شرح كتاب سيبويه - ج ١

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-5251-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

إضافة أو ألف ولام ، فخالفت" الآن" سائر أخواتها من الأسماء ، بأن وقعت معرفة في أول أحوالها ولزمت موضعا واحدا ، فبنيت لذلك المعنى. قاله أبو العباس أو نحوه.

وأقول : إن لزومها في هذا الموضع في الأسماء قد ألحقها بشبه الحروف ، وذلك أن الحروف لازمة لمواضعها التي وقعت فيها في أوليتها ، غير زائلة عنها ، ولا بارحة منها ، واختاروا الفتح لأنه أخف الحركات ، وأشكلها بالألف ، وأتبعوها الألف التي قبلها ، كما أتبعوا ضمة الذال التي في : " منذ" ضمة الميم ، وإن كان حق الذال أن تكسر لالتقاء الساكنين.

وقد يجوز أن يكونوا أتبعوا فتحة النون فتحة الهمزة ، ولم يحفلوا بالألف ، كما لم يحفلوا بالنون التي بين الميم والذال في : " منذ".

وقد يجوز في فتحها وجه آخر ، وهو ما ذكرنا من أمر الظروف المستحقة لبناء أواخرها على حركة لالتقاء الساكنين ، كأين ، وأيّان ، وقد بنيا على الفتح ، وأحدهما من ظروف الزمان والآخر من ظروف المكان ، وشاركتهما : " الآن" في الظرفية ، وآخرها مستحق للتحريك لالتقاء الساكنين ، ففتح تشبيها بهما. ومعنى" الآن" أنه للزمان الذي كان يقع فيه كلام المتكلم ، وهو الزمان الذي هو آخر ما مضى وأول ما يأتي من الأزمنة.

وقال الفراء : فيه قولان :

أحدهما : أن أصله من آن الشيء يئين ، إذا أتى وقته ، كقولك : " آن لك أن تفعل" و" أنى لك أن تفعل" و" أنى لك أن تفعل كذا" أي أتى وقته. وآخر" آن لك" مفتوح ؛ لأنه فعل ماض.

وزعم الفراء أنهم أدخلوا الألف واللام على" آن" وهو مفتوح فتركوه على فتحه ، كما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن قيل وقال. وقيل وقال فعلان ماضيان ، وأدخل عليهما الخافض ، وتركهما على ما كانا عليه.

والقول الثاني : أن الأصل فيه : " أوان" ثم حذفوا الواو فبقي" آن" كما قالوا : رياح وراح.

والذي قاله الفراء خطأ ، أعني الوجه الأول من الوجهين ؛ لأن الألف واللام وإن كانتا للتعريف ، كدخولهما في" الرجل" ، فليس لآن الذي هو فعل فاعل ، وإن كانتا بمعنى" الذي" لم يجز دخولهما إلا في ضرورة ، كاليجدّع ، واليتقصّع. وقد ذكرناهما.

١٠١

فإن قال قائل : يكون فيه ضمير المصدر كما أضمر في قيل وقال؟

فإن قال قائل : إذا فرقتم بين اللامين بالكسر والفتح ، فلم صارت لام المستغاث به أولى بالفتح من لام المستغاث له؟

فالجواب في ذلك : أن ما يحكى تدخل عليه العوامل ، ولا تدخل عليه الألف واللام ؛ لأن العوامل لا تغير معاني ما تدخل عليه ، كتغيير الألف واللام ، ألا ترى أنّا نقول : نصبنا اسم إن بإن ، ورفعنا بكان ، ولا نقول : نصبنا بالإن ، ورفعنا بالكان.

وأما ما شبّهه به من نهيه عليه‌السلام عن قيل وقال ، فغير مشبه له ؛ لأنه حكاية والحكايات تدخل عليها العوامل فتحكى ، ولا تدخل عليها الألف واللام ، ألا ترى أنك تقول : " مررت بتأبط شرا" و" برق نحره". ولا تقول : " هذا التأبط شرا". وإنما حكي : قيل وقال عندي ، من قبل أن فيهما ضميرا قد أقيم مقام الفاعل ، ومتى ورد الفعل ومعه فاعله ، حكي لا غير ، كما ذكرنا في : " تأبط شرّا" و" برق نحره".

وأما ما ذكره من الراح والرياح ، وأن أصله : " أوان" فليس ذلك تعليلا لبنائه على الفتح. وإنما كلامنا في بنائه.

ومن ذلك : " شتّان" وهو مبني على الفتح ، ومعناه : بعد كقولك : " شتان زيد وعمرو" ، من الشّتّ ، وهو التفريق والتباعد ؛ يقال : " شتّان زيد وعمرو و" شتّان ما زيد وعمرو" ، فمعناه : تباعد وتفرق أمرهما.

قال الشاعر :

شتّان هذا والعناق والنّوم

والمشرب البارد في الظلّ الدّوم (١)

ويروى : في ظلّ الدّوم. وقال الأعشى :

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر (٢)

وكان الأصمعي يأبى : " شتان ما بين زيد وعمرو" وينشد بيت الأعشى الذي ذكرناه ، ويرد قول ربيعة الرقي ، ويقول : ليس بحجة ، وهو قوله :

__________________

(١) البيتان بلا نسبة في شرح ابن يعيش ٤ / ٣٧ ، ولسان العرب (دوم).

(٢) انظر : ديوانه ق ١٨ / ص ١٤٧ ، وشرح ابن يعيش ١ / ٥٠٢.

١٠٢

لشتّان ما بين اليزيدين في النّدى

يزيد سليم والأغرّ بن حاتم (١)

قال أبو سعيد : والقياس لا يأباه ، من قبل أن" شتان" إذا كان معناه : شتّ ، وهو بعد ، فغير ممتنع أن تقول : بعد ما بين زيد وعمرو ، وتفرق ما بينهما والذي أوجب بناء" شتان" أنه وقع موقع الفعل الماضي ، والفعل الماضي مبني ، فبني وكانت الفتحة أولى به كما تكون في الفعل الماضي. ويجوز أن تكون النون فتحت إتباعا للتاء التي قبلها ، كما ذكرناه في : " الآن".

وزعم الزجاج أن الذي أوجب له البناء أنه مصدر جاء على" فعلان" فخالف أخواته ، فبني لذلك.

قال أبو سعيد : وقد وجدنا فعلان في المصادر ، قالوا : لوى يلوى ليّانا ، قال الشاعر :

تطيلين ليّاني وأنت مليّة

وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا (٢)

ولقائل أن يقول : إن" ليّانا" مصدر فعل مستعمل له وهو قولك : لوى يلوى ليانا ، وليس كذلك : شتان ، لأنك لا تقول : شتانا يشت شانا ، فهو مع خروجه عن أمثلة المصادر غير منطوق بالفعل المأخوذ منه.

وفي ليّان كلام يأتي بعد هذا في موضعه وذكر أهل العلم باللغة أن" شت" الذي" شتان" في معناه ، إنما هو فعل كان أصله : " شتت" فنزعوا الضمة وأدغموا.

ومثل قولهم : " شتان" قولهم : " سرعان ذي إهاله" يريدون : سرع هذه إهالة فجرى" سرعان" مجرى" سرع" ففعل به ما فعل بشتان حين كان في معنى ؛ شتت.

و" سرعان ذي إهالة" مثل ، وذلك أن بعض حمقى العرب يقال إنه اشترى شاة وسال رغامها ، فتوهمه شحما مذابا ، فقال لبعض أهله : خذ من شاتنا إهالتها ، فنظر إلى مخاطها فقال : " سرعان ذي إهالة". والإهالة : الشحم المذاب.

وزعم أبو حاتم السجستاني ، وقد ذكر" شتان" ، وزعم أنه بمنزلة : " سبحان" وهذا وهم ؛ لأن : " سبحان" عند النحويين منصوب معرب إلا أنه لا ينصرف ؛ لأنه معرفة ولأن في آخره نونا وألفا زائدتين. وانتصب لأنه مصدر ، ولم ينون لأنه لا ينصرف. قال

__________________

(١) البيت منسوب لربيعة الرقي في شرح ابن يعيش ٤ / ٣٧ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٥.

(٢) البيت لذي الرمة في ديوانه ق ٨٧ / ١٧ ص ٦٥١ ، وشرح ابن يعيش ٤ / ٣٦ ، ولسان العرب (لوى).

١٠٣

أمية بن أبي الصلت :

سبحانه ثم سبحانا يعود له

وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد (١)

الجودي والجمد : جبلان. و" سبحانا" فيه وجهان ؛ أحدهما : أن يكون نوّن للضرورة ، كما يصرف ما لا ينصرف في الشعر ، والآخر أن يكون نكرة ، فاعرفه إن شاء الله.

وأما" إبّان ذلك" و" إفّان ذلك" والمعنى فيهما متقارب ، فهما معربان مضافان إلى ما بعدهما ؛ كقولك : " جئت على إفان ذلك" و" جئت في إبّانه" أي في وقته فإذا لم يدخل الجار نصبت على الظرف فقلت : " جئت إبان ذلك".

ومن ذلك : " هلمّ" ، تقول : " هلمّ ذاك" و" هلم إلى ذاك" والمعنى الدعاء إليه. وهو" ها" ضمّ إليها : " لمّ".

وفيها لغتان : فأما أهل الحجاز فيقولون للواحد والاثنين والجماعة من المذكر والمؤنث بلفظ واحد ، كقولهم : " هلمّ يا رجل" و" هلّم يا رجلان" و" هلّم يا رجال" و" هلم يا امرأة" و" هلم يا نسوة". قال الله تعالى : (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا)(٢) والمخاطبون بهذا جماعة ، وإنما جعلوا اللفظ واحدا في كل حال ؛ لأنهم بنوه معه ، فخالفوا مجراه في لغتهم ؛ لأنهم يقولون للواحد : " المم" ، فلما غيّروا قياسه وبنوه مع غيره ، ألزموه طريقة واحدة في أحواله كلها.

وأما بنو تميم فيثنون ويجمعون ويؤنثون ؛ كقولهم : " هلّم يا رجل" و" هلمّا يا رجلان" و" هلمّوا يا رجال" و" هلمّي يا امرأة".

واختلف عنهم في فعل جماعة النساء. فذكر البصريون وبعض الكوفيين : " هلممن يا نسوة" بفتح الهاء وتسكين اللام ، وضمة الميم الأولى ، وتسكين الثانية وفتحة النون بلا تشديد ؛ وإنما جعل كذلك لأن هذه النون لا بد لها من تسكين ما قبلها ؛ كقولك : " قعدن" و" قمن" للنساء ، فلما كانت هذه النون التي هي ضمير جماعة النساء ، توجب تسكين ما قبلها بطل الإدغام ؛ لسكون الحرف الذي يلي النون ، وصار عندهم بمنزلة : " أرددن".

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ٦٠ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٧ ، وشرح ابن يعيش ١ / ٣٧.

(٢) سورة الأحزاب ، آية : ١٨

١٠٤

وزعم الفراء أن الصواب في هذه اللغة : " هلمّن" فتحة الهاء وضمة اللام وتشديد الميم وفتحها وفتحة النون وتشديدها. وزعم أن الذي أوجب ذلك أن هذه النون التي هي ضمير الجماعة لا توجد إلا وقبلها ساكن ، فزادوا نونا أخرى ، لئلا تسكن الميم الأخيرة ، وتركوا الميم الأخيرة على حالها ، وجعلوا النون المزيدة توقية لتغيير الميم الأخيرة. ويشبه هذا قولهم : " مني" و" عني" حين زادوا نونا أخرى توقي سكون النون الأولى : لأن النون الأولى لا تكون إلا ساكنة ، وياء المتكلم يكسر ما قبلها ، فزيدت نون لتكسر لدخول الياء ، وتسلم النون الأولى.

واحتج الفراء لذلك بما يروى في بعض اللغات من زيادة الألف في : " ردّات" ؛ وذلك أن من العرب من يقول مكان : " رددت" : " ردّت" فيدغم ، كما كان قبل دخول تاء ضمير المتكلم ، فمن أهل هذه اللغة من يقول : " ردّات" فيزيد ألفا ، ليسكن ما قبل هذه التاء ؛ لأن ذلك حكمها ، ويبقى التضعيف على حاله. وكذلك تزاد نون قبل نون جماعة المؤنث ، ليكون ما قبل النون ساكنا ويسلم التضعيف.

والذي ذكره الجماعة سوى الفراء هو القياس. وما قاله الفراء من زيادة الألف في هذه اللغة ، فهو شاذ من شاذ لا يعبأ بمثله.

وقد حكي عن بعضهم : " هلمّين يا نسوة" في هذه اللغة ، بجعل الزائد ياء وهذا شاذ أيضا.

وتقول : " هلمّ يا رجل إلى كذا وكذا" ، فيقول : " لا أهلمّ إليه" و" هلمّ كذا وكذا" ، فيقول : " لا أهلمّه" بفتحة الألف والهاء وضمة اللام وتشديد الميم وضمها. والأصل في ذلك : " لا ألم" ، كما تقول : " لا أردّ" والهمزة مفتوحة ؛ لأنها للمتكلم في فعل ثلاثي ، والفاء مزيدة مفتوحة ، فهي على أصل فتحتها ، واللام فاء الفعل والميم مرفوعة ؛ لأنه فعل مستقبل ، وتقديره : " لا ألمه" ، ثم أدخلت الهاء بين الألف واللام مفتوحة وتركت سائر الكلام على حاله ، فاعرفه إن شاء الله.

ومما يؤمر به من المبنيات قولهم : " هاء يا فتى" ومعناه : تناول ويفتحون الهمزة ، يجعلون فتحها علم المذكر ، كما تقول : " هاك يا فتى" فتجعل فتحة الكاف علامة المذكر ، ويصرفونها تصريف الكاف في التثنية ، والجمع ، والمؤنث. وتقول للاثنين المذكرين والمؤنثين : " هاؤما" ، وللجماعة المذكرين : " هاؤموا" و" هاؤم". وقال الله تعالى : (هاؤُمُ

١٠٥

اقْرَؤُا كِتابِيَهْ)(١) والمؤنث الواحدة : " هاء يا امرأة" همزة مكسورة بغير ياء ، ولجماعة النساء : " هاءون يا نسوة" وهذا أجود اللغات وأكثرها وبها جاء القرآن.

ومنهم من يقول : " هاء يا رجل" على وزن : عاط يا رجل والأصل ؛ " هائي" ، ومثاله من الفعل : فاعل ، كما تقول : " قاتل يا رجل" ، وسقطت الياء للأمر ، ومثله : " هات يا رجل". ويتصرف كما يتصرف" هات". ويقول للاثنين ؛ " هائيا" ، كما تقول : " هاتيا" ، وللجماعة المذكرين : " هاءوا" ، كما تقول : " هاتوا" ، وللمرأة ؛ " هائي يا امرأة" بهمزة بعدها ياء ، كما تقول : " هاتي" ، وللجماعة من النساء : " هائين يا نسوة" ، كما تقول : " هاتين يا نسوة".

فأما ما يروى أن عليا رضي‌الله‌عنه قال :

أفاطم هاء السيف غير مذمّم

 .... (٢)

فيحتمل أن يكون من هذه اللغة ، وسقطت الياء منها للام الساكنة بعدها. ويحتمل أن يكون من اللغة الأولى وقال آخر من هذه اللغة :

وقلت لها هائي فقالت براحة

ترى زعفرانا في أسرّتها ورد (٣)

ومنهم من يقول : " هاك يا رجل" و" هاكما يا رجلان" و" هاكما يا امرأتان" و" هاكموا وهاكم يا رجال" و" هاك يا امرأة" و" هاكنّ يا نسوة".

ومنهم من يقول : " ها يا رجل" بهمزة ساكنة ، و" هاءا يا رجلان" مثل ؛ خف يا رجل ، وخافا يا رجلان ، و" هاءوا يا رجال" و" هائي يا امرأة" مثل : خافي ، و" هأن يا نسوة" ، مثل : خفن يا نسوة.

ومن هذه اللغة ما حكاه الكسائي من قول الرجل منهم ، إذا قيل له ذلك : " إلام أهاء وإهاء" ، كما تقول : أخاف وإخاف. وتقدير هذا الفعل أن يكون على : فعل يفعل ؛ ولذلك جاز كسر همزة المتكلم في : إهاء.

ويجوز أن يكون البيتان الأولان من هذه اللغة.

ومنهم من يقول : " هاء يا رجل" و" هاءا يا رجلان" كما تقول : طاء يا رجل ، وطاءا

__________________

(١) سورة الحاقة ، آية ١٩.

(٢) ورد الشطر هكذا في شرح ابن يعيش ٤ / ٤٤.

(٣) البيت بلا نسبة في شرح ابن يعيش ٤ / ٤٢.

١٠٦

يا رجلان ، وهب يا رجل ، وهبا يا رجلان ، و" هاءوا يا رجال" و" هئي يا امرأة" كما تقول : هبي يا امرأة ، و" هأن يا نسوة" كما تقول : هبن يا نسوة.

وهذه اللغة تشبه أن يكون فاء الفعل منها واوا سقطت ، كما سقطت في : وهب يهب.

ومنهم من يقول : " هاءك يا رجل" ، بهمزة بعد الألف مفتوحة ، وتغير الكاف على حسب المخاطبين ، تقول للواحد المذكر : " هاءك يا رجل" وللاثنين : " هاء كما" وللجماعة : " هاءكم" وللمؤنث : " هاءك" وللجماعة من المؤنث : " هاءكن".

والكاف للخطاب لا موضع لها ، كما تقول : " أرأيتك" فالتاء مرفوعة ، والكاف للخطاب. وتلزم التاء حالة واحدة ، وتتغير الكاف ، فتقول للرجل : " أرأيتك يا رجل" ، وللاثنين : " أرأيتكما يا رجلان" وللجماعة : " أرأيتكم" وللمرأة : أرأيتك" ولجماعة النساء : " أرأيتكن" وذلك أنهم استغنوا بما يظهر من التثنية والجمع والتأنيث ، عن تغيير التاء في : " أرأيتك" والهمزة في : " هاءك".

ونظير : " أرأيتك" وبابه في توحيد التاء وتذكيرها ، وإن كان الفاعل جماعة أو مثنى : " حبذا زيد" و" حبذا الزيدان" و" حبذا هند". وتوحد" حبذا" وإن كانت الأسماء جماعة أو مؤنثا. وشبيهه : " هلّم" في لغة أهل الحجاز في قولهم : " هلّم" للواحد والجماعة والمؤنث والمذكر ، ولفظ : " هلمّ" موحد.

ومنهم من يقول : " هاء ـ مهموزا وغير مهموز ـ يا رجل" ، و" ها يا رجلان" و" ها يا رجال" و" ها يا امرأة" و" ها يا نسوة" ، جعلوه صوتا لم يلحقوا فيه علامة الخطاب ، كقولهم : " صه يا رجل" و" صه يا رجلان" وكذلك الجماعة والمؤنث وجماعتها.

ومن المبنيات العدد من" أحد عشر" إلى" تسعة عشر" يكون النيف والعشرة مفتوحين جميعا ، تقول : " أحد عشر" ، و" ثلاثة عشر" و" تسعة عشر".

والذي أوجب بناءهما أن التقدير فيها ؛ خمسة وعشرة ، فحذفت الواو وتضمنتا معناها ، فاختير لهما الفتح ؛ لأنه أخف الحركات.

وبعض العرب يقول : " إحدى عشر" و" خمسة عشر" ، فيسكن العين. وإنما فعل هذا لأن" إحدى عشر" قد اجتمع فيها ست متحركات ، وليس في كلامهم أكثر من ثلاث متحركات متواليات إلا ما كان مخففا ، والأصل غيره ، كقولهم : " علبط"

١٠٧

و" جندل" و" زلزل". وليس في كلامهم أكثر من أربع حركات متواليات في كلمة كانت أصلا أو مخففة. فلما صار : " أحد عشر". بمحل اسم واحد ، خففوا الحرف الرابع الذي بتحريكه يكون الخروج عن ترتيب حركات الأصول في كلامهم.

ومن يسكن العين في اللغة التي ذكرناها ، لا يسكنها في" اثني عشر" لئلا يجتمع ساكنان ، وليس في كلامهم جمع بين ساكنين ، إلا أن يكون الساكن الثاني بعد حرف من حروف المد واللين مدغما في مثله ؛ نحو : " دابة" وما أشبهها.

فإن قال قائل : هلا بنيتم ؛ : " اثني عشر" على حد واحد ، فلا يتغير في رفع ولا نصب ولا جر ، كما فعلتم ذلك في أخواته؟

قيل له : من قبل أن الاثنين قد كان إعرابهما بالألف والياء ، وكانت النون على حالة واحدة فيهما جميعا ، كقولك : " هذان الاثنان" و" رأيت الاثنين" و" مررت بالاثنين". فإذا أضفت سقطت النون ، وقام المضاف إليه مقامها ، ودخل حرف التثنية ، من التغير في حال الرفع والنصب والجر مع المضاف إليه ، ما كان يدخله مع النون. ولما كان : " عشر" في قولك : " اثنا عشر" حل محل النون وعاقبها ، صار بمنزلة المضاف إليه ، ولم يمنع تغير الألف إلى الياء في النصب والجر.

وتقول في المؤنث : " إحدى عشر" و" ثنتا عشر" ، وإن شئت"" اثنتا عشرة".

وتقول في : " ثماني عشرة" : " ثماني عشرة" بفتح الياء وهو الاختيار عند النحويين.

وقد يجوز : " ثماني عشرة" بتسكين الياء. فأما من فتحها فأجراها على أخواتها ؛ لأنها جميعا في عدة واحدة وترتيب واحد. وأما من سكّنها فشبهها" بمعدي كرب" و" أيادي سبأ" و" قاليقلا" وأشباه ذلك.

وفي عشرة لغتان :

فأما أهل الحجاز فيقولون : إحدى عشر بتسكين الشين.

وأما بنو تميم فيقولون : " إحدى عشر" بكسرها.

وهذا عكس ما يعرف من اللغتين ؛ لأن الغالب على بني تميم تسكين العين من فعل وفعلة ، وعلى أهل الحجاز كسرها.

واعلم أنك إذا سميت رجلا بخمسة عشر ، جاز أن تضم الراء ، فتقول : " هذا خمسة عشر" ، و" رأيت خمسة عشر" و" مررت بخمسة عشر" تجريه مجرى اسم لا ينصرف.

١٠٨

ولك أن تحكيه فتفتحه على كل حال. والأخفش كان يرى إعرابهما إذا أضفتها وهي عدد ، فتقول : " هذه الدراهم خمسة عشرك".

وقد ذكر سيبويه أن هذه لغة رديئة. والعلة في ذلك أن الإضافات ترد الأشياء إلى أصولها ، وقد علمت أن خمسة عشر درهما ، هي تقدير التنوين ، وبه عمل في الدرهم. فإذا أضفتها إلى مالكها لم يجز تقدير التنوين فيها ، لمعاقبة التنوين الإضافة ، فصار بمنزلة اسم لا ينصرف ، فإذا أضيف انصرف ، وأعرب بما كان يمتنع من الإعراب قبل حال الإضافة.

والكلام على هذا القول وعلته وتفصيله ، له موضع نذكره فيه ، إن شاء الله. وقال الخليل بن أحمد : من يقول : " هذا خمسة عشرك" لم يقل : " هذا اثنا عشرك" في العدد ، من قبل أن عشر قد قام مقام النون ، والإضافة تسقط النون ، فلا يجوز أن يثبت معها ما قام مقام النون ، ولكن تقول : " هذا اثنا عشرك".

فإن قال قائل : فأضف وأسقط" عشرة" كما تسقط النون.

قيل : هذا لا يجوز ، من قبل أنا لو أسقطناه كما تسقط النون ، لم ينفصل في الإضافة" اثنان" من" اثني عشر" ؛ لأنك تقول في اثنين : هذان اثناك ، فلو قلت في : " اثني عشر" :

" هذا اثناك" لالتبسا ، فإذا كان اسم رجل ، جازت إضافته بإسقاط" عشر".

ومن قال في رجل اسمه : " مسلمان" : " هذا مسلمان ومسلمانك" ، جاز أن يقول : " هذا اثنان عشرك" ؛ لأنه يجعل هذه النون كنون" سعدان".

واعلم أن الفراء ومن وافقه يجيز إضافة النيف إلى العشرة ؛ فتقول : " هذا خمسة عشر".

وأنشدوا فيه :

كلّف من عنائه وشقوته

بنت ثماني عشرة من حجّته (١)

وهذا لا يجيزه البصريون ولا يعرفون البيت.

وإذا كان عشر مضافا ، وجب عند الفراء إضافة النيف على عشر ، كقولك : " هذا خمسة عشرك" ، وللاحتجاج له وعليه موضع غير هذا.

__________________

(١) الرجز بلا نسبة في خزانة الأدب ٣ / ١٠٥.

١٠٩

واعلم أن العرب تقول : " هذا ثاني اثنين" و" ثالث ثلاثة" و" عاشر عشرة". وقد يقال : " ثاني واحد" و" ثالث اثنين" و" عاشر تسعة" ؛ لأنه مأخوذ من ثنى الواحد ، وثلث الاثنين ، وعشر التسعة.

فإن نونت فهو بمنزلة قولك : " ضارب زيدا". وإن أضفت فهو بمنزلة قولك : " ضارب زيد".

ولا يجوز التنوين في الوجه الأول ، إذا قلت : " ثالث ثلاثة" ؛ لأنك أردت به : أحد ثلاثة ، وبعض ثلاثة. ولا يجوز التنوين مع هذا التقدير في قول أكثر النحويين ؛ لأنه لا يكون مأخوذا من فعل عامل.

وإذا قلت : " هذا عاشر عشرة" قلت : " هذا حادي عشر" بتسكين الياء. ومنهم من يقول : " هذا حادي عشر" بفتح الياء. فأما من سكن الياء من" حادي" ، فتقديره : هذا حادي الأحد عشر ، كما تقول : " هذا قاضي بغداد" ، وحذف" أحد" تخفيفا لدلالة المعنى عليه. وأما من فتح فإنه بنى" حادي" مع" عشر" حين حذف" أحد" ، فجعل" حادي" قائما مقامه ، ومنهم من يقول : " هذا الحادي أحد عشر". فإذا قالوا ذلك لم يجز في الياء إلا التسكين ؛ لأن ثلاثة أشياء لا يجوز أن يكن اسما واحدا ، وتقول فيما جاوز أحد عشر من هذه اللغة : " هذا ثاني عشر" و" ثاني عشر" و" ثاني اثنى عشر" و" ثالث عشر" و" ثالث ثلاثة عشر" لا غير ، على تسعة عشر ، على ما بيناه.

فإن قال قائل : فلم قيل : " حادي عشر" وهو فاعل من واحد؟ وهلا قالوا : " واحد عشر" أو" آحد عشر" من لفظ" أحد"؟

ففي ذلك جوابان :

أحدهما : أنه مقلوب من" واحد" ، والواو من" واحد" في موضع الفاء منه ، فجعلت الفاء في موضع اللام ، فانقلبت الواو ياء ، لانكسار الدال ، كما قيل : " غازي" ، وتقديره من الفعل : عالف والقلب في كلامهم كثير ، كقولهم : " شائك السلاح" و" شاكي السلاح" ، وكقولهم : " لائث" و" لاثي". وكما قال الشاعر :

خيلان من قومي ومن أعدائهم

خفضوا أسنّتهم وكلّ ناعي (١)

__________________

(١) البيت للأجدع بن مالك الهمداني في الأمثال لأبي عكرمة الضبي ٦٦.

١١٠

قال أبو عبيدة : أراد" نائع" أي : مائل ، أو عطشان ، من قولك : جائع نائع.

وقال الأصمعي : إنما أراد" الناعي" من : نعى ينعي.

والقول الثاني في : " حادي" أنه يتبع الإبل ويحدوها ، مثل : حادي الإبل ، وهو الذي يتبعها ويسوقها.

وتقول في المؤنث من هذا : " هذه حادية عشرة" و" حادية عشرة" و" حادية إحدى عشرة" بالضم لا غير ، و" ثانية عشرة" و" ثانية عشرة" و" ثانية اثنتي عشرة" بالضم لا غير إلى : تسع عشرة ، على هذا المنهاج. وعلة وجوه الإعراب فيها كعلة المذكر. فإذا أدخلت الألف واللام في شيء من هذا تركوه على حاله ، تقول : " الحادي عشر" و" الحادي عشر"" الحادي أحد عشر" بتسكين الياء لا غير ، وكذلك الباب على هذا المنهاج.

والألف واللام لا تخرج هذا من لفظه ولا تزيله عن بنائه ، كما لا تزيل خمسة عشر ؛ إذا قلت : أخذت الخمسة عشر درهما ، وكما لا يزيل" الخازباز" عن بنائه ، إذا قلت :

هذا الخازباز فاعلم. وسنذكر" الخازباز" في موضعه إن شاء الله.

فأما من يقول : " هذا ثالث اثنين" و" عاشر تسعة" ، فإن كثيرا من النحويين يمنعون أن يقولوا فيما جاوز العشرة من هذا ، وذلك أن القوم إذا كانوا تسعة ، فصرت عاشرهم ، جاز أن تقول : " عشّرتهم" ، وإذا كانوا عشرة وكملتهم أحد عشر ، لا يكون من هذا فعل مشتق في تكميلك العشرة أحد عشر ، كما كان لك فعل مشتق في تكميلك التسعة العشرة ، فلم يكن لك اسم فاعل فيما جاوز العشرة.

وهذا هو القياس. ومنهم من يجيزه ويشتقه من لفظ النيف ، فيقول : " هذا ثاني أحد عشر" و" ثالث اثني عشر" وينّونه وإنما جاز له أن يشتق من لفظ النيف ، من قبل أن العشرة معطوفة على النيف ، فإذا قلت : " ثلاثة عشر" فمعناه : ثلاثة وعشرة ، ويشتقه من الأول ، ويجعل الثاني عطفا عليه. وقد حكى نحو من هذا عن العرب ؛ قال الراجز :

أنعت عشرا والظليم حادي

أراد : الظليم حادي عشر ، فاعرفه إن شاء الله.

ومن ذلك : العدد من واحد إلى عشرة ، تقول : واحد ، اثنان ، ثلاثه ، أربعة ، بتسكين أواخر الأعداد إلى العشرة.

فإن قال قائل : ولم سكّنت؟

١١١

فالجواب في ذلك : أن هذه الأعداد إذا عددتها لم تقع فاعلة ، ولا مفعولة ، ولا مبتدأة ولا خبرا ولا في جملة كلام آخر ، والإعراب في أصله للفرق بين اسمين في كلام واحد ولفظين مجتمعين في قصة ، لكل واحد منهما معنى خلاف معنى صاحبه ؛ فيفرق بين إعرابهما للدلالة على اختلاف معناهما ، أو يكون الإعراب لشيء محمول على ما ذكرنا ، فلما لم تكن هذه الأعداد على الحد الذي يستوجب الإعراب ، ولا على الحد الذي يحمل ـ على ما استوجب الإعراب ـ سكّنّ وصرن بمنزلة الأصوات ، كقولك : صه ، ومه ، وبخ بخ.

ويجوز أن تقول : " واحد اثنان" فتكسر الدال من : واحد.

فإن قال قائل : لم كسرت الدال من واحد؟ أللتقاء الساكنين؟ أم ألقيت كسرة الهمزة على الدال فكسرتها؟

قيل له : بل ألقيت كسرة الهمزة على الدال ، ولا يصلح أن تكون الكسرة لالتقاء الساكنين ، من قبل أن كل كلمة من هذه المقضية عليها بالوقف واستئناف ما بعدها ، كأن لم يتقدمه شيء. وألف القطع والوصل يستويان في الابتداء ويثبتان ، فألف اثنان ثابتة ، إذا كان التقدير فيهما أن تكون مبتدأة ، فهي بمنزلة ألف القطع ، وألف القطع يجوز إلقاء حركتها على الساكن قبلها ؛ فلذلك كانت الكسرة في الدال من : " واحد" هي الكسرة التي ألقيت عليها من همزة : " اثنان" ، ويدل على صحة ذلك أنهم يقولون في هذا إذا خففوا الهمزة : " ثلاثة أربعة" ؛ فيحذفون الهمزة من أربعة ، ولا يقلبون الهاء في ثلاثة تاء من قبل أن الثالثة عندهم في حكم الوقف ، والأربعة في حكم الكلام المستأنف ، وإنما تنقلب هذه الهاء تاء إذا وصلت ، فلما كانت مقدرة على الوقف بقيت هاء ، وإن ألقيت عليها حركة ما بعدها ، كما تكون هاء إذا لم يكن بعدها شيء.

فإن قال قائل : لم قالوا : " اثنان" ، فأثبتوا النون في العدد ، ومن قولهم إنما تدخل النون عوضا عن الحركة والتنوين ، وهذا موضع يسكن فيه العدد؟

فالجواب في ذلك أن" اثنان" صيغ بثبات النون على معناه ، ولم يقصد إلى" اثن" فتضمه إلى مثله ؛ إذ كان لا ينطق" باثن" ، ولكنه لما كان حكم التثنية في الأشياء التي ينطق بواحدها ، متى ثنيت أن تزاد النون فيها عوضا من الحركة والتنوين. وقد جاء اثنان وإن لم ينطق بإثن ، على ما يجيء عليه الشيء المنطوق بواحده ، حمل عليه وإن لم يكن له

١١٢

واحد فيه حركة وتنوين وتثبت هذه النون على كل حال إلا أن تعاقبها الإضافة.

ومن ذلك حروف التهجي وهي مقصورة ، إذا تهجيت بها ؛ تقول : آ ، با ، تا ، ثا تقصرها. وفي" زاي" لغتان ؛ منهم من يقول ؛ " زاي" بياء بعد ألف ، كما تقول : " واو" بواو بعد الألف. ومنهم من يقول" زي".

وإنما وقعت هذه الحروف إذا قطعتها على هذا النحو ؛ لأنها تشبه الأصوات ، ولأنك لم تحدث عنها ولم تحدث بها ، ولا جعلت لها حالة تستحق الإعراب لها ، كما قلنا في العدد ، وإن تهجيت اسما فإنك تقطع حروفه وتبنيها على الوقف ، كقولك إذا تهجيت : " عمرا" : عين ، ميم ، را ، واو. فإن كان شيء من هذه الحروف بعده همزة جاز أن تلقى حركة الهمزة عليه ، وتحذفها ؛ كقولك في هجاء : " عامر" : عين ، ألف ، ميم ، را ، ويجوز أن تقول : عين ألف ، ميم ، را ؛ فتحذف الهمزة ، وتحرك النون من : عين.

قال الراجز :

أقبلت من عند زياد كالخرف

تخطّ رجلاي بخط مختلف

تكتبان في الطريق لام ألف

ويروى : تكتبان ، فألقى الهمزة من" ألف" على الميم من : " لام" وحذف الهمزة.

فمن روى : " تكتبان في الطريق" يعني ؛ تؤثران لام ألف ، ومن روى : " تكتبان" أراد : تتكتبان ، أي تصيران هما كلام ألف.

قال سيبويه : إذا قلت في باب العدد : واحد اثنان ، جاز أن تشم الواحد الضم ، فتقول : واحد اثنان ، ولا يجوز ذلك في الحروف إذا قلت لام ألف أو نحوها. قال : والفصل بينهما أن الواحد متمكن في أصله والحروف أصوات مقطعة ، فاحتمل الواحد من إشمام الحركة لما له من تمكن الأصل ، ما لم يحتمله الحرف. فإذا جعلت هذه الحروف أسماء ، وخبرت عنها ، وعطفت بعضها على بعض ، أعربتها ، ومددت منها ما كان مقصورا ، وشددت الياء من : " زي" في قول من لا يثبت الألف. قال الشاعر يذكر النحويين :

١١٣

إذا اجتمعوا على ألف وباء

وتاء هاج بينهم القتال (١)

وإنما فعلوا ذلك من قبل أنها إذا صيرت أسماء ، فلا بد من أن تجري مجراها وتعطي حكمها ، وليس في الأسماء المفردة التي تدخلها الإعراب اسم على حرفين الثاني من حروف المد واللين ـ واوا أو ياء أو ألفا ؛ لأن التنوين إذا دخله أبطله لالتقاء الساكنين ، فيبقى الاسم على حرف واحد ، وهو إجحاف شديد. وقد جاء من الأسماء المعربة ما هو على حرفين الثاني من حروف المد واللين ، غير أن الإضافة تلزمه ، فيمتنع التنوين ، كقولهم : " هذا فو زيد" و" رأيت فا زيد". وربما اضطر الشاعر ، فيجيء به غير مضاف.

قال العجاج :

خالط من سلمى خياشيم وفا (٢)

وإنما فعل ذلك ؛ لأنه في آخر بيت في موضع لا يحتاج فيه إلى تنوين. فلما كان الأمر على ما وصفنا ، وجعلت هذه الحروف أسماء زيد في كل واحد منها ما يكمل به اسما ، وجعلت الزيادة مشاكلة لآخر المزيدة فيه ، تقول في : با : " باء" تكون الهمزة مشاكلة الألف ، وفي : زي : " زيّ".

ومما يدل على صحة هذا المعنى قول الشاعر في ليت و" لو" التي هي حرف ، حين جعلها اسما :

ليت شعري وأين منّي ليت

إنّ ليتا وإنّ لوا عناء (٣)

وقال النمر بن تولب :

علقت لوّا تردّده

إنّ لوّا ذاك أعيانا (٤)

ويجيز الفراء في هذه الحروف ، إذا جعلت أسماء : القصر والمد ، فتقول : " هذه حا فاعلم" و" يا فاعلم" وتثنى فتقول : " حيان" و" بيان" ولا تزيد فيهما شيئا. وقد بينا صحة القول الأول.

ويفرق الفراء بين هذه الأسماء المنقولة عن أحوال لها هي غير متمكنة فيها وبين ما

__________________

(١) البيت ليزيد بن الحكم في شرح ابن يعيش ٦ / ٢٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٥٣.

(٢) البيت في ديوانه ٨٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٦٢.

(٣) البيت لأبي زيد الطائي في ديوانه ق ١ / ٦ ق ص ٢٤.

(٤) البيت في ديوانه ق ٤٥ / ٢ ص ١٢٠.

١١٤

يصاغ من الكلام متمكنا في أول أحواله. والقول الأول أقوى. والله أعلم.

وهذه الحروف تذكر وتؤنث ، إذا جعلت أسماء تقول : " هذه يا مخطوطة" وإن شئت قلت : " هذا ياء مخطوط" ، فمن أنثها ذهب بها مذهب الكلمة ، وهو الأغلب عليها ، ومن ذكّرها ذهب بها مذهب الحرف. قال الشاعر في التأنيث :

 ...

كما بيّنت كاف تلوح وميمها (١)

وقال آخر في التذكير :

كافا وميمين وسينا طاسما

ومن ذلك : " خاز باز" وفيه سبع لغات ، وله خمسة معان. فأما اللغات التي فيها ؛ فيقال : خازباز ، وخازباز ، وخازباز ، وخازباز وخازباز ، وخازباء ، على مثل : قاصعاء ونافقاء ، وخزباز ؛ مثل : كرباس.

وأما معانيها ، فخازباز ؛ عشب ، وهو أيضا ؛ ذباب يكون في العشب ، وقال بعضهم : هو صوت الذباب ، وهو أيضا داء يكون في اللهازم وقالوا الخازباز : السّنور ، وهو أغرب ما فيه.

والحجة على أنه العشب قول الشاعر :

والخازباز السّنم المجّودا (٢)

وقال آخر :

تفقأ فوقه القلع السّواري

وجنّ الخازباز به جنونا (٣)

فهذا يحتمل أن يكون : العشب ، ويحتمل أن يكون : الذباب ؛ يقال : جن النبت إذا خرج زهره ، وجن الذباب إذا طار وهاج. وقال المتلمس :

فهذا أوان العرض جنّ ذبابه

زنابيره والأزرق المتلمّس (٤)

ويروى : حي ذبابه.

__________________

(١) هذا عجز بيت وصدره : أهاجتك آيات أبان قديمها ، وهو منسبوب للراعي النميري في المقتصب ١ / ٢٣٧.

(٢) البيت في خزانة الأدب ٣ / ١١٠ ، ولسان العرب (خوز).

(٣) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي في معاني القرآن ١ / ٤٦٨.

(٤) البيت منسوب له في لحن العوام للزبيدي ٣٣.

١١٥

وقال آخر في الداء :

مثل الكلاب تهر عند درابها

ورمت لهازمها من الخزباز (١)

وقال آخر :

يا خازباز أرسل اللهازما (٢)

فأما من قال : خازباز ، فإنه جعلهما اسمين ، ثم كسر كل واحد منهما لالتقاء الساكنين ، مثل قوله : غاق غاق ، وحاب حاب. ومن فتحهما ، شبههما بخمسة عشر ، وحضرموت ، إذا فتحت آخره.

ومن ضم آخره وفتح أوله ، فإنه يشبهه ببعلبك ، وحضرموت ، إذا جعلت الإعراب في آخره ؛ تقول : " هذه بعل بك" و" حضرموت".

قال امرؤ القيس :

لقد أنكرتني بعلبكّ وأهلها

ولابن جريج في قرى الشام أنكرا (٣)

ومن قال : " الخازباز" فإنه بنى أوله على السكون ، ثم كسره ، لالتقاء الساكنين ، وضم آخره حين صيرهما كشيء واحد. ومثله : " معد يكرب" ، فمن أعرب آخره ، فقال : هذا معد يكرب ، ورأيت معد يكرب ، ومررت بمعد يكرب ، يجعل الإعراب في آخره ويبنى أوله على السكون ، إلا أنه اضطر إلى تحريك الأول حين التقى ساكنان ، ولم يكن ذلك في معد يكرب ؛ لأن ما قبل الياء الساكنة في معد يكرب متحرك.

وأما من قال : " خازباز" فإنه أضاف الأول إلى الثاني ، كما يقول : " بعل بك" و" حضرموت" و" معد يكرب" فيمن أضاف ، وجعل : كربا مذكرا ، و" معديكرب" فيمن أضاف وجعل كرب مؤنثا.

ومثل هذا في الكلام أنا لو لقّبنا رجلا معروفا بلقب لأضفنا اسمه إلى لقبه ، كقولك : " هذا سعيد قفة" ، فأضيف اسمه إلى" قفة" حين لقب بها ، وكذلك كل اسم مفرد إذا لقبته.

واعلم أن" الخازباز" في هذه الوجوه التي يبنى فيها متى دخلت الألف واللام عليه ، ترك على بنائه ، كما قال :

__________________

(١) البيت بلا نسبة في لسان العرب (خزبر).

(٢) خزانة الأدب ٣ / ١٠٩ ، اللسان (خوز).

(٣) انظر : ديوانه ٦٨.

١١٦

 ...

وجنّ الخازباز به جنونا

وكما تقول : " هذه الخمسة عشر درهما" فتدخل الألف واللام عليها وتدعها على بنائها.

وأما من قال : " خازباء" فإنه بناء اسما على فاعلاء ، وجعل الهمزة للتأنيث.

وأما من قال : " الخزباز" فإنه بناء مثل : كرباس ، ويكون متصرفا في جميع وجوه الإعراب ، كما يكون الكرباس.

ومن ذلك قولهم عند الدعاء ، وسؤالك الإجابة : " آمين". وفيه لغتان : و" أمين" و" آمين" مقصور وممدود.

قال الشاعر :

تباعد مني فطحل وابن أمّه

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا (١)

وقال آخر في المد :

يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا

ويرحم الله عبدا قال آمينا (٢)

وإنما فتح آخرهما ، وبنيا على ذلك من قبل أنهما صوتان وقعا موقع فعل الدعاء ، وهو أنك إذا قلت : " أمين" ، فمعناه : استجب يا ربنا ، كما وقع : " صه" و" مه" في معنى ؛ اسكت ، وكف. فلما كان" أمين" على ما وصفنا كان من حقه أن يبنى على السكون ، فالتقى في آخره ساكنان ، ففتح ولم يكسر من قبل الياء التي قبلها ، استثقالا للكسر مع الياء ، كما قالوا : " مسلمين" وكما قالوا : " أين" و" كيف" حين كان قبل آخره ياء ، فاعرفه إن شاء الله.

ومما جاء من الاسمين اللذين جعلا اسما واحدا ، وآخر الأول منهما ياء مكسور ما قبلها : " معدي كرب" و" أيادي سبأ" و" قالي قلا" و" ثماني عشر" و" بادي بدا".

فأما" معدي كرب" فهو اسم علم. وفيه لغات ؛ يقال : " معدي كرب" و" معدى كرب" و" معدي كرب" فأما من قال : " معدي كرب" فإنه جعلهما اسما واحدا ، وجعل الإعراب في آخره ومنعه الصرف لعلتين ، إحداهما ؛ التعريف ، والأخرى ؛ جعل الاسمين اسما

__________________

(١) بلا نسبة في شرح ابن يعيش ٤ / ٣٤ ، واللسان (أمن).

(٢) ينسب لمجنون ليلى في اللسان (أمن).

١١٧

واحدا ، وهو أحد موانع الصرف. وسواء قدرته في هذا الوجه مذكرا أم مؤنثا تجعله كاسم لا ينصرف ، وتقول : " جاءني معدي كرب" و" رأيت معدي كرب" و" مررت بمعدي كرب".

وأما من قال : " هذا معدي كرب" ، فإنه جعل : " معدي" مضافا إلى" كرب" وجعل كربا اسما مذكرا.

فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما ذكرت ، فهلا قالوا : " رأيت معدي كرب" ، كما تقول : " رأيت قاضي واسط"؟

قيل له : " معدي كرب" لا يشبه : " قاضي واسط" من قبل أن الياء في" معدي" قد كانت ساكنة في الموضع الذي يجب فتح الحرف الصحيح فيه ، وذلك إذا جعلته مع" كرب" بمنزلة اسم واحد ، ألا ترى أنك تقول : " هذا حضرموت" و" بعل بك" ، فيفتح آخر الاسم الأول في الصحيح ، ويسكن الياء في" معدي" ، فكما وجب تسكين هذه الياء في الموضع الذي ينفتح فيه غيرها من الصحيح ، وإن كان فتحها بناء ، أسكن في الموضع الذي يكون فتحها إعرابا ؛ لأنه قد لزمها السكون في موضع الفتح.

ووجه ثان يؤيد هذا المعنى ، وهو قولهم : " أرض وأرضون". ويقال" أرضون" بتسكين الراء ، وفتحها أكثر وأجود. وإنما فتحت هذه الراء في الجمع ، وإن كانت في الواحد مسكنة من قبل أنهم يقولون : " أرض وأرضات" ، كما يقولون : " دعد ودعدات وتمرة وتمرات" فلما كانت" أرضات" جمعا سالما قد لزمت فيه فتحة الراء التي كانت مسكنة في الواحد على علة" تمرات" و" دعدات" ، فتحوها في : " أرضون" ، ليعلموا أن لها حالا تنفتح فيها في جمع سالم مثل : أرضات.

ومن قال : " معدي كرب" على كل حال ، فإنه على وجهين :

أحدهما : أن يكون بجعلهما اسما واحدا ، فيكون مثل : " خمسة عشر" و" حضرموت" فكأنهما كانا مبنيين على الفتح قبل التسمية ثم حكى في التسمية.

والثاني : أن يجعل" معدي" مضافا إلى" كرب" ويجعل كربا اسما مؤنثا فلا ينصرف ويكون في موضع مخفوض.

وأما" قالي قلا" فإنك تجعله غير منون على كل حال إلا أن يجعل : " قالي" مضافا إلى" قلا" ويجعل" قلا" اسم موضع مذكر فتنونه ، فتقول على هذا" قالي قلا" فاعلم.

١١٨

والأكثر ترك التنوين. قال الشاعر :

سيصبح فوقي أقتم الرّيش كاسر

بقالي قلا أو من وراء دبيل (١)

وتفسير" قالي قلا" ، كتفسير" معدي كرب". والوجه الذي ينون فيه كالوجه الذي ينون فيه" معدي كرب".

وأما" أيادي سبأ" ففيه لغتان : " أيادي سبأ" و" أيدي سبأ" ومعناه : متفرقين ، يقول : " ذهب القوم أيدي سبأ" و" أيادي سبأ" ، إذا تبددوا وتشتتوا. والأصل أن سبأ بن يشجب لما أنذروا بسيل العرم خرجوا من اليمن متفرقين في البلاد ؛ فقيل لكل جماعة تفرقت ؛ " ذهبوا أيدي سبأ". وموضعه من الإعراب نصب بالحال ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه معرفة وقع موقع الحال كما قال :

فأرسلها العراك ولم يذدها

 ... (٢)

يريد : معتركة. كما قالوا : " القوم فيها الجماء الغفير" يريد مجتمعين ، وغير ذلك مما وقعت المعرفة فيه موقع الحال.

والوجه الثاني : أن يجعل" سبأ" في تقدير منكور ، وتضيف" أيدي" إليه فتكون منكورة ، فإذا كانت كذلك فلا كلام في وقوعها حالا.

وللسائل أن يسأل فيقول ؛ كيف يكون" سبأ" منكورا حالا وهو اسم رجل ، فقد صارت له حالة في التفرق يجوز من أجلها أن يشبه غيره به ، كما قيل : " قضية ولا أبا حسن لها" ، وإنما القصد فيه إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام. كما قال الشاعر :

لا هيثم الليلة للمطى

فإنه وإن كان أراد عليّا رضي‌الله‌عنه قصد الهيثم ، فإن تقدير الكلام : لا مثل علي ولا مثل الهيثم ؛ لأن (لا) لا تنصب إلا منكورا ، فإنما جاز تقدير" مثل" وإن كان القصد إلى واحد ؛ لأن التأسف إذا وقع لفقد إنسان ، فإن وجود مثله يزيل ذلك ، ويصير كأنه هو الأول المطلوب ، فكذلك : تفرق القوم أيدي سبأ ، يجوز أن يكون في التقدير : أيدي مثل سبأ ، وسبأ في هذا الموضع على هذا التقدير معرفة ؛ فلذلك لم ينون.

__________________

(١) لسان العرب (دبل).

(٢) البيت للبيد في ديوانه ٨٦ ، وخزانة الأدب ١ / ٥٢٤.

١١٩

فإن قيل : ولم صار معرفة و" أيدي" المضاف إليه نكرة؟

قيل له : إذا رتبنا الكلام على ما ذكرناه ، فأيدي هي مضافة إلى" مثل" ومثل منكور وإن كان مضافا إلى" سبأ" ، كما تقول : " لا عبد الله الليلة" فتعمل (لا) في (عبد الله) وإن كان معرفة ؛ لأن تقدير عملها في" مثل" ونقل ذلك إلى" عبد الله".

و" سبأ" مهموز في الأصل ، وترك همزه في : " أيادي سبأ" لكثرته ، وطوله ، كما قيل : " منساة" ، وهي من : " نسأته".

فأما" ثماني عشرة" فقد ذكرناها فيما تقدم.

وأما" بادي بدا" ، ويقال : " بادي بديء" فمعناه أول كل شيء ، وهو مأخوذ من الابتداء. وكان الأصل فيه : " بادي بداء" أو" بادي بديء" ، غير أنهم خففوا الهمزة فيه ، قلبوها ياء ، وسكنوها كما سكنوا ياء" معدي كرب". قال الشاعر :

وقد علتني ذرأة بادي بدي

ورثية تنهض في تشدّدي (١)

و" بادي بدي" منكور بمنزلة : " خمسة عشر" لأنه حال ، كأنه قال : وقد علتني مبتدئا ، يعني أول كل شيء. وقد قيل : " بادي بدي" أي ظاهرا ، من قولك : بدا يبدو. والأول أجود.

فإن قال قائل : ولم وجب إسكان هذه الياءات من أواخر الأسماء الأولى؟

قيل له : من قبل أن الاسمين إذا جعلا اسما واحدا ، وكان الأول منهما صحيح الآخر بنيا على الفتح ، والفتح أخف الحركات ، وقد علمنا أن الياء المكسور ما قبلها أثقل من الحروف الصحيحة ، وأعطيت أخف مما أعطى الحرف الصحيح ، وليس أخف من الفتحة إلا السكون ، فاعرفه إن شاء الله.

ومن ذلك قولهم : " وقع الناس في حيص بيص" ، إذا وقعوا في اختلاط وهذا الكثير المعروف. قال الهذلي :

قد كنت خرّاجا ولوجا صيرفا

لم تلتحصني حيص بيص لحاص (٢)

وقيل : " حيص بيص" وقيل : " حيص بيص" وقد يكسر هذا فيقال : " حيص بيص".

__________________

(١) الرجز لأبي نخيلة السعدي في خزانة الأدب ١ / ٧٩ ، ولسان العرب (نهض).

(٢) البيت لأمية بن أبي عائذ الهذلي في ديوان والهذليين ٢ / ١٩٢.

١٢٠