواز تسكين حركة الإعراب للضرورة ؛ وذلك أنّا رأينا القراء قد قرءوا : (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ)(٢) وخطه وكتابه في المصحف بنون واحدة ، ووافقهم النحويون على جواز الإدغام فيه وفي غيره ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٤٣.

(٢) سورة يوسف ، آية : ١١.

٢٢٢

مما تذهب فيه حركة الإعراب للإدغام. فلما كانت حركة الإعراب يجوز ذهابها للإدغام ، طلبا للتخفيف ، صار أيضا ذهاب الضّمّة والكسرة طلبا للتخفيف ، وليس لقول من يأبى ذلك ، ويحتج في فساده بأنه تذهب منه حركة الإعراب ـ معنى ؛ لأن الإدغام أيضا يذهب حركة الإعراب.

وقد حكى قوم من النحويين أن كثير من العرب يسكنون لام الفعل ، إذا اتصلت بها الهاء والميم ، أو الكاف والميم ، كقولهم : " أنا أكرمكم" و" أعظّمكم".

وقد حكي عن بعض القراء :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ)(١)(وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)(٢). وهذا يدل على جواز ما قلناه ويقويه.

ومن ذلك أيضا أنهم يدخلون جزما على جزم ، إذا لم يلتق فيه ساكنان ، وذلك أنهم يجزمون : " يشتري" و" يتّقي" ، فيسقطون الياء.

وربما اضطر الشاعر ، فحذف الكسرة التي تبقى بعد حذف الياء.

فيقول : " لم يشتر زيد شيئا" و" لم يتّق زيد ربّه".

وذلك أنه قد رأى المجزوم مسكّنا للجزم ، والجازم يوجب ذلك ، فلما كان" يشتري" و" يتّقي" لا سبيل فيه إلى التسكين إلا بحذف الياء ، ثم تسكين ما قبلها ، جعل الحذف والتسكين جميعا علامة الجزم ؛ لأن التسكين لا يحصل إلا بهما ، وقد يجوز أن يكون هذا على لغة من يحذف الياء في الرفع ، ويكتفي بكسرة ما قبلها ، كقوله تعالى : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ)(٣) ، فلما جزم حرفا متحرّكا سكّنه. قال الراجز أنشده أبو زيد في نوادره :

قالت سليمى اشتر لنا دقيقا

وهات خبز البّرّ أو سويقا (٤)

آخر :

ومن يتّق فإنّ الله معه

ورزق الله موتاب وغادي (٥)

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٦٧.

(٢) سورة البقرة ، آية : ١٥١.

(٣) سورة الكهف ، آية : ٦٤.

(٤) لم نستدل عليه في المصادر التي بين أيدينا.

(٥) البيت بلا نسبة في اللسان (وقى).

٢٢٣

ومن ذلك أنهم قد يجرون هاء التأنيث في الوصل مجراها في الوقف ، فلا يقلبونها تاء ، ولا سبيل إلى هذا إلا بالتسكين ؛ لأنهم متى حرّكوا وجب القلب قال الشاعر :

لمّا رأى أن لادعه ولا شبع

مال إلى أرطاة حقف فاضّطجع (١)

وقال آخر :

لست إذا لزعبله إن لم أغيّر

بكلتي إن لم أساو بالطّول

ومن الحذف : إقامتهم الصفة مقام الموصوف في الشّعر في الموضع الذي يقبح في الكلام مثله.

قال الشاعر :

فيا الغلامان اللّذان فرّا

إياكما أن تكسباني شرّا

أراد : فيا أيّها الغلامان ، فأقام : " الغلامان" مقام" أيّ" وقبح هذا ؛ لأنّ حرف النداء لا يليه ما فيه الألف واللام ، لأنه يعرّف المنادى إذا قصد ، والألف واللام يعرّفانه ؛ فلا يجتمع تعريفان في اسم واحد. ومثله :

من أجلك يا التي تيّمت قلبي

وأنت بخيلة بالودّ عنّي

يريد : " يا أيتها التي".

وأما قوله :

إني إذا ما حدث ألمّا

دعوت يا اللهم يا اللهمّا (٢)

فليس هذا من ضرورته ، يعني : إدخال" يا" على اسم الله تعالى ، وإنما الضرورة الجمع بين" يا" وبين" الميم" في هذا الاسم ، وذلك أن العرب لا تنادي اسما فيه الألف واللام إلا اسم الله تعالى ، فيقولون : " يا الله اغفر لي" ويبدلون الميم في آخره من حرف النداء عوضا ، فيقولون : " اللهمّ اغفر لنا" ، فإذا اضطرّ الشاعر ردّ الحرف المحذوف ، مع وجود عوضه. وقد مر نحو من هذا.

ومن ذلك : إقامتهم الفعل في موضع الاسم ، إذا كان الفعل نعتا ؛ كما قال النابغة :

__________________

(١) البيتان غير منسوبين في اللسان (ضجع) ، وابن يعيش ٢ / ٨٢.

(٢) ينسبان لأبي خراش الهذلي في ديوان الهذليين ١٣٤٦ ، وبلا نسبة في اللسان (إله) ، وابن يعيش ٢ / ١٦.

٢٢٤

كأنّك من جمال بني أقيش

يقّعقع خلف رجليه بشنّ (١)

أراد : جمل يقعقع. وقال آخر :

لو قلت ما في قومها لم تيثم

يفضلها في حسب وميسم (٢)

أراد : أحد يفضلها.

وهذا الحذف يحسن ويكثر مع" من" كقولك : " منّا ظعن ومنّا أقام" في الكلام والشعر ، وذلك أنهم جعلوا" من" بمعنى" البعض" ، فكأنك قلت : " بعضنا ظعن وبعضنا أقام". قال الله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ)(٣). أي بعض أهل المدينة.

باب البدل

قال أبو سعيد : اعلم أنهم يبدلون الحرف من الحرف في الشعر في الموضع الذي لا يبدل مثله في الكلام لمعنى يحاولونه من تحريك ساكن أو تسكين متحرك ؛ ليستوي وزن الشّعر به ، أو ردّ شيء إلى أصله أو تشبيه بنظيره ؛ فمن ذلك قول شميث بن زنباع في قصيدته :

فأقسم لو لاقى هلالا وتحته

مصكّ كذئب الرّدهة المتأوّب

لأدّاها كرها وأصبح بيته

لديه من الإعوال نوح مسلّب

ولكنّما أهدي لقيس هديّة

بفيّ من اهداها لك الدّهر إثلب

فهمز الألف في" أدّاها" ؛ لأنه لو تركها

ساكنة لم يستقم البيت.

ومثله :

قد كان يذهب بالدّنيا ولذّتها

مواليء ككباش العوس سحّاح (٤)

ويروى : شحّاح ، فهمز الياء من" موالى" لاستقامة البيت.

ومثله :

__________________

(١) ديوانه ١٩٨ ، والخزانة ٢ / ٣١٢.

(٢) ينسبان لحكيم بن معية الربعي في الخزانة ٤ / ٧١ ، وبلا نسبة في سيبويه ١ / ٣٧٥.

(٣) سورة التوبة ، آية : ١٠١.

(٤) البيت لابن يعيش ١٠ / ١٠٣.

٢٢٥

يا عجبا لقد رأيت عجبا

حمار قبّان يسوق أرنبا

خاطمها زأمّها أن تذهبا (١)

فهمز : زأمّها ، والأصل فيه : زامّها ، فهمز الألف ليمكّن دخول الحركة عليها ، وإنما همزها دون أن يبدلها حرفا آخر ؛ لأن أقرب الحروف من الألف الهمزة ، وربما تكلّم بعض العرب بمثل هذا فرارا من التقاء الساكنين ، كنحو" دأبة" و" ضألّ" ؛ لأن الألف ساكنة ، والحروف الأول من الحرف المشدّد ساكن ، فيكرهون الجمع بين ساكنين.

وروي عن أبي زيد أنه قال : صلّيت خلف عمرو بن عبيد في الفجر فقرأ : (وَلَا الضَّالِّينَ) فقلت : ولم فعلت هذا؟ فقال : كرهت أن أجمع بين ساكنين.

ومن ذلك قوله :

لها أشارير من لحم تتمّره

من الثّعالي ووخز من أرانيها (٢)

أراد : " أرانبها" و" من الثعالب" غير أنه كره إبقاء الباء في الحرفين ، فيلزمه تحريكها ، وتحريكها يكسر الشعر ، فأبدل منها حرفا لا يحرّك ، وشبّهها بقولهم : " تظنّيت" و" تقصّيت" في معنى : " تظنّنت" و" تقصّصت" ، أبدلوا ياء من الحرف الأخير ، لما كرهوا التضعيف ، وكذلك أبدلوا" ياء" مما ذكرنا لما احتاجوا إلى استقامة الوزن وسلامة الإعراب.

ومثله :

وبلدة ليس لها حوازق

ولضفادي جمّها نقانق (٣)

أراد : ولضفادع جمّها.

ومن ذلك قولهم :

والله أنجاك بكفّي مسلمه

من بعد ما وبعد ما وبعدمه (٤)

فأبدل الألف هاء في" بعدمه" ؛ لأنّهما متقاربتا المخرج ، وهما بعد من حروف الزيادة ، والهاء شبيهة بالألف ، ألا ترى أنه يفتح ما قبلها في التأنيث ، كما أن الألف

__________________

(١) الأبيات بلا نسبة في شرح ابن يعيش ٩ / ١٣٠ ، واللسان (زمم) (ضلل).

(٢) البيت في اللسان (رنب).

(٣) البيتان بلا نسبة في سيبويه ١ / ٣٤٤.

(٤) البيتان لأبي النجم العجلي في الدرر اللوامع ٢ / ٢١٤ ، وبلا نسبة في ابن يعيش ٥ / ٨٩.

٢٢٦

لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا.

ومن ذلك قول الفرزدق :

راحت بمسلمة البغال عشيّة

فارعى فزارة لا هناك المرتع (١)

وأراد : " لا هنأك المرتع" فقلب الهمزة ألفا ، حين احتاج إلى تسكينها ، كما تقلب الألف همزة إذا احتاج إلى تحريكها.

ومثله :

ولا يرهب ابن العمّ ما عشت صولتي

ولا أختتي من صولة المتهدّد

وإنّي وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي (٢)

أراد : " ولا أختتئ" فقلب من الهمزة ياء حين احتاج إلى تسكينها.

وإنما جعلنا هذا في ضرورة الشعر ؛ لأن الهمزة المتحرّكة إذا كان قبلها فتحة ، أو كانت مضمومة وقبلها كسرة ، كان تليينها أن تجعل بين بين ، ولا تبطل حركتها ، وقد تبطل حركتها في مواضع غير هذه ، وستقف عليها إن شاء الله تعالى. وأما قول حسان :

سالت هذيل رسول الله فاحشة

ضلّت هذيل بما قالت ولم تصب (٣)

وقول الآخر :

سالتاني الطّلاق أن رأتاني

قلّ ما لي قد جئتما بنكر

ويكأن من يكن له نشب يح

بب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ (٤)

فإن هذا ليس من تخفيف الهمز ، وذلك أن من العرب من يقول : " سلته أساله" ، " وهما يتساولان" فلا يهمز ، وإنما أتى به الشاعر غير مهموز على هذه اللغة.

قال أبو العباس محمد بن يزيد : ومن أقبح الضرورات التي ينبغي أن لا يجوز مثلها ولا تصح ، أبيات تروي عن بعض المتقدمين :

إذا ما المرء صمّ فلم يناج

ولم يك سمعه إلا ندايا

ولا عب بالعشيّ بني بنيه

كفعل الهرّ يلتمس العطايا

__________________

(١) البيت في ديوانه ٥٠٨.

(٢) البيتان لعامر بن الطفيل ١٥٥ ، واللسان (ختأ).

(٣) البيت في ديوانه ٦٧ ، وابن يعيش ٤ / ١٢٢.

(٤) البيتان منسوبان لزيد بن عمرو بن نفيل القرشي في سيبويه ١ / ٢٩٠.

٢٢٧

يلاعبهم وودّوا لو سقوه

من الذّيقان مترعة ملايا

فأبعده الإله ولا يؤبّى

ولا يشفى من المرض الشّفايا (١)

فقال أبو العباس : هذه أبيات لو أنشدت على الصواب لم تنكسر ، فلا وجه لإجازتها.

قال أبو سعيد : وقد ذكرها المازنيّ ولم يطعن في روايتها ، وقال : جعلوا ألف الإطلاق بمنزلة هاء التأنيث ، وأنت تقول في هاء التأنيث : " عظاية" و" شكاية" و" نهاية".

قال أبو سعيد : عندي في جوازها وجه آخر ، وهو أنه لما أدخل ألف الإطلاق وقعت الهمزة بين ألفين ، والهمزة تشبه الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات ، فاستثقل ذلك ، فقلب من الهمزة ياء ، كما فعلوا ذلك" بخطايا" و" مطايا" وقد كان : " خطاأا"" مطاأا" قبل أن تقلب ياء.

ووجه آخر ، وهو أن الكسائي حكى أن بعض العرب يقلب من الهمزة ياء في التثنية ، وبعضهم يقلبها واوا ، وبعضهم يدعها همزة على حالها ؛ كقولهم في تثنية" رداء" : " رداءان" و" ردايان" و" رداوان" ، فشبه الشاعر ألف الإطلاق بألف التثنية.

ومن ذلك بدل أسماء الأعلام ، وهو يجيء في الشعر على ثلاثة أوجه : وجه جائز في الشعر والكلام ، ووجه جائز في الشعر دون الكلام ، ووجه لا يجوز في الشعر ولا في الكلام.

فأما ما يجوز في الشعر والكلام ، فنحو تصغير الاسم العلم الذي يعرف بغير التصغير ؛ كقولهم في" عبد الله" : " عبيد الله" ، وفي" زيد" : " زبيد". وهذا جائز في الشعر والكلام.

قال الراعي :

ولا أتيت نجيدة بن عويمر

أبغي الهدى فيزيدني تضليلا (٢)

أراد : " نجيدة بن عامر الخارجي". وقد ينشد هذا البيت على التكبير : " ولا أتيت نجدة بن عامر" وهو مزاحف جائز.

__________________

(١) اللسان (حما).

(٢) البيت في ديوانه ١٣٦ ، واللسان (ضلل).

٢٢٨

وقال النابغة في هذا :

مقرّنة بالعيس والأدم كالقطا

عليها الخبور محقبات المراجل

وكلّ صموت نثلة تبّعيّة

ونسج سليم كلّ قضّاء ذائل (١)

أراد سليمان ، فإمّا أن يكون رخّم ، فأسقط الألف والنون ، كما تقدّم من حكم الترخيم ، وإما أن يكون صغّر تصغير الترخيم ، وهو أن تحذف منه الزوائد ، ثم يصغّر. والزوائد في" سليمان" الياء والألف والنون ، فحذفن كلّهن ، ثم صغّر ما بقي ، كما يقال في" عمران" : " عمير" ، وفي" أزهر" : " زهير" بحذف الزوائد.

وأما ما يجوز في الشعر ، ولا يجوز في الكلام فأن يبدل اسم من الاسم المعروف به ، كما أبدلوا" معبدا" من" عبد الله" ، و" سلّاما" من" سليمان" على غير قياس يوجب ذلك. قال الحطيئة :

وما رضيت لهم حتّى رفدتهم

من وائل رهط بسطام بأصرام

فيه الرّماح وفيه كلّ سابغة

بيضاء محكمة من نسج سلّام (٢)

أراد : " سليمان" عليه‌السلام.

وقال دريد بن الصمة يرثي أخاه عبد الله.

فإن تنسأ الأيّام والدّهر تعلموا

بني قارب أنّا غضاب بمعبد

ثم قال :

تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا

فقلت أعبد الله ذلكم الرّدي (٣)

فسمّاه" معبدا" واسمه" عبد الله" ؛ لأنه رجع إلى معنى العبودة ، وكذلك سمى الحطيئة" سليمان"" سلّاما" ؛ لأن سليمان وسلّاما اشتقاقهما من السلامة.

وأما ما لا يجوز في الشعر ولا في الكلام ، فالغلط الذي يغلطه الشاعر في اسم أو غيره مما يظن أن الأمر فيه على ما قال : كقوله :

والشّيخ عثمان أبو عفّان

__________________

(١) البيتان في ديوانه ص ٧١ ، واللسان (صمت).

(٢) البيتان في ديوانه ص ٢٢٧.

(٣) البيتان في الأصمعيات ص ١١٢.

٢٢٩

فظن أن" عثمان" يكنى" أبا عفّان" ؛ لأن اسم أبيه" عفّان" ، وإنما هو" أبو عمرو" ، فهذا مما لا يجوز.

وكقول آخر :

مثل النّصارى قتلوا المسيحا

وإنما اليهود على ما قالت النّصارى قتلوا المسيح ، وقد أكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(١).

وموضع الإنكار على الشاعر أن الذين اعتقدوا قتله اعتقدوا أن الذين قتلوه هم اليهود ، غير أنه ظنّ لما كان اليهود والنّصارى مخالفين للإسلام وجاحدين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم جميعا مشتركون في سائر من ينكرونه من الأنبياء.

ومثل هذا كثير في الشّعر ، وربما جاء منه ما يظن بعض الناس أنه غلط ، وعند غيره ليس بغلط ، كقول زهير :

فتنتج لكم غلمان أشأم كلّهم

كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم (٢)

فقال الأصمعي وغيره من أهل اللغة : إنه غلط في قوله : " كأحمر عاد" ، وإنما هو : " أحمر ثمود" الذي عقر الناقة ، فنزل العذاب على قومه بعقره ، وصار مشؤوما عليهم.

والعرب تضرب به المثل وتذكره.

قال أمية بن أبي الصلت يصف عاقر الناقة :

فأتاها أحيمر كأخي السهّ

م بعضب فقال كوني عقيرا

أي فعقرها ، يعني الناقة.

وقال بعض أهل اللغة ، العرب تسمي" ثمود"" عادا الآخرة" ، وتسمي قوم هود" عادا الأولى" ؛ لأن ثمود هي عاد الأخرى ، فقول زهير صحيح على هذا.

وفي نحو هذا قول أبي ذؤيب :

فجاء بها ما شئت من لطميّة

يدوم الفرات فوقها ويموج (٣)

فقال الأصمعي : هذا غلط ؛ وذلك أنه ظنّ أن الّلؤلو يخرج من الماء العذب ، لبعده

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ١٥٧.

(٢) البيت في القصائد السبع ١٦٩ ، واللسان (شأم).

(٣) البيت في ديوان الهذليين ١٣٤ ، واللسان (لطم).

٢٣٠

عن مواضع اللؤلؤ. ومعنى يدوم الفرات فوقها ويموج ، أي يسكن مرة ويهيج أخرى بالريح أو زيادة الماء.

وذكر بعض أهل اللغة أن هذا صحيح ، وأن الأصمعي هو الغالط ، وكيف يذهب هذا على أبي ذؤيب ، وهو من هذيل ، ومساكنهم جبال مكّة المطلّة على البحر ومواضع اللؤلؤ؟ وإنما أراد أبو ذؤيب بالفرات هاهنا ماء اللؤلؤة الذي قد علاها ، وجعله فراتا ؛ إذ كان أعلى المياه ما كان فراتا. وقوله : يدوم الفرات ، أي يسكن ويموج ، أي يضطرب ، وإنما أراد أنه يسكن في عين النّاظر مرّة ويضطرب أخرى لصفائها وبريقها ، وأن الماء هو ماء اللؤلؤة. وكقول امرئ القيس :

كبكر المقاناة البياض بصفرة

غذاها نمير الماء غير محلّل (١)

ذكر بعض أهل اللغة أنّ" البكر" هاهنا الّلؤلؤة ، وجعلها بكرا لأنها أول شيء يخرج من الصدف ، وذكروا أنّ اللؤلؤة الكبيرة النفيسة تكون في طرف الصّدفة ، فأول ما تشقّ تخرج ، فلذلك سمّيت بكرا.

وأما قوله : " غذاها نمير الماء" ـ والنمير : العذب المشروب ـ فإنه لم يرد أنها في العذب المشروب ، وإنما أراد أنّ ماء البحر الذي هي فيه غذاء لها ، كغذاء الماء العذب لنا ، والنمير : العذب ، فماء البحر نميرها. وقوله" غير محلّل" أي لا يحلّه أحد مستوطنا مقيما.

وقد تبدل بعض العرب حروفا من حروف لا يجري ذلك مجرى الضرورة ؛ لأنّ ذلك لغتهم كإبدال بني تميم العين من الهمزة.

كما قال ذو الرمة :

أعن ترسّمت من خرقاء منزلة

ماء الصّبابة من عينيك مسجوم (٢)

وإنما أراد : أأن ترسّمت.

وإنما يفعلون هذا في الهمزتين إذا اجتمعتا كراهية اجتماعهما. وهذا الذي نسميه عنعنة تميم. وربما أبدلوا من الهمزة الواحدة مع النون ، وأكثر ذلك في" أن" ؛ وسمّى" عنعنة" لاجتماع العين والنون ، فركبوا منهما فعلا.

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ١٦ ، واللسان (قنا).

(٢) البيت في ديوانه ٥٦٧ ، واللسان (رسم).

٢٣١

وقد يبدل بعضهم من كاف المؤنث شينا كقولهم" منش يا امرأة" ، يريد : منك. قال الشاعر :

فعيناش عيناها وجيدش جيدها

سوى أنّ عظم السّاق منش دقيق (١)

وهذه اللغة في بكر بن وائل ، وتسمى كشكشة بكر.

ومنهم من يبدل مكان الياء المشدّدة والمخفّفة جيما في الوقف. وأكثر ما يكون ذلك في المشددة. قال :

خالي عويف وأبو علجّ

المطعمان اللّحم بالعشجّ

وبالغداة فلق البرنجّ (٢)

وقال في المخفقة :

يا ربّ إن كنت قبلت حجّتج

فلا يزال شاحج يأيتك بج

أقمر نهّات ينزّى وفرتج (٣)

وقد يبدلون من تاء المخاطب كافا ؛ كما قال الراجز :

يا ابن الزّبير طال ما عصيكا

وطال ما عنّيتنا إليكا

لنضربن بسيفنا قفيكا

وكما أبدلت خيبر والنّضير من الثّاء تاء في كثير من الحروف ، كقولهم في" الثوم" : " توم" وفي" المبعوث" : " مبعوت" ، وفي" الخبيث" : " خبيت". قال الشاعر :

ينفع الطّيّب القليل من الرّز

ق ولا ينفع الكثير الخبيت

ويروى أن الخليل قال للأصمعي : لم قال الخبيت؟ فقال : هذه لغتهم ، يجعلون مكان الثاء تاء ، فقال الخليل : فلم جعل الكثير بالثّاء؟ فسكت الأصمعيّ.

قال أبو سعيد : وهذا عندي يحتمل وجهين ؛ أحدهما : أن يكون إبدالهم التاء من الثاء في حروف ما بأعيانها ، و" الخبيث" منها ، ولا يبدلونها في جميع المواضع ، كما أبدل من الثاء الفاء في" مغفور" و" مغثور" و" فوم" و" ثوم" ، ولا يجب البدل في كلّ موضع.

__________________

(١) البيت لمجنون ليلى في ديوانه ٢٠٧ ، واللسان (كشش) ، وابن يعيش ١٠ / ٨.

(٢) الأبيات في سيبويه ٢ / ٢٨٨ ، وابن يعيش ١٠ / ٥٠ ، واللسان (عجج).

(٣) الأبيات في شرح ابن يعيش ١٠ / ٥٠ ، واللسان (الجيم).

٢٣٢

والوجه الثاني : أن يكون الشاعر قاله : " الكتير" بالتاء ، غير أن الرواة نقلوا بالثاء على ما تتكلم به العرب ، ولم ينقلوا" الخبيث" بالثاء ، للقافية التائية ، وفيها :

ليت شعري وأشعرنّ إذا ما

قرّبوها منشورة ودعيت

ألي الفضل أم عليّ إذا حو

سبت إنّي على الحساب مقيت (١)

وقد يبدل الشاعر بعض حروف الجرّ مكان بعض ، وليس ذلك من الضرورة ، كإبدالهم" على" من" عن" كما قال الشاعر :

إذا رضيت علىّ بنو قشير

لعمر الله أعجبني رضاها (٢)

أي" عنيّ".

وقال النابغة الجعدي :

كان رحلي وقد زال النهار بنا

بذي الجليل على مستأنس وحد (٣)

أراد : " زال عنّا". ومثل هذا كثير ، وليس من الضرورة فأستقصيه.

وقد يبدلون من كلام العجم ، إذا تكلموا به فعرّبوه ، وربما اختلفوا في البدل من كلمة واحدة ؛ فمن ذلك أنهم يقولون في الحانوت : " قربق" و" كربج" والأصل فيه : " كربه" ، فبعضهم يجعله بالقاف ، وبعضهم يجعله بالجيم.

وكذلك : " الفالوذج" و" الفالوذق". والأصل فيه بالفارسية : " بالوذه" بين الفاء والباء.

و" دختنوس" و" دختنوش" و" تختنوس" و" تختنوس" والأصل فيه : " دخت نوش".

وقال العجاج :

كأنّه مسرول أرندجا

كما رأيت في النّبيط البردجا (٤)

أراد : " البرده" وهم الرقيق.

وقال أيضا :

__________________

(١) البيتان في ديوانه ١٢ ، واللسان (قوت).

(٢) البيت للقحيف العقيلي في الخزانة ٤ / ٢٤٧ ، وبلا نسبة في شرح ابن يعيش ١ / ١٢٠.

(٣) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ٦ ، والخزانة ١ / ٥٢١.

(٤) البيتان للعجاج في ديوانه ٧ ، واللسان (بردج).

٢٣٣

فهنّ يعكفن به إذا حجا

عكف النّبيط يلعبون الفنزجا (١)

وإنما هو : " البنجكان". قال أبو حاتم : البنجكان : الدّستبند.

وقال أيضا :

يوم خراج يخرج السّمرّجا (٢)

وأصله بالفارسية : " سامرّه" ، يعني : يخرج في كل سنة ثلاث مرّات.

وقال آخر :

لو كنت بعض الشّاربين الطّوسا (٣)

أراد : " أذرنطوس" وهو دواء.

قال آخر وهو رؤبة :

بارك له في شرب أذرنطوس

فعرّب مّرة بالطّوس ، ومرة بأذرنظوس.

وقال آخر :

في جسم شخت المنكبين قوش (٤)

أراد : كوجك ، فغيّر.

ولهذا أشباه كثيرة لا أحصيها ، وليس في شيء مما ذكرناه من تعريب العجمية ، والتكلم بها في الشعر معربة ، ولا في إبدال حرف جر من غيره ، مما تقدّم ذكره ، ضرورة وإنما ذكرناه ليعلم أنه مما يجوز في الكلام والشعر ، ولا ينسب قائله إلى دخول في ضرورة.

ومما لا يجوز إلا في الشعر جعل الكاف في موضع" مثل" اسما ، وإدخال حروف الجر عليها ، كإدخالها على مثل ؛ مثل قولهم : " زيد ككعمرو" ، يريدون به : كمثل عمرو ، فجعلوا الكاف الثانية في موضع مثل ، وجعلوا الكاف الأولى حرف جرّ دخل عليه. قال :

__________________

(١) البيتان في ديوانه ٨ ، واللسان (عكف).

(٢) البيت في ديوانه ٨ ، واللسان (سمرج).

(٣) البيت لرؤبة في ديوانه ٧٠.

(٤) البيت لرؤبة في ديوانه ٧٩ ، واللسان (قوش).

٢٣٤

وصاليات ككما يؤثفين (١)

يعني : كمثل ما يؤثفين ، والكاف الأولى زائدة وهو كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٢) ؛ المعنى ليس مثله ، والكاف زائدة لا غير.

والدليل على ذلك أنّا لو لم نجعلها زائدة لاستحال الكلام ، وذلك أنها إذا لم تكن زائدة ، فهي بمعنى مثل وإن كانت حرفا فيكون التقدير : ليس مثل مثله شيء ، وإذا قدّر بهذا التقدير ، فقد أثبت له مثل ونفي الشّبه عن مثله وهذا محال من وجهين : أحدهما : أن الله تعالى لا مثل له ولا نظير.

والثاني : أن نفس اللفظ به محال في كل أحد وذلك أنّا لو قلنا" ليس مثل مثل زيد أحد" لاستحال وذلك أنا لو أثبتنا لزيد مثلا ، فقد جعلنا زيدا مثلا له. لأن ما ماثل الشيء فقد ماثله ذلك الشيء ، ويجوز أن يكون زيد مثلا لعمرو وعمرو ليس مثلا لزيد ، فإذا نفينا المثل عن مثل زيد وزيد هو مثل مثله فقد أحلنا.

ومن ذلك وضعهم الاسم مكان الاسم على سبيل الاستعارة ، وقد يجري مثله في الكلام حتى لو أخرجه مخرج عن باب الضرورة ، لم يكن بالمخطئ ؛ فمن ذلك قول الحطيئة :

قروا جارك العيمان لما جفوته

وقلّص عن برد الشّراب مشافره (٣)

أراد : شفتيه ، والمشافر للإبل. وقال آخر :

سأمنعها أو سوف أجعل أمرها

إلى ملك أظلافه لم تشقّق (٤)

أراد عقبيه. والأظلاف للبقر والغنم في موضع عقبى الإنسان وقدمه.

وقال آخر يصف إبلا :

تسمع للماء كصوت المسحل

بين وريديها وبين الجضحفل (٥)

والجحفل لذوات الحافر ، وهو من الإبل المشفر.

__________________

(١) البيت لخطام المجاشعي في سيبويه ١ / ١٣ ، والخزانة ١ / ٣٦٧ ، واللسان (أثف).

(٢) سورة الشورى ، آية : ١١.

(٣) البيت في ديوانه ١٨٤ ،.

(٤) البيت في اللسان (ظلف).

(٥) البيتان بلا نسبة في اللسان (جحفل).

٢٣٥

وقال أيضا في هذه الأرجوزة :

والحشو من حفّانها كالحنظل (١)

والحفّان صغار النعام ، فجعلها هاهنا لصغار الإبل.

وقال آخر ، وهو أوس بن حجر :

وذات هدم عار نواشرها

تصمت بالماء تولبا جدعا (٢)

أراد بالتولب : طفلا من الناس ، والتّولب : ولد الحمار ، وقد كان المفضّل روى" جذعا" وأنكره الأصمعي وقال : جدع أي سّيّئ الغذاء. قال : فناظره المفضل وصاح ، فقال الأصمعي : تكلم بكلام النمل وأصب.

وقال آخر :

لها حجل قد قرّعت عن رؤوسه

لها فوقه ممّا تحلّب واشل (٣)

والحجل : إناث القبج ، فوضعها لصغار الإبل.

ويقوي أن هذا خارج من باب الضرورات ما يروى عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : " لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو فرسن شاة" والفرسن للبعير ، لا للشاة.

ومن أقبح الضرورات جعل الألف واللام بمعنى الذي مع الفعل ، كقول طارق بن ديسق :

يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا

إلى ربّنا صوت الحمار اليجدّع (٤)

أراد : الذي يجدّع ، ولو قال : المجدّع للزمه أن يخفض فيقوي ؛ لأنّ القصيدة مرفوعة ففرّ من الإقواء إلى ما هو أقبح.

وفيه عندي وجه آخر ، وهو أنه لم يرد الألف واللام التي بمعنى الذي ، ولا الألف واللام التي للتعريف ، ولكنه أراد ، الذي نفسها ، فحذف الذّال والياء وإحدى اللامين ، لأنه قد رأى الذي يلحقها حذف كقولهم : اللّذ والّلذ ، كما قال :

__________________

(١) البيت بلا نسبة في اللسان (حفن).

(٢) البيت في ديوانه ٥٥.

(٣) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ٢٦٠.

(٤) البيت لدينار بن هلال في الخزانة ١ / ١٤ ، واللسان (جدع) ، وبلا نسبة لابن يعيش ٣ / ١٤٤.

٢٣٦

كالّلذ تزبّى زبية فاصطيدا (١)

وربما حذفوا فأحجفوا وبقّوا من الكلمة الحرف منها والحرفين كقوله :

بالخير خيرات وإن شرّا فآ

ولا أحبّ الشّرّ إلا أن تآ

أراد إلا أن تشا فحذف الشين والألف. ومن روى : " إلا أن تا" بغير همزة غلط ؛ لأن أول هذه الأبيات :

إن شئت أشرفنا كلانا فدعا

الله جهرا ربّه فأسمعا

بالخير خيرات وإن شرّا فآ

والأبيات هي من مشطور الرجز ، وهو : مستفعلن مستفعلن مستفعلن ، كقول العجاج :

ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا (٢)

والقافية العين ، والألف وصل في" دعا" و" أسمعا" ، ثم جعل الهمزة مكان العين ، كما قال :

حدّث حديثين امرأه

فإن أبت فأربعه

وإنما يستجاز هذا لأن العين والهمزة من موضع واحد ، كما قال :

أنا لها بعيرها المذلّل

أحملها وحملتني أكثر

فجعل الرّاء مكان الّلام ؛ لتجاورهما في المخرج.

ومن الضرورة قوله :

ألا يا أمّ فارع لا تلومي

على شيء رفعت به سماعي

وكوني بالمكارم ذكّريني

ودلّي دلّ ماجدة صناع

فجعل" ذكّريني" في موضع" مذكّرة" ، وهذا قبيح ، وذلك لأن فعل الأمر لا يقوم مقام الاسم ، وإنما يقوم الفعل المستقبل والماضي ، كقولك : " كان زيد يقوم" أي قائما ، و" كان زيد قد انطلق" أي منطلقا ، ولكنه اضطر فوضع فعل الأمر موضع الفعل المستقبل في خبر كان ؛ لأن ابتداء كلامه أمر ، وهو قول : " كوني" ومحصول الأمر إنما وقع منه لها

__________________

(١) البيت في ديوان الهذليين ١٥٤ ، واللسان (زبى) ، وابن يعيش ٣ / ١٤٠.

(٢) البيت في ديوانه ص ٧.

٢٣٧

على التذكير ، فلما كان في المعنى أمرا لها بتذكيره استعمل فيه لفظ الأمر ، إذ كان المعنى عليه.

وهذا يشبه قولهم : " أنت الّذي قمت" وذلك أنه لما كان الاسم المبدوء به للخطاب ، والثاني للغائب ، ومعناه معنى الأول ، لم تحفل به ، وردّ الضمير إلى الأوّل ، فقام ردّ الضمير إلى الأول مقام ردّه إلى الثاني ، إذ كان هو هو في المعنى. وكذلك قوله : " وكوني بالمكارم ذكريني" أراد : وذكريني بالمكارم ، أي كوني مذكرة لي بالمكارم.

وأدخل : " كوني" ليتوصل بها إلى ما بعدها ، إذ كانت الفائدة فيه. ومن ذلك قوله :

مهما لي اللّيلة مهما ليه

أودى بنعليّ وسر باليه

إنكّ قد يكفيك بغي الفتى

ودرأه أن تركض العاليه (١)

ومهما لا تكون إلا في الشرط والجزاء كقولك : " مهما تفعل أفعل" وهذا الشاعر لم يرد ذلك ، وإنما أراد : " مالي الّليلة" ، مستفهما ، ثم زاد" ما" الأخرى ، كما تزاد صلة في مواضع ، وكره اجتماع اللفظين ، فقلب من الألف الأولى هاء ، ولو لم يقلب لم ينكسر البيت ولم يفسد ، ولكنه استقبح تكرير اللفظين ، ففعل فيه ما يفعله في غير الضرورة ، لتشاركهما في القبح عنده.

ومن ذلك أن كاف التشبيه لا يتّصل بها مكنيّ في الكلام ؛ لا تقول : " أناكك" ولا" أنت كي" ؛ وذلك أن معنى الكاف ومثل سواء ، فإذا كنّي عن المشبّه استعملوا" مثلا" فقط ، فإذا اضطر الشاعر جاز أن يأتي بعد الكاف بمكنى ، إذ كان معناها معنى" المثل". وقد يجوز اتصال المكني بمثل. قال العجاج :

وأمّ أوعال كها أو أقربا (٢)

وقال امرؤ القيس :

فلا ترى بعلا ولا حلائلا

كه ولا كهنّ إلا حاظلا (٣)

__________________

(١) البيتان لعمرو بن ملقط الطائي في الخزانة ٣ / ٦٣١ ، وبلا نسبة في ابن يعيش ٧ / ٤٤.

(٢) البيت في ملحق ديوانه ٧٤ ، والخزانة ٤ / ٤٧٧ ، واللسان (وعل) ، وابن يعيش ٨ / ١٦.

(٣) البيتان منسوبان لرؤبة بن العجاج في ديوانه ٢٦٦ ، والخزانة ٤ / ٢٧٤.

٢٣٨

باب التقديم والتأخير

قال أبو سعيد : اعلم أن الشاعر قد يضطر حتى يضع الكلام في غير موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه ، فيزيله عن قصده الذي لا يحسن في الكلام غيره ، ويعكس الإعراب ، فيجعل الفاعل مفعولا ، والمفعول فاعلا ، وأكثر ذلك فيما لا يشكل معناه.

فمن ذلك قول الأخطل :

أمّا كليب بن يربوع فليس لها

عند المفاخر إيراد ولا صدر

مثل القنافذ هدّا جون قد بلغت

نجران أو بلغت سوآتهم هجر (١)

أراد : بلغت نجران سوآتهم أو هجر ، وذلك وجه الكلام ؛ لأن السّوآت تنتقل من مكان فتبلغ مكانا آخر ، والبلدان لا ينتقلن ، وإنّما يبلغن ولا يبلغن.

وقال النمر بن تولب :

فإنّ المنيّة من يخشها

فسوف تصادفه أينما

وإن أنت حاولت أسبابها

فلا تتهّيبك أن تقدما

أراد : فلا تتهيّبها ؛ لأنّ المنيّة لا تهاب أحدا. وقال آخر وهو ابن مقبل :

ولا تهيّبني الموماة أركبها

إذا تناوحت الأصداء بالسّحر (٢)

أراد : ولا أتهيّب الموماة. وقال آخر :

كانت فريضة ما تقول كما

كان الزّناء فريضة الرّجم (٣)

ويروى : كما كان الزّناء يحدّ بالرّجم. أراد : كما كان الرّجم فريضة الزّناء.

وليس هذا من جعل المفعول فاعلا ، ولكنه حذف اسم كان وهو" فريضة" ، وأقام مقامها ما كانت مضافة إليه ، وهو" الزّناء" وجعل فريضة الرجم هي خبر كان ، وهو كلام على نظمه ، وتلخيصه : كما كان فريضة الزنا فريضة الرّجم ؛ لأنّ الفريضة هي الواجبة والذي يجب بالزنا هو الرجم ، فأضفت الفريضة إلى الزنا وإلى الرجم جميعا ؛ لأنها من أجل الزنا تجب ، والواجب هو الرّجم ، فأضيف إلى الشيء وإلى سببه ، وحذف من الأول وأقيم

__________________

(١) البيتان في ديوانه ١٠٩.

(٢) البيت في ديوانه ٧٩.

(٣) البيت للنابغة الجعدي في ملحق ديوانه ١٦٠ ، واللسان (زنا).

٢٣٩

مقامه كما يفعل بالمضاف إليه.

ومثل هذا في إضافة شيء واحد إلى شيئين لتعلقه بهما المصدر الذي يضاف إلى الفاعل لوقوعه منه ، وإلى المفعول لوقوعه به ، وإلى الزمان أيضا لوقوعه فيه ، كقول الله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)(١)

وأما قول الشاعر :

 ...

وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر (٢)

ففيه وجهان ؛ أحدهما : ما ذكرناه من التقديم والتأخير ، وذلك أنا الضياطرة هم الذين يشقون بالرماح لقتلهم بها.

والوجه الثاني : أنّ الرّماح تشقى بالضياطرة ؛ لأنه لم يجعلهم أهلا للتشاغل بها ، وحقّر شأنهم جدّا ، فجعل طعنهم بالرّماح شقاء للرماح ، كما يقال : " شقي الخّزّ بجسم فلان" إذا لم يكن أهلا للبسه.

قال الشاعر :

بكى الخّز من عوف وأنكر جلده

وضجّت ضجيجا من جذام المطارف (٣)

ولو قال قائل : إن التقديم والتأخير فيما ذكرناه ليس من الضرورة ، لم يكن عندي بعيدا ؛ لأنها أشياء قد فهمت معانيها ، وليست بأبعد من قولهم : أدخلت القلنسوة في رأسي ، والخاتم في إصبعي.

كما قال الشاعر :

ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه

وسائره باد إلى الشّمس أجمع (٤)

وإنما يدخل الرأس في القلنسوة ، والإصبع في الخاتم ، ورأس الثور في الظل. قال الله تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)(٥) وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح.

وفيها قول آخر ، وهو أنها على غير التقديم والتأخير ، وذلك أن معنى قوله تعالى :

__________________

(١) سورة سبأ ، آية : ٣٣.

(٢) اللسان (ضطر).

(٣) البيت بلا نسبة في سيبويه ٢ / ٢٥.

(٤) البيت بلا نسبة في سيبويه ١ / ٩٢.

(٥) سورة القصص ، آية : ٧٦.

٢٤٠