شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وكان الوجه أن يقول : مولى موال ويلغي الياء لسكونها وسكون التنوين ، فلمّا اضطرّ إلى تحريكها لم يصرف لتمام حركات البناء المانع من الصرف.

وقال آخر :

قد عجبت مني ومن يعيليا

لما رأتني خلقا مقلوليا

أراد : " من يعيل" والكلام فيه كالكلام في الذي قبله ؛ لأن" يعيلى" لا ينصرف مثاله من الصحيح لأنه يفيعل ، وهو تصغير" يعلي".

وربما حملهم على هذا الفرار من الزّحاف في الشعر ، وإن كان البيت يتقوم في الإنشاد على ما ينبغي أن يكون عليه الكلام ؛ فمن ذلك قول المنتخل :

أبيت على معارى فاخرات

بهن ملوّب كدم العباط (١)

ولو أنشد : على معار ، لكان مستقيما غير أنه يصير مزاحفا ؛ لأن الجزء على" مفاعلتن" من الوافر ، فيسكن خامسه ويصير على" مفاعيلن". ويسمى هذا الزحاف : العصب. وذكر المازني أنه سمع أعرابيّا ينشد : أبيت على معار فاخرات ، واحتمل قبح الزحاف لاستواء الإعراب.

وقال آخر :

ما إن رأيت ولا أرى في مدّتي

كجواري يلعبن في الصّحراء (٢)

فجمع بين ضرورتين ، إحداهما : أنه كسر الياء في حال الجرّ ، والثانية : أنه صرف ما لا ينصرف ، وقد ينشد هذا البيت بالهمز : كجواري ، وأنا مبين ذلك في باب البدل من ضرورة الشاعر إن شاء الله تعالى.

 ...

سماء الإله فوق سبع سمائيا (٣)

فأتى بثلاثة أوجه من الضرورة ، منها :

أن" سماء" ونحوها يجمع على" سمايا" كما تجمع" مطيّة" على" مطايا" و" خطيّة" على" خطايا" فجمعه على" سمائي" كما تجمع" سحابة" على" سحائب" وإنما يجمع هذا

__________________

(١) البيت في ديوان الهذليين ص ١٢٦٨ ، واللسان (عبط).

(٢) البيت في شرح ابن يعيش ١٠ / ١٠١ ، والخزانة ٥٢٦.

(٣) الخزانة ١ / ١١٩ ، اللسان (سما).

٢٠١

الجمع في الصحيح دون المعتلّ.

ثم حرّك الياء في حال الجرّ ، وكان حكمه أن يقول : " سبع سماء" كما تقول : " سبع جوار" بحذف الياء ، لدخول التنوين.

والثالث : أنه جمع" سماءة" على" سمائي" كما تجمع" سحابة" على" سحائب" ، والعرب لا تجمع" سماءة" على هذا الجمع ، إنما تقول : " سماءة" و" سماء" كما تقول : " سمامة" و" سمام" ، مثل" تمرة" و" تمر" و" سماوة" و" سموات" ، كما تقول : " سمامة" و" سمامات".

على أن جماعة من النحويين منهم يونس وعيسى بن عمر والكسائي يرون أن ما كان من المعتل الذي لا ينصرف إذا سمّي به ، يجعل خفضه كنصبه من غير ضرورة ، بل هو الحق عندهم : فيقولون في رجل اسمه" جوار" : " مررت بجوارى" قيل : ولا ضرورة عندهم فيه.

ومن ذلك قطع ألف الوصل ، وأكثر ما يكون في أوّل النصف الثاني من البيت.

قال حسان :

لتسمعنّ وشيكا في دياركم

ألله أكبر يا ثارات عثمانا (١)

فقطع الألف في قوله" الله أكبر".

وقال آخر :

ولا يبادر في الشّتاء وليدنا

ألقدر ينزلها بغير جعال (٢)

وكان بعض النحويين يزعم أن الألف واللام للتعريف هما جميعا بمنزلة" قد" وأن الألف قد كان حكمها أن لا تحذف في الكلام ، غير أنهم حذفوها لما كثرت استخفافا لا على أنها ألف وصل. وقائل هذا ابن كيسان واحتج بقطعهم إياها في أوائل الأنصاف الأخيرة من الأبيات.

ولا حجة له في هذا عندي ؛ لأنهم قد يقطعون غير هذه الألف ، من ذلك قول الشاعر :

__________________

(١) البيت في ديوانه ٤١٠ ، والخزانة ٣ / ٢٣٨ ، واللسان (وشك).

(٢) بلا نسبة وبرواية أخرى في اللسان (جعل)

٢٠٢

لا نسب اليوم ولا خلّة

إتسع الخرق على الرّاقع (١)

فقطع ألف" اتّسع" ، وليس هي مع اللام.

وإنما يكثر هذا في النّصف الأخير ؛ لأنهم كثيرا يسكتون على النّصف الأول ، فيصير كأنّه مبتدأ.

قال قيس بن الخطيم :

إذا جاوز الإثنين سرّ فإنّه

بنشر وإفشاء الحديث قمين (٢)

فقطع الألف من" الاثنين" في حشو البيت قبل النصف الأخير.

فإن قال قائل : إذا جاز في الشعر قطع ألف الوصل ، وهي زيادة ، فلم لا يجوز مد المقصور عندكم ، وقد قلتم إنّ الذي أبطل مدّ المقصور أنه زيادة ، وليس للشاعر أن يزيد في الكلام ما ليس منه؟

فإنّ الجواب في ذلك : أنّ ألف الوصل قد يكون لها حال تثبت فيها وهي أن تكون مبتدأ بها ، فإذا اضطرّ الشاعر ، ردّها إلى حال قد كانت لها ، كما يصرف ما لا ينصرف ، فيردّه إلى أصله في الصرف ، وليس كذلك مدّ المقصور ؛ لأنه لا أصل له في ذلك. فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

وقد تزيد العرب في الشعر ياء في الجمع ، فيما ليس حكمه أن يجمع بالياء نحو قولهم : " مسجد" و" مساجيد" في الشعر و" درهم" و" دراهيم" و" صيرف" و" صياريف".

قال الفرزدق :

تنفي يداها الحصا في كل هاجرة

نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف (٣)

وإنما الوجه في الكلام : نفي الدراهم ، والصيارف ، وإنما زاد الياء هاهنا ؛ لأن دخولها في الجمع في غير الضرورة على وجهين ؛ أحدهما : أن يكون الاسم الواحد على خمسة أحرف ، ورابعه حرف من حروف المدّ واللّين ، فتقلبه ياء في الجمع ، كقولهم : " صندوق" و" صناديق" و" قنديل" و" قناديل" و" كرباس" و" كرابيس".

والوجه الثاني : أن يكون الاسم الواحد على خمسة أحرف أو أكثر ، وليس رابعه

__________________

(١) البيت لأنس بن عباس بن مرداس السلمي في سيبويه ١ / ٣٤٩ ، وبلا نسبة في ابن يعيش ٢ / ١٠١.

(٢) البيت في ديوانه ١٠٥ ، واللسان (قمن).

(٣) البيت في ديوانه ص ٥٧٠ ، والخزانة ٢ / ٢٥٥ ، واللسان (هجر).

٢٠٣

حرفا من حروف المدّ واللّين ، فيحذف من الواحد حرف ، حتى يبقى الاسم على أربعة أحرف ، ثم يجمع ، فإذا جمع فأنت مخيّر بين التّعويض من المحذوف ، وبين تركه ؛ فمن ذلك أنك إذا جمعت" فرزدق" حذفت القاف منه ؛ لأنه على خمسة أحرف ، فبقى" فرزد" فتجمعه على" فرازد" ، وإن شئت عوّضت من القاف المحذوفة الياء ، فقلت : " فرازيد" ، وكذلك لو جمعت" منطلق" جمع التكسير ، لجاز أن تقول : " مطالق" و" مطاليق" تعوّض الياء من النون المحذوفة في" منطلق".

فإذا اضطر الشاعر زاد هذه الياء التي تزاد للتعويض ، لأنهما جميعا ليس في أصلهما ياء فتكون الضرورة بمنزلة التعويض.

ومن ذلك أنهم يزيدون النّون الخفيفة والثقيلة في الشعر في غير الموضع الذي ينبغي أن تزاد فيه ، وذلك أن موضع زيادتهما فيما لم يكن واجبا ؛ مثل الأمر والنهي والاستفهام والجزاء ، كقولك : " اضربنّ زيدا" و" لا تأتينّ بكرا" و" هل تقومنّ عندنا" و" إما تذهبنّ أذهب معك" و" لئن أتيتني لأكرمنّك".

ولا يجوز أن تقول : " أنا أقومنّ إليك" لأن هذا واجب ، وقد قال الشاعر ؛ ويقال إنّه لجذيمة الأبرش :

ربّما أوفيت في علم

ترفعن ثوبي شمالات

في فتوّ أنا رابئهم

من كلال غزوة ماتوا (١)

فأدخل النون في" ترفعن" وهي واجبة.

وقال بعض النحويين : إنما أدخلها في الموضع بسبب" ما" ؛ لأنها في لفظ" ما" الجحد ، فأشبهت ـ وإن كانت موجبة ـ المنفيّ لفظا.

قال أبو سعيد : وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن" ربّ" تدخل للتقليل ، وما كان مقلّلا فهو كالمنفي ، حتى أنهم يستعملون" قلّ" في معنى ليس ؛ قال :

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

قليل بها الأصوات إلا بغامها (٢)

أي ليس بها صوت إلا بغامها ، فلما أشبهت" ربّ" بالتقليل الذي فيها المنفيّ ،

__________________

(١) البيتان في خزانة الأدب ٤ / ٥٦٧ ، واللسان (شمل).

(٢) البيت لذي الرمة في ديوانه ٦٣٨ ، واللسان (بغم) ، والخزانة ٢ / ٥٢.

٢٠٤

أدخلوا النون على الفعل الذي بعدها ، كما أدخلوها على ما بعد حرف النفي.

ومن ذلك أنهم يقولون : " أنا" إذا وقفوا عليه ومنهم من يقول : " أنه" فإذا وصلوا حذفوا الألف والهاء ، فقالوا : " أن قمت" بحذف الألف وفتح النون ؛ لأن الألف المزيدة إنما كانت لبيان حركة النون ، وكذلك الهاء ، فإذا وصلت بانت الحركة ، فاستغني عن الألف.

وربما اضطر الشاعر فيثبتها وهو واصل.

قال الشاعر :

أنا سيف العشيرة فاعرفوني

حميد قد تذرّيت السّناما (١)

وقال الأعشى :

فكيف أنا وانتحالي القواف

ي بعد المشيب كفى ذاك عارا (٢)

وكان أبو العباس ينكر هذا ، وينشد بيت الأعشى : " فكيف يكون انتحالي القوافي". ولم ينشد البيت الأول.

فإن قيل : كيف يكون هذا ضرورة ، وفي القرّاء من يثبت هذه الألف في الوصل ، فيقرأ : (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ)(٣) ، وما كان في القرآن ، مثله لا يقال له ضرورة.

قيل له : يجوز أن يكون هذا القارئ وصل في نيّة الوقف ، كما قرأ بعضهم : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً)(٤) و (ما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ)(٥) ، فأثبتوا هاءات الوقف في الوصل ، على نية الوقف ، وإن كان الفصل بين النطقين قصير الزمان.

باب الحذف

قال أبو سعيد : اعلم أن الشاعر يحذف ما لا يجوز حذفه في الكلام ، لتقويم الشعر ، كما يزيد لتقويمه.

__________________

(١) البيت منسوب لحميد بن حريث بن بحدل في الخزانة ٢ / ٣٩٠ ، وبلا نسبة في ابن يعيش ٣ / ٨٤.

(٢) البيت في ديوانه ٤١ ، واللسان (نحل).

(٣) سورة الممتحنة ، آية : ١.

(٤) سورة الأنعام ، آية : ٩٠.

(٥) سورة القارعة ، آية : ١٠.

٢٠٥

فمن ذلك ما يحذفه من القوافي الموقوفة من تخفيف المشدّد ، كقول امرئ القيس ؛ أو غيره :

لا وأبيك ابنة العامريّ لا يدّعي القوم أنّي أفر (١)

وكقول طرفة :

أصحوت اليوم أم شاقتك هر

ومن الحبّ جنون مستعر (٢)

فأكثر الإنشاد في هذا حذف أحد الحرفين ، لتتشاكل أواخر الأبيات ، ويكون على وزن واحد ؛ لأنك إذا قلت : لا يدّعي القوم أنّي أفر ، صار آخر جزء من البيت : " فعل" في وزن العروض ؛ لأنه من المتقارب من الضرب الثالث ، وإذا شددت الراء صار آخر أجزائه" فعول" من الضرب الثاني من المتقارب ، فهو مضطرّ إلى حذف أحد الحرفين ، لاستواء الوزن ، ومطابقة البيت لسائر أبيات القصيدة ، ألا تراه يقول بعد هذا :

تميم بن مرّ وأشياعها

وكندة حولي جميعا صبر (٣)

فهذا من الضرب الثالث لا غير ، ولم يكن بالجائز أن يأتي في قصيدة واحدة بأبيات من ضربين.

ومن ذلك : تخفيف المشدّد وتسكينه ، مع حذف حرف بعده ، كقولهم في" معلّى" : " معل" وفي" عنّى" : " عن". قال الشاعر وهو الأعشى :

لعمرك ما طول هذا الزّمن

على المرء إلا عناء معن (٤)

أراد معنّى ، فحذف الياء وإحدى النونين :

وقال أيضا في هذه القصيدة :

وعهد الشّباب وثاراته

فإن يك ذلك قد زال عن (٥)

يريد : عنّي.

وقال لبيد :

__________________

(١) البيت في ديوان امريء القيس ١٥٤ ، والخزانة ٤ / ٤٨٩.

(٢) البيت في ديوانه ٤٥.

(٣) البيت في ديوان امريء القيس ١٥٤ ، والخزانة ٤ / ٤٨٩.

(٤) البيت في ديوانه ١٤.

(٥) البيت في ديوان ١٤.

٢٠٦

وقبيل من لكيز شاهد

رهط مرجوم ورهط ابن المعل (١)

أراد : المعلّي.

وأول هذه القصيدة :

إنّ تقوى ربّنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل (٢)

وإذا كان ما ذكرناه من الحذف جائزا ، فحذفهم ياء المتكلّم ، وتسكين ما قبلها أجوز ، كما قال لبيد في البيت الذي أنشدته : " ريثي وعجل" ، أراد : عجلي.

وقد يحذفون أيضا من القصائد المطلقة على إنشاد من ينشدها بالوقف ، الحذف الذي ذكرناه في المقيد. قال النابغة :

إذا حاولت في أسد فجورا

فإنّي لست منك ولست من (٣)

أراد : مني ، والقصيدة مطلقة ، وإنما هذا إنشاد بعضهم.

ومن ذلك الترخيم ، والترخيم على ثلاثة أوجه ؛ أولها : ترخيم النداء ، وهو أن تحذف من آخر الاسم المنادى تخفيفا ما تقف على تقصّيه في باب الترخيم ، غير أنا نذكر ما يتصل به ضرورة الشاعر.

وهذا الترخيم يجيء على ضربين ؛ أحدهما : أن تحذف من آخر الاسم المنادى ما يجوز حذفه ، ويبقى سائر الاسم على حاله ، كقولك في ترخيم" حارث" : " يا حار" وفي" حنظلة" : " يا حنظل" وفي" هرقل" : " يا هرق" بتسكين القاف.

والضرب الثاني : أن تحذف للترخيم ما يجوز حذفه ، وتجعل باقي الاسم كاسم غير مرخّم ، فتجريه في النداء على ما ينبغي للاسم المفرد ، غير المرخم ، كقولك في" حارث" : " يا حار" ، وفي" حنظلة" : " يا حنظل" وفي" هرقل" : " يا هرق".

وهذا الترخيم إنما يكون في النداء ، فإذا اضطر الشاعر ، فليس بين النحويين خلاف أنه جائز له في غير النداء ، على أنه يجعله اسما مفردا ، ويعربه بما يستحقّه من الإعراب ، فيقول : هذا حنظل ، و" مررت بحنظل" و" رأيت حنظلا".

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٩٩ ، واللسان (رجم).

(٢) ديوانه ١٧٤.

(٣) ديوانه ١٩٩.

٢٠٧

قال الشاعر :

ألا هل لهذا الدّهر من متعلّل

عن النّاس مهما شاء بالنّاس يفعل

وهذا ردائي عنده يستعيره

ليسلبني عزّى أمال ابن حنظل (١)

وقد اختلف النحويون في الوجه الأوّل من الترخيم في غير النداء لضرورة الشعر ؛ كقولك : " هذا حنظل قد جاء" و" هذا هرق قد جاء" و" مررت بهرق وحنظل" تحذف آخره وتبقي ما قبل المحذوف على حاله ، فكان سيبويه وغيره من المتقدمين البصريين والكوفيين يجيزونه ، وأنشدوا في ذلك أبياتا منها :

خذوا حذركم يا آل عكرم واحفظوا

أواصرنا والرّحم بالغيب تذكر (٢)

ففتح الميم من" عكرم" ؛ لأن أصله عكرمة ، فحذف الهاء ، وبقّى الميم على حالها.

وأنشدوا أيضا :

ألا أضحت حبالكم رماما

وأضحت منك شاسعة أماما (٣)

أراد : أمامة ، فحذف الهاء وبقّى الميم على حالها ، وهي غير مناداة.

وأنشدوا أيضا لابن أحمر :

أبو حنش يؤرّقني وطلق

وعبّاد وآونة أثالا (٤)

فذكر سيبويه أن أثالا معطوف على" أبو حنش وطلق" ، غير أنه قد حذف الهاء منه وأصله : " أثالة" وبقّي الّلام على فتحها.

ومن ذلك :

ألا يا أمّ فارع لا تلومي

على شيء رفعت بهذا سماعي

أراد" فارعة".

وكان أبو العباس محمد بن يزيد ينكر هذا ولا يجيزه في الشعر ، ويعلل الأبيات ، فذكر أن قوله : " خذوا حظّكم يا آل عكرم" ، يذهب بعكرم مذهب القبيلة ، ففتح الميم ؛ لأنه لا ينصرف ، لا للترخيم.

__________________

(١) البيتان للأسود بن يعفر في سيبويه ١ / ٣٣٢.

(٢) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ٢١٤ ، والخزانة ١ / ٣٧٣.

(٣) البيت لجرير في ديوانه ٥٠٢ ، والخزانة ١ / ٣٨٩.

(٤) البيت في اللسان (حنش).

٢٠٨

وذكر أن الرواية في البيت الثاني :

ألا أمست حبالكم رماما

ولا عهد كعهدك يا أماما (١)

وذكر أن" أثال" في بيت ابن أحمر ، معطوف على النون والياء في" يؤرّقني" ، فموضعه نصب لذلك.

قال أبو سعيد : والذي عندي في" أثال" غير ما قال الفريقان ، وهو أن" أثال" لم يحذف منه هاء ؛ لأنّه ليس في الأسماء" أثالة" ، وإنما هو" أثال". ولم ينصبه للعطف على النون والياء ، في" يؤرّقني" : لأن ابن أحمر يبكي قوما من عشيرته ماتوا أو قتلوا ، فيهم أبو حنش وطلق وعبّاد وأثال ، فرفع الأسماء المرفوعة بيؤرقني فدلّ يؤرّقني على أنه يتذكّرهم ؛ لأنهم لا يؤرقونه إلا وهو يذكرهم ، فنصب" أثالا"" بأذكر" الذي قد دلّ عليه يؤرّقني ، وهذا قول أظن الأصمعي قاله في تفسير شعره.

ومثله :

إذا تغنّى الحمام الورق هيّجني

ولو تعزّيت عنها أمّ عمّار (٢)

نصب" أمّ عمار" بفعل مضمر ، كأنه قال : فذكّرني أمّ عمار ؛ لأن التهيّج لا يكون إلا بالذكر.

وأما قوله : " ألا يا أمّ فارع" فلم يذكره أبو العباس.

والقول عندي ما قاله سيبويه وسائر المتقدمين ؛ لعلتين ؛ إحداهما الرواية في" أماما" ، والثانية : القياس ، وذلك أن هذا الترخيم أصل جوازه في النداء ، فإذا اضطّر الشاعر إلى ذكره في غير النداء ، أجراه على حكمه في الموضوع الذي كان فيه ؛ لأن ضرورته في النقل من موضع إلى موضع.

وأما قول ذي الرّمّة :

ديار ميّة إذ ميّ تساعفنا

ولا ترى مثلها عجم ولا عرب (٣)

ففيه قولان ؛ أحدهما : أنه رخم" ميّة" للضرورة ، على ما تقدّم القول فيه. والثاني : أن المرأة تسمى بميّ وميّة ، وهما اسمان لها ، فمرة يسمّيها بهذا ، ومرة يسمّيها بهذا.

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) البيت بلا نسبة في سيبويه ١ / ١٤٤.

(٣) البيت في ديوانه ٣ ، واللسان (عجم) ، وخزانة الأدب ١ / ٣٧٨.

٢٠٩

والوجه الثاني من الترخيم : أن ترخّم الاسم ، فيبقى من حروفه ما يدلّ على جملة الكلمة من غير مذهب ترخيم الاسم المنادى. وهذا أيضا من ضرورات الشعر. قال لبيد :

درس المنا بمتالع فأبان

 ... (١)

وقال علقمة بن عبدة :

كأنّ إبريقهم ظبى على شرف

مفدّم بسبا الكتّان ملثوم (٢)

أراد : بسبائب الكتان. وقال آخر :

عليّة ما عليّة ما

عليّة أيّها الرّجل

علّيّة بالمدينة وال

مطا مرحولة ذلل

يريد : المطايا.

ومنه أيضا :

قلنا لها قفي لنا قالت قاف

لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف (٣)

فاكتفى بالقاف من" وقف". وقال آخر :

لو شئت أشرفنا كلانا فدعا

الله جهرا ربّه فأسمعا

بالخير خيرات وإن شرّا فآ

ولا أريد الشّرّ إلا أن تآ

وقوله : " فآ" أراد : فأصابك الشّرّ ، وأطلق الهمزة بالألف ؛ لأنها مفتوحة.

قال أبو زيد : فأراد فالشرّ إن أردت ، فأقام الألف مقام القافية. والذي ذكرته آثر في نفس ؛ لأن فيه همزة مفتوحة. والذي ذكر أبو زيد ليس فيه همزة إلا أن تقطع ألف الوصل من الشر ، وفيه قبح. وقوله : " إلا أن تآ" ، قال أبو زيد : أي إلا أن تشاء ، فحذف الشين والألف ، واكتفى بالهمزة والتاء ، وأطلقها للقافية ، والهمزة مكسورة من" تشائي" ؛ لأن الخطاب لمؤنث ، وهي مفتوحة من" تأ". وأحب إليّ مما قاله ما قال بعضهم : " إلا أن تأبى الخير".

وقال العجاج :

قواطنا مكة من ورق الحمى (٤)

__________________

(١) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ١٣٨.

(٢) البيت في ديوانه ١١٣ ، واللسان (برق).

(٣) البيتان للوليد بن عقبة بن أبي معيط في الأغاني ٤ / ١٨١.

(٤) ديوانه ٥٩ ، واللسان (ألف) ، والخزانة ٣ / ٥٥٤ ، وابن يعيش ٦ / ٧٥.

٢١٠

وهو يريد الحمام ، فرخمها.

وفي كيفيّة ترخيمها ثلاثة أوجه ؛ يجوز أن يكون حذف الألف والميم من الحمام ؛ للترخيم الذي ذكرناه ، فبقى : " الحم" فخفضه وأطلقه للقافية.

والوجه الثاني : أن يكون حذف الألف ، فبقي" الحمم" فأبدل من الميم الثانية ياء استثقلالا للتضعيف ، كما قالوا في" تظنّنت" : تظنّيت ، وفي" أمّا" : " أيما" ، ويحتمل أن يكون حذف الميم ، وأبدل من الألف ياء ، كما تبدل من الياء ألف ، كقولهم في" مداري"" مدارى" وفي" عذاري" : " عذارى".

والوجه الثالث من الترخيم ترخيم التصغير ، وهو جائز في الكلام وفي الشعر وهو أن تصغّر الاسم على حذف ما فيه من الزوائد ، كقولهم في تصغير" أزهر" : " زهير" ، وفي تصغير" حارث" : " حريث" ، وفي" فاطمة" : " فطيمة" ولا حاجة بنا إلى استقصائه هاهنا ؛ لأن الشعر غير مختص به دون الكلام.

ومن ذلك قصر الممدود ، وقد أجمع على جوازه النحويون ، غير أن الفراء يشرط فيه شروطا يهملها غيره ، فمن ذلك قول الراجز :

لا بدّ من صنعا وإن طال السّفر (١)

وإنما هو : " صنعاء" ممدود.

وقول الأعشى :

والقارح العدّا وكلّ طمرّة

ما إن تنال يد الطّويل قذالها (٢)

وإنما هو" العداء" فعّال من العدو.

وقال شميت بن زنباع :

ولكنما أهدي لقيس هديّة

بفيّ من اهداها لك الدّهر إثلب (٣)

وزعم الفراء أنه لا يجوز أن يقصر من الممدود ما لا يجوز أن يجيء في بابه مقصورا ، نحو" حمراء" و" صفراء" لا يجوز أن تجيء مقصورة ؛ لأن مذكّرها" أفعل" ، وإذا كان المذكر" أفعل" لم يكن المؤنث إلا" فعلاء" ممدودة. وكذلك لا يقصر" فقهاء" ، لأنه

__________________

(١) البيت في اللسان (صنع).

(٢) البيت في ديوانه ٢٥ ، واللسان (قرح).

(٣) البيت بلا نسبة في اللسان (ثلب).

٢١١

جمع" فقيه" ، وما كان من" فعلاء" جمع" فعيل" لم يكن إلا ممدودا ، نحو" كريم" ، و" كرماء" لم يجئ غير ذلك. فقد منع القياس الذي ذكرنا مجيء الممدود الذي وصفناه مقصورا ، فلا يجوز عنده في الشعر أن يجيء مقصورا ، وكذلك ما كان من المقصور له قياس يوجب قصره ، لم يجئ في الشعر ممدودا عنده. وهو يجيز أن يمدّ المقصور ، وإنما يجيز قصر الممدود الذي يجوز أن يجئ في بابه مقصورا ، نحو" الحداء" ، و" الدّعاء" ، لأنه قد جاء" البكا" مقصورا أو نحو" الغطاء" و" الكساء" و" العطاء" ؛ لأنها أسماء لأشياء لا يوجب القياس مدّها ، ولها نظائر مقصورة نحو : " المعا" ، و" العصا" ، و" الهدى". ولا يجيز أيضا مدّ" سكرى" ، و" غضبى" ؛ لأن مذكّرهما : " سكران" و" غضبان" وهما يوجبان قصر مؤنثهما. ويجوز عنده مد" الرّحا" و" العصا" ؛ لأن مثلهما في الأسماء" العطاء" و" السّماء".

وأهل البصرة يجيزون قصر كلّ ممدود ، ولا يفرقون بين بعضه وبعض ، ولا يجيزون مد المقصور إلا الأخفش ومن تبعه. وكان الأخفش يجيز مدّ كلّ مقصور كما أجاز قصر كل ممدود من غير استثناء ولا شرط.

والحجة في جواز قصر كل ممدود على خلاف ما قال الفراء الأبيات التي أنشدناها ، وذلك أن قول الأعشى : " القارح العدّا وكلّ طمرّة" لا يجوز أن يجيء في بابه مقصور ، وذلك أنه" فعّال" لتكثير الفعل ، كقولك : " قتّال" و" ضرّاب" ولا يجيء في هذا" فعّل" فيكون مقصورا من المعتل.

وقول شميت : " بفيّ من اهداها" وهو مصدر من" أهدى يهدي". ولا يكون" الإهداء" إلا ممدودا ، مثل" أكرم إكراما" و" أخرج إخراجا" ولا يجيء في هذا الباب" إفعل" في مصدر" أفعل" ، ليس في الكلام مثل : " أكرم إكرما" ، فيكون مثاله من المعتلّ مقصورا.

وذكر الفراء قوله :

لا بدّ من صنعا وإن طال السّفر (١)

فقال إنما قصرها ؛ لأنّها اسم ، وليس بمنزلة" حمراء" التي لها مذكّر يمنع من قصرها ، ولم أره ذكر البيتين الآخرين ، على أنه قد أنشد في بعض شواهده قوله :

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

٢١٢

فلو أنّ الأطبّا كان حولي

وكان مع الأطبّاء الأساة (١)

و" الأطبّا" جمع" طبيب" والقياس يوجب مدّه ويمنع من قصره.

وأنشد الأخفش وغيره من البصريين في مد المقصور قوله :

سيغنيني الذي أغناك عنيّ

فلا فقر يدوم ولا غناء (٢)

والغنى مقصور.

وليس له في ذلك حجة من وجهين ؛ أحدهما : أن البيت يجوز إنشاده بفتح الغين : " فلا فقر يدوم ولا غناء". و" الغناء" ممدود ، ومعناه معنى" الغنى". ويجوز أن يكون" غناء" مصدر" غانيته" أي فاخرته بالغنى عنه ، كما قال :

كلانا غني عن أخيه حياته

ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا (٣)

أي غنيّ بعض عن بعض.

وأنشد الفراء أو غيره من الكوفيين في مد المقصور :

قد علمت أخت بني السّعلاء

وعلمت ذلك مع الجراء

أنّ نعم مأكولا على الخواء

يا لك من تمر ومن شيشاء

ينشب في المسعل واللهاء (٤)

فمد" السّعلا" وهو مقصور ، وكذلك : " الخواء". وهذه أبيات غير معروفة ، ولا يعرف قائلها ، وغير جائز الاحتجاج بمثلها. ولو كانت صحيحة لم يعوزنا تأوّلها على غير الوجه الذي تأوّلوه عليه.

فإن قال قائل : ما الفرق بين جواز قصر الممدود ومد المقصور؟

قيل له : قصر الممدود تخفيف ؛ وقد رأينا العرب تخفّف بالترخيم وغيره ، على ما تقدّم وصفنا له ، ولم نرهم يثقّلون الكلام بزيادة الحروف ، كما يخفّفونه بحذفها ، فذلك فرق ما بينهما ، وشيء آخر وهو أنّ قصر الممدود ، إنما هو حذف زائد فيه ، وردّه إلى أصله ، ومد المقصور ليس برادّ له إلى أصل.

__________________

(١) البيت بلا نسبة في شرح ابن يعيش ٧ / ٥.

(٢) البيت بلا نسبة في اللسان (غني).

(٣) البيت للمغيرة بن حبناء التميمي يف اللسان (غني).

(٤) الأبيات بلا نسبة في اللسان (حدد) ، وشرح ابن يعيش ٦ / ٤٢.

٢١٣

ومن ذلك حذف النّون الساكنة من الحروف التي بنيت على السكون ، نحو" من" و" لكن" وإنما تحذف لالتقاء الساكنين ، كما قال الشاعر :

فلست بآتيه ولا أستطيعه ولاك

اسقني إن كان ماؤك ذا فضل (١)

أراد : ولكن اسقني ، فلم يتّزن له.

ومنه قول الأعشى :

وكأنّ الخمر المدامة مل إس

فنط ممزوجة بماء زلال (٢)

ومثله كثير في الشعر ، وإنما ألقوها لالتقاء الساكنين ؛ لأن النون تشبه حروف المدّ واللّين ، وحروف المدّ واللين تحذف لاجتماع الساكنين ، ومع ذلك فإنهم يحذفون التنوين الذي هو علامة الصرف ، لاجتماع الساكنين وإن كان الاختيار فيه التحريك ، والتنوين نون ساكنة ، فشبّهوا هذه النون التي وصفنا بالتنوين ، غير أن حذف التنوين لالتقاء الساكنين جائز في الكلام وفي الشعر.

فأما في الكلام : " فقد قريء : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ)(٣).

قال : وحدثني غير واحد من أصحابنا عن أبي العباس محمد بن يزيد أنه سمع عمارة ابن عقيل يقرأ : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ)(٤) فقلت له : لو قلت سابق النهار ، فقال : لو قلت سابق النهار لكان أوزن ، يعني أثقل.

قال أبو سعيد : حضرت أبا بكر بن دريد وقد أنشد أبياتا تنحل آدم ، وهي :

تغيّرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغيّر كلّ ذي لون وطعم

وقلّ بشاشة الوّجه المليح (٥)

فقال أبو بكر : أول ما قال أقوى. فقلت له : إنشاد البيتين على وجه لا يكون إقواء ، وإنما هو : وقلّ بشاشة الوجه المليح ، على تقدير : وقلّ بشاشة الوجه المليح ، فطرح التنوين ، لالتقاء الساكنين ، ومعنى : قلّ بشاشة الوجه المليح ، كمعنى : وقلّ بشاشة الوجه

__________________

(١) البيت للنجاشي الحارسي في الخزانة ٤ / ٣٦٧ ، وبلا نسبة في اللسان (لكن).

(٢) البيت في ديوانه ٥ ، واللسان (اسفنط).

(٣) سورة الإخلاص ، آية : ١ ، ٢.

(٤) سورة يس ، آية ٤٠.

(٥) البيتان منسوبان لآدم في تاريخ الطبري ١ / ١٤٥.

٢١٤

المليح ، غير أنه نقل الفعل إلى الوجه ، ونصب بشاشة على التمييز ، كما قال الله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(١) وإنما هو : واشتعل شيب الرأس ، غير أنه حوّل فعل الشّيب إلى الرأس ، ونصب شيبا على التمييز. ويجوز أن يكون جعل بشاشة ، وهي مصدر ، في معنى الحال ، فكأنّه قال : وقلّ باشّا الوجه.

ومما ينشد من الشعر في حذف التنوين لالتقاء الساكنين قول حسان :

لو كنت من هاشم أو من بني أسد

أو عبد شمس أو أصحاب اللّوا الصّيد

أو من بني زهرة الأخيار قد علموا

أو من بنى خلف الخضر الجلاعيد (٢)

أراد : من بني خلف الخضر.

وقال أبو الأسود :

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلا قليلا (٣)

وأنشد الفراء :

لتجدنّي بالأمير برّا

وبالقناة مدعسا مكرّا

إذا غطيف السلميّ فرّا (٤)

أراد : غطيف السّلمىّ.

وحذف التنوين غير داخل في ضرورة الشّعر ؛ لالتقاء الساكنين. وإنما ذكرناه للفصل بينه وبين نون "من" و "لكن" ؛ لأن حذفها لاجتماع الساكنين ، في ضرورة الشعر.

وقد رأيت بعض من ذكر ضرورة الشعر أدخل فيه حذف التنوين وليس هو عندي كذلك. وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأ : (قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)(٥) ويذكر أنه اسم عربي ، وأنه حذف التنوين منه لالتقاء الساكنين. فهذا أبو عمرو يختاره على غيره ويفسّره هذا التفسير ، فكيف يدخل في ضرورة الشعر؟

ومن ذلك حذف الياء في حالة الإضافة ومع الألف واللام ، تشبيها بحذفهم إيّاها مع التنوين كقولهم "هذا قاض بغداد قد أقبل" ، في الشّعر ، و "هذا القاض". والوجه في هذا أن يقال : "هذا قاضي بغداد قد أقبل" و "هذا القاضي".

__________________

(١) سورة مريم ، آية ٤.

(٢) البيتان في ديوانه ص ١٣٣.

(٣) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص ١٢٣ ، والخزانة ٤ / ٥٥٤ ، واللسان (عتب).

(٤) الأبيات في اللسان (غطف).

(٥) سورة التوبة ، آية : ٣٠.

٢١٥

وذلك أن قولنا : هذا قاض ورام وغاز ، إنما حذفت منه الياء ؛ لأنها سكنت لاستثقال الضم والكسر عليها ، ولقيت التنوين ، وهو ساكن ، فسقطت لالتقاء الساكنين ، فإذا أضيف زال التنوين ، فعادت الياء ، غير أن الشاعر إذا اضطرّ حذفها تشبها بحذفهم لها مع التنوين ، وذلك أن التنوين والإضافة يتعاقبان ، فكلّ واحد منهما يشبه صاحبه في النيابة عنه والقيام مقامه.

وقال خفاف :

كنواح ريش حمامة نجديّة

ومسحت باللّثتين عصف الإثمد (١)

ويقال : إن هذا البيت مصنوع ، وما وجدته في شعر خفاف.

وأما حذف الياء مع الألف واللام ، فإن سيبويه قد ذكره في باب ضرورة الشاعر فأنكره كثير من الناس وقالوا : قد جاء في القرآن بحذف الياء في غير رؤوس الآي.

وقرأ به عدد من القراء كقوله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً)(٢) وفي آي غيرها. وما جاء في القرآن وقرأت به القراء لم يدخل مثله في ضرورة الشعر.

والذي أراد سيبويه عندي غير ما ذهبوا إليه ، وذلك أن حذف الياء مما ذكرنا يتكلم به بعض العرب ، والأكثر على إثباتها كما قال كثير :

على ابن العاصي دلاص حصينة

أجاد المسدّى سردها وأذالها (٣)

فأثبت الياء في" العاصي" فإنما أراد سيبويه أن الذين من لغتهم إثبات الياء يحذفونها للضرورة ، تشبيها بالتنوين ، إذ كانت الألف واللام والتنوين يتعاقبان.

ومن ذلك هاء الكناية المتصلة حكمها إذا اتصلت بحرف مفتوح أو مضموم أن تضم وتزاد عليها واو في الوصل كقولك : " رأيتهو" و" ضربت غلامهو يا فتى".

وإذا اتصلت بحرف مكسور كان فيه وجهان : إن شئت ضممتها وألحقتها واوا ، وإن شئت كسرتها وألحقتها ياء ، كقولك" مررت بغلامهي وغلامهو يا فتى".

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ١٠٦ ، وسيبويه ١ / ٦.

(٢) سورة الكهف ، آية : ١٧.

(٣) البيت في ديوانه ٢ / ٥٢ ، واللسان (ذيل).

٢١٦

وإنما ألحقوها هذه الواو والياء ؛ لأن الهاء خفيّة ، فأرادوا إبانة حركتها ، والأصل فيها الضم ، وسوف نشرح هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.

فإذا كان قبلها ساكن فأنت بالخيار : إن شئت ألحقت واوا أو ياء فيما كان قبل الهاء منه ياء وألحقت واوا فيما كان قبل الهاء منه غير الياء ، وإن شئت لم تلحق ، كقولك : " عليه" و" عليهي" و" عليه" و" عليهو" و" منه" و" منهو" وكلاهما جيد بالغ. وإذا وقفت على ذلك أجمع كان ساكنا.

ولا يجوز حذف الواو والياء مما قبله متحرك إلا في الشعر كقول الشاعر :

أو معبر الظّهر ينبي عن وليّته

ما حجّ ربّه في الدنيا ولا اعتمرا (١)

وقال آخر :

وأيقن أنّ الخيل إن تلتبس به

يكن لفسيل النّخل بعده آبر (٢)

فهولاء حذفوا الواو فقط وبقوا ضمة الهاء. وقال الآخر :

فإن يك غثّا أو سمينا فإنّني

سأجعل عينيه لنفسه مقنعا (٣)

والوجه أن يقول : " لنفسهي" فحذف الياء ، وبقّى الكسرة على حالها.

وإنما جاز حذف هذه الحروف ؛ لأنها زوائد تسقط في الوقف.

فإن قال قائل : فهلا أجزتم حذف التنوين مما ينصرف ؛ لأنه زائد لا يثبت في الوقف ، كما أجزتم حذف الواو والياء من الهاء؟

قيل له : الفرق بينهما بيّن ، وهو أن الياء والواو اللاحقتين بالهاء إنما أريد بهما بيانها في اللفظ ، فإذا وصل الكلام قام ما بعدها مقام الياء والواو في إبانتها ، وإن كانتا أبلغ في البيان ، ومع ذلك فإن حذفهما لا يخلّ بمعنى ولا يدخل شيئا في غير بابه ، وما ينصرف متى ترك صرفه دخل في غير بابه ، ووقع اللبس ، فلم يشبه حذف الواو ترك الصرف.

وربما اضطر الشاعر فحذف الحركة أيضا. قال :

فظلت لدى البيت العتيق أخيله

ومطواي مشتاقان له أرقان (٤)

__________________

(١) البيت غير منسوب في اللسان (عبر)

(٢) البيت لحنظلة بن فاتك في سيبويه ١ / ١١.

(٣) سيبويه ١ / ١٠.

(٤) الخزانة ٢ / ٤٠١ ، واللسان (مطا).

٢١٧

وأقبح من هذا حذف الواو والياء من" هو وهي" وذلك أن الواو والياء فيهما متحركتان يثبتان في الوقف. قال :

دار لسلمى إذه من هواكا (١)

أراد : إذ هي من هواكا.

وقال آخر :

فبيناه يشري رحله قال قائل

لمن جمل رخو الملاط نجيب

أراد : فبينا هو يشرى.

وقال آخر :

بيناه في دار صدق قد قام بها

حينا يعلّلنا وما نعلّله (٢)

أراد : بينا هو.

ومن ذلك أنهم يحذفون الواو الساكنة والياء الساكنة إذا كان قبلها ضمة أو كسرة ، فيكتفون بالضمّة من الواو وبالكسرة من الياء ، سواء كانت الواو ضميرا أو لم تكن ، نحو قول الشاعر :

فلو أنّ الأطبّا كان حولي

وكان مع الأطبّاء الأساة

أراد : " كانوا" ، فاكتفى بالضمّة من الواو.

وربما وقع مثل هذا في آخر بيت مقيّد ، فتحذف الواو ويسكن ما قبلها : كقول الشاعر :

لو أنّ قومي حين أدعوهم حمل

على الجبال الصّمّ لا رفضّ الجبل

فهذا البيت فيه وجهان : أحدهما أن يكون أراد" حمل" على لغة من يحذف الواو فيكتفي بالضمة ، فلما وقف سكّن.

والوجه الثاني أن يكون أراد : لو أن من أدعو من قومي حين أدعوه حمل ، وكان تقدير اللفظ فيه : لو أنّ جمع قومي حين أدعوهم حمل ، فحذف جمع ، وأقام مقامه القوم ووحّد على لفظه.

__________________

(١) البيت غير منسوب في الخزانة ١ / ٢٣٧ ، وسيبويه ١ / ٩.

(٢) البيت بلا نسبة في سيبويه ١ / ١٢.

٢١٨

ومما يشبه هذا قوله :

كفّاك كف ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسّيف الدّما

أراد : تعطي ، فحذف الياء واكتفى بالكسرة منها.

وأما قوله :

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسّوط قونس الفرس (١)

فإن الخليل يقول في هذا : إنّه حذف النون الخفيفة منه ؛ أراد" اضربا عنك". فحذف النون لأنها زائدة ، وحذفها لا يخلّ بمعنى ، ولا يدخل شيئا في غير بابه ، كما ذكرنا في حذف الياء والواو من هاء الضمير. وقال الفرّاء : أراد : اضرب عنك. فكثر السواكن ، فحرك للضرورة ، فهذا على قول الخليل من باب الحذف ، وعلى قول الفرّاء من باب الزيادة.

ومما يشبه الترخيم قول الشاعر :

أو راعيان لبعران لنا شردت

كي لا يحسّان من بعراننا أثرا (٢)

أراد : " كيف لا يحسّان". ولا يجوز أن يكون في معنى : " كي" ؛ لأن الراعيين لم يفعلا شيئا كيلا يحسّا أثرا من البعران.

ومن ذلك حذف الفاء في جواب الشرط كقولك : " إن تأتني أنا أكرمك" تريد : فأنا أكرمك.

قال الشاعر :

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنّك إن يصرع أخوك تصرع (٣)

أراد : فتصرع. وقال آخر :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ عند الله مثلان (٤)

أراد : فالله يشكرها.

وإنما كانت الفاء واجبة هاهنا ؛ لأن جواب الشرط متى كان جملة أو فعلا مرفوعا لم

__________________

(١) البيت لطرفة في اللسان (قنس) ، وابن يعيش ٩ / ٤٤.

(٢) البيت لابن يعيش ٤ / ١١٠ ، والخزانة ٣ / ١٩٥.

(٣) البيتان لجرير بن عبد الله البجلي في خزانة الأدب ٣ / ٦٤٣ ، وبلا نسبة لابن يعيش ٨ / ١٥٨.

(٤) البيت لحسان بن ثابت في سيبويه ١ / ٤٣٥ ، وبلا نسبة في ابن يعيش ٩ / ٣.

٢١٩

يكن بدّ من الفاء ؛ لأنهما إنما أتي بها لئلا يتسلط ما قبلها على ما بعدها ، ألا ترى أنك تقول : " إن تقم أقم" فتجزم" أقم" بما تقدم ، ولو أدخلت الفاء عليها بطل جزمها ، لا تقول." إن تقم فأقم" فحذف الفاء مع الحاجة إليها لما ذكرنا من ضرورة الشعر.

وقد كان سيبويه يجيز هذا الوجه ، ويجيز أيضا تقدير الجواب على تقديم اللفظ ، كأنه قال : تصرع إن يصرع أخوك.

وكان الأصمعي ينشد :

" من يعمل الخير فالرحمن يشكره"

وكان أبو العباس محمد بن يزيد يأبى أن يقدر الجواب مقدما ؛ لأنه قد وقع في موقعه الذي ينبغي له ؛ والشيء إذا وقع في موقعه لم ينو به التقديم.

ومثله :

فقلت تحمّل فوق طوقك إنّها

مطبّعة من يأتها لا يضيرها (١)

أي فلا يضيرها.

واستقصاء هذا والاحتجاج لسيبويه في إجازة الوجهين له موضع ستقف عليه ، إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك حذفهم الفتحة من عين" فعل" كقولهم في" هرب" : " هرب" وفي" طلب"" طلب". قال الراجز ، أنشده الأصمعي :

على محالات عكسن عكسا

إذ تسدّاها طلابا غلسا

أراد : غلسا.

وليس في وجه الكلام ؛ لأن الفتحة غير مستثقلة ، وإنما يفعلون مثل ذلك في الضمة والكسرة ؛ كقولهم في" فخذ" : " فخذ" وفي" عضد" : " عضد". ولا يقولون في : " جبل" : " جبل" ، ولكنهم قد يضطرون فيفتحون الساكن ، كما تقدم ذكرنا له من قولهم في : " خفق" : " خفق" ، وفي" حشك" ؛ " حشك" ، فلما زادوا هذه الفتحة على الساكن ، والسكون أخف من الفتح ، كان حذف الفتحة أجدر ؛ لأنهم يحلّونه بالحذف محلا له هو أخف من محلّه.

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب في ديوان الهذليين ٢٠٨ ، والخزانة ٣ / ٤٤٧ ، واللسان (ضير).

٢٢٠