شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

هن الحرائر لا ربّات أحمرة

سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (١)

يريد : لا يقرأن السور.

(وزعم أبو الخطاب وسألته عنه غير مرة : أن أناسا من العرب يوثق بعربيتهم ، وهم بنو سليم يجعلون باب" قلت" أجمع مثل" ظننت").

وقد ذكرنا هذا فيما مضى.

قال سيبويه : (واعلم أن المصدر قد يلغى كما يلغى الفعل وذلك قولك : " متى زيد ظنك ذاهب" ، و" زيد ظني أخوك" ، و" زيد ذاهب" ظني").

ف" زيد" يرتفع بالابتداء ، وخبره" ذاهب" ، و" متى" ظرف للذهاب" وظنك" منصوب بفعل مضمر ملغي ، كأنك قلت : " متى زيد تظن ظنك ذاهب" ، وجاز إلغاؤه ؛ لأنه بين الاسم والخبر وليس بمتقدم.

قال : (فإن ابتدأت فقلت : " ظني زيد ذاهب" ، كان قبيحا ضعيفا ، كما قبح" أظن زيد ذاهب").

يعني : أن قولك : " ظني زيد ذاهب" ـ لما قدمت" ظني" ـ صار بمنزلة قولك : " أظن ظني زيد ذاهب" ، وأنت لا تقول : " أظن زيد ذاهب".

قال : (وهو في" أين ، ومتى" أحسن إذا قلت : " متى ظنك زيد ذاهب". و" متى تظن زيد منطلق" ؛ لأن قبله كلاما ، وإنما يضعف هذا في الابتداء كما ضعف" غير ذي شك زيد ذاهب" ، و" حقا عمرو منطلق").

قال أبو سعيد : اعلم أن سيبويه قد أجاز في هذا الموضع إلغاء الظن ، وقد تقدم الفعل المفعولين ، إذا كان قبل الظن شيء متصل بالمفعول الثاني. وذلك أنه أجاز" متى تظن عمرو منطلق" ، وعمر : مبتدأ ومنطلق : خبره ، و" متى" ظرف للانطلاق ، و" متى ظنك زيد ذاهب" ، ف" زيد" : مبتدأ و" ذاهب" : خبره ، و" متى" : ظرف للذهاب ، وقد رد عليه ذلك أبو العباس وغيره ، وقالوا : هذا نقض للباب ، وذلك أنه شرط : متى ما تقدم الفعل لم يلغ ، وأعمل ، فوجب أن يعمل ها هنا.

__________________

(١) البيت في الخزانة ٣ / ٦٦٧.

٤٦١

فقال المحتج عنه : إنما شرط سيبويه أن يتقدم الفعل ، وليس قبله شيء في صلة ما بعده.

قال : (إذا تقدم شيء مما بعده ، قبل أن يأتي بفعل الشك ، فقد مضى ذلك اللفظ على غير الشك والظن جاز فيه الإلغاء ، كما جاز في" أين تظن زيدا" إذا تقدم الخبر).

وقوله : (وإنما يضعف هذا في الابتداء كما ضعف : " غير ذي شك زيد ذاهب" ، و" حقا زيد منطلق").

قال أبو سعيد : واعلم أن" حقا ، وغير ذي شك" ، وما جرى مجراهما يؤكد به الجمل وتحقق ، ولا تأتين مبتدأ ، إذا أردت ذلك المعنى لأنك إذا قلت : " زيد منطلق حقا" فقد وكدت إخبارك بانطلاقه ، كأنك قلت : حق ذلك حقا ؛ لأن قولك : " زيد منطلق" ظاهره يدل على أنك تخبر بما تحقه وما هو صحيح عندك ، فلا تقدم هذا التأكيد ، ويؤتى بالجمل بعده فضعف تقديم الظن كضعف تقديم هذا لأنه نقيضه وذلك أن قولك : " زيد منطلق حقا" في باب التحقيق كقولك : " زيد منطلق ظنا" في باب الظن.

قال : (وإن شئت قلت : " متى ظنّك زيدا أميرا" كقولك : " متى ضربك عمرا".

يعني : أنك تجعل" ظنك" : مبتدأ ، و" متى" : خبره ، و" زيدا أميرا" مفعولي الظن.

قال : (" وقد" يجوز أن تقول : " عبد الله أظنه منطلق" تجعل هذه الهاء على ذاك ، كأنك قلت : " زيد منطلق أظن ذاك").

قال أبو سعيد : إذا قلت : " عبد الله أظنه منطلق" فهذه الهاء" للظن" لا" لعبد الله" ، و" أظنه" ملغي وليس بالقوي في الكلام ، وذلك أن هذه الهاء إذا جعلتها للظن الذي هو المصدر ، فقد أكدت" أظن" بذكر الظن ، وأنت قد ألغيت" أظن" برفعك" عبد الله" و" زيدا" ، فالأجود أن هذه الهاء إذا جعلتها للظن الذي هو المصدر أن تقول : " عبد الله أظن منطلق" وإذا قلت : " عبد الله أظنه منطلق" فهو أجود من أن تقول : " عبد الله أظن ظنا منطلق" و" أظن ظني منطلق ؛ لأنك إذا قلت : " أظنه" ، فليس فيه لفظ الظن ، وإنما هو كناية عنه ، والظن أبلغ في التأكيد ؛ لأنه من لفظ" أظن" ، وكأنه أعيد لفظه تاكيدا.

وكذلك إذا قلت : " عبد الله أظنّ ذاك منطلق" وجعلت" ذاك" إشارة إلى المصدر ، كان أجود من أن تقول : " عبد الله أظنّ الظن منطلق" ؛ لأنه أبعد من لفظ التأكيد ، وإن جعلت هذه الهاء لعبد الله لم يجز إلا نصب" منطلقا" ؛ لأنه يكون" عبد الله" مبتدأ ، والهاء

٤٦٢

في" أظنه" المفعول الأول ، و" منطلقا" المفعول الثاني.

وقد تقدم الظنّ المفعولين ، فلا يجوز الإلغاء ، ويجوز أن تقول في الابتداء : " أظنه عبد الله منطلق" ، وأظنه عبد الله منطلقا" ، على مذهبين مختلفين.

أما إذا قلت : " أظنه عبد الله منطلق" ، جعلت الهاء للأمر والشأن وجعلتها للمفعول الأول ، وجعلت الجملة التي هي مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني ، كما تقول : " إنه زيد قائم" ، و" كان زيد قائم" ، وإن نصبتها جعلت" الهاء" ضمير الظن ، وصارت تأكيدا للفعل ، فكأنك قلت : " أظن ظني عيد الله منطلقا".

قال : (وإنما يضعف هذا إذا ألغيت ؛ لأن الظن يلغى في مواضع" أظن" ، حتى يكون بدلا من اللفظ به ، فكره المصدر هنا ، كما قبح أن يظهر ما أنتصب عليه سقيا ، وسترى ذلك ـ إن شاء الله ـ مبنيا ولفظك بذاك أحسن من لفظك بظني).

يعني : إنما يضعف" عبد الله أظنه منطلق" لأن" أظن" قد ألغى والمصدر تأكيد ، فكره أن يؤتى بتأكيد شيء قد ألغى.

فإن قال قائل : فأنت قد تقول : " عبد الله ظنك منطلق" وتجيء بالمصدر ، وقد ألغيت.

قيل : المصدر هاهنا بمنزلة الفعل ؛ لأنك لم تأت بالفعل وجعلت المصدر بدلا من اللفظ به ، فكأنك لفظت بالفعل بلا مصدر.

وقوله : (كما قبح أن يظهر ما انتصب عليه" سقيا").

يعني : قبح أن تقول : " عبد الله أظن ظني منطلق" ، فتجمع بين الفعل والمصدر ، كما قبح أن تقول : " سقاك الله سقيا لك" ؛ لأن الكلام" سقاك الله" ، أو" سقيا" ، ولا يجمع بينهما.

قال : (ولفظك بذاك أحسن من لفظك" بظني"). وقد مر هذا.

قال : (ألا ترى أنك لو قلت : " زيد ظنّي منطلق" لم يحسن ولم يجز أن تضع ذاك موضع" ظني").

يريد : أن" ظني" أدل على" أظن" من ذاك. فلذلك صار" ذاك" أبعد من التأكيد. ألا ترى أنك تقول : " زيد ظني منطلق" ولا تقول : " زيد ذاك منطلق".

قال : (وترك ذاك في" أظن" إذا كان لغوا أقوى منه إذا وقع على المصدر).

٤٦٣

يعني : أن قولنا : " زيد أظن منطلق" أقوى من قولنا : " زيد أظن ذاك منطلق" ، لأن" ذاك" إشارة إلى المصدر الذي هو تأكيد.

قال : (وأما" ظننت أنه منطلق" فاستغنى بخبر" أنّ" ، تقول : " أظن أنه فاعل كذا وكذا ، فتستغنى. فإنما يقتصر على هذا إذا علم أنه مستغن بخبر" أن").

قال أبو سعيد : اعلم أن" أنّ" المشددة وما بعدها من الاسم والخبر يكون بمعنى المصدر ويقع في موضع الفاعل ، والمفعول ، والمجرور :

فوقوعها في موضع الفاعل قولك : " بلغني أنك منطلق" أي : " بلغني انطلاقك".

ووقوعها في موضع المفعول قولك : " عرفت أنك منطلق" أي : عرفت انطلاقك.

ووقوعها مجرورة قولك : " أخبرت بأنك منطلق" أي : بانطلاقك.

وإذا وقعت في موضع مفعول فهي تقع موقع المفعول الواحد ، وتنوب عنه في الفعل الذي يتعدى إلى مفعول واحد كما ذكرنا في : " عرفت أنك منطلق". وموقع المفعولين في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين وتنوب عنهما وهو قولك : " ظننت أنك منطلق" ، و" حسبت أن بكرا خارج" ، فنابت" أن" وما بعدها عن مفعولي المحسبة ، كما أنك إذا قلت : " علمت لزيد منطلق" نابت الجملة ، وإن كانت هي غير عاملة فيها عن المفعولين.

ولو أظهرت المصدر الذي في معناه" أن" ، فقلت : " حسبت انطلاقك" لاحتجت إلى مفعول ثان ؛ لأن" أن" قد وجد بعدها اسم وخبر لو حذفتهما واقتصرت عليهما ، كانا مفعولي الظن ، والمصدر ليس فيه شيء من ذلك.

وكان بعض البصريين يقول : إن المفعول الثاني مضمر فإذا قلنا : " حسبت أن زيدا منطلق" فتقديره : " حسبت أن زيدا منطلق واقعا" ، كأنا قلنا : " حسبت انطلاق زيد واقعا". والقول ما قاله سيبويه ؛ لأن هذا المضمر لا يجوز إظهاره ولا مانع له من الإظهار لو كان مضمرا ، ولأنا إذا قلنا : " حسبت زيدا منطلقا" ، أو" حسبت أن زيدا منطلقا" كان الأمر فيهما واحد من جهة المعنى.

قال : (ويجوز أن تقول : " ظننت (زيدا) " إذا قال : " من تظن؟ " أي من تتهم؟ فتقول : " ظننت زيدا" كأنه قال : " اتهمت زيدا" وعلى هذا قيل : " ظنين" أي متهم).

يعني : أن" ظننت" ، يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى" اتهمت" وقد ذكرنا هذا.

٤٦٤

قال : (ولم يجعلوها ذلك في : " حسبت ، وخلت ، وأرى" ؛ لأن من كلامهم أن يدخلوا المعنى في الشيء لا يدخل في مثله).

يعني : أنهم لم يقتصروا في" حسبت وأرى وخلت على مفعول واحد كما فعلوا ذلك في الظن ، واتسعوا في" ظننت" ؛ لأنها أكثر دورا في ألسنتهم وهم لها أكثر استعمالا ، وقد ذكرنا ما يكون له حكم في كلام العرب لا يكون لنظائره ، وسيأتي من بعد إن شاء الله تعالى.

قال : (وسألته عن أيهم ؛ لم لم يقولوا : أيهم مررت به؟ فقال : لأن" أيهم" هو حرف الاستفهام ، ولا تدخل عليه الألف ، وإنما تركت الألف استغناء فصارت بمنزلة الابتداء ، ألا ترى أن حد الكلام أن يؤخر الفعل فتقول : " أيهم رأيت" ، كما تفعل ذلك في أما ، فهي نفسها بمنزلة الابتداء).

قال أبو سعيد : أمّا قوله : (وسألته).

يعني : الخليل وكذلك كل ما كان مثله في الكتاب إذا لم يتقدم ذكر إنسان.

وأما قوله : (أيهم مررت به).

فالاختيار أن تقول : " أيهم مررت به" و" أيهم ضربته". فقال قائل : لم لم يجز النصب وهو استفهام ، كما اختير في قولك : " أزيدا ضربته"؟

فقال : لأنا إذا قلنا : " أزيدا ضربته" ، فحرف الاستفهام منفصل من زيد وهو أولى بالفعل ، فأضمرنا بينه وبين" زيد" فعلا ينصبه. و" أيهم" لم يدخل عليها حرف ، وإنما صيغ له لفظه الاستفهام ولم يكن فيه حرف هو أولى (بالفعل) فصار بمنزلة" زيد ضربته" في الاختيار. ومن قال : " زيدا ضربته" على إضمار" ضربت زيدا ضربته" ، قال : " أيهم مررت به" و" أيهم ضربته" على تقدير : " أيهم لاقيت مررت به" و" أيّهم ضربت ضربته" فتضمر بعده فعلا ينصبه ؛ لأنه استفهام.

وأما قوله : (وتركت الألف استغناء).

يعني : لم تدخل ألف الاستفهام على" أي" في حال الاستفهام بها ونظيرها" من" و" ما" و" كيف" وسائر الأسماء التي يستفهم بها ، وكان حكمها عند سيبويه أن تدخل ألف

٤٦٥

الاستفهام عليها ؛ لمعنى الاستفهام أي : على" أيّ" في حال الاستفهام بها لأنها أسماء وللأسماء دلالة على معانيها التي وضعت لها ، من مكان وزمان وإنسان وحيوان ، وحروف الاستفهام تدل على الاستفهام فيها.

غير أنهم طرحوا حرف الاستفهام ؛ لأنهم لم يستعملوا هذه الأسماء في جميع المواضع ، كما يستعملون سائر الأسماء الصحاح ، فاكتفوا بدلالتها على الاسم المستفهم عنه أن يأتوا لها بحرف الاستفهام ، وكذلك إذا استعملت هذه الأسماء في المجازاة ، اكتفوا بها عن حروف الجزاء.

قال : (فإن قلت : " أيهم زيدا ضرب" ، قبح ، كما يقبح في" متى" ونحوها ، وصار أن يليها الفعل هو الأصل ؛ لأنها من حروف الاستفهام ولا يحتاج إلى الألف فصارت ك" أين").

يعني : أن الاختيار أن تقول : " أيهم ضرب زيدا" ، و" متى ضرب زيد عمرا" ، وذلك أنك إذا قلت : " أيهم" ، فقد جئت باسم الاستفهام ، وحصل فالواجب أن تأتي بالفعل بعده ، وصار تقدم" أي" ، كتقدم الألف في اختيار الفعل بعده.

قال : (وكذلك" من" ، و" ما" لأنهما يجريان معها ولا يفارقانها تقول : " من أمة الله ضربها" ، و" ما أمة الله أتاها" ، نصب في كل ذا لأنه أن يلي هذه الحروف الفعل أولى ، كما أنه لو اضطر شاعر في" متى" وأخواتها نصب ، فقال : " متى زيدا رأيته").

قوله : " من" و" ما".

يعني : حكمها كحكم" أي" ؛ لأنهما يجريان مع" أي" ، ولا يفارقانها في الاستفهام والجزاء ، فإذا قلت : " من أمة الله ضربها" ، فالاختيار أن تنصب" أمة الله" بإضمار فعل ، وكذلك : " ما أمة الله أتاها" ، كأنك قلت : " من ضرب أمة الله ضربها" ، و" ما أتى أمة الله أتاها" ؛ لأن" من" و" ما" لما تقدمتا صارتا بمنزلة ألف الاستفهام وهي بالفعل أولى ، وكان الاختيار أن يكون لفظ الفعل متقدما في" من" و" ما" و" متى" و" أي".

وهذه الحروف لا يليها الاسم البتة ، فيقال : " من ضرب أمة الله" وألا يقال : " من أمة الله ضربها" ؛ لأنها أضعف من ألف الاستفهام وليس لها تصرف ألف الاستفهام ، فإذا اضطر

٤٦٦

شاعر أو تكلم متكلم على قبح ، فقدّم الاسم ، وشغل الفعل بضميره ، نصب بإضمار فعل كما ذكرنا. فقال : " متى زيدا رأيته" على تقدير : متى رأيت زيدا رأيته. وأقبح من هذا أن تقول : " متى زيد رأيته" و" من أمة الله ضربها" كما تقول : " متى زيد منطلق" و" من أمة الله جاريته" ، والاختيار ما ذكرناه.

هذا باب من الاستفهام يكون الاسم فيه رفعا ؛ لأنك

تبتدئه ؛ لتنبه المخاطب

ثم تستفهم بعد ذلك

(وذلك قولك : " زيد كم مرة رأيته" ، و" عبد الله هل لقيته" ، و" عمرو هلا لقيته" ، وكذلك سائر حروف الاستفهام ، فالعامل فيه الابتداء ، كما أنك لو قلت : " أرأيت زيدا هل لقيته" كان" أرأيت" هو العامل ، وكذلك إذا قلت : " قد علمت زيدا كم لقيته" ، كان" علمت" هو العامل ، فكذلك هذا فما بعد المبتدإ من هذا الكلام في موضع خبره).

قال أبو سعيد : أما قوله : " زيد كم مرة رأيته" ، فالرفع لا غير في زيد من قبل أنه مبتدأ و" كم مرة رأيته" ، في موضع الخبر له ، ولا يصلح نصبه بإضمار فعل آخر ؛ لأن ما بعد حرف الاستفهام لا يكون مفسرا لفعل قبله ، كما لا يكون عاملا في اسم قبله الاستفهام. وتفسيره أنك لو نزعت ضمير" زيد" من" رأيته" ، لم يجز أن تنصب" زيدا" ب" رأيت" فتقول : " زيدا كم مرة رأيت" ؛ لأن الاستفهام هو صدر الكلام فلا يجوز أن يعمل الفعل الذي بعده في اسم قبله ؛ لأنه إذا عمل فيه صار الاسم في صلة الفعل ، ووجب حينئذ تأخيره عن حرف الاستفهام ، فيقال : " كم مرة رأيت زيدا" ، و" كم مرة زيدا رأيت" فلما لم يجز" زيدا كم مرة رأيت" لما ذكرنا لم يجز" زيدا كم مرة رأيته" ، على تقديره : رأيت زيدكم مرة رأيته ؛ لأن الفعل الذي بعد" كم" لا يفسّر ما قبله ، كما لا يعمل فيه.

ثم استدل على أن قولك : " زيد كم مرة رأيته" ، إنما يعمل فيه الابتداء لا غير ، أنك قد تدخل عليه ما يدخل على المبتدأ ، ثم تجيء بالاستفهام من بعد فتجعله في موضع

٤٦٧

خبره ، وذلك قولك : " أرأيت زيدا هل لقيته" ، و" قد علمت زيدا كم لقيته" ، فلو لم يكن" أرأيت" ، و" قد علمت" ، كنت تقول : " زيد هل لقيته" ، و" زيدكم لقيته" ثم انتصب ب" رأيت" و" قد علمت" كما انتصب المبتدأ ، إذا دخل عليه ذلك.

قال : (فإن قلت : " زيد كم مرة رأيت" فهو ضعيف ، إلا أن تدخل الهاء ، كما ضعف في قوله : " كله لم أصنع").

يعني : أن" زيدا" مبتدأ ، و" كم مرة رأيت" في موضع خبره ، ولا بد من ضمير يعود إليه ، فإذا حذفت الضمير قبح ، فلا بد من تقديره كما أن قوله :

(... كله لم أصنع)

على تقدير : كله لم أصنعه ؛ لأن" كلّ" مبتدأ ولا بد من ضمير يعود إليه.

قال : (ولا يجوز أن تقول : " زيدا هل رأيت" ؛ إلا أن تريد معنى الهاء مع ضعفه فترفع لأنك قد فصلت بين المبتدإ ، وبين الفعل ، فصار الاسم مبتدأ والفعل بعد حرف الاستفهام).

يعني : أن نصب" زيد" لا يجوز بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام على وجه من الوجوه ، وقد ذكرنا هذا.

وقوله : (إلا أن تريد معنى الهاء فترفع مع ضعفه).

يعني قولك : " زيد كم مرة رأيت" وأنت تريد : " رأيته" ، ولم يكن هذا بمنزلة قولك : " زيد رأيته" ؛ لأنك لم تأت بعد المبتدأ بشيء يحول بينه وبين الفعل ، وهو الاستفهام.

قال : (ولو حسن هذا أو جاز لقلت : " أرأيت زيد كم مرة ضرب" ، على الفعل الآخر. فكما لا تجد بدا من إعمال الفعل الأول فكذلك لا تجد بدا من إعمال الابتداء ؛ لأنك إنما تجيء بالاستفهام بعد ما تفرغ من الابتداء).

يريد : أن قولك : " زيد كم رأيته" ، لو جاز أن تحمله على الفعل الآخر لاتصال ذلك الفعل بضميره المنصوب ، فتنصبه ، ولا يرفعه بالابتداء ، لجاز أن تقول : " أرأيت زيد كم ضرب" فيحمل" زيد" على ضميره المرفوع في" ضرب" الذي بعد" كم"

٤٦٨

ولا تنصبه بأرأيت ، فلما لم يجز ذلك وجب نصبه" بأرأيت" ، لأن الفعل الذي بعد الاستفهام لا يحمل عليه ، وجب رفعه بالابتداء ؛ لأن الفعل الذي بعد الاستفهام لا يتسلط عليه.

وقوله : (لأنك إنما تجيء بالاستفهام بعد ما تفرغ من الابتداء).

يعني : أن الاستفهام في موضع خبر الابتداء ؛ لأنه جملة قائمة بنفسها جعلت في موضع الخبر.

قال : (ولو أرادوا الإعمال لما ابتدأوا بالاسم ؛ ألا ترى أنك تقول : " زيد هذا أعمرو ضربه أم بشر" ولا تقول : " عمرا أضربت" ، فكما لا يجوز هذا لا يجوز ذلك).

يعني : أنهم لو أرادوا إعمال الفعل في الاسم ، لما قدموا الاسم على حرف الاستفهام ، ولأخّروه ، فقالوا : " كم مرة زيدا ضربت" ؛ ألا ترى أنك تقول : " زيد عمرو ضربته أم بشر" ، إذا أردت أن تجعل" زيدا" مبتدأ. وإن أردت أن تعمل فيه الفعل ، قلت : " أعمرا ضربت زيدا أم بشر".

وتقول : " أعمرا ضربت" ، ولا تقول : " عمرا أضربت" ، فكما لا يجوز عمرا أضربت لم تجز المسائل التي ذكرناها أولا ، وهي : " أزيدا كم مرة رأيته" ، و" أرأيت زيدا كم ضرب".

قال : (فحرف الاستفهام لا يفصل به بين العامل والمعمول فيه ، ثم يكون على حاله إذا جاءت الألف أولا ، وإنما يدخل على الخبر).

يعني أن ألف الاستفهام إذا كانت أولا نصبت الاسم ، فقلت : " أزيدا ضربته" ، فإذا قدمت" زيدا" على الألف لم يجز أن تنصب" زيدا" ؛ لأن الألف حالت بينه وبين الفعل ولكن ترفعه بالابتداء ، وتجعل الألف وما بعدها في موضع الخبر.

قال : (ومما لا يكون إلا رفعا قولك : " أأخواك اللذان رأيت" لأن" رأيت" صلة" اللذين" وبه يتم اسما ، فكأنك قلت : " أأخواك صاحبانا").

يعني : أن" الأخوين" ، لا يجوز نصبهما حملا على الفعل الذي بعد" اللذين" ؛ لأن

٤٦٩

الصلة لا تعمل فيما قبل الموصول ولا تفسره أيضا ؛ ألا ترى أنك لا تقول : " زيد أخاه الذي ضربت" على حد قولك : " زيد الذي ضربت أخاه".

قال : (ولو كان شيء من هذا ينصب شيئا في الاستفهام ، لقلت في الخبر : " زيدا الذي رأيت" ، فتنصب كما تقول : " رأيت زيدا").

يعني : أن الاستفهام ليس بعامل في شيء فلو جاز أن ينصب شيئا في الاستفهام بعامل ما لنصبناه في غير الاستفهام بذلك العامل. فلو جاز أن يقال : " أأخويك اللذين رأيت" ، و" أزيدا الذي رأيت" ، لجاز أن تقول في غير الاستفهام : " أخويك اللذين رأيت" ، و" زيدا الذي رأيت". وهذا محال.

قال : (وإذا كان الفعل في موضع الصفة ، فهو كذلك ، وذلك قولك : أزيد أنت رجل تضربه).

قال أبو سعيد : اعلم أن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ؛ لأنها من تمام الموصوف كالصلة من الموصول. وكذلك لا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف ؛ لأنه من تمام المضاف. وتقول : " هذا رجل ضارب زيدا" ، ولا يجوز أن تقول : " هذا زيد رجل ضارب" ؛ لأن" زيدا" : منصوب ب" ضارب" و" ضارب" : صفة لرجل ، ولكن يجوز أن تقول : " هذا رجل زيدا ضارب" ؛ لأنك لم تقدم" زيدا" على الموصوف وتقول : " هذا غلام ضارب زيدا" ، فتنصب" زيدا"" بضارب". ولا يجوز أن تقول : " هذا زيدا غلام ضارب".

وقد أجاز النحويون ، أو بعضهم : " هذا زيدا غير ضارب" ، فنصبوا" زيدا"" بضارب" وقدموه على المضاف ، وهو" غير" وذلك لأن" غير" معناها معنى" لا" ، فكأنك قلت : " هذا زيدا لا ضارب" ، وهذا جائز جيد. فإذا قلت : " أزيدا أنت رجل تضربه"" فتضربه" في موضع النعت" لرجل" فلا يجوز أن تنصب" زيدا" ، حملا على ضميره في" تضربه" وهو قبل الموصوف.

قال : (وإذا كان وصفا ، فأحسنه أن يكون فيه الهاء ، لأنه ليس في موضع الإعمال ، ولكنه يجوز فيه كما جاز في الوصل ؛ لأنه في موضع ما يكون من

٤٧٠

الاسم).

قال أبو سعيد : قد كنا ذكرنا أن الهاء التي هي ضمير تحذف في الصفة ، والصلة ، والخبر.

فالصلة" الذي رأيت" زيد" تريد : " الذي رأيته".

والصفة : " الناس رجلان ، رجل أكرمت ورجل أهنت" ، تريد : رجل أكرمته ، ورجل أهنته.

والخبر : " زيد أكرمت" ، أي أكرمته.

وأن حذفها في الصلة ، أحسن من حذفها في الصفة ، وحذفها في الخبر قبيح جدا.

فقول سيبويه : (فإذا كان وصفا فأحسنه أن تكون فيه الهاء).

يعني : " أزيد أنت رجل تضربه" وما شاكل ذلك أحسن من أن تقول : " أزيد أنت رجل تضرب".

وقوله : (لأنه ليس موضع الإعمال).

يعني : لأنك إذا حذفت الهاء فليس يصل الفعل إلى شيء قبله كما أنك إذا قلت :

" زيد ضربته" ، ثم حذفت الهاء ، قلت : " زيدا ضربت". فلما لم يكن كذلك لم يحسن حذف الهاء.

وقوله : (ولكنه يجوز كما جاز في الوصل ؛ لأنه في موضع ما يكون من الاسم).

يعني : حذف الهاء جائز في الصفة ، كما جاز في الوصل ، وهو يعني صلة" الذي" وما جرى مجراها.

وقوله : (لأنه في موضع ما يكون من الاسم).

يعني : لأن الوصف من الاسم الموصوف كبعضه ؛ لأنهما كشيء واحد يقعان موقع اسم واحد.

قال : (ولم تكن لتقول : " أزيدا أنت رجل تضربه" ، وأنت إذا جعلته وصفا للمفعول لم تنصبه ؛ لأنه ليس مبنيا على الفعل).

يعني : أنه غير جائز أن تنصب" زيدا" في قولك : " أزيدا أنت رجل تضربه" ؛ لوقوع

٤٧١

الضرب على ضميره ، وأنت لا تنصب" رجلا" بالفعل إذا جعلته وصفا له ، فلما لم يجز أن تنصب الموصوف بالفعل الذي هو وصفه كان ما قبله أبعد من ذلك.

وقوله : (لأنه ليس مبنيا على الفعل).

معناه : ليس الموصوف مبنيا على الفعل الذي هو صفته.

(ولكن الفعل في موضع الوصف ، كما كان في موضع الخبر).

يعني : إذا لم تقدر تقدم الفعل ، حتى يكون عاملا فيه ويكون الوصف بمنزلة الخبر ، ألا ترى أنك إذا قلت : " إن زيدا ضربت" ، فأنت لا تجد بدا من أن تجعل" ضربت" في موضع الخبر" لزيد" ؛ لأنك قد نصبت" زيدا" ب" إن" ولا يجوز أن تعمل" ضربت" في" زيد" ؛ لأنه في موضع خبره ، وإن كان حذف الهاء منه قبيحا ، ثم أنشد في ذلك وهو وقوع الفعل نعتا قول بعض الرجاز :

أكلّ عام نعم تحوونه

يلقحه قوم وتنتجونه (١)

فجعل" تحوونه" نعتا للنعم ، ولم يجز أن ينصب" النعم" به وقد جعله نعتا له. ولو نصب على غير هذا الوجه لجاز ألا يجعله نعتا ، كأنه يقول : أكلّ عام تحوون نعما ويكون" تحوونه" تفسيرا للفعل المضمر.

(وقال زيد الخيل :

أفي كلّ عام مأتم تبعثونه

على محمر ثوّبتموه وما رضا) (٢)

فإن قال قائل : إذا كان لا يجوز" زيد يوم الجمعة" ولا" زيد في يوم الجمعة" ؛ لأن ظروف الزمان لا تكون أخبارا للجثث ، فكيف جاز أكلّ عام نعم تحوونه ، و" نعم" : مرفوع بالابتداء ، وهو جثة؟

قيل له : التقدير فيه : " أكل عام حدوث نعم" وذلك أنه أراد أن كل عام تحوون نعما ، وتأخذونه وكأنه قال : " في كل عام نعم حادث" ، فصار كقولك : " الليلة الهلال"

__________________

(١) هذا البيت لقيس بن حصين بن يزيد الحارثي. الخزانة ١ / ١٩٦ ، ١٩٨.

(٢) هذا البيت لزيد الخيل (الخير) وهذا هو اسمه في الجاهلية وأما في الإسلام فقد سماه الرسول" زيد الخير" الخزانة ٢ / ٤٤٦ ـ ٤٤٨. الأغاني ١٦ / ٤٦ ـ ٥٦.

٤٧٢

والمعنى : الليلة حدوث الهلال ، فناب عن المصدر ؛ لعلم المخاطب أنه يراد به حدوثه ؛ لأنه مما يتحدد في الأوقات المعلومة. وقوله : " محمر" يريد : فرسا في أخلاق الحمير. و" مارضا" يريد : وما رضي ، فقلب الياء ألفا ، وهو لغة ؛ لأن الألف أخف من الياء إلا فيما يلتبس ، لا يقولون في" قاضي"" قاضا" ، كما قالوا في" صحاري"" صحارا" لأنك إذا قلت : " قاضا" التبس بفاعل من القضاء ، وهو قاضي ، يقاضي ، مقاضاة.

(وقال جرير فيما ليست فيه الهاء :

أبحت حمى تهامة بعد نجد

وما شيء حميت بمستباح) (١)

فجعل : " حميت" نعتا ل" شيء" و" شيء" اسم" ما" ؛ فلذلك أدخل الباء في" مستباح" ، ولو نصبت شيئا ب" حميت" لبطل الكلام ، ولم يكن ليجوز دخول الباء في" مستباح" ؛ لأن الباء إنما تدخل في الأخبار ، فإذا نصبت" شيء" صار تقديره : وما حميت شيئا بمستباح. و" مستباح" نعت" لشيء" فهذا غير جائز كما لا يجوز" ما رأيت رجلا بقائم" ، ولو حذفت الباء أيضا مع نصب" شيء" لكان ضعيفا ناقص المعنى ، وذلك أنك إذا قلت : " وما حميت شيئا مستباحا" ، فقد أوجب أن الذي حماه لم يكن مستباحا إذ حمى ما لم يكن مستباحا فحمايته كلا حماية ، لأنه حمى شيئا محميا.

(وقال آخر :

فما أدري أغيّرهم تناء

وطول العهد أم مال أصابوا) (٢)

فجعل : " أصابوا" نعتا للمال ، ولم ينصب" المال" به ، ولا يجوز ذلك لأنه لو نصب صار التقدير : أم أصابوا مالا. وأم من حروف العطف ، ولا يعطف" أصابوا" ، وهو فعل على" تناء" وهو اسم.

قال سيبويه : (ومما لا يكون فيه إلا الرفع قوله : " أعبد الله أنت الضاربه" ، لأنك إنما تريد معنى : أنت الذي ضربه ، وهذا لا يجري مجرى" يفعل" ، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : " ما زيدا أنا الضارب" ولا" زيدا أنت الضارب" وإنما تقول : " الضارب زيدا"

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

٤٧٣

على مثل قولك : " الحسن وجها" ، ألا ترى أنك لا تقول : " أنت المائة الواهب" كما تقول : " أنت زيدا ضارب").

يعني : أن الألف واللام بمعنى الذي فغير جائز أن تعمل" ما" في صلة الألف واللام ـ فيما قبلهما ـ كما كان ذلك في" الذي" إذا كانت تجري مجراها.

فإن قال قائل : فقد قال الله تعالى : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)(١) ، فجعل" فيه" من تمام الزاهدين وهي قبلهم ، وتقديره : وكانوا فيه من الذين زهدوا.

قيل له : في ذلك جوابان غير الذي ظننت :

أحدهما : أن" يكون" على تقدير : " وكانوا فيه زهادا من الزاهدين" فيكون العامل في" فيه" زهادا ، ونابت" من الزاهدين" عنهم ودلت عليهم.

والوجه الثاني : أن يكون" فيه" على التبيين كأنه قال : أعني فيه ، فالعامل فيه" أعني" ، لا" الزاهدين" ، ومثله لبعض العرب :

تقول وصكّت وجهها بيمينها

أبعلي هذا بالرّحى المتقاعس (٢)

فلم يعمل" المتقاعس" في الباء التي في قوله : " بالرحى" ؛ لأن" المتقاعس" في صلة الألف واللام ، ولكنه على التبيين ، كأنه قال : " أبعلي هذا المتقاعس" ، ثم بيّن بأي شيء تقاعس ، فقال : أعني بالرحى.

ومن النحويين من يجعل الألف واللام في معنى الطرح ، فإذا جعلهما كذلك عمل ما بعدهما فيما قبلهما ، ولا يجعلهما في معنى" الذي". والوجه على ما عرّفتك.

ثم وصل سيبويه بكلامه ـ ما أراد به الفرق ـ بين ما فيه الألف واللام وبين ما ليستا فيه فقال :

(وتقول : " هذا ضارب" ، كما ترى ، فيجيء على معنى" هو يضرب" ، وهو يعمل في حال حديثك. وتقول : " هذا ضارب" فيجيء على معنى" هذا سيضرب" ، فإذا قلت :

__________________

(١) سورة يوسف ، آية : ٢٠.

(٢) هذا البيت في الخصائص ١ / ٢٤٥ ، شرح الكامل للمرصفي ١ / ١٤٣ لنعيم بن الحارث بن يزيد السعدي.

٤٧٤

" هذا الضارب" ، فإنما تعرفه على معنى الذي ضرب).

يعني أن" ضارب" ، إذا كان عاملا فهو في معنى الفعل المحض إما مستقبلا ، وإما حالا ، وكذلك جاز أن تعمل في الاسم مقدما ومؤخرا وإذا قلت : " الضارب" فهو على معنى : " الذي ضرب" ، أو" الذي يضرب" ، فلا يعمل فيما قبله.

قال : (فلا يكون إلا رفعا ، كما أنك لو قلت : " أزيد أنت ضاربه" ، إذا لم ترد ب" ضاربه" الفعل وصار معرفة رفعت ، فكذلك : " هذا الذي ضرب" ، لا يجيء إلا على هذا المعنى).

يعني : أنك إذا أردت" بضاربه" الفعل الماضي تعرّف بإضافته إلى الهاء وخرج من أن يكون عاملا على حسب ما بيّنا أن الاسم الذي في معنى الفعل الماضي لا يعمل ، وإذا لم يعمل كان الاسم الذي قبله مرفوعا في قولك : " أزيد أنت ضاربه" ، وأنت تعني به الفعل الماضي ، وقد بيّنا هذا فكذلك الذي والألف واللام ، لأنها لا تكون إلا معرفة ، فكان رفع ما قبلها في قولك : " أزيد أنت الضاربه" ، كرفع قولك : " أزيد أنت ضاربه" ، إذا أردت الماضي ، بل الألف واللام في ذلك أقوى.

قال : (وإنما يكون بمنزلة الفعل نكرة ، وأصل وقوع الفعل صفة لنكرة ، كما لا يكون الاسم كالفعل إلا نكرة).

يعني : أن الفعل في الأصل نكرة ، ومعنى قولنا : " نكرة" أنه ينعت به النكرات ، كقولك : " مررت برجل يضرب زيدا" ، و" رأيت رجلا يضرب زيدا" ، وكذلك سائر الجمل كالابتداء والخبر ، والشرط والجزاء ، كقولك : " مررت برجل أبوه قائم" ، و" مررت برجل إن تأته يكرمك" ، وإنما صارت هذه الجمل تقع نكرات ، وينعت بها النكرات من قبل أن كل جملة تقع بها فائدة ، فوقوع الفائدة بها دليل على أنها لم تكن معلومة من قبل. فلذلك لم يعمل من أسماء الفاعلين المشتقة من الأفعال إلا ما كان منكورا ، وما كان للحال والاستقبال وهو معنى قوله :

(كما لا يكون الاسم كالفعل إلا نكرة).

أي : كما لا يعمل الاسم عمل الفعل إلا نكرة.

٤٧٥

ثم قال : (ألا ترى أنك لو قلت : " أكل يوم زيدا تضربه" ، لم يكن إلا نصبا ؛ لأنه ليس بوصف. فإذا كان وصفا فليس بمبني عليه الأول ، كما أنه لا يكون الاسم مبنيا عليه في الخبر ، فلا يكون" ضارب" ، بمنزلة" يفعل ، ويفعل" إلا نكرة).

يعني : أنك إذا قلت : " أكلّ يوم زيدا تضربه" ، فلا يصلح أن يكون" تضربه" نعتا" لزيد" ؛ لأن" زيدا" معرفة فتنصبه بإضمار فعل هذا تفسيره وكان ذلك الاختيار. ولو كان مكان" زيد"" رجل" لرفعته ، إذا جعلت" تضربه" نعتا له ، فقلت : " أكل يوم رجل تضربه" ، كما قال :

أكلّ عام نعم تحوونه

ومعنى قوله : (فإذا كان وصفا ، فليس بمبني عليه الأول).

يعني : أنك إذا قلت : " أكلّ يوم رجل تضرب أو تضربه" وجعلت" تضرب" نعتا ، لم يصلح أن تنصب" رجلا" ، فتبنيه على" الضرب" وقد جعلته في موضع نعته ، كما أنك إذا قلت : " زيد ضربت" ، فجعلت" ضربت" خبرا ، لم تنصب" زيدا" به ، ولو نصبته به بطل أن يكون خبرا ، وقوله :

(ولا يكون ضارب بمنزلة" يفعل ويفعل" إلا نكرة).

يعني : أن اسم الفاعل والمفعول إنما يعمل عمل الفعل إذا كان نكرة. فالفاعل بمنزلة" يفعل" نحو : " ضارب" ، و" قاتل" ، تقول : " هذا زيدا ضارب وزيدا قاتل" ، واسم المفعول بمنزلة" يفعل" ، كقولك : " هذا جبه مكسوّ" و" هذا درهما معطى" ، كما تقول : " هذا جبة يكسي" ، و" درهما يعطي".

قال : (وتقول : " أذكر أن تلد ناقتك أحب إليك أم أنثى"؟ ، كأنه قال : " أذكر نتاجها أحب إليك أم أنثى؟ " ف" أن تلد" : اسم ، و" تلد" به يتم الاسم ، كما يتم" الذي" بالفعل ، فلا عمل له (هنا) كما لا يكون لصلة" الذي" عمل).

تقدير هذا الكلام على وجهين :

أحدهما : أن يكون" أذكر أن تلده ناقتك (أحب) أم أنثى" ، كأنه قال : "  أذكر ولادة ناقتك إياه أحب إليك أم أنثى". ف" ذكر" : ابتداء ، و" أن تلد" : ابتداء ثان ، و" أحب

٤٧٦

إليك" : خبر الابتداء الثاني والجملة في موضع خبر الابتداء الأول ، والعائد إلى الابتداء الأول" الهاء" التي قدرناها في" تلده". وإنما جاز حذفها وحسن ؛ لأنها في صلة" أن" ، و" أن" وما بعدها من الفعل بمنزلة اسم واحد ، فأشبهت" الذي" فحسن حذفها ، و" أنثى" : معطوفة على" ذكر" بأم.

والوجه الثاني : أن تجعل" أن تلد" : بدلا من" الذكر" ، فكأنك قلت : " أأن تلد ناقتك ذكرا أحب إليك أم أن تلد أنثى؟ " ثم حذفت ، وإنما أراد سيبويه أنك لا تنصب" ذكرا" بالفعل الذي بعد" أن" ، لأن ما بعد" أن" لا يعمل فيما قبلها ، فلم يتسلط الفعل على ما قبلها كما لم يتسلط على ما قبل" الذي" إذا كان في صلة" الذي".

قال : (وتقول : " أزيد أن يضربه عمرو أمثل أم بشر" كأنه قال : " أزيد ضرب عمرو إياه أمثل أم بشر" ، فالمصدر : مبتدأ ، " وأمثل" : مبني عليه ، ولم ينزل منزلة" يفعل" ، فكأنه قال : " أزيد ضاربه عمرو خير أم بشر").

وهذا على التقدير الذي قدرناه بدءا أنه يجعل" أن" مبتدأ ثانيا ويجعل الجملة في موضع خبر المبتدأ الأول ، ويجعل الاسم الذي بعد" أم" معطوفا على الاسم الأول.

قال : (وذلك لأنك ابتدأته ، وبنيت عليه فجعلته اسما ، ولم يلتبس" زيد" بالفعل إذ كان" ضارب" اسما كما لم يلتبس به" الضاربه" ، حين قلت : " أزيد أنت الضاربه" ؛ لأن" الضاربه" في معنى الذي ضربه ، والفعل تمام هذه الأسماء).

قوله : (وذلك لأنك ابتدأته وبنيت عليه).

يعني : أنك إذا قلت : " أزيد ضاربه خير أم بشر" جعلت" ضاربه" مبتدأ وبنيت عليه" خير" ، فجعلته خبرا ، فخرج من أن يكون في معنى الفعل الذي يعمل في زيد ، وصار بمنزلة ما فيه الألف واللام إذا قلت : " زيد أنت الضاربه" ، وما فيه الألف واللام ، فهو بمعنى" الذي" فلا يعمل فيما قبله.

قال : (وتقول : " أأن تلد ناقتك ذكرا أحب إليك أم أنثى"؟ ، لأنك حملته على الفعل الذي هو صلة" أن" فصار في صلته ، وصار كقولك : " الذي رأيت أخاه زيد" ، ولا يجوز أن يبتدأ" بالأخ" قبل" الذي" وتعمل فيه" رأيت أخاه زيد" فكذلك لا يجوز

٤٧٧

النصب في" قولك : " أذكر أن تلد ناقتك أحبّ إليك أم أنثى").

يعني : أن" ذكرا" إذا كان بعد" أن" وقع عليه" تلد" ، فنصبه كما ينصب الفعل الذي في صلة الذي الاسم الذي بعده كقولك : " الذي رأيت أخاه زيد" ، وإن قدمت ذلك الاسم على" الذي" ، لم يجز ؛ لأنه لا يجوز أن تقول : " زيد أخاه الذي رأيت" ، كما جاز" زيد الذي رأيت أخاه" ، فكذلك لا يجوز" أذكرا أن تلد ناقتك" كما جاز" أن تلد ناقتك ذكرا".

قال سيبويه : (ومما لا يكون في الاستفهام إلا رفعا ، قولك : " أعبد الله أنت أكرم عليه أم زيد" ، و" أعبد الله أنت أصدق له أم بشر" ، كأنك قلت : " أعبد الله أنت أخوه أم بشر" ؛ لأن" أفعل" ليس بفعل ولا اسم يجري مجرى الفعل ، وإنما هو بمنزلة" حسن ، وشديد" ، ونحو ذلك. ومثل ذلك : " أعبد الله أنت خير له أم بشر").

قال أبو سعيد : اعلم أن" أفعل" لا يعمل في شيء من الأسماء إلا في المنكور على جهة التمييز كقولك : " زيد أكثر مالا وأنظف ثوبا" ، والمنكور الذي يعمل فيه على جهة التمييز لا يجوز تقديمه ، لا يجوز أن تقول : " زيد مالا أكثر منك" ، ولا" ثوبا أنظف منك" ، فإذا كان كذلك فلا يجوز أن تنصب" عبد الله" في قولك : " أعبد الله أنت أكرم عليه" من وجهين :

أحدهما : أن" عبد الله" ليس مما يعمل فيه" أكرم" وبابه بوجه من الوجوه.

والثاني : أنه لو كان منكورا يعمل فيه" أكرم" وبابه بوجه ما جاز تقديمه عليه.

قال : (وتقول : " أزيد أنت له أشد ضربا أم عمرو" ، فإنما انتصاب" الضرب" كانتصاب" زيد" في قولك : " ما أحسن زيدا" ، وانتصاب" وجه" في قولك : " حسن وجه الأخ" ؛ فالمصدر هاهنا كغيره من الأسماء ، كقولك : " أزيد أنت له أطلق وجها أم فلان" ، وليس له سبيل إلى الإعمال وليس له وجه في ذلك).

يعني : أن" ضربا" انتصب على التمييز بأشد ونصبه ل" ضربا" ، لا يوجب له من القوة ما يعمل به فيما قبله ، كما أن قولك : " ما أحسن زيدا" ، لا يكون فيه أن تقول : " ما زيدا أحسن" ، ولا في قولك : " حسن وجه الأخ" أن تقول : " وجه الأخ حسن" ؛ لأنها

٤٧٨

عوامل تضعف عما قبلها.

قال سيبويه : (ومما لا يكون في الاستفهام إلا رفعا قولك : " عبد الله إن تره تضربه" ، وكذلك إن طرحت" الهاء" مع قبحه فقلت : " ا عبد الله إن تر تضرب" ، فليس للآخر سبيل على الاسم ؛ لأنه مجزوم).

يعني : أن ما بعد حرف الشرط لا يجوز أن يعمل فيما قبله ؛ لأنك لا تقول : " أزيدا إن تأت يكرمك" على معنى : إن تأت زيدا يكرمك. ولا يجوز أيضا أن يعمل جواب الشرط إذا كان الجواب مجزوما ، لا تقول : " أخاك إن تأتنا نصادق" ، على معنى" إن تأتنا نصادق أخاك ، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن تقول : " أعبد الله إن تره تضربه" ، فتنصب" عبد الله" بإضمار فعل يفسره" تره" ، أو" تضربه" ؛ لأن ما بعد" إن" ، وجوابها المجزوم لا يكونان تفسيرا لما قبل" إن" ، كما لا يكونان عاملين فيما قبلهما.

وإن طرحت" الهاء" من الشرط والجواب لم يعمل أيضا فيه واحد منهما على ما ذكرنا أنه لا يعمل ما بعد" إن" من الشرط والجواب فيما قبلهما.

قال : (وليس للفعل الأول سبيل ؛ لأنه مع" إن" ، بمنزلة قولك : " أعبد الله حين يأتي تضرب" ، فليس" لعبد الله" في" يأتي" حظ ؛ لأنه بمنزلة قولك : " أعبد الله يوم الجمعة أضرب").

قال أبو سعيد : اعلم أن ما قبل المضاف لا يعمل فيه المضاف إليه إذا قلت : " هذا غلام ضارب زيدا" ، لم يجز أن تقدم" زيدا" على المضاف فتقول : " هذا زيدا غلام ضارب" ، وكذلك إذا قلت : " حين تأتي زيدا يكرمك" ، لم يجز أن تقول : " زيدا حين تأتي يكرمك" ؛ لأنك أضفت" حين" إلى" تأتي" ، وأسماء الأوقات تكون مضافة إلى الأفعال المضاف إليه وكذلك إذا قلت : " أعبد الله حين تأتي تضرب" تنصب" عبد الله" ب" تضرب" لأن التقدير : أتضرب عبد الله حين يأتي ، ولا ترفع" عبد الله" حملا على ضميره المرفوع في" يأتي" فلم يجز أن تعمل" تأتي" فيما قبل الحين ولا يحمل عليه ما قبل الحين كما لا يعمل فيه.

فقال سيبويه : (ما بعد : " إن" الجزاء بمنزلة ما بعد" الحين" في أنه لا يحمل عليه

٤٧٩

ما قبله).

وقوله : (لأنه بمنزلة قولك : " أعبد الله يوم الجمعة أضرب").

نصب" عبد الله"" بأضرب" ، وجعل" الجمعة" بمنزلة" حين يأتي" وجعل" يوم" بمنزلة" حين" ليريك أن" يأتي" مضاف إليه" الحين" ، وأنه لا تسلط له على ما قبله.

قال سيبويه : (ومثل ذلك : " زيد حين أضرب يأتيني" ؛ لأن المعتمد على" زيد" آخر الكلام وهو" يأتيني").

يعني : أنك لا تنصب" زيدا" ب" أضرب" ؛ لأن" حين" مضافة إلى" أضرب" ، ولكنك ترفعه بالابتداء ، وحملا على" يأتيني".

قال : (وكذلك إذا قلت : " زيدا إذا أتاني أضرب" إنما هي بمنزلة" حين").

يعني أن" إذا" ، من أسماء الأوقات المستقبلة وهي مضافة إلى الفعل الذي بعدها.

فغير جائز أن ترفع" زيدا" ، حملا على الفعل الذي أضيفت إليه" إذا" وهو" أتاني" ، بل تنصبه" بأضرب" ، والتقدير : " أضرب زيدا إذا أتاني".

قال : (وإن لم تجزم الأخير نصبت ، وذلك قولك : " أزيدا إن رأيت تضرب" ، وأحسنه أن تدخل في" رأيت"" الهاء" لأنه غير مستعمل).

قال أبو سعيد : اعلم أن الفعل الذي هو جواب الشرط إذا رفع فله مذهبان على قول سيبويه :

أحدهما : ينوى به التقديم.

والآخر : أن يرفع على إضمار الهاء ، وذلك نحو قولك : " إن تأتني أكرمك" فيجوز أن يكون على معنى : " أكرمك إن تأتني" ، ويجوز أن يكون على معنى : " إن تأتني فأكرمك" ، كما تقول : " إن تأتني فأنا مكرم لك".

وقد كان أبو العباس محمد بن يزيد لا يجيز إلا على إضمار الفاء. والاحتجاج لهذا القول يأتي من بعد هذا مستقصى إن شاء الله تعالى.

فإذا قدرنا الفاء في هذا الفعل المرفوع لم يجز أن تنصب به ما قبله ، ولا يجوز أن تقول : " أزيدا إن تره فتضرب" على معنى : " إن تر زيدا فتضرب زيدا" ولا على معنى : إن

٤٨٠