شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

الإضافة ، فلو حذفوه بطل علامة التثنية ، فلم يتبين المثنى من غيره.

فإن قال قائل : فأنتم إذا قلتم" غلاما القاسم" فقد سقط علامة التثنية في اللفظ ، وإن كانت تراد ؛ فإن الفصل بينهما واضح بين وذلك أن" غلاما القاسم" غير واجب إضافته إلى ما فيه الألف واللام دون غيره ؛ لأنك تقول : " غلاما زيد" كما تقول : " غلاما القاسم" والذي يسقط الألف فيما يثني عارض غير لازم ، فهي وإن سقطت في قولك : " غلاما القاسم" فهي ثابتة في قولك : " غلاما زيد وعمرو" ، وما لا يحصى من الأسماء كثرة ، فلم نحفل بسقوطها لالتقاء الساكنين إذا كان الساكن الثاني من كلمة أخرى ، كما لم نحفل بتحريك اللام في قولك" لم يقل القاسم" في رد الواو التي كانت سقطت لالتقاء الساكنين ، وليس نون الاثنين كذلك ؛ لأنها من نفس الحرف والفصل بين ما كان من الحرف نفسه ، وبين ما عرض له من غيره بين واضح في أشياء كثيرة من العربية ، سنقف عليها في مواضعها إن شاء الله ولم يكسروا الأول لالتقاء الساكنين على ما ينبغي كسره ؛ لأن الألف لا سبيل إلى تحريكها وحكم الياء حكم الألف.

فإن قال قائل : ولم وجب الكسر لالتقاء الساكنين دون غيره من الحركات؟

فإن في ذلك جوابين ، أحدهما : أن الضم والفتح قد يكونان إعرابا ولا تنوين معهما ، وذلك قولك فيما لا ينصرف : " جاءني عمر" و" رأيت عمر" ولا يكون الكسر إعرابا إلا والتنوين مقترن به ، أو ما يقوم مقامه من الألف واللام والإضافة ، كقولك : مررت برجل وغلام وبالرجل والغلام وبرجلكم وغلامكم ، فلما اضطروا إلى التحريك لالتقاء الساكنين ، أتوا بحركة لا يتوهم أنها حركة إعراب إذ لا تنوين معها وهي الكسرة.

والجواب الثاني : أن الكسر يشاكل الجزم لأن الكسر لفظه لفظ الجر ، وتشاكلهما أن الجر يختص بالأسماء ولا يتعداها إلى غيرها ، والجزم يختص بالأفعال ولا يتعداها على غيرها فلما اضطررنا إلى تحريك الساكن الذي هو في لفظ الجزم ، حركناه بحركة نظيره الذي هو الجر ، وكذلك نفعل في القوافي إذا كانت مجرورة ووقع في آخرها حرف مجزوم أو ساكن غير مجزوم.

فأما المجزوم فمثل قول زهير :

أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم

بحومانة الدّراج فالمتثلم (١)

__________________

(١) ديوانه ص ٤.

١٤١

وأما كسر الحرف الساكن ، فقول النابغة :

أزف التّرحّل غير أن ركابنا

لم تزل برحالها وكأن قد (١)

والآخر من وجهي كسر النون ، هو الفصل بين حركة النون الداخلة على المثنى وحركة النون الداخلة على الجمع ؛ وذلك أنهم لما فصلوا بين الحروف الداخلة على التثنية والجمع باختلاف حركات ما قبلها واختلافها في أنفسها ؛ كقولك في التثنية مسلمين وفي الجمع مسلمين فصلوا بين النونين أيضا ، فكسروا نون الاثنين ، وفتحوا نون الجمع.

فإن قيل : فإذا كان الأمر على ما وصفت ، فلم وجب أن يكون الكسر لنون الاثنين والفتح لنون الجمع دون أن يكون الأمر على الضد من هذا؟

قيل له : لما كانت حركة النون فتحة أو كسرة ، وكانت الكسرة أثقل من الفتحة والجمع أثقل من التثنية ، جعلوا الأثقل للأخف ، والأخف للأثقل ؛ حتى يعتدلا ، ولا يجتمع عليهم في شيء واحد أثقال مترادفة.

ووجه ثان : وهو أن الجمع يقع فيه واو مضموم ما قبلها وياء مكسور ما قبلها علامة له ، فلو كسرت النون فيه لخرجوا في حال الرفع من واو مضموم ما قبلها إلى كسرة ، وليس في كلامهم الخروج من ضمة إلى كسرة إلا فيما لم يسم فاعله من الأفعال ، كقولك : " ضرب وشتم" وهذا مستثقل قليل منفرد به هذا البناء ، ولخرجوا في حال النصب والجر من ياء مكسور ما قبلها إلى كسرة ، فكان يتوالى عليهم ما يستثقلون ، فكانت الفتحة أخف عليهم في البناء الأثقل لما وصفنا ، ولم يضموا النون لأن الضمة أثقل الحركات ، وقد استغنوا عنها بالحركتين الأخريين.

فإن قال قائل : قد ذكرت أن حروف التثنية لا تدخلها الحركة وأنت تقول : " رأيت عبدي الله" و" مررت بعبدي الله" وتقول في الجمع أيضا : " هؤلاء مصطفو" القوم" وبعضهم يقول" مصطفو القوم" ومررت" بمصطفي القوم" فحركت هذه الحروف بالضم والكسرة مع القول الذي قدمته. فإن الجواب في ذلك أن هذه الحركات هي عارضة ، وقد قلنا إن ما أوجبه من التحريك ساكن من كلمة أخرى غير معتد به في حكم تغير الحرف ، كقولك : " لم يقل القاسم" والواو والياء إذا انفتح ما قبلهما خف ضمهما وكسرها فلذلك

__________________

(١) ديوانه ٣٠.

١٤٢

جاز الضم والكسر فيما ذكرنا وأيضا فلو حذفت هذه الحروف لالتقاء الساكنين لزالت علامة التثنية في وجوه إضافتها إلى ما فيه الألف واللام أو ألف وصل.

فإن قال قائل : فأنت تقول : " هذان غلاما القاسم" و" هؤلاء بنو القاسم"" ومررت ببني القاسم" فتحذف هذه الحروف وتزول علامة التثنية والجمع.

قيل إن سقوط هذه الحروف في هذه المواضع قد يدل عليها ما يثبت في مثلها إذا كان ما قبلها مفتوحا ، كما ذكرنا ، فيكون الثابت منها دليلا على الساقط ، فلو سقط الجميع ما كان على شيء منها دليل ، فأسقطوا ما استثقلوا فيه الضم والكسر ، وهو الياء المكسور ما قبلها والواو المضموم ما قبلها وأثبتوا الباقي.

وزعم الفراء أن النون إنما كسرت لأن الألف في نية الحركة في التثنية ، وفتحت في الجميع ؛ لأن الياء والواو ليستا في نية الحركة. وزعم أن ما كان في نية الحركة أو متحركا ، فإن الساكن الذي بعده إذا حرّك كسر في نحو هذا ؛ كقولك : " دمنة لم تكلم" هذا متحرك قد كسر الساكن بعده ، والألف في نية الحركة ، وقد حرك الساكن بعدها وما لم يكن في نية الحركة فإن الساكن يفتح بعدها كقولك أين وكيف وأشباه ذلك.

وهذه دعاوى يحتاج عليها إلى براهين ، على أنها قد صح فسادها ، فمن ذلك أنّا نقول : " أمس" والميم ليست في نية حركة و" جير" وليست الياء في نية الحركة وتقول :

" حيث" وليست الياء في نية الحركة وليت شعري ما الذي فصل بين التثنية والجمع حتى صار آخر أحدهما في نية حركة وآخر الآخر في نية سكون ، ولا يعلم الغيب إلا الله على أن من العرب من يفتح نون الاثنين ، قال الشاعر :

إنّ لسلمى عندنا ديوانا

أخزى فلانا وابنه فلانا

كانت عجوزا عمّرت زمانا

وهي ترى سيّئها إحسانا

أعرف منها الأنف والعينانا

ومنخرين أشبها ظبيانا (١)

أراد العينين فجعل مكان الياء ألفا ، وفتح النون وأراد : منخري ظبيين ، فجعل المضاف إليه مكان المضاف ، ومن روى أشبها ظبيانا فقد صحف ، ومن قال" ظبيان" اسم إنسان فقد أخطأ ؛ لأن المنخرين لا يشبهان الإنسان إنما أراد المبالغة في قبحه فشبهه

__________________

(١) الأبيات اختلفوا في نسبتها ، انظر : خزانة الأدب ٣ / ٣٣٦.

١٤٣

بمنخري الظبي ، كما قال الآخر :

وقد علمت ياقفي التتفله

ومرسن العجل وساق الحجله

أراد بمرسن العجل الأنف منه ، وعلى هذا كلام العرب ومذاهبها فاعرفه إن شاء الله. وعلى أنه يلزم الفراء بفتح نون الاثنين في النصب والجر ؛ لأن الذي قبلها ياء ساكنة نحو رجلين وفرسين وهو في اللفظ كأين وكيف.

قال سيبويه : " وإذا جمعت على حد التثنية لحقتها زائدتان : الأولى منهما حرف المد واللين والثانية نون ، وحال الأولى في السكون وترك التنوين وأنها حرف الإعراب حال الأولى في التثنية ، إلا أنها واو مضموم ما قبلها في الرفع ، وفي النصب والجر ياء مكسور ما قبلها ، ونونها مفتوح ، فرقوا بينهما وبين نون الاثنين ، كما أن حرف اللين الذي هو حرف الإعراب مختلف فيهما".

قال أبو سعيد هذا فصل قد أتينا على تفسيره في الفصل الذي قبله ، واحتججنا لمعانيه ما أغنى عن إعادته ، غير أنا نذكر مطابقة كلامه في هذا الفصل لما قدمناه من تفسيره مرتبا إن شاء الله.

قوله : " وإذا جمعت على حد التثنية" يعني جمعت الاسم جمع السلامة ، فبقي لفظ واحدها ، إنما قال : على حد التثنية ، لأن التثنية لا تكون إلا مسلمة ، يبقى لفظ واحدها ثم تلحق علامة التثنية ، السلامة لا يكون في كل مجموع ألا ترى أنك لا تقول : " مسجد ومسجدون" ولا" مسجدات" ولا تقول مررت برجل أحمر ورجال أحمرين. وإنما يجمع بإلحاق الزيادتين ضروب من الجمع سنبينها إذا انتهينا إلى مواضعها إن شاء الله.

وقوله : " لحقتها زائدتان" يعني الواو والنون أو الياء والنون ، الأولى منهما حرف المد واللين وهي الواو والياء.

وقوله : " وحال الأولى في السكون وترك التنوين وأنهما حرف الإعراب حال الأولى في التثنية" يعني حال الياء والواو في الجمع في أنها ساكنة ، وأنها لا يلحقها تنوين كما تلحق ياء قاض ورام ، وفي أنها حرف الإعراب. وقد بينا المعنى في حرف الإعراب ، واختلاف التفسير فيه كاختلاف الألف والياء في التثنية.

وقوله : " إلا أنها واو مضموم ما قبلها في الرفع ، وفي النصب وفي الجر ياء مكسور ما قبلها" يعني أن الزيادة الأولى في الجمع ، وإن كان مثل الزيادة الأولى في التثنية فيما ذكر من

١٤٤

سكونها وترك التنوين فيها ، وأنها حرف الإعراب ، فهي مخالفة لها لأن في الجمع واوا مضموما ما قبلها وياءا مكسورا ما قبلها.

وقوله : " ونونها مفتوحة فرّقوا بينها وبين نون الاثنين ، كما أن حرف اللين الذي هو حرف الإعراب مختلف فيهما". يعني أنهم فرقوا بين النونين بالفتح ، والكسر كما فرقوا بين حرف اللين فيهما جميعا ، في أن جعلوا ما قبل حرف اللين من المثنى مفتوحا ، وجعلوا فيه ألفا ، وجعلوا ما قبل حرف اللين في الجمع مضموما أو مكسورا. فإن قال قائل : وما في تفريقهم بين حرفي اللين منهما مما يوجب التفريق بين النونين؟

فإن الجواب في ذلك أن سيبويه لم يجعل أحدهما حجة للآخر وإنما عرفنا ما تكلمت به العرب من التفريق بين النونين ، والتفريق بين حرفي اللين ، وإذا كان أحدهما غير موجب للآخر ، كما يقول القائل للمسؤول : " أعطني كما أعطى زيد عمرا" و" كن لي مكرما كما أن زيدا مكرم لعمرو" وإن كان إكرام زيد لعمرو غير موجب إكرام المسؤول للسائل ، ولكنه يسأله أن يشبه زيدا في إكرامه. وقد بينا الاحتجاج له فيما سلف.

قال سيبويه : " ومن ثم جعلوا تاء الجمع في النصب والجر مكسورة ، لأنهم جعلوا التاء التي هي حرف الإعراب ، كالواو والياء والتنوين ، بمنزلة النون ، لأنها في التأنيث نظير الواو والياء في التذكير".

قال أبو سعيد اعلم أن جمع المؤنث على ضربين : سالم ومكسر كما كان جمع المذكر ، وكذلك ما ألحق بالمؤنث مما لا يعقل كقولك" جبل راس" و" جبال راسيات" و" جمل قائم" و" جمال قائمات" والمكسر من جمع المؤنث كقولك" امرأة مرضع" و" نساء مراضيع" و" امرأة قاعد" و" نساء قواعد". والجمع السالم للمؤنث وما جرى مجراه بزيادة ألف وتاء فيه بعد سلامة لفظ الواحد ؛ كقولك : " مسلمة ومسلمات" و" اصطبل واصطبلات" وقصدنا في هذا الموضع إلى إبانة الإعراب فيه دون تقصي جميعه ، فإذا زيدت فيه الألف والتاء ، صار بزيادة الألف والتاء بمنزلة جمع المذكر السالم.

وخالفت الألف والتاء في جمع المؤنث السالم الواو والنون ، والياء والنون في جمع المذكر السالم في أشياء ، ووافقتها في أشياء ، فأما ما خالفتها فيه فإن التاء في جمع المؤنث يجري عليها حركات الإعراب ؛ كقولك : " هؤلاء مسلمات" و" رأيت مسلمات"" ومررت بمسلمات" ، ولا تتغير الزيادة الأولى من جمع المؤنث التي هي الألف وتثبت التاء

١٤٥

في الإضافة ؛ كقولك : " هؤلاء مسلماتك" و" مررت بمسلماتك".

فهذه وجوه يختلفان فيها ويستويان في سلامة لفظ الواحد وزيادة الزائدين لعلامة الجمع ؛ فبالمعنى الذي استويا فيه حمل أحدهما على الآخر ، وكذلك طريقة القياس ؛ لأن الشيء يقاس على الشيء ، إذا كانا مشتبهين في معنى ما ، وإن كانا مختلفين في أشياء أخر ، فحمل جمع المؤنث على جمع المذكر ، في أن جعل للرفع علامة يفرد بها وللنصب والجر علامة واحدة اشتركا فيها كقولك : " جاءني مسلمات" و" رأيت مسلمات" و" مررت بمسلمات" وصارت التاء في مسلمات هي آخر ما صيغت عليه الكلمة لمعنى الجميع ؛ لأن بزوالها يتغير المعنى كما صارت الواو والياء آخر ما صيغ عليه الجمع لمعناه ، وبزوالهما يزول معنى الجمع ، والتاء حرف إعراب كما أن الواو والياء حرفا إعراب وليست النون في جميع المذكر بمنزلة التاء في جميع المؤنث ؛ لأن زوال النون في جميع المذكر إذا أضفت فقلت : " مسلموك" لا يزيل معنى الجمع كما يزيله زوال التاء ، ودخل الإعراب والتنوين على التاء فلم يحتج إلى عوض من التنوين والحركة كما احتجنا إلى تعويضهما النون في جمع المذكر فصارا التنوين فيه يعاقب الإضافة ، كما عاقبت النون الإضافة ، فالتنوين في هذا الجمع بمنزلة النون.

فإن قال قائل : فما معنى قول سيبويه : " ومن ثم جعلوا تاء الجميع في النصب والجر مكسورة" قيل له : معناه في ذلك أنهم جعلوا تاء الجميع في النصب والجر مكسورة ؛ لأنهم قد جعلوا هذه التاء والحرف الذي قبلها ، علامة لهذا الجمع كما جعلوا الواو والياء علامة لجمع المذكر ، ولاجتماعهما في هذا المعنى أشركوا بين النصب والجر في هذا الجمع ، كما أشركوا بينهما في ذلك الجمع.

فإن قال قائل : لما جعل التنوين بمنزلة النون والتنوين في هذا الجمع لا يثبت مع الألف كما يثبت النون في ذاك الجمع.

فالجواب في ذلك أنه جعل التنوين بمنزلة النون لأن التنوين زيد على هذا الجمع بعد التاء ، التي هي حرف الإعراب فيه ، كما زيدت النون على الواو والياء ، التي هي حرف الإعراب في ذلك الجمع ، ولم يعرض لما يلحق التنوين والنون من أحكام ثبوتهما وسقوطهما.

١٤٦

وقال الأخفش : ليس فيها في موضع النصب إعراب ولا حذف إعراب يعني ليس في التاء إذا قلت : " رأيت مسلمات" إعراب ، وهذه الكسرة عنده كسرة بناء.

قال أبو سعيد : والذي عندي من الاحتجاج له ، أن هذه الكسرة اتبعت كسرة الخفض وكسرة الخفض إعراب وكسرة النصب بناء ، وصارت متبعة لتلك ، كما قالوا" يا زيد بن عبد الله" فيمن فتح الدال من زيد ، واتبعوا حركة الدال إعراب الابن وإن كانت إحدى الحركتين إعرابا والأخرى بناء. ومثل هذا قولهم" امرؤ" و" ابنم" و" رأيت امرأ وابنما" و" مررت بامرئ وابنم" فتكون حركة ما قبل الهمزة والميم تابعة لإعرابهما وليست بإعراب.

واحتج عليه أبو عثمان المازني فقال : لو كانت الكسرة في" رأيت مسلمات" بناء ، لكانت الإضافة تبطلها وترد الكلمة إلى أصلها في التمكن ، ونحن نقول في الإضافة : " رأيت مسلماتك" بالكسر كما تقول في غير الإضافة ، ثم رجع أبو عثمان على نفسه بإبطال هذا الاحتجاج ، وأنه غير لازم بأن قال : إذا بنى الشيء في حال تنكير لم ترده الإضافة إلى الإعراب كما لم يوجب له التنكير الإعراب نحو قولك في خمسة عشر إذا أضفتها قلت : " هذه خمسة عشرك" ومررت" بخمسة عشرك"" وهذه الخمسة عشر" إذا أدخلت عليها الألف واللام.

ويلزم أبا الحسن الأخفش أن يجعل فتحة ما لا ينصرف في حال الجر بناء كقولك" مررت بعمر" و" ذهبت إلى مساجد" وأشباه ذلك لأن هذه الفتحة للنصب ، والجر داخل عليه فيها كما كانت الكسرة في التاء للجر ودخل النصب عليها.

قال أبو سعيد : والذي فيه عندي أن الكسرة في التاء في النصب والفتحة فيما لا ينصرف في الجر هما إعرابان ؛ وذلك أن الإعراب هو تعاقب الحركات على أواخر الكلم لاختلاف العوامل ، وهذه الكسرة والفتحة تدخلان معاقبتين للضمة ، لعوامل توجب ذلك لهما ، وقد وجد فيهما شرط الإعراب. قال أبو الحسن : التاء المكسورة والمضمومة ليست بمنزلة الياء والواو وإنما الضمة نظيرة الواو ، والكسرة نظيرة الياء ، ألا ترى أنك لو سمعت" مسلمات" لم تدلك التاء على رفع ولا جر ، كما تدلك الواو والياء ولو سمعت الحركة تدلك على الرفع والجر كما تدلك الواو والياء.

وإنما قال أبو الحسن هذا لأن سيبويه قال في الفصل الذي تقدم" لأنهم جعلوا التاء

١٤٧

التي هي حرف الإعراب كالواو والياء" وكأنه خطأ سيبويه فيما قال ، ولم يذهب سيبويه حيث قدر أبو الحسن والله أعلم : لأن سيبويه إنما أراد أنهم زادوا للجمع في المؤنث ألفا وتاء ، كما زادوا في المذكر واوا وقد أحكمنا هذا فيما ذكرنا قبل ، ويحتمل أيضا أن يكون أراد سيبويه بقوله : " جعلوا التاء التي هي حرف الإعراب" حركة التاء وحذفها كما قال الله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١).

الأفعال الخمسة

قال سيبويه : " اعلم أن التثنية إذا لحقت الأفعال المضارعة ، علامة للفاعلين ، لحقتها ألف ونون ، ولم تكن الألف حرف الإعراب ؛ لأنك لم ترد أن تثنّى" يفعل" هذا البناء ، فتضمّ إليه" يفعل" آخر ، ولكنه إنّما ألحقته هذا علامة للفاعلين ، ولم تكن منوّنة ولا تلزمها الحركة ؛ لأنه يدركها الجزم والسكون ، فتكون الأولى حرف الإعراب ، والثانية كالتنوين ، فلمّا كانت حالها في الواحد ، غير حال الاسم وفي التثنية لم تكن بمنزلة ، فجعلوا إعرابه في الرفع ثبات النون ؛ ليكون له في التثنية علامة للرفع ، كما كان في الواحد ؛ إذ منع حرف الإعراب ، وجعلوا النون مكسورة حالها في الاسم ، ولم يجعلوها حرف إعراب ؛ إذ كانت متحركة لا تثبت في الجزم.

قال أبو سعيد : اعلم أن الفعل لا يثنّى ولا يجمع ؛ لأن المثنى والمجموع هو الذي يدخل في نوع يشاركه فيه غيره ، فيشتمل النوع على آحاد منكورين ، فتضمّ بالتثنية واحدا من النوع إلى آخر منه ، وتضم بالجمع واحدا من النوع إلى أكثر منه ، كقولك : رجل ورجلان ورجال ، وفرس وفرسان وأفراس ، وليس الفعل كذلك ، لأن اللفظ الواحد من الفعل يعبّر به عما قلّ منه وكثر ، وما كان لواحد ولجماعة ، كقولك : " أكل زيد" و" ضرب زيد عمرا" ، فيجوز أن يكون أكل لقمة ويجوز أن يكون أكل مرارا ويجوز أن يكون ضربه مرة ويجوز أن يكون ضربه مرارا ؛ وكذلك تقول : " قام زيد" ، و" قام الزّيدان" و" قام الزّيدون". ولو كان الفعل مثنّى في قولك : " الزّيدان قاما" ومجموعا في قولك : " الزّيدون قاموا" ؛ لأنّ فعل كلّ واحد منهما غير فعل الآخر ، لجاز أن يقال : " زيد قاما" و" زيد قاموا" إذا كان قد قام مرّتين أو مرارا. فإذا صح أن الفعل لا يثنّى صح أن الألف

__________________

(١) سورة يوسف ، ٨٢.

١٤٨

التي تلحقه في التثنية ، والواو التي تلحقه في الجمع لغير تثنية الفعل وجمعه.

وزعم سيبويه أن الألف والواو قد يكونان مرّة اسم المضمرين والمضمرين ، وقد يكونان مرّة حرفين دالّين على التثنية والجمع ، فإذا قلت : " الزّيدان قاما" فهذه الألف اسم ، وهي عنده ضمير الزّيدين المذكورين فإذا قلت : " الزّيدون قاموا" ، فهذه الواو هي اسم وهي ضمير الزيدين ، وإذا قلت : " قاما أخواك" فهذه الألف هي حرف وليست باسم ، دخلت علامة مؤذنة بأن الفعل لفاعلين ، وكذلك إذا قلت : " قاموا إخوتك" ؛ فإن الواو حرف ، دخلت مؤذنة بأنّ الفعل لجماعة ، ومثل الألف والواو في التثنية والجمع : النون لجماعة المؤنّث والياء للمؤنث المخاطبة ، تقول : " الهندات قمن" فتكون النون ضميرا الجماعة وهي اسم ؛ " وقمن الهندات" فتكون حرف علامة ، والياء في المخاطبة للمؤنث لا تكون إلا ضميرا ، كقولك : " قومي" للمرأة ، و" انطلقي" و" هل تذهبين". وهذه الياء كثير من النحويين يذهبون إلى أنها علامة بمنزلة التاء في قولك : " قامت".

وسيبويه يذهب إلى أنها ضمير في آخر الكتاب ، في : " باب الأبنية وغيرها". والذي يدل على ما ذكرنا من حكم هذه الحروف في كلام العرب وأشعارها ، قولهم" أكلوني البراغيث" وقول الشاعر :

يلومنني في اشتراء النّخي

ل أهلي فكلهم يعذل

وأهل الذي باع يلحونه

كما لحي البائع الأوّل (١)

وقال آخر :

ألفيتا عيناك عند القفا

أولى فأولى لك ذا واقية (٢)

وقال الفرزدق :

ولكن ديافيّ أبوه وأمه

بحوران يعصرن السّليط أقاربه (٣)

فهذه الحروف عند سيبويه في وقوعها أسماء مرة وحروفا مرة بمنزلة التاء في قولك : " قلت" و" قالت" ، فالتاء في" قلت" اسم المتكلم ، والتاء في" قالت" علامة تؤذن بأن

__________________

(١) البيتين غير منسوبين في شرح ابن يعيش ٣ / ٨٧.

(٢) البيت منسوب لعمرو بن ملقط الطائي في شرح شواهد المغني ١١٣ ، وهو بلا نسبة في شرح ابن يعيش ٣ / ٨٨.

(٣) ديوانه ص ٨٠ ، واللسان (سلط) وشرح ابن يعيش ٣ / ٨٩.

١٤٩

الفعل للمؤنث. وقد قال أبو عثمان وغيره من النحويين : إن الألف في" قاما" ، والواو في" قاموا" حرفان لا يدلان على الفاعلين والفاعلين المضمرين ، وأن الفاعل في النّية ، كما أنك إذا قلت : " زيد قام" ففي" قام" ضمير في النّية ، وليست له علامة ظاهرة ، فإذا ثنى وجمع فالضمير أيضا في النّية ، غير أنّ له علامة.

قال أبو سعيد : القول فيه عندي ما قاله سيبويه ؛ وذلك أنه لا خلاف بينهم أن التاء في" قمت" هي اسم المتكلم وضميره ، وقد يكون للمتكلم فعل لا علامة للضمير فيه ، كقولك : " أنا أقوم" ، و" أذهب" ، فإذا جاز أن يكون له فعلان ، أحدهما يكون ضميره في النّية ، وهو : " أقوم" ، و" أذهب" ، والآخر يتّصل به ضمير المتكلم ، وهو : " قمت" ، و" ذهبت" ، جاز أن يكون ذلك في الغائب ، وأيضا فإنك إذا قلت : " زيد قام ، والزّيدان قاما" فقد حلّت هذه الألف والضمير الذي في" قام" محل" أبوه" إذا قلت : " زيد قام أبوه" ، فلما حلّ محلّ ما لا يكون إلا اسما وجب أن يكون اسما.

فإن قال قائل : لم كان الواحد المضمر المرفوع بلا علامة لضميره ، كقولك" زيد قام" والاثنان والجماعة بعلامة ، كقولك : " الزّيدان قاما" و" الزّيدون قاموا" و" الهندات قمن"؟

فإن الجواب في بذلك أنّ الفعل معلوم في العقول أنه لا بدّ له من فاعل ، كالكتابة التي لا بدّ لها من كاتب ، وكالبناء الذي لا بد له من بان ، وما أشبه ذلك ، ولا يحدث شيء منه من تلقاء نفسه ، فقد علم فاعل لا محالة ، ولا يخلو منه الفعل ، وقد يخلو من الاثنين والجماعة ، فلما لم يخل بالفعل من واحد ، لم يحتج إلى علامة له ، ولما جاز أن يخلو من الاثنين والجماعة احتاج إلى علامة.

فإن قال قائل : إذا جعلت الألف والواو والنون في : " قاما أخواك" و" قاموا إخوتك" و" قمن الهندات" علامة تؤذن بعدد الفاعلين ، كما جعلت التاء في : " قامت هند" مؤذنة بالتأنيث ، فلم لا يكون الاختيار" قاما أخواك" ، كما كان الاختيار" قامت هند" ولا يحسن" قام هند"؟

فالجواب في ذلك أنهما يفترقان ؛ لعل منها : أن التأنيث لازم للاسم ، موجود فيه ، وليست التثنية كذلك ؛ لأنها قد تفارق الاسم فيصير إلى الواحد فللزوم التأنيث لزمت علامته ؛ ولزوال التثنية لم تلزم علامتها.

١٥٠

وعلة أخرى : أن علامة التأنيث لا تمنع ضمير الاثنين. كقولك : " الهندان قامتا" ، وعلامة الاثنين تمنع ضمير الاثنين وتشبهه ، فكان ما لا يمنع شيئا من تصاريف الكلام أولى باللزوم مما يمنع.

وعلة أخرى : وهو أنك إذا قلت : " قاما أخواك" جاز فيه أن تكون الألف علامة ، وجاز أن تكون خبرا مقدما ، وأن يرتفع" أخواك" بالابتداء ، فيكون التقدير" أخواك قاما" ، فلمّا كان في تقديم علامة الاثنين والجماعة ما ذكرناه من اللبس ، لم يلزمه تقديمه ؛ لأنه لا يعلم أنه علامة فقط ، والتاء علم التأنيث ، تقدمت أو تأخرت.

وعلة أخرى : وهو أنه قد تشترك الرجال والنساء في أسماء كثيرة ، نحو" هند وأسماء وجعفر". قال الشاعر :

تجاوزت هندا رغبة عن قتاله

إلى مالك أعشو إلى ذكر مالك (١)

وهند هاهنا رجل. وقال آخر :

يا جعفر يا جعفر يا جعفر

إن أك دحداحا فأنت أقصر (٢)

فجعفر هاهنا امرأة. فلما اشترك الرجال والنساء في أسماء لزم علامة التأنيث ؛ لئلا يظن أن الفاعل مذكر ، ولحقت النون علامة للرفع ؛ لأن ضمير الفاعلين ، وهو الألف ، منع الإعراب الذي كان يكون في آخر الفعل ، وانفتح للألف ما قبلها ، والمضارعة الموجبة للإعراب قائمة في هذا الفعل ، فوجب إعرابه لها ، ولم يكن سبيل إلى إعراب ما قبل الألف ، فجعل الإعراب بعدها ، وجعلت النون هي الإعراب ؛ لما ذكرنا من مشاكلتها حروف المدّ ، وكسرت لالتقاء الساكنين ، وجعل سقوطها علامة للنصب والجزم ، والأصل في سقوطها للجزم. والنصب محمول عليه ، كما حمل النصب على الجرّ في الأسماء ؛ لأنّ الجرّ والجزم نظيران.

وجعلت النون علامة للرفع في خمسة أفعال ، وهي : تفعلان ، ويفعلان ، وتفعلون ، ويفعلون ، وتفعلين ، للمؤنث ، والعلّة في ذلك كلّه واحدة ؛ لأن الواو في الجمع والياء في المؤنث قد منعتا الإعراب الذي كان في الفعل توجبه المضارعة ، والمضارعة الموجبة

__________________

(١) البيت بلا نسبة في شرح ابن يعيش ٥ / ٩٣.

(٢) البيتان غير منسوبين في شرح ابن يعيش ٥ / ٩٣.

١٥١

للإعراب موجودة ، وفتحت النون في الجمع والمؤنث استثقالا لكسرها مع الواو والياء. وقد مر نحو هذا مستقصى وجعلوا سقوط النون في هذه الأفعال كلّها علامة للجزم والنصب ، والنصب محمول على الجزم.

ولم تكن هذه النون في هذه الأفعال بمحلها في تثنية الأسماء وجمعها ؛ لأنها في الأسماء بدل من الحركة والتنوين وهي في الفعل علامة للرفع ؛ ولم تكن بدلا ؛ لأنه لا تنوين في الأفعال ولا حركة لازمة ؛ لأنها تسكن في الجزم.

فإن قال قائل ؛ إذا قلت إن الألف في تثنية الفعل والواو في جمعه ، إنما هو ضمير الاثنين والجماعة الفاعلين ، فلم وقعت النون علامة لرفع الفعل ، وقد فصلت بينها وبين الفعل بالفاعلين؟ وهل في الكلام إعراب شيء ليس فيه؟

فإن الجواب في ذلك أن الإعراب إنما يكون في المعرب إذا كان حركة ؛ لأن الحركة إنما تكون في المتحرّك وتوجد فيه لا غير ، فإذا كان حرفا فهو قائم بنفسه متصل بما أعرب به ، وقد صارت الألف التي هي ضمير الاثنين والواو التي هي ضمير الجماعة ، بمنزلة حرف من حروف الفعل ؛ لأنه لا يقوم بنفسه ، فلما كان كذلك لحق الإعراب بعدهما ، وقد يفعل العرب نظير هذا في الأسماء الظاهرة ، من ذلك قولهم : " هذا حبّ رمّاني" ، فإنما يريد المتكلم إضافة الحبّ إلى نفسه لا الرمّان ؛ لأنه لا يملكه ولكنه أضاف الرمان لما كان الحب مضافا إليه ، والمضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد ، وإذا كان هذا من كلامهم كان ما ذكرناه أولى.

قال أبو سعيد : ثم نرجع إلى كلام سيبويه في الفصل الذي قدمناه. قوله : " واعلم أن التثنية إذا لحقت الأفعال المضارعة علامة للفاعلين" ، يعني تثنية الفاعلين المضمرين المتصلين بالفعل ، وليس يعني تثنية الفعل.

وقوله : " لحقتها ألف ونون" يعني لحقت الأفعال المضارعة ألف ونون.

وقوله : " ولم تكن الألف حرف الإعراب" ، يعني لم تكن الألف حرف الإعراب في الفعل ؛ لأن آخر الفعل قبل الألف ، وحرف الإعراب هو الحرف الأخير من الكلمة الذي بتمامه يتم معنى الكلمة ، والألف هاهنا هي ضمير الفاعلين.

وقوله : " لأنك لم ترد أن تثني (يفعل) هذا البناء ، فتضم إليه (يفعل) آخر" ، يعني لأنك لم ترد تثنية الفعل فتضم فعلا إلى فعل ، كما تضم الاسم إلى الاسم ، فتزيد ألفا لعلامة

١٥٢

التثنية ، وتكون الألف فيه حرف الإعراب ، فليست تثنية الفعل كذلك.

وقوله : " ولكنك إنما ألحقته هذه للفاعلين" ، يعني ولكنك إنما ألحقت الفعل هذا الحرف ، وهو الألف ضميرا للفاعلين لا للتثنية.

وقوله : " ولم تكن منونة ولا تلزمها الحركة" ، يعني ولم تكن الأفعال قبل هذه التثنية منونة كالاسم ، ولا لها حركة لازمة كالاسم ؛ لأنه يدركها الجزم والسكون ، إذا قلت : " لم يذهب" و" لم يقم".

وقوله : " فتكون الأولى حرف الإعراب ، والثانية كالتنوين" ، يعني : أن الأفعال لو كانت منونة لا تفارقها الحركة قبل التثنية ، ثم ثنّيت كانت الألف فيها حرف والإعراب والنون فيها كالتنوين ، مثل الاسم. وقوله : " فتكون" جواب لقوله : " لم تكن منونة".

وقوله : " فلما كانت حالها في الواحد غير حال الاسم ، وفي التثنية ، لم تكن بمنزلته" ، يعني : كما خالف الفعل الاسم في الواحد ؛ لأن الاسم منوّن لازم الحركة ، وليس الفعل كذلك ، وخالف أيضا في التثنية ؛ لأن الاسم إذا ثني ضم إلى مثله ، وليس الفعل كذلك ، فلما خالفه في الواحد ، وفي التثنية أيضا خالفه ، لم يكن بمنزلته.

وقوله : " لم يكن بمنزلته" جواب لاختلافهما في حال التوحيد والتثنية.

وقوله : " فجعلوا إعرابه في الرفع ثبات النون ؛ ليكون له في التثنية علامة الرفع كما كان في الواحد" ، وقد مر الاحتجاج لهذا ولفظه فيه بيّن.

وقوله : " إذ منع حرف الإعراب" يعني : إذ منع الفعل حرف الإعراب ، وإنما منع ؛ لأن الألف التي هي علامة التثنية فتحت آخر الفعل ؛ لأنها يفتح ما قبلها ، وحرف الإعراب آخر الفعل.

وقوله : " جعلوا النون مكسورة كحالها في الاسم" ، يعني : جعلوها مكسورة لالتقاء الساكنين كما فعلوا ذلك في الاسم.

وقوله : " ولم يجعلوها حرف الإعراب" ، يعني : النون.

وقوله : " إذ كانت متحركة لا تثبت في الجزم" ، يعني : إذا كانت متحركة لا تثبت في الجزم ، وذلك أن حرف الإعراب لا يسقط إذا كان متحركا في الفعل بدخول الجزم عليه ، كقولك : " يذهب" ، ثم تقول : " لم يذهب" ، وإذا كان حرف الإعراب ساكنا في الفعل أزاله الجزم ، كقولك : " لم يقض" و" لم يغز" و" لم يخش". وهذه النون متحركة تذهب في

١٥٣

الجزم ، إذا قلت : " لم يذهبا" فعلمنا أن النون ليست بحرف إعراب.

قال سيبويه : " ولم يكونوا ليحذفوا الألف : لأنها علامة الإضمار والتثنية ، فيمن قال : " أكلوني البراغيث" ، وبمنزلة التاء في : " قلت" و" قالت".

يعني أن الألف التي تلحق الفعل في التثنية ، إمّا أن تكون علامة للإضمار ، كقولك : " الزّيدان لم يذهبا" أو علامة التثنية ، كقولك : " لم يذهبا الرّجلان" ، ولا تحذفها في الجزم ، فيبطل الضمير أو العلامة.

ولم يرد بقوله : " علامة الإضمار والتثنية" في حال واحدة ، إنما أراد : لأنها علامة الإضمار ، إذا تقدم المضمرون ، أو التثنية ، في لغة من قال : " أكلوني البراغيث" ؛ لأن هؤلاء عند سيبويه جعلوا الواو في : " أكلوني" علامة تؤذن بالجماعة ، وليست ضميرا.

وفي : " أكلوني البراغيث" ثلاثة أوجه ؛ أحدهما : ما قال.

والثاني : أن تكون" البراغيث" مبتدأ ، و" أكلوني" خبرا مقدّما ، تقديره" البراغيث أكلوني".

والوجه الثالث : أن تكون الواو في" أكلوني" ضميرا على شرط التفسير ، " والبراغيث" بدل منه ، كقولك : " ضربوني وضربت قومك" ، فتضمر قبل الذكر على شرط التفسير.

وقد كان الوجه في : " أكلوني البراغيث" على تقديم علامة الجماعة ، أن يقال : " أكلتني البراغيث" ؛ لأن" البراغيث" مما لا يعقل وما لا يعقل جمعه وضمير جمعه كالمؤنث ، وإن كان مذكرا ؛ تقول : " ثيابك مزّقن" و" جمالك يمشين". قال الشاعر :

فإن تكن الأيّام فرّقن بيننا

فقد بان محمودا أخي يوم ودّعا (١)

ولا يحسن أن يقول : فإن تكن الأيام فرّقوا بيننا ؛ لأن الجمع بالواو لما يعقل ، وهم الثّقلان والملائكة ، وربما ذكر لما لا يعقل فعل يكون الأغلب فيه أن يكون لما يعقل ، فيجعل لفظه كلفظ ما يعقل تشبيها ، فمن ذلك قوله عزوجل : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)(٢) ، فجمع الشمس والقمر والكواكب

__________________

(١) البيت منسوب لمتمم بن نويرة في المفضليات ق ٦٧ / ٢٢ ص ٥٣٥.

(٢) سورة يوسف ، آية ٤.

١٥٤

بالياء والنون ؛ وذلك لأنه وصفها بالسجود ، الذي يكون مما يعقل ، ولو أجراها على معناها وحقها من اللفظ لقال : " ساجدات" وقال تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ)(١) ولم يقل : " ادخلن مساكنكن" ؛ لأنه أخبر عنهنّ بالخطاب الذي يكون لما يعقل. ولهذا نظائر كثيرة في القرآن وغيره. قال الشاعر :

شربت بها والدّيك يدعو صباحه

إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا (٢)

ويروى : " شربت بهم". وقال : " دنوا فتصوّبوا" ، وكان حقّه أن يقول : " دنونن فتصوّبن" ؛ لأنها مما لا يعقل ، إلا أنه أجراها مجرى ما يعقل ، إذ كان دورها على تقدير لا يختلف ، كقصد العاقل الشيء الذي يعمله ، فجعلوا" البراغيث" مشبّهة بما يعقل ، حين وصفت بالأكل ، وصارت الألف إذا كانت إضمارا ، بمنزلة التاء في : " قلت" ، وإذا كانت علامة بمنزلة التاء في : " قالت" ؛ لأن التاء في : " قلت" ضمير المتكلم ، وفي : " قالت" علامة للتأنيث.

قال سيبويه : " فأثبتوها في الرفع وحذفوها في الجزم".

يعني النون ، " كما حذفوا الحركة في الواحد".

وقال : " ووافق النصب الجزم في الحذف".

يعني : في حذف النون في الاثنين. وقد ذكرنا في كم شيء يوافقه ، وأنبأنا عن العلة في ذلك.

وقال : " كما وافق النصب الجرّ في الأسماء ؛ لأن الجزم نظير الجرّ في الأسماء ، وليس لها في الجزم نصيب ، كما ليس للفعل في الجرّ نصيب ؛ وذلك قولك : " هما يفعلان" و" لم يفعلا" و" لن يفعلا" و" لن تفعلا".

وقد مر تفسير هذا كله ، وبيان علته.

قال : وكذلك إذا ألحقت الأفعال علامة للجمع لحقتها زائدتان ، إلا أن الأولى واو مضموم ما قبلها ، لئلا يكون الجمع كالتثنية ونونهها مفتوحة بمنزلتها في الأسماء كما فعلت في ذلك في التثنية ؛ لأنهما وقعتا في التثنية والجمع هاهنا ، كما أنهما في الأسماء كذلك ،

__________________

(١) سورة النمل ، آية ١٢.

(٢) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ١٠ ، والخزانة ٣ / ٤٢١ ، واللسان (نعش).

١٥٥

وهو قولك : " كم يفعلوا" و" لن يفعلوا". وكذلك إذا ألحقت التأنيث في المخاطبة ، إلا أن الأولى ياء مكسور ما قبلها وتفتح النون ؛ لأن الزيادة التي قبلها بمنزلة الزيادة التي في جمع الأسماء في الجرّ والنصب ، وذلك قولك : " أنت تفعلين" و" لن تفعلي" و" لم تفعلي".

وقد مر تفسير ذلك كله.

وقال سيبويه : فإن أردت جمع المؤنث في الفعل المضارع ، ألحقته للعلامة نونا ، وكانت علامة الإضمار والجمع ، فيمن قال : " أكلوني البراغيث".

قال أبو سعيد : يعني أن جمع المؤنث بالنون ، كما أن جمع المذكر بالواو ، وتكون النون لضمير جماعة المؤنث في حال ، وفي حال تكون علامة الجمع فيمن يقدم العلامة ، وهم الذين يقولون : " أكلوني البراغيث".

قال : وأسكنت ما كان في الواحد حرف الإعراب ، كما فعلت ذلك في" فعل" حين قلت : " فعلت" و" فعلن".

قال أبو سعيد : اعلم أن ضمير المتكلم والمخاطب وجماعة النساء ، إذا اتصل بالفعل الماضي ، سكن آخر الفعل ؛ كقولك : " جلست" و" جلسن" ، وإنما سكن آخر الفعل من قبل أن هذا الضمير متحرك ؛ لأنه نائب عن معرب وهو اسم ، فإذا انضم إلى الفعل ، والفعل لا بدّ له منه ، ولا يصّح معناه إلا به ، ولا يجوز انفراده عنه إذا كان متصلا ـ صار الفعل والضمير كالشيء الواحد ، واجتمع أربع متحركات ، وذلك غير موجود في شيء من كلامهم وأشعارهم ، إلا بحذف ، فلم يكن سبيل إلى تسكين الحرف الأول ؛ لأنه لا يبدأ بساكن ، ولا إلى تسكين الحرف الثاني ؛ لأنه بحركاته توجد الأبنية المختلفة ؛ كقولك : فعل وفعل وفعل فلزم الحرف الثالث التسكين.

وكان أولى به لعلتين ، إحداهما : أن الحرف الثالث قد يوقف عليه بالسكون. والعلة الأخرى : أنا لو لم نسكن الحرف الثالث ، وجب تسكين الرابع ، والرابع نائب معرب يستحق الحركة من أجل ذلك ، فكان تسكينه أولى ، ومع ذلك كان يلتبس المتكلم بالمؤنث الغائبة ، إذا قلت : " جلست" قال : " وأسكن هذا هاهنا ، وبني على هذه العلامة ، كما أسكن" فعل" ؛ لأنه فعل كما أنه فعل ، وهو متحرك كما أنه متحرك".

قال أبو سعيد : قوله : " فأسكن هذا" ، يعني : أسكن لام الفعل من" يفعلن". وهو الذي قال في أول هذه الفصل : " فإذا أردت جمع المؤنث في الفعل المضارع ألحقته

١٥٦

للعلامة نونا".

وقوله : " وبني على هذه العلامة" ، يعني : بني اللام في" يفعلن" على السكون.

وقوله : " كما أسكن فعل" يعني : كما تسكن اللام من" فعل" في الماضي ، إذا قلت : " فعلن".

وقوله : " لأنه فعل كما أنه فعل ، وهو متحرك كما أنه متحرك".

قال أبو سعيد : يعني أن الفعل المضارع قد شارك الماضي في الفعلية ، وشاركه في أن آخر كل واحد منهما متحرك ، فلما لزم سكون اللام في" فعلن" الماضي ، وجب سكون اللام في المستقبل ؛ للشركة التي بينهما من الفعلية والحركة.

فإن قال قائل : فإن العلة التي من أجلها وجب تسكين الماضي ، هو ما ذكرت من اجتماع أربع متحركات ، وليس ذلك في المستقبل ؛ لأن الفاء من" يفعلن" ساكنة.

فالجواب في ذلك أن العلة إذا لحقت شيئا من الأفعال لمعنى ، فإنه قد يحمل عليه سائر الأفعال التي ليس فيها ذلك المعنى ؛ لئلا يختلف منها وجه. وقد مر هذا في مثل قولنا : " وعد يعد" ، تسقط الواو ؛ لوقوعها بين ياء وكسرة ، ثم تقول : " نعد" و" أعد" و" تعد" ، فتتبع الياء سائر حروف المضارعة ، وتسقط الواو فيها ، وإن لم تقع بين ياء وكسرة ؛ لينتظم منهاج الأفعال.

قال سيبويه : " فليس هذا بأبعد فيه ـ إذا كانت هي و" فعل" شيئا واحدا ـ من يفعل ؛ إذا جاز فيها الإعراب حين ضارعت الأسماء ، وليست بأسماء".

يعني : ليس هذا التسكين في الفعل المضارع ، وهذا الحمل على الماضي ، بأبعد فيها ، وهما مشتركان في الفعلية ، من حمل الأفعال المضارعة على الأسماء في الإعراب ؛ لأن الأفعال المضارعة إنما أعربت ، ولم تكن مستحقة للإعراب ، لما فيها من مشاكلة الأسماء المستحقة للإعراب ، فإذا جاز لهم حمل الأفعال المضارعة على الأسماء في الإعراب ، كان حملها على الأفعال الماضية في تسكين أواخرها ، عند لحاق النون بها ، أولى وأوجب ؛ لأن مشاكلة الفعل المضارع الماضي أكثر من مشاكلة الاسم.

ثم قال : " وذلك قولك : هن يفعلن ، ولن يفعلن".

قال أبو سعيد : أراد بهذا التمثيل ما قدمته في أول الفصل ، كأنه قال : فإذا أردت جمع المؤنث في الفعل المضارع ، ألحقته للعلامة نونا ، وذلك قولك : " هن يفعلن" و" لم

١٥٧

يفعلن" و" لن يفعلن". واعترض بالاعتلال بين الجملة الممثلة وبين التمثيل.

ثم قال : " تفتحها ؛ لأنها نون جمع".

يعني تفتح هذه النون ، التي هي لجماعة المؤنث لأنها نون جمع. وقد تقدم الكلام في نون الجمع أنها مفتوحة ، فحملت هذه عليها ؛ لاشتراكهما في الجمع ، لا لاشتراكهما في العلة الموجبة في الأصل لفتح تلك النون ؛ لأن العلة التي فتحت تلك من أجلها استثقال الكسرة والضمة عليهن في" مسلمين" و" مسلمون" ، ولكنه شاركها في الجمع.

وعلة أخرى توجب فتحها ، وهي أنها ضمير ، وأثقل الأسماء الضمائر ، وإذا احتجنا إلى تحريكها حركناها بأخف الحركات.

ثم قال : " ولا تحذف لأنها علامة إضمار وجمع ، فيمن قال : أكلوني البراغيث".

يعني : لا تحذف هذه النون ؛ لأنها تذكر لأحد معنيين ؛ إما أن تكون ضمير الفاعلات ، فلا سبيل إلى حذف الفاعل ، وإما أن تكون علامة تؤذن بجماعة تأتي من بعد ، فلا سبيل إلى حذفها أيضا ؛ لأن الذي يقدمها للعلامة ، غرضه وقصده ، تبين ما بعدها بها ، فإذا حذفها ، فقد أبطل ما قصد له. وقد تقدم الكلام في استقصاء هذا بما يغني عن إعادته.

ثم قال : " فالنون هاهنا في يفعلن بمنزلتها في فعلن".

يعني النون في" فعلن" و" يفعلن" بمنزلة واحدة في تسكين ما قبلها.

ثم قال : " وفعل بلام يفعل من التسكين ما فعل بلام فعل ، لما ذكرت لك".

يعني فعل بها من التسكين ، لاتصال النون بها ، ما فعل بلام فعل من التسكين للعلة التي ذكرها.

ثم قال : " ولأنها قد تبنى مع ذلك على الفتحة في قولك : هل تفعلن".

قوله : " ولأنها" علة أخرى لسكون اللام في" يفعلن" ، وذلك أن نون التأكيد المشددة أو المخففة ، إذا دخلت على الفعل المضارع ، سكن لها لام الفعل ، ثم تفتح اللام لالتقاء الساكنين ، ويبطل الإعراب الذي كان فيه بدخول هذه النون ، فإذا كانت نون التوكيد التي يستغنى عنها تؤثر في الفعل هذا التأثير ، كانت النون التي لا يستغنى عنها وهي ضمير جماعة المؤنث أولى بهذا التأثير.

ثم قال : " وألزموا لام فعل السكون ، وبنوها على هذه العلامة وحذفوا الحركة ،

١٥٨

لما زادوا عليها ؛ لأنها ليس في الواحد آخرها حرف الإعراب ، لما ذكرت لك".

يعنيي : ألزموا لام" فعل" السكون ، وبنوها على العلامة التي هي السكون ، وحذفوا الحركة التي كانت فيه للنون التي زادوها ؛ لأن اللام قبل اتصال هذه النون بها في قولك : " فعل" لم تكن حركتها حركة إعراب ، وإذا كانت الحركة بناء ، فهي إلى السكون أقرب ، فإنما أراد أن يسهل الأمر في تسكين هذه اللام ، إذ كانت الحركة المتروكة فيها حركة بناء ، لا حركة إعراب ، والسكون الذي صيرت إليه هو أيضا سكون بناء ، فالأمر بينهما قريب ، وقد أحكمنا علة ذلك فيما مضي من غير هذا الوجه.

وقوله : " لأنها ليس في الواحد آخرها حرف إعراب".

يؤيد قول من يقول إن آخر حرف في التثنية في تقدير حركة هي إعراب ، وأن التثنية والجمع معربان ؛ لأن سيبويه قد جعل آخر حرف فيهما ـ أعني التثنية والجمع ـ حرف إعراب.

وقد ذكر هاهنا أن اللام في (فعل) ليس بحرف إعراب إذ لا إعراب فيه ولا يستحقه فعلم أنه لم يسم آخر حرف في التثنية والجمع حرف إعراب إلا والإعراب مقدر فيه.

قال سيبويه : " اعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض ، فالأفعال أثقل من الأسماء ؛ لأن الأسماء هي الأولى وهي أشد تمكنا ، فمن ثم لم يلحقها تنوين ولحقها الجزم والسكون ، وهي من الأسماء ، ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم وإلا لم يكن كلام ، والاسم قد يستغنى عن الفعل ؛ تقول : " الله إلهنا" ، " وعبد الله أخوك".

قال أبو سعيد : اعلم أن سيبويه قدم هذه المقدمة ليرى خفة الأسماء المنصرفة ، وأن الصرف فيها هو الأول ، وأن الذي منع الصرف علل من بعد ذلك دخلت عليه حادثة فرعية فبدأ فدل على أن الفعل أثقل من الاسم في الأصل ؛ لأن الاسم يستغنى به عن الفعل ، كقولك : " الله ربنا" ، ولا يجوز أن يقول قائل : " قام" أو غيره من الأفعال من غير أن يأتي بالفاعل ، واستدل أيضا على ذلك بأن الفعل مأخوذ من المصدر والمصدر اسم ، فالاسم إذا أصل للفعل ، فلما دل على أن الاسم أخف والفعل أثقل ، ذكر أن نقصان تمكن الفعل عن الاسم لثقل الفعل وخفة الاسم ؛ لأن الاسم لخفته تدخله الحركات الثلاث والتنوين بعد ذلك ، والفعل لا يدخله إلا حركتان ولا يدخله تنوين ، والعلة الفاصلة بينهما

١٥٩

الخفة والثقل ، فجعل هذه العلة علة في كل ما ثقل من الأسماء ، بدخول العلل المثقلة لها عليها ، في منع التنوين وتمام الحركات التي تكون في الأسماء الخفيفة ، تشبيها لما ثقل من الاسم بالفعل ، وأشرك بينما لاشتراكهما في الثقل ونقصانهما عن تمكن الاسم الأخف. فهذه جملة مقدمة لهذا المعنى ، وستقف على شرحها من كلامه في هذا الباب ، وعلى تفصيل مسائلها وتعرفها في باب ما ينصرف وما لا ينصرف ، إن شاء الله.

قال أبو سعيد : أما قوله : " اعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض" فقد فهم هذا فيما تقدم. وقوله : " والأفعال أثقل من الأسماء ؛ لأن الأسماء هي الأولى" وقد مر الدليل على أن الأفعال أثقل من الأسماء ، ومعنى قوله أن الأسماء هي الأولى ، أنها مقدمة في الرتبة على الأفعال ؛ لأنها أصل الأفعال.

وقوله : " وهي أشد تمكنا" يعني الأسماء أشد تمكنا من الأفعال لخفتها وما خف كان أشد احتمالا لزوائد.

قال أبو سعيد : قوله : " فمن ثم لم يلحقها تنوين ولحقها الجزم والسكون" يعني فمن ثم لم يلحق الأفعال.

فقوله : " هي من الأسماء" يعني الأفعال من الأسماء ، فقولك : " قتل" مشتق من" القتل".

وقوله : " ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم وإلا لم يكن كلاما" يعني أنك متى ذكرت فعل ولم تذكر فاعله لم يكن كلاما.

وقوله : " والاسم قد يستغني عن الفعل ، تقول : الله إلهنا" و" عبد الله أخونا" وهذا بين.

قال سيبويه : " واعلم أن ما ضارع الفعل المضارع من الأسماء في الكلام ، ووافقه في البناء ، أجري لفظه مجرى ما يستثقلون ، ومنعوه ما يكون لما يستخفون ، وذلك نحو" أبيض" و" أسود" و" أحمر" فهذا بناء" أذهب" و" أعلم" فيكون في موضع الجر مفتوحا ، استثقلوه حيث قارب الفعل في الكلام ، ووافقه في البناء".

قال أبو سعيد : " ينبغي أن نقدم العلل المانعة للصرف المحلة الأسماء محل الأفعال ليكون توطئة للجملة التي ذكرها سيبويه في هذا الباب ، ونفسرها تفسيرا شافيا كاشفا لما استبهم منه ، ولا توفيق إلا بالله.

١٦٠