شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

" أو تكنه" يعني تكن الخمر الزبيب : " فإنّه أخوها" يعني الزّبيب أخو الخمر ، لأنّهما من شجرة واحدة.

وأما أبو الأسود الدؤلي ، فإن أهل البصرة يقولون : " الدّؤليّ" ، بضم الدّال ، وفتح الهمزة وهو من الدّئل بن بكر بن كنانة. وفتحت الهمزة ، كما قالوا في النّمر : نمريّ. وكان ابن حبيب يقول : الدّيل من كنانة ، والدّئل مهموز مضموم ، على مثال : فعل : الدئل بن محلّم بن غالب بن يثبع بن الهون بن خزيمة بن مدركة. وجماعة من النحويين منهم الكسائي ، يقول : الدّيليّ.

أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي سهل الحلواني ، قال : سمعت أبا سعيد الحسن بن الحسين السكّريّ ، يقول : حدثنا العباس بن محمد الجمحي ، قال : حدثنا محمد بن سلام بن عبيد الله ، قال : قال يونس : هم ثلاثة : الّدول من حنيفة ، ساكن الواو ، والدّيل في عبد القيس ، ساكن الياء ، والدّئل في كنانة رهط أبي الأسود ، الواو مهموزة ، فهو أبو الأسود الدؤلي. هذا قول عيسى بن عمر من البصريين.

وأما قوله : " كائن ومكون" ، فالكائن اسم الفاعل من كان ؛ لأنك إذا قلت : " كان زيد قائما" جاز أن تقول : " زيد كائن قائما" ، وأما" مكون" فهو لما لم يسمّ فاعله ، غير أنّ" كان" لا يجوز نقلها إلى ما لم يسّمّ فاعله ، بأن يقام الخبر مقام الاسم ؛ لأنّا إذا قلنا : " كان زيد أخاك" فزيد والأخ لا يستغنى أحدهما عن الآخر ، كالمبتدأ والخبر ، فلا يجوز أن تحذف زيدا ، فيبقى الخبر منفردا ، وقد كان لا يجوز استغناؤه عن الاسم ، كما أنك لا تقول : " حسبت زيدا" ، ولا تأتي له بخبر ؛ لأن كان وحسب جميعا إنما يدخلان على اسم وخبر ، ولكن الوجه الذي يصح منه" مكون" أن تحذف الاسم والخبر جميعا ، وتصوغ كان لمصدرها ، وذلك المصدر ينوب مناب الاسم والخبر ، ويكون الاسم والخبر تفسيرا له ، فتقول : " كين الكون زيد منطلق" ، فالكون اسم ما لم يسمّ فاعله لكين ، وزيد منطلق جملة هي تفسير الكون ، ألا ترى أنه لو قال قائل : " هل كان زيد منطلقا" ، لقلت :

" قد كان ذاك". وإنما تريد : قد كان ذلك الكون ، فيفهم المخاطب بذلك أنّ زيدا منطلق ، وكذلك إذا قلت : " كان زيد منطلقا كونا" ثم نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله ، أقمت الكون مقام الفاعل ، وجعلت الجملة تفسيرا للكون ، فقلت : " كين الكون زيد منطلق". ويجوز إضمار الكون ؛ لدلالة الفعل عليه ، إذ كان مصدرا ، فتقول : " كين زيد منطلق"

٣٠١

و" مكون زيد منطلق". وكان الفراء يجيز" كين أخوك" في" كان زيد أخاك" ويزعم أنه ليس من كلام العرب ، ولكن على القياس ، وقد بينا القياس في فساد ذلك.

قال سيبويه : " وقد يكون لكان موضع آخر يقتصر عليه فيه ، فتقول : كان عبد الله ، أي قد خلق عبد الله ، وقد كان الأمر أي قد وقع الأمر ، وقد دام فلان ، أي قد ثبت ، كما تقول : رأيت زيدا ، تريد من رؤية العين ، وكما تقول : أنا وجدته ، تريد وجدان الضالّة ، وكما يكون أمسى وأصبح مرة بمنزلة كان ومرة بمنزلة استيقظوا وناموا".

وقد ذكرنا هذه المعاني فيما مضى ، وأراد أن يبين أنّ لفظا واحدا قد يكون له حالان أحدهما يحتاج إلى اسم وخبر ، والآخر لا يحتاج.

ثم قال : " وأما ليس فليس يكون فيها ذلك ـ لأنها وضعت موضعا واحدا".

يعني أن" ليس" لا يكون لها حال تستغنى بالفاعل فقط فيها.

قال : " فمن ثمّ لم تتصرّف تصرّف الفعل لآخر".

يعني لم تتصرّف" ليس" تصرّف"" كان" وأخواتها في الماضي والمستقبل واسم الفاعل ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى.

قال : " فمن جاء على وقع قوله ، وهو مقاس العائذي.

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي

إذا كأن يوم ذو كواكب أشهب" (١)

يعني إذا وقع.

ويزعم بعض النّاس أنه : مقاعس العائذيّ ، وهو خطأ ، إنما هو : مقّاس واسمه : مسهر ابن النعمان. وسمي مقّاسا بقوله :

مقّست بهم ليل التّمام مسهّرا

إلى أن بدا ضوء من الفجر ساطع

وقال عمرو بن شأس :

بني أسد هل تعلمون بلاءنا

إذا كأن يوما ذا كواكب أشنعا (٢)

يريد : إذا كان اليوم يوما ذا كواكب أشنعا ، وإنما أضمر لعلم المخاطب ، ومعناه ، إذا

__________________

(١) البيت في سيبويه ١ / ٢١ ، وابن يعيش ٧ / ٩٨ ، وبلا نسبة في اللسان (شهب).

(٢) البيت في سيبويه ١ / ٢٢.

٣٠٢

كان اليوم الذي يقع فيه القتال. وبعض العرب يقول : " إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا" ، فيجعل" كان" بمعنى وقع ، ويجعل" أشنعا" على الحال. وقد يجوز أن يكون" أشنعا" خبرا.

قال سيبويه : " واعلم أنه إذا وقع في هذا الباب نكرة ومعرفة ، فالذي تشتغل به كان المعرفة ؛ لأنّه حدّ الكلام ؛ لأنهما شيء واحد".

يعني أنك إذا قلت : " كان زيد قائما" ، فالوجه أن ترفع" زيدا" وتنصب" قائما" ؛ لأن" زيدا" و" قائما" شيء واحد ، وزيد هو معرفة ، وقائم نكرة ، وحدّ الكلام أن تخبر عمّن يعرف بما لا يعرف ؛ لأنّ الفائدة هي في أحد الاسمين ، والآخر معروف لا فائدة فيه ، والذي فيه الفائدة هو الخبر ، فالأولى أن يجعل زيدا المعروف هو الاسم وتجعل المنكور هو الخبر ، حتى يكون مستفادا ، فليس يحسن إذن أن تقول : " كان قائم زيدا" ولا يشبه هذا" ضرب رجل زيدا" ؛ لأنك إذا قلت" ضرب رجل زيدا" فإنما أخبرت عن رجل بالضرب الواقع منه بزيد ، ولو نصبت رجلا ورفعت زيدا انعكس المعنى ، وصار المفعول فاعلا ؛ لأنهما شيئان مختلفان.

وقال : " وهما في كان بمنزلتهما في الابتداء إذا قلت : عبد الله منطلق".

يعني أن اسم كان وخبره كالمبتدأ وخبره في أن الخبر فيهما نكرة ، والاسم معرفة.

ثم مثل فقال : " وذلك قولك : كان زيد حليما ، وكان حليما زيد ، لا عليك قدمت أم أخّرت ، إلا أنه على ما وصفت لك".

يعني أنك تنصب الخبر المنكور وإن قدّمته ، كما جاز تقديم المنصوب في قولك : " ضرب زيد عبد الله".

قال : " فإذا قلت : كان زيد ، فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك".

يعني ابتدأت بالاسم الذي يعرفه المخاطب ، كما تعرفه أنت ، فإنّما ينتظر الخبر الذي لا يعلمه وتستفيده ، فإذا قلت : حليما ، فقد أعلمته مثل ما علمت مما لم يكن يعلم ، ولو قلت : كان حليما ، فقد استفاد وقوع حلم لا يدرى لمن هو ، فإنما ينتظر صاحبه ، فإذا قلت زيد علم أن الحلم الذي قد استفاد وقوعه لزيد هذا المعروف ، فهو جائز وإن كان مؤخّرا في اللفظ.

ثم قال : " وإن قلت : كان حليم أو رجل فقد ابتدأت بنكرة فلا يستقيم أن تخبر المخاطب عن المنكور ، وليس هذا بالذي ينّزّل به المخاطب منزلتك في المعرفة ،

٣٠٣

فكرهوا أن يقربوا باب لبس".

يعني أن ابتداءك بالنكرة لتحدث عنها غير مستقيم ؛ لأن المخاطب ليس ينزّل منزلتك في معرفتها. وحكم الخطاب المفهوم أن يساوي المخاطب المتكلم في معرفة ما خبّره به ، فإذا قال : " كان زيد عالما" فقد كان المخاطب عالما بزيد من قبل ، وقد عرف علمه الآن ، لإخبار المتكلم إياه ، فقد ساواه في الأمرين جميعا ، وإذا قال : " كان عالم زيدا" فعالم منكور لا يعرفه المخاطب ، ولم يجعله خبرا فيفيده ، وقد قدّمنا أنّ الأسماء لا تستفاد ، فمعرفة المخاطب بعالم غير واقعة. فلم يساو المخاطب المتكلم إذن ؛ لأن المنكور في الإخبار لا يعرفه المخاطب ، وإن كان المتكلّم قد رآه وعرفه.

فأما قوله : " فكرهوا أن يقربوا باب لبس". يعني أن المخاطب يبقى على جهالته في المنكور الذي جعلته اسما.

ثم قال : " وقد تقول : كان زيد الطّويل منطلقا ، إذا خفت التباس الزّيدين".

يعني أنك تنعت الاسم المعروف إذا كان يشاركه في مثل لفظه غيره ، بالنعت الذي يميزه من المشاركة في جنسه.

قال : " وتقول : أسفيها كان زيد أم حليما ، وأرجلا كان زيد أم صبيّا ، تجعلها لزيد ؛ لأنه إنما ينبغي أن تسأله عن خبر من هو معروف عنده".

يعني أنّك إذا أدخلت الاستفهام على" كان" لم تغيّرها عن الحكم الذي ذكرناه من جعل المعروف الاسم والمنكور الخبر ؛ لأنّك إنما تسأله أيضا عمّن هو معروف عندك وعنده ، ليفيدك عنه ما لا تعرفه ، فيما تقدّر أنه يعرفه. وذلك الشيء الذي تسأل إفادته هو الخبر.

قال : " والمعروف هو المبدوء به ، ولا يبتدأ بما يكون فيه اللّبس وهو النكرة". وقد ذكرنا هذا.

ثم قال : " ألا ترى أنّك لو قلت : كان إنسان حليما ، وكان رجل منطلقا ، كنت تلبس".

يعني أن هذا الكلام إنما يجعل للمخاطب العلم بوقوع علم إنسان لا يعرفه من جملة الناس ، وهو قد كان يعلم هذا قبل إخبار هذا المخبر إيّاه ، فكرهوا أن يبدؤوا بهذا المنكور بسبب اللبس الذي ذكرناه.

٣٠٤

قال سيبويه : " وقد يجوز في الشّعر في ضعف من الكلام. حملهم على ذلك أنه فعل بمنزلة ضرب ، وأنه قد يعلم إذا ذكرت زيدا ، وجعلته خبرا أنه صاحب الصّفة على ضعف من الكلام".

يريد أنه يجوز أن يجعل النكرة اسم كان والمعرفة خبرها في الشعر ، وإن كان جوازه في الكلام ضعيفا ، والذي حملهم على ذلك أنّهم قد جعلوا (كان) فعلا بمنزلة" ضرب". وقد يجوز أن يكون فاعل ضرب منكورا ، ومفعوله معروفا ، وسوّغ أيضا في كان أن الاسم فيها هو الخبر ، فإذا قلت : " كان قائم زيدا" فزيد هو القائم الذي قد نكرته ، فتعرّف المنكور بتعريفك زيدا ؛ إذ كانا لشيء واحد ، فكأنّك تعرّف المخبر عنه بمعرفة خبره. وكان ضعفه أنك لم تعرف بنفسه ، وحكم الاسم يعرّف بنفسه ، ثم يستفاد خبره.

واستشهد سيبويه على ذلك بقول خداش بن زهير :

فإنّك لا تبالي بعد حول

أظبي كان أمّك أم حمار (١)

وبقول حسان بن ثابت :

كأنّ سلافة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء (٢)

وقول أبي قيس بن الأسلت الأنصاري :

ألا من مبلغ حسّان عنّى

أسحر كان طبّك أم جنون (٣)

وقول الفرزدق :

أسكران كان ابن المراغة إذ هجا

تميما بجوف الشّام أم متساكر (٤)

فأما البيت الأول ، فقد ردّ على سيبويه الاستشهاد به ؛ لأنّه جعله شاهدا لجعل النكرة اسما والمعرفة خبرا ، واسم كان في هذا البيت : ضمير ظبي ، والضمير معرفة ، فحصل من هذا أن اسم كان وخبرها معرفتان ، لأن الضمير معرفة ، والأم معرفة.

وليس الأمر على ما ظنه الرادّون على سيبويه ، وذلك أنّ الذي أحوج أن يكون الاسم معروفا تبيين المخبر عنه للمخاطب حتى لا يلتبس عليه ويستفيد خبره على ما

__________________

(١) البيت في سيبويه ١ / ٢٣ ، وابن يعيش ٧ / ٩٤ ، والخزانة ٤ / ٦٧.

(٢) البيت في ديوانه ص ٣ ، وابن يعيش ٧ / ٩٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٠ ، واللسان (سبق).

(٣) البيت في سيبويه ١ / ٢٣ ، والخزانة ٤ / ٦٨ ، واللسان (طبب).

(٤) البيت للفرزدق في ديوانه ٤٨١ ، وسيبويه ١ / ٢٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ٦٥ ، واللسان (سكر).

٣٠٥

بيّنّاه ، وضمير النكرة لا يستفيد منه المخاطب أكثر من النّكرة ، ألا ترى أنّ قائلا لو قال : " مررت برجل وكلّمته" ، لم تكن الهاء العائدة إلى رجل بموجبة لتعريف شخص بعينه من بين الرجال ، وإن كانت الهاء معرفة من حيث علم المخاطب أنها تعود إلى ذلك الرجل المذكور من غير أن يكون تمييز له من بين الرجال ، فلا فرق بين أن تقول : " قائم كان زيدا" ويجعل في كان ضمير قائم ، وبين أن يقول : " كان قائم زيدا" في باب معرفة المخاطب بالمخبر عنه.

وجواب آخر : أن" ظبي" اسم كان أخرى مضمرة قبل ظبي ، وكان الثانية تفسير لها ، ويكون اسم كان الذي أراده سيبويه ظبي.

وأما ارتفاع ظبي فإنه على وجهين : إما أن يكون مبتدأ ، وتكون كان واسمها وخبرها في موضع خبره ، كما تكون الجمل أخبار المبتدآت ، وإما أن يرتفع بكان أخرى مضمرة ؛ لأن ألف الاستفهام بالفعل أولى ، فيكون تقديره : " أكان ظبي كان أمّك" فيكون ظبي مرتفعا بكان ، ويكون : " كان أمك" تفسيرا لكان المضمرة ، ويكون كان المضمرة بمعنى وقع ، وهذه الأخرى الظاهرة تفسيرا للمضمرة لتقارب معناهما.

وهذا الشاعر إنما يصف إضراب النّاس عن التشرّف بالأنساب ، وتقارب ما شرف منها ووضع ، فقال : لا تبالي بعد هذا الوقت إن دام ما نحن فيه إلى من نسبت من الأمهات.

وأما البيت الثاني ، فإنه جعل (مزاجها) خير يكون و (عسل وماء) اسمها ، فهو مطابق لما استشهد به سيبويه من غير اعتراض عليه. غير أن في هذا البيت ما يسهّل جعل النكرة اسما من جهة المعنى ، وذلك أن الذي يستفيده المخاطب بعسل وماء منكورين ، هو الذي يستفيده منهما معروفين ؛ لأنّهما نوعان متشابها الأجزاء ، ألا ترى أنّ قائلا لو قال لك : شربت الماء والعسل ، أو قال : شربت ماء وعسلا ، كان معناهما عندك واحدا ، لعلمك أنه إذا قال : العسل والماء أنّه لا يأتي على شربهما أبدا ، وأن غرضه من ذلك البعض ، واستواء أجزائهما أن العسل والماء يقال لما قلّ منه وكثر : عسل وماء ، ألا ترى أنّ جرعة ماء وأقلّ منها يقال لها ماء ، وأن دجلة والفرات والبحر ماء ، فأجزاؤه متساوية ومما سهل ذلك أيضا أن الضمير الذي في مزاجها يعود إلى منكور ، وهي سلافة. وقد بيّنا ما في ذلك.

وكان أبو عثمان المازني ينشد :

٣٠٦

" يكون مزاجها عسلا وماء"

فيحمل : وماء على المعنى ، وذلك أن ما مازج الشيء فقد مازجه الشيء ، فكأنّه قال : ومازجها ماء.

والبيت الثالث مثل البيت الأول. ورأس : اسم خمّار.

والبيت الرابع كذلك أيضا ، غير أن بعضهم ينشد" أسكران كان ابن المراغة". وقد كان حكمه أن يقول : " أم متساكرا" ؛ لأن متساكرا عطف على سكران ، ولكنّه لم يعطفه عليه لفظا ، وعطفه على تقدير جملة معطوفة على جملة ، كأنه قال : أم هو متساكر ، كما قال :

يهدي الخميس نجادا في مطالعها

إمّا المصاع وإمّا ضربة رغب (١)

كأنه قال : وإما أمرنا ضربة رغب.

قال سيبويه : " وإذا كانا معرفة فأنت بالخيار أيّهما جعلته فاعلا رفعته ونصبت الآخر ، كما فعلت ذلك في ضرب ، وذلك قولك : كان أخوك زيدا ، وكان زيد صاحبك ، وكان هذا زيدا ، وكان المتكلّم أخاك".

قال أبو سعيد : إن قال قائل : إذا كان الاسم والخبر جميعا معروفين،فما الفائدة؟

قيل له : الاسم المعروف قد يعرف بأنحاء منفردة ، وقد يعرف بها مركّبة ، فزيد معروف بهذا الاسم منفردا ، وأخوك معروف بهذا الاسم منفردا ، غير أن الذي عرفهما بهذين الاسمين منفردين ، قد يجوز أن يجهل أنّ أحدهما هو الآخر ، ألا ترى أنك لو سمعت بزيد وشهر أمره عندك ، من غير أن تراه ، لكنت عارفا به ذكرا أو شهرة ، ولو رأيت شخصه لكنت عارفا به عيانا ، غير أنك لا تركّب هذا الاسم الذي سمعته على الشخص الذي رأيته إلا بمعرفة أخرى ، بأن يقال لك : هذا زيد ونحوه من المعارف.

وقول سيبويه في هذا الفصل : " كما فعلت ذلك في ضرب" ، يريد : كما رفعت الفاعل وهو منكور ونصبت المفعول وهو منكور في ضرب. وقد بيّنا أن الفعل لا يختص رفع المعروف دون المنكور.

قال سيبويه : " وتقول : من كان أخاك ، ومن كان أخوك ، كما تقول : من ضرب

__________________

(١) البيت للزبرقان في اللسان (مصع) ، وبلا نسبة في سيبويه ١ / ٨٧.

٣٠٧

أباك ، إذا جعلت (من) الفاعل ، ومن ضرب أبوك ، إذا جعلت الأب الفاعل وإذا قلت : من كان أخاك ، فمن مبتدأة وهي استفهام ، ولا يحتاج إلى صلة ، وفي ضمير من وهو اسم كان ، وأخاك الخبر".

وقول سيبويه : " جعلت (من) الفاعل" يريد ضمير من وإذا قلت : من كان أخوك فأخوك اسم كان ومن خبر كان ، وهي في موضع نصب ، وليس في الكلام ضمير ، وهو بمنزلة" قائما كان زيد" إلا أن من لا تكون إلا صدرا لأنها استفهام.

قال سيبويه : " وكذلك : أيهم كان أخاك وأيهم كان أخوك" وتفسيره كتفسير من.

قال سيبويه : " وتقول : ما كان أخاك إلا زيد ، كما تقول : ما ضرب أخاك إلا زيد".

يريد أن دخول (إلا) لم يغيّر اللّفظ عن منهاجه في الإعراب ، وإنما دخلت لتغيير معنى النفي. ومن الحروف ما يدخل لتغيير المعنى من غير أن يحدث في اللفظ تأثيرا ، كقولك : هل زيد قائم؟ وأزيد قائم؟ ولم تغيّر (هل) و (الألف) مع إحداثهما معنى الاستفهام لفظ الابتداء والخبر.

قال : " ومثل ذلك قوله تعالى : (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)(١) و (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا)(٢) ، فإن وما بعدها بمنزلة المصدر ، فكأنه قال : "إلا قولهم".

وقال الشاعر :

وقد علم الأقوام ما كان داءها

بثهلان إلا الخزي ممّن يقودها (٣)

وإن شئت قلت : ما كان داؤها إلا الخزي وقرأ بعض القراء : "ما كان حجّتهم" و "ما كان جواب قومه".

قال سيبويه : " ومثل قولهم : من كان أخاك قول العرب : ما جاءت حاجتك كأنه قال : ما صارت حاجتك ، ولكنّه أدخل التأنيث على ما حيث كانت الحاجة ، كما قال

__________________

(١) سورة الجاثية ، آية : ٢٥.

(٢) سورة الأعراف ، آية : ٨٢.

(٣) البيت بلا نسبة في سيبويه ١ / ٢٤ ، وابن يعيش ٧ / ٩٦.

٣٠٨

بعض العرب : من كانت أمّك ، حيث أوقع (من) على مؤنّث".

قال أبو سعيد : اعلم أن (من) و (ما) لهما لفظ ومعنى ، والألفاظ الجارية عليهما يحق أن تكون محمولة على لفظيهما ومعناهما ، فإذا جرت على لفظهما ، كان مذكّرا موحّدا ، تقول : " من قام" سواء أردت واحدا أو اثنين أو جماعة من مذكر ومؤنث ، وكذلك : " ما أصابك" سواء أردت به شيئا أو شيئين من مذكر ومؤنث.

ويجوز أن تحمل الكلام على معناهما ، فتقول : " من قامت" إذا أردت مؤنثا ، وفيكم من يختصمان ، ومن يقومان ، ومن يقمن ، ومن يقومون. قال الله تعالى : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً)(١) فذكّر" يقنت" على لفظ" من" ، وأنّث" تعمل" على معناها ، ولو ذكرهما على اللفظ أو أنّثهما على المعنى لجاز.

وبعض الكوفيين يزعم أنه لا يجوز تذكير الثاني ؛ لأنه قد ظهر تأنيث المعنى بقوله :

" منكن" وهذا غلط لأنّا إنما نردّه إلى لفظ (من) وقد قال الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً)(٢) ، فقال تعالى : " ومن يؤمن" موحدا على لفظ" من" ، ثم قال : " خالدين" على المعنى ، ثم رجع إلى اللفظ فقال تعالى : " قد أحسن الله له رزقا" ، فبطل بما ذكرناه ما توهمه الكوفي.

وقال الله تعالى في جمع (من) على المعنى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ)(٣) وعلى اللفظ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)(٤) وقال تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)(٥) ثم قال تعالى : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦) على المعنى.

ثم قال الفرزدق في التثنية :

__________________

(١) سورة الأحزاب ، آية : ٣١.

(٢) سورة الطلاق ، آية : ١١.

(٣) سورة يونس ، آية : ٤٢.

(٤) سورة الأنعام ، آية : ٢٥.

(٥) سورة البقرة ، آية : ١١٢.

(٦) سورة البقرة ، آية : ١١٢.

٣٠٩

تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (١)

فثنّاه على المعنى. وكذلك الحكم في" ما" ، تقول : " ما نتج من نوقك" و" ما نتجت من نوقك" و" ما نتجن من نوقك" ، فإذا قلت : " ما نتج من نوقك" فهو على لفظ (ما) فإذا قلت : " ما نتجت" فهو على معنى ناقة ، كأنك قلت : أية ناقة نتجت من نوقك ، وإذا قلت" ما نتجن من نوقك" فكأنه يسأله عن جماعة نتجن من نوقه ، ويقدّر اللفظ على تقدير : أيّ نوق نتجن من نوقك ، ولو كنت سائلا عن ناقتين ، ثم حملت الكلام على المعنى لقلت : ما نتجتا من نوقك.

وأمام قول العرب : " ما جاءت حاجتك" ، فالأصل في" جاء" أن يكون فعلا كسائر الأفعال ، منهم من لا يجعله متعديا ، فيقول : " جاء زيد إلى عمرو" ، كما تقول : " قام زيد إلى عمرو" ومنهم من يعدّيه فيقول : " جاء زيد عمرا" كما تقول : " لقى زيد عمرا" ، ويكون الفاعل غير المفعول.

فأما قول العرب : " ما جاءت حاجتك" ، فقد أجروها مجرى صارت ، وجعلوا لها اسما وخبرا وهو الاسم ، كما كان ذلك في باب كان وأخواتها ؛ فجعلوا (ما) مبتدأ وجعلوا في (جاءت) ضمير" ما" وجعلوا ذلك الضمير اسم جاءت ، وجعلوا (حاجتك) خبر" جاءت" فصار بمنزلة" هند كانت أختك" وأنثّوا" جاءت" لتأنيث معنى" ما" فكأنه قال : أية حاجة جاءت حاجتك ، وجعلوا" جاء" بمنزلة" صار" وإدخالها على اسم وخبر هو غير معروف إلا في هذا ، وهو من أمثال العرب ، ولم يسمع إلا بتأنيث" جاءت" وأجروه مجرى" صارت" لضرب من الشّبه بينهما ، وذلك أنك تقول : " صار زيد إلى عمر" كما تقول : " جاء زيد إلى عمرو" ؛ ففي" جاء" من الانتقال ما في" صار" ، فحملوا" ما جاءت حاجتك" في جعل الاسم والخبر له على" صار" في جعل الاسم والخبر له إذ قلت : " صار الّطين خزفا" و" صار زيد منطلقا" لما بينهما من الاشتراك في معنى الانتقال ، وإنما يقوله الرجل للرجل إذا أتاه في معنى قوله : " ما جاء بك" ويقال إن أول ما شهرت هذه الكلمة من قول الخوارج لابن عباس حين أتاهم يستدعي منهم الرجوع إلى الحقّ من قبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

__________________

(١) البيت في ديوانه ٨٧٠ ، وسيبويه ١ / ٤٠٤ ، وابن يعيش ٤ / ١٣ ، والخزانة ١ / ٤٦١.

٣١٠

وقول سيبويه : " ولكنه أدخل التأنيث على (ما) حيث كانت الحاجة".

يعني أنّث" جاءت" لمعنى التأنيث في (ما) ؛ لأن معناها : أيّة حاجة ، ولو حمل" جاء" على لفظ" ما" لقال : " ما جاء حاجتك" إلا أنّ العرب لا تستعمل هذا المثل إلا مؤنثا والأمثال إنّما تحكي.

وقول العرب : " من كانت أمّك" جعلوا (من) مبتدأة ، وجعلوا في كانت ضميرا لها ، وجعلوا ذلك الضمير اسم كان وجعلوا" أمّك" خبرها وأنثوا" كان" على معنى" من" فكأنه قال : " أيّة امرأة كانت أمّك".

قال سيبويه : " وإنما صيّر جاء بمنزلة كان في هذا الحرف ؛ لأنه بمنزلة المثل كما جعلوا عسى بمنزلة كان في قولهم : " عسى الغوير أبؤسا". ولا تقول : عسيت أخانا. وكما جعلوا" لدن" لها مع" غدوة" حالة ليست مع غيرها ، مع غدوة منّونة ، كقولهم : لدن غدوة ومن كلامهم أن يجعلوا الشيء في موضع على غير حاله في سائر الكلام ، وسترى مثل ذلك إن شاء الله تعالى".

قال أبو سعيد : أما قوله : " إنما صير جاء بمنزلة كان في هذا الحرف" يعني أنهم جعلوا له اسما وخبرا ، كما جعلوا لكان ، وقد بينّا هذا. ومثل ذلك : " عسى الغوير أبؤسا" جعلوا الغوير اسم عسى ومرفوعا به ، وأبؤسا خبر الغوير ، فجرت" عسى" مجرى" كان" في أن لها اسما وخبرا في هذا المثل فقط. ولو قال قائل : " عسى زيد أخاك" ، كما تقول : " كان زيد أخاك" لم يجز ، وإنما أراد أن يريك أن" جاء" و" عسى" في الكلام في غير هذين المثلين ليسا بمنزلة" كان" وصيّرا في هذا الموضع بمنزلة كان في العمل.

وقولهم : " عسى الغوير أبؤسا" يقال إن" الزبّاء" الرّومية هي التي قالته لما أتاها" قصير" بصناديق فيها رجال طالبا لثأر جذيمة الأبرش منها ، فأخذ في طريق الغار مريدا للإيقاع بها ، ولم يكن الطريق الذي يسلكه إليها ذلك الطريق ، فلما أحسّت بذلك قالت : عسى الغوير أبؤسا.

وأبؤس جمع بأس فكأنها قالت : صار الغوير أبؤسا ، إلا أنّ عسى فيها معنى الشكّ والتوقّع ، وصار لليقين فعسى هاهنا وإن أجريناها مجرى (صار) و (كان) ، فهي غير خارجة من معنى الشك ، فكأنها قالت : عسى الغوير أن يأتيني البأس من قبله.

والغوير تصغير الغار. وفي الناس من يقول : عسى الغوير أن يكون أبؤسا ، فينصب

٣١١

أبؤسا بيكون. ولا وجه لهذا الإضمار كله.

ثم ذكر سيبويه : " لدن غدوة" احتجاجا بأنّ الشيء قد يكون على لفظ في موضع فلا يطرد القياس في غيره ، وذلك أن العرب تقول : لدن غدوة ، فينصبون ، ولا يقولون : لدن عشيّة ، ولا لدن زيدا. وكذلك : عسى الغوير أبؤسا ، وما حاجتك ، ولا يقولون : عسى زيد أخانا ، ولا جاء زيد قائما في معنى : صار زيد قائما. وإنما تنصب العرب غدوة ، وإن كان القياس فيها الخفض على ضرب من التأويل والتشبيه ، وذلك أنهم يقولون : " لد" فيحذفون النون ، و" لدن" فيثبتون النون ، فشبّهوا هذه النون بالنون الزائدة في عشرين وضاربين ؛ لأنك تقول : هذه عشرو زيد ، وضاربو زيد ، ثم تقول : هذه عشرون درهما ، وضاربون زيدا.

قال سيبويه : " ومن يقول من العرب : ما جاءت حاجتك ، كثير ، كما تقول : من كانت أمّك".

يعني أن من العرب من يجعل" حاجتك" اسم" جاءت" ويجعل خبرها" ما" ، كما يجعل من خبر" كانت" ، ويجعل" أمّك" اسمها ، وما في موضع نصب ، كأنك قلت : أيّة حاجة كانت حاجتك ، وأيّة امرأة كانت أمّك. كما تقول : " قائمة كانت هند" ، ولا يجوز تأخير" ما" و" من" وإن كانتا منصوبتين في التقدير ؛ لأنهما استفهام ، والاستفهام لا يتأخر.

قال سيبويه : " ولم يقولوا : ما جاء حاجتك".

يعني : لم يسمع هذا المثل إلا بالتأنيث ، وليس هو بمنزلة قولك : " من كان أمّك" ؛ لأنّ قوله : من كان أمّك ليس بمثل ، فلا يغيّر لفظه ، ولكن" من" مبتدأ وفي" كان" ضميرها ، وهو اسم كان" وأمّك" خبر كان ، وذكّر" كان" على لفظ" من".

قال سيبويه : " فألزموه التاء كما اتفقوا على : لعمر الله ، في اليمين".

يعني أن العرب اتفقوا على النطق بهذا المثل على تأنيث" جاءت" ، كما اتّفقوا على قولهم في اليمين : " لعمر الله" ، وذلك أنّ العمر والعمر معناهما البقاء. وقولهم : لعمر الله : لبقاء الله كأنه قال : لبقاء الله حلفي ، ولم يقل أحد : لعمر الله ، وإن كان معناه معنى" العمر" في غير هذا الموضع. واختصّ هذا الموضع بإحدى اللّغتين ، كما اختصّ" جاءت" بالتأنيث دون التذكير.

قال سيبويه : " ومثل قولهم : ما جاءت حاجتك ، إذا صارت تقع على مؤنث :

٣١٢

قراءة بعض القراء : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا)(١) وتلتقطه بعض السيارة (٢).

يريد أن" تكن" مؤنث ، واسمها" أن قالوا" وليس في" أن قالوا" تأنيث لفظا ، وإنما حمل تأنيثه على معنى" أن قالوا" إذا تأوّلته تأويل مقالة ، كأنه قال : ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. وحمل" تلتقطه" على المعنى في التأنيث ؛ لأن لفظ البعض الذي هو فاعل الالتقاط مذكّر ، ولكنّ بعض السّيّارة في المعنى سيّارة ، ألا ترى أنه يجوز أن تقول : تلتقطه السّيّارة ، وأنت تعني البعض ، فهذا مثل : ما جاءت حاجتك ، حين أنّث فعلها على المعنى.

قال سيبويه : " وربما قالوا في بعض الكلام : ذهبت بعض أصابعه ، وإنما أنّث بعضا ؛ لأنّه أضافه إلى مؤنّث هو منه ، ولو لم يكن منه لم يؤنثه. لو قال ذهبت عبد أمّك لم يحسن". يعني لم يجز.

قال أبو سعيد : اعلم أن المذكّر الذي يضاف إلى المؤنث على وجهين ؛ أحدهما : تصحّ به العبارة عن معناه بلفظ المؤنّث التي أضفته إليها لو أسقطته هو. والآخر لا تصح العبارة عن معناه بلفظ المؤنث التي أضيف إليها.

فأما ما يصح معناه لو أسقط بلفظ المؤنث ، فقولك : " أضرّت بي مرّ السّنين" و" آذتني هبوب الرياح" و" ذهبت بعض أصابعي" و" اجتمعت أهل اليمامة" ؛ وذلك أنك لو أسقطت المذكّر فقلت : " أضرّت بي السّنون" و" آذتني الرّياح" و" ذهبت أصابعي" و" اجتمعت اليمامة" وأنت تريد ذلك المعنى لجاز.

وأما ما لا تصح به العبارة عن معناه بلفظ المؤنث ، فقولك : " ذهب عبد أمّك". ولو قلت : " ذهبت عبد أمّك" لم يجز ؛ لأنك لو قلت : " ذهبت أمّك" لم يكن معناه معنى قولك : " ذهب عبد أمّك" ؛ كما كان معنى : " اجتمعت اليمامة" كمعنى" اجتمع أهل اليمامة".

وهذا الباب الأول الذي أجزنا فيه تأنيث فعل المذكّر المضاف إلى المؤنث ، الذي تصح العبارة عن معناه بلفظها ، فإن الاختيار تذكير الفعل ، إذ كان لمذكّر في اللفظ ؛

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ٢٣.

(٢) سورة يوسف ، آية : ١٠.

٣١٣

فقولك : اجتمع أهل اليمامة و" ذهب بعض أصابعه" أجود من" اجتمعت" و" ذهبت" ، والتأنيث على الجواز.

ومثل تأنيث ما ذكرنا قول الأعشى :

وتشرق بالقول الّذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم

ومثل ذلك قول جرير :

إذا بعض السّنين تعرّقتنا

كفى الأيتام فقد أبي اليتيم

فأنّث" تعرّقتنا" والفعل للبعض ، إذ كان يصح أن يقول : إذا السّنون تعرّقتنا ، وهو يريد بعض السّنين.

وقال جرير أيضا :

لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع (١)

فأنّث" تواضعت" والفعل للسّور ؛ لأنه لو قال : تواضعت المدينة لصح في المعنى الذي أراده بذكر السور.

وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول : إن السّور جمع سورة ، وهي كل ما علا ، وبها سمّي سور المدينة سورا ، فزعم أنّ تأنيث" تواضعت" ؛ لأن السور مؤنث ؛ إذ كان جمعا ليس بينه وبين واحدة إلا طرح الهاء ، كنحلة ونحل ، وإذا كان الجمع كذلك جاز تأنيثه وتذكيره. وقال الله تعالى : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)(٢) فذكّر. وقال الله تعالى : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ)(٣) فأنث.

فأما قوله : " والجبال الخشّع" فمن الناس من يرفع الجبال بالابتداء ، ويجعل الخشع الخبر ، كأنه قال : والجبال خشّع. ولم يرفعها بتواضعت ؛ لأنه إذا رفعها بتواضعت ذهب معنى المدح ؛ لأن الخشّع هي المتضائلة ، فإذا قال : تواضعت الجبال المتضائلة لموته لم يكن ذلك طريق المدح ، وإنما حكمه أن تقول : تواضعت الجبال الشّوامخ.

وقال بعضهم : الجبال مرتفعة بتواضعت والخشّع نعت لها ، ولم يرد أنها كانت خشّعا

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ٣٤٥ ، وسيبويه ١ / ٢٥ ، والخزانة ٢ / ١٦٦ ، واللسان (سور).

(٢) سورة القمر ، آية : ٢٠.

(٣) سورة ق ، آية : ١٠.

٣١٤

من قبل ، وإنما هي خشّع لموته فكأنه قال : تواضعت الجبال الخشّع لموته ، كما قال رؤبة :

والسّبّ تخريق الأديم الألخن (١)

ولم يقل" الأمتن" فيكون أبلغ على ما ذكرنا ، ولكنه أراد الألخن بالسّبّ.

وقال ذو الرمة :

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم (٢)

فأنّث والفعل للمرّ ؛ لأنه لو قال : تسفّهت أعاليها الرياح ، لجاز.

وقال العجّاج :

طول الّليالي أسرعت في نقضي

أخذن بعضي وتركن بعضي (٣)

فأنث" أسرعت" ؛ لأنه لو قال : الليالي أسرعت في نقضي ، لجاز.

قال سيبويه : " وسمعنا من العرب من يقول ممن يوثق : اجتمعت أهل اليمامة ؛ لأنّه يقول في كلامه : اجتمعت اليمامة ، والمعنى ، أهل اليمامة ، فأنّث الفعل إذ جعله في اللّفظ لليمامة ، فترك اللفظ على ما كان يكون عليه في سعة الكلام".

يعني ترك لفظ التأنيث في قولك : اجتمعت أهل اليمامة على قوله : اجتمعت اليمامة. وقال الفراء : لو كنّيت عن المؤنّث في هذا الباب لم يجز تأنيث فعل المذكّر الذي أضيف إليه ، لو قلت إن الرّياح آذتنى هبوبها ، لم يجز أن تؤنث" آذتنى" إذا جعلت الفعل للهبوب. واحتج بأنّا إذا قلنا : " آذتني هبوب الرّياح" فكأنّا قلنا : " آذتني الرياح" وجعلنا الهبوب لغوا وإذا قلنا : " آذتني هبوبها" لم يصلح أن يجعل الهبوب لغوا ، ؛ لأنّ الكناية لا تقول بنفسها ، فتجعل الهبوب لغوا.

والصحيح عندنا جوازه ، وذلك أنّ التأنيث الذي ذكرناه ، إنما أجزناه ؛ لأنه تجوز العبارة عنه ، بلفظ المؤنث المضاف إليها ، لا لأنه لغو ، وقد تجوز العبارة بلفظ المؤنث عن لفظ المذكّر ، وإن كان لفظها مكنيا ، ألا ترى أنّا نقول : إن الرّياح آذتني ، وإن أصابعي ذهبت ، وأنّا نريد البعض والهبوب.

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٦٠ ، واللسان (لخن).

(٢) البيت في ديوانه ٦١٦ ، وسيبويه ١ / ٢٥ ، والخزانة ٢ / ١٦٩ ، واللسان (سفه).

(٣) البيت في ملحق ديوانه ٨٠ ، والخزانة ٢ / ٦٨.

٣١٥

قال سيبويه : " ومثله يا طلحة أقبل ، لأن أكثر ما تدعو طلحة بالترخيم ، فترك الحاء على حالها ، ويا تيم تيم عديّ وسترى هذا في موضعه إن شاء الله تعالى".

اعلم أن الاسم الذي في آخره هاء التأنيث ينادي بأربعة ألفاظ : الضم وإثبات الهاء ، كقولك : يا طلحة ، وبحذف الهاء وفتح الحاء ، كقولك : يا طلح ، وبهذا أكثر ما ينادى ، ويا طلح بضم الحاء وحذف الهاء ويا طلحة بفتح الهاء وإثباتها. وهذا اللفظ هو الذي نفسره في هذا الموضع ، وذلك أنه مفتوح ولم يلحق ترخيم في اللفظ ، وإنما جاز فتحها ، لأن أكثر ما تنادى العرب هذا الاسم بحذف الهاء وفتح الحاء ، فإذا فعلوا ذلك ؛ ثم أدخلوا الهاء فتحوها على حسب ما تكون الحاء مفتوحة إتباعا لها ، فكان فتحهم آخر هذا المنادى كفتح يا طلح ، وجعل هذا شاهدا لقوله : " اجتمعت أهل اليمامة" حين أجروه على التأنيث الذي يكون في قوله : اجتمعت اليمامة ولم يحفل بدخول أهل.

وأما قوله " يا تيم تيم عديّ" فإنما أراد : يا تيم عديّ ، وزاد" تيم" الثاني ، فأجراه على لفظ تيم الأول تأكيدا ، ولم يبطل الإضافة ، كما قال : اجتمعت أهل اليمامة ، فلم يبطل التأنيث بإدخال الأهل ، ويجوز أن يكون تقديره : يا تيم عديّ تيم عديّ ، فتحذف المضاف إليه الأول ، اكتفاء بالثاني كما تقول : هذا نصف وثلث درهم تريد : هذا نصف درهم وثلث درهم.

وقال الفرزدق :

يا من رأى عارضا أسرّ به

بين ذراعي وجبهة الأسد (١)

ويجوز : يا تيم تيم عديّ ، وهو أجود ، على أن تجعل الأول نداء مفردا ، وتجعل الثاني نعتا له.

قال سيبويه : " فإن قلت : من ضربت عبد أمّك ، وهذه عبد زينب ، لم يجز ؛ لأنّه ليس منها ولا بها ، ولا يجوز أن تلفظ بها ، وأنت تريد الغلام".

يريد أنك لا تقول : " مررت بزينب" وأنت تريد غلامها. وقد أحكمنا هذا مفسرا.

قال جرير :

يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم

لا يلقينّكم في سوأة عمر (٢)

__________________

(١) البيت في ديوانه ٢١٥.

(٢) البيت في ديوانه ٢٨٥ ، وسيبويه ١ / ٢٦ ، والخزانة ١ / ٣٥٩.

٣١٦

وقد فسرنا : يا تيم تيم عديّ.

هذا باب ما يخبر فيه عن النكرة بالنكرة

قال سيبويه : (وذلك قولك : " ما كان أحد مثلك" ، و" ما كان أحد خيرا منك" ، و" ما كان أحد مجترئا عليك" ، وإنما حسن الإخبار هاهنا عن النكرة ، حيث أردت أن تنفي أن يكون في مثل حاله شيء أو فوقه ؛ لأن المخاطب قد يحتاج إلى أن تعلمه مثل هذا الشيء).

قال أبو سعيد : قد قدمنا جواز الإخبار عن الشيء معقود بوقوع الفائدة للمخاطب ، وتعريفها ما يجوز أن يجهله. فإذا قلت : " ما كان أحد مثلك" ، فقد خبّرته أنه فوق الناس كلهم ، حتى لا يوجد له مثل أو دونه ، حتى لا يوجد له مثل في الضعة. وقد كان يجوز أن يجهل مثل هذا من نفسه ، فيظن أن له مثلا في رفعته أو ضعته.

(وإذا قلت : " كان رجل ذاهبا"). لم يجز ؛ لأن المخاطب لا يجهل هذا ، (وإذا قلت : " كان رجل من آل فلان فارسا" حسن).

وجاز ؛ لأنه قد يجوز ألا يكون في آل فلان فارس ، وقد يجوز أن يكون فيهم فارس يجهله المخاطب.

قال سيبويه : (ولو قلت : " كان رجل في قوم عاقلا. لم يحسن) يريد : لم يجز.

(لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا عاقل ، وأن يكون من قوم).

قال سيبويه : (فعلى هذا النحو يحسن ويقبح).

يريد : ما كانت فيه فائدة جاز الكلام به وحسن ، وما لم تكن فيه فائدة لم يحسن.

ثم قال : (ولا يجوز لأحد أن تضعه في موضع واجب).

قال أبو سعيد : واعلم أن : " أحدا" له مذهبان في الكلام :

أحدهما : أن يكون في معنى" واحد". والآخر أن يكون موضوعا في غير الإيجاب بمعنى العموم.

فأما كونه في موضع الواحد ؛ فأكثر ذلك يكون في العدد كقولك : " أحد وعشرون" أي : واحد وعشرون. وقد قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أي : واحد.

وأما الموضع الآخر : فإنك تضعه في موضع غير الواجب ، في النفي والاستفهام ، وتنفي به ما يعقل مؤنثا كان أو مذكرا ، صغيرا كان أو كبيرا ؛ نفيا عاما ، فتقول : " ما بالدار

٣١٧

أحد" ، نافيا للرجال والنساء والصبيان ، كما تقول : " ما بالدار عريب ولا كرّاب" ، " وما بالدار طوري". ولا يجوز أن تقول : " بالدار أحد". كما لا تقول" بالدار عريب". وتقول : " هل بالدار أحد" ، فيكون بمنزلة" وما بالدار أحد" ؛ لأنه غير واجب.

وقد كان أبو العباس المبرد يجيز وقوع" أحد" في كل موضع يصلح أن يكون فيه الواحد بمعنى الجماعة نفيا كان أو استفهاما ، أو إيجابا. كقولهم : " قد جاءني كل أحد" ، كما تقول : " قد جاءني كل رجل" ؛ لأن" كلا" إذا وقع بعدها واحد منكور ، صار في معنى جماعة. وأما قول الأخطل : (١)

حتّى ظهرت فما تخفى على أحد

إلا على أحد لا يعرف القمرا

ففي قوله : " إلا على أحد". وجهان.

أحدهما : أنه بمعنى : " واحد" كأنه قال : إلا على إنسان لا يعرف القمر.

والوجه الثاني : أنه على الحكاية لما قبله ، ولو كان مبتدأ لم يجز ؛ لأن قوله" إلا على" في موضع إيجاب إذا كان استثناء من نفي.

فإن قال قائل : وكيف جاز أن يقع في النفي ما لا يصح وقوعه في الإيجاب؟ قيل له : النفي قد يصح لأشياء متضادة في حال واحدة ، ولا يصح إيجابها. ألا ترى أنك تقول : " زيد ليس بقائم ولا قاعد" ، إذا كان مضطجعا ، أو ساجدا ، أو راكعا ، فتنفي قيامه وقعوده معا. ولا يصح أن تقول : " هو قائم قاعد". وكذلك تقول : " زيد ليس بأبيض ولا أحمر" ، إذا كان أسود ، ولا يجوز أن تقول : " هو أبيض أحمر" ، " وزيد ليس في الدار ولا في المسجد" ، إذا كان في السوق أو غيرها. ولا يجوز أن تقول : " هو في الدار والمسجد" ، وهذا أكثر من أن يؤتى عليه.

فإذا قلنا : " ما جاءني أحد" ، و" ما بالدار أحد" ، فقد نفينا أن يكون فيها كل من يعقل ، ونفينا أن يكون بها واحد منهم فقط ، وأن يكون بها جماعة دون غيرهم ، أو صغير أو كبير. ولا يصح إيجاب هذا على طريق نفيه ؛ لأنا إذا قلنا : " جاءني أحد" ، وسلكنا به مسلك نفي ، قد أوجبنا أن يكون قد جاءك كل من يعقل ، وأن يكون قد جاءك واحد منهم فقط ، وأن يكون قد جاءك جماعة دون جماعة.

__________________

(١) البيت في ديوان ذي الرمة ق ٢٥ / ٤١ (حتى تبرت) والدرر اللوامع ٢ / ٢٠٥.

٣١٨

وأما ما قاله أبو العباس ، في وقوعها موقع كل اسم في معنى جماعة ، فليس ذلك بمشهور من كلام العرب ، ولا يكاد يعرف" جاءني كل أحد" ، وإن صحت الرواية ، جاز أن يكون" أحد" في معنى" واحد".

ثم مثل سيبويه تمثيلات يبين لك فيها أن أحدا نفي عام ، فقال :

(لو قلت : " كان أحد من آل فلان ، لم يجز ؛ لأنه إنما وقع في كلامهم نفيا عاما. يقول الرجل : " أتاني رجل" ، يريد واحدا في العدد لا اثنين).

أراد سيبويه : أن قول القائل : " أتاني رجل" خاص ؛ لأنه أراد : واحدا ، فيجوز أن ينفى هذا بعينه.

(فيقال : " ما أتاك رجل" ، أي أتاك أكثر من ذلك).

فيكون هذا نفيا خاصا.

(ويقول : " أتاني رجل لا امرأة" ، فيقال : " ما أتاك رجل" ، أي : أتتك امرأة).

فيكون هذا أيضا نفيا خاصا ؛ لأنه نفى الذكور دون الإناث.

(ويقول : " أتاني اليوم رجل". أي في قوته ونفاذه ، فيقول : " ما أتاك رجل" أي أتاك الضعفاء) ، فيكون نفيا خاصا ؛ لأنه نفى الأشداء.

(فإذا قلت : " ما أتاك أحد" كان نفيا).

لهذا كله ، الواحد والجماعة ، والرجال والنساء ، والأشداء والضعفاء.

قال سيبويه : (ولو قلت : " ما كان مثلك أحدا" ، و" ما كان زيد أحدا". كنت ناقضا ؛ لأنه قد علم أنه لا يكون" زيد" ، ولا" مثله" إلا من الناس).

قال أبو سعيد : قد قدمنا أن الفائدة إنما تكون في الخبر دون الاسم. فإذا قلت : " ما كان مثلك أحدا" ، " وما كان زيد أحدا مثلك" ، " فمثلك" ، و" زيد" هو الاسم ، و" أحد" هو الخبر ، والنفي واقع على" أحد" و" أحد" معناه : إنسان ، فكأنك قلت : " ما كان مثلك إنسانا" ، " وما كان زيد إنسانا" ، فهذا محال. إلا أن تريد : معنى الوضع منه ، أو الرفعة له ، وإن كنت معتقدا أنه إنسان من الجنس. ألا ترى أنك تقول : " ما زيد بإنسان" ، إذا أردت أنه ينسلخ عن الأخلاق التي ينبغي أن يتخلق بها الإنسان ، وكذلك يقال : " ما أنت إنسانا" عند فضل بارع يظهر منه ، يقل وجوده في الناس قال : " فلست بإنسي ، ولكن بملاك".

قال سيبويه : (ولو قلت : " ما كان مثلك اليوم أحد" ، فإنه يريد ألا يكون في اليوم

٣١٩

إنسان على حاله).

يريد : أن هذا جائز ، كما جاز" ما كان مثلك أحد". وزيادة" اليوم" لم تغير الكلام ؛ لأنه يجوز أن يكون فضله على الناس في يومه دون ما تقدم من الأيام. ثم رجع إلى ما ذكرنا ، فقال :

(إلا أن تقول : " ما كان زيد أحدا" أي من الأحدين." وما كان مثلك أحدا". على تصغير لشأنه وتحقير له).

وقد ذكرنا هذا. وقوله" من الأحدين". أي من الناس المستقيمي الأحوال. فإذا قلت : " ما كان زيد أحدا" ـ على هذا المعنى ـ صار بمنزلة قولك : " ما ضرب زيد أحدا" في العمل ، وجاز فيه التقديم والتأخير ، ولا فرق بين المعرفة والنكرة في التقديم والتأخير.

وقوله : (وحسنت النكرة في هذا الباب ؛ لأنك لم تجعل الأعرف في موضع الأنكر).

يريد أن الفائدة قد انعقدت بالإخبار عن النكرة ، ولم يكن ذلك بمنزلة معرفة ونكرة يجتمعان في" كان" ، فتخبر عن النكرة ، كقولك : " كان قائم زيدا" ؛ لأن هذا إذا قلته ، فقد جعلت الأعرف الذي هو" زيد" خبرا ، وحق الخبر أن يكون" قائم" ، فقد جعلت" زيدا". الذي هو الأعرف في موضع" قائم" الذي هو الأنكر.

(والنكرتان متكافئتان) متساويتان في جعل إحداهما خبرا عن الأخرى (كما تتكافأ المعرفتان) في جعل إحداهما خبرا عن الأخرى.

ثم قال : (وتقول : " ما كان فيها أحد خير منك" و" ما كان أحد مثلك فيها" ، و" ليس أحد فيها خير منك" ، إذا جعلت" فيها" مستقرا ، ولم تجعله على قولك : " فيها زيد قائم").

يريد : أنك إذا جعلت" أحدا" اسم كان ، وجعلت" خير منك" ، " ومثلك" نعتا له ، وجعلت" فيها" خبر" كان" ، كأن قلت : استقر فيها. وإذا كان الظرف ، أو حرف الجر خبرا ، سمّي مستقرا ؛ لأنه بمعنى استقر.

وقوله : (ولم تجعله على قولك : " فيها زيد قائم" ؛ لأن" زيدا" مبتدأ ، و" قائم" هو الخبر ، و" فيها" من صلة قائم. كأنك قلت : " زيد قائم فيها").

٣٢٠