رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

شارل ديدييه

رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٦

الراحة المطلقة ، والاستراحة الطويلة ، واستمرارية الإحساس الفريد واطراده ، الإحساس نفسه على الدوام ، بفضل ذلك كله ، انتهى بي الأمر إلى الغوص في حلم يقظة عميق ، منسلخا عن العالم الخارجي ، وناسيا له تماما ، وانتهى بي أيضا إلى فقدان الإحساس بالزمان والمكان ، وكنت لأيا / ٢٨١ / واعيا بذاتي. من أين أتيت ، وأين أنا ، وأين أمضي؟ ولم أكن أعي ذلك كله إلّا بصورة ضبابية مختلطة.

كانت تتراءى أمامي وتعود إلى الترائي أحداث الرحلة التي قمت بها ومراحلها ، والأماكن ، والصروح ، والأشخاص ، كما لو أنها أضغاث أحلام. ولم أكن ألمح العودة إلّا من خلال ضباب كثيف في مكان بعيد سديمي. وإن حدث لي في الفلتات أن أفكر بأوروبا وباريس ، وبأصدقائي وأعدائي الذين تركتهم هناك ، وبالصراع المرير الذي كان علي في الماضي أن أخوضه هناك ، وبسوء الحظ المرير الذي كان يلازمني هناك ، وبالخيانات الغادرة ، وبالمصائب المتنوعة التي حلت بي ، كل هذه الأشياء ، كانت تعبر ذاكرتي كما لو أنها ذكريات مبهمة لحياة سابقة لم تنته أبدا : كان الندم والآلام ، حتى أكثر المشاعر شرعية ، كل ذلك ، قد خبا في غمرة انغماسي فيما يفوق الوصف من سكينة وسلام.

استمرت هذه السعادة البالغة ، هذا الكيف ، بالعبارة المحلية المناسبة لوصف حالة الجسد والروح التي كنت فيها حينئذ ، سبع ساعات كاملة ، وقد مرت هذه الساعات السبع كما لو أنها ثانية واحدة. لقد أعادني إلى الواقع نفير الانطلاق ، لأنه كان ينبغي في نهاية الأمر أن ننطلق ، وبينما كنت منغمسا في الملذات الهانئة لذلك المنتجع الريفي (١) ، كان يجري على بعد خطوات أمام البيت الذي نزلنا فيه مشهد / ٢٨٢ / مختلف تماما ؛ لقد كان عمل الشريف حامد يقتضي منه أن يكون في مكة المكرمة ، إلّا أنه كان يقيم ، كما سبق لي القول ، في وادي فاطمة ، وله فيه بيته وحريمه ، وكان يقضي هناك كل الوقت

__________________

(١) في الأصل Gapoue ـ اسم منتجع ريفي في إيطاليا.

٢٨١

الذي تتركه له أعماله. لقد كان بالتالي معروفا هناك ، ومحترما ، والناس كلهم يحبونه ، ولمّا ذاع نبأ وصوله إلى سولة جاء بدو الجوار زرافات ، بعضهم للسلام عليه فقط ، والآخرون لمذاكرته في شؤونهم. وجدته هناك في وسط حلقة من البدو ، يجلسون القرفصاء حوله ، وكلهم آذان صاغية. كان يوجه للجميع كلاما لطيفا ؛ إنها محكمة في الهواء الطلق ، تثير الإعجاب حقا ، وكنت على الخصوص مأخوذا باللياقة وبالهدوء اللذين كانا يسودان هذا الجمع الغفير.

نهض كل الحاضرين لدى وصولي ، وحيّوني بلطف كبير. ولمّا كنت ضيف الشريف ، فإن احترامي من احترامه ، ناهيك عن أنني ما زلت ضيف الشريف الأكبر الذي كان ، على الرغم من بعد المسافة ، يسبغ عليّ حمايته بعد أن سارت الركبان بخبر استقباله لنا. كان وجودنا يثير خيال العرب فتعددت الروايات وشاعت حول هدف رحلتنا. علمت فيما علمت ، عند عودتي إلى جدة ، أن بعض الناس حسبونا اثنين من الباشاوات أرسلهما السلطان للقبض على الشريف الأكبر ؛ كان بعض أولئك البدو (من أتباع الشريف) يرافقوننا / ٢٨٣ / في الذهاب ، وقد كان بإمكانهم إطالة الطريق لو أن الشريف حامدا أراد ذلك.

كنا نسير في واد يشبه الوادي الذي قطعناه في الصباح ، كان محاطا مثله من كلا الجانبين ببساتين ، وتغطيه في الوسط الرمال الجرداء التي تنتشر فيها بعض الجنيبات الشوكية. ولا يمكن لشيء أن يعطي فكرة عن هذا النوع من الأودية أفضل من تخيل نهر عريض يجري بين شطين تنتشر عليهما الخضرة ، ولتخيل ذلك الوادي نستبدل بالماء رملا. سيكون من التكرار الممجوج القول : إن الجبال الجانبية جرداء تماما ؛ لأنها تتشابه في هذا الجانب ، وكان في آخر الوادي جبل مميز بشكله من الجبال الأخرى كلها : فبدلا من النتوءات والقبب التي تتوج الجبال الأخرى كانت قمة جبل الحرة ، وهو اسمه ، مستوية تماما حتى إن قطعها يحتاج إلى أربعة أيام. كنا قد انطلقنا متأخرين ، وكان الليل سيدركنا قريبا ، ليل هادىء ومضاء كما هو حال كل الليالي في هذا الجو

٢٨٢

البهيج. كنا مستريحين بفضل التوقف الطويل في سولة ؛ لذلك كانت القافلة تسير بسرعة وخفة ، وكان الجميع في أحسن حال ، وخصوصا العبد مرزوق الذي كان يسلينا بحيويته وبسروره الدائمين. كان مكلفا بخدمتي حصرا ، وكان يمشي إلى جانب هجاني ، وكنت من وقت إلى آخر أردفه ورائي ، وقد بدا متأثرا كل التأثر بهذا الاهتمام / ٢٨٤ / الذي قابله بمضاعفة اهتمامه بي. ولمّا اقتربنا من الريان ؛ وهي قرية في وادي فاطمة حيث يسكن الشريف حامد ، وكان علينا النوم فيها ، سمعنا من بعيد صوتا منغما ، وأجابه صوت مماثل انبعث من وسط القافلة ؛ ثم ساد الصمت ، وبعد لحظات قليلة وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع جماعة من الناس ؛ منهم من يمشي ، ومنهم من يمتطي الهجن ؛ لقد كانوا من أسرة الشريف حامد ومن خدمه ؛ الشريف حامد الذي تقدمنا ، ولم نتأخر في الوصول جميعا معا إلى منزله.

يقع منزل الشريف في مكان قليل الجاذبية ، محروم من أي ظل ، ويرتفع على بعد خطوات منه جبل من الجرانيت ، ليس فيه أي خضرة ، تسكنه نسور من النوع الكبير. كان المنزل مؤلفا من عدد من البيوت المربعة ، المنخفضة ، وغير المنفصلة ، ويفصل بينها أفنية وجدران : كان يسكن في أحدها الخدم من الرجال ، وفي آخر ، أكبر من الأول تسكن الحريم ، وكان بيت ثالث يستخدم ديوانا ، ويجلس فيه رب البيت خلال النهار ، ويستقبل فيه الأجانب والزوار ، ويصرّف شؤونه ؛ وقد أعدوا لنا هذا البيت. نمنا فيه ، ومكثنا الصباح كله فيه ؛ وكان يتألف من غرفة واحدة في الطابق الأول ، ومن مصطبة / ٢٨٥ / فوقها.

وقد أقيم حول الغرفة ديوان للجلوس ، وكانت هناك عدة قطع من البورسلين ، والزجاجات البيضاء معروضة في طاقات محفورة في قلب الحائط. كان السجاد النفيس والعديد هو الفرش الوحيد في المنزل : لقد عددت منها ما لا يقل عن خمس عشرة سجادة ممدودا بعضها فوق الآخر. كانت تلك الغرفة الوحيدة تطل على الفناء الرملي ، والمسور بجدار من الحجر.

كان جانبا الباب مزينين من الخارج بسلسلة من الدوارق الجميلة جدا ، الموضوعة على دعامات صغيرة من الخشب المطلي بألوان زاهية. وجرت

٢٨٣

العادة أن تعطر تلك الدوارق قبل ملئها بالماء ، وليس ذلك مناسبا ، لأنها تجعل للماء طعما غريبا لا يستسيغه الذوق.

واعتمادا على ما قلته وأعدت القول فيه ، عن لطف الشريف حامد فإنه يمكن أن نتخيل الطريقة التي استقبلنا بها في بيته. إن أولى فروض الضيافة لدى العربي ، هي أن يجعل ضيوفه يأكلون كثيرا ، وينبغي على الضيوف مجاملته ، والأكل من كل أصناف الطعام التي يقدمها لهم ، ولو كان عليهم أن يرتكبوا عشر مرات في اليوم خطيئة الشره وقد أفرط الشريف في الالتزام بتلك العادة. كان الخروف المحشو بالرز واللوز الذي قدموه لنا في العشاء هائلا ؛ ولم يكن خروفا الفطور والغداء بأقل من ذلك ، ناهيك عن عدد كبير من الأكلات المحلية ، والحلويات ، والمربيات ، ومسك ختام كل ذلك كمية ضخمة من الأرز واللحم والتوابل (البيلاف). / ٢٨٦ / كيف السبيل إلى الأكل بشهية في مثل هذه المأدبة؟ قدموا لنا الطعام على الطريقة المعتادة في هذا البلد ، أعني على الأرض ، وإلّا فعلى طاولة مستديرة ترتفع عن الأرض مقدار ست أصابع ، ويغطيها طبق من النحاس يسمّى : صينية ، يتحلّق المدعوون حولها ، ولم أجد ذلك مريحا ، وأقل منه راحة أيضا أن تجد نفسك مجبرا على الأكل باستخدام أصابعك دون صحون ولا فراش. وكان الإبريق يؤدي مهمته بانتظام ، لأن كل واحد من الحاضرين يغسل يديه بعناية قبل الطعام وبعده.

أجبرت مستضيفنا على أن يأكل معنا على الرغم من أنه كان يمتنع عن ذلك باعتباره ربّ المنزل ، كان لأتباعه وعبيده وخدمه مظهر حسن ، كانت تبدو عليهم جميعا علامات النظافة ، يلبسون ثيابا جميلة جدا ، وكان بعضهم ينتطق ، وهو يقوم بعمله ، الخناجر. كانوا يقومون بخدمتنا بلطف نادر ، مقتدين في ذلك بسيدهم.

كان صباح اليوم التالي قائظا ، قضيته في راحة تامة. كنت قريبا جدا من الحريم ، وكنت أسمع بوضوح جلبة النساء ، ولكن دون أن ألمح أيا منهن. لا ينطق الشريف بكلمة واحدة عن أسرته ، والعرب لا يتحدثون أبدا عن حياتهم الأسرية ، وإنه لمن غير المناسب أبدا أن تتحدث معهم عن ذلك. إلّا أنني في

٢٨٤

مقابل ذلك تعرفت على عدد من أشراف المنطقة جاؤوا لزيارتنا. كان بعضهم ما يزال يافعا ، وبعضهم الآخر / ٢٨٧ / في سن متقدمة. كان لأحد هؤلاء المتقدمين في السن لحية بيضاء موقرة كل الوقار ، وإذا حكمنا بما لقيه من الاحترام ، فقد كان من ذوي الاعتبار ، إلّا أنني لم أستفد منه ، ولا من أضرابه أي فائدة. إن العرب متحفّظون كل التحفظ مع الأجانب ، بل هم كذلك بينهم أيضا ، ونتج عن ذلك أن حديثنا لم يكد يخرج من إطار المجاملات والعموميات. أتعرفون ما الذي يدهشهم عندنا؟ إنها أقلامنا التي تكتب بلا مداد ، وكبريتنا الكيمائي الذي يشتعل بلا نار.

لقد ألح مستضيفنا الكريم إلحاحا كبيرا ليجعلنا نبقى في ضيافته إلى اليوم التالي على الأقل ؛ ولكن لطفه كان يقتضي الفطنة منا ، وألححت لكي ننطلق في اليوم نفسه. وانطلقنا بالفعل في الثانية ظهرا ، في أكثر أوقات النهار قيظا. لم يستطع الشريف حامد أن ينطلق في الوقت نفسه بسبب بعض الزيارات ، وبعض الظروف القاهرة ، واستقر الأمر على أن يلحق بنا في المغرب.

وما كدنا نخرج من المنزل حتى سلكنا مضيقا منحدرا وعرا ، يضيق شيئا فشيئا بين جبلين عموديين ، وهناك أرصفة صخرية ضخمة على وجه الأرض تجعل الممر شاقا وزلقا. ولجنا في آخر النهار سهلا واسعا ، سيّىء السمعة ، مما جعل أحمد حمودي الذي كان يقود القافلة في غياب الشريف ، ويظل خلفها ، يلتحق بنا / ٢٨٨ / عند ما اقتربنا من قرية : أبو شعيب التي يشاع أن سكانها لصوص مهرة ؛ إنها مثل الزيمة تتألف من عدد من البيوت المتفرقة التي يشرف عليها حصن صغير متهدم ، وهناك على جانب الطريق بئر مطوية ، كانت بعض النساء يمتحن الماء منها ؛ لأنهن في الصحراء المسؤولات عن هذا العمل ، ونرى في الكتاب المقدس (العهد القديم) أن الأمر كان كذلك في عهد آباء الجنس البشري ؛ فعلى البئر قابل يعقوب راحيل (١) Rachel ، وموسى

__________________

(١) ابنة لابان Laban الصغرى في الكتاب المقدس (العهد القديم) ، أحبها يعقوب ، وكانت إحدى زوجاته وأنجب منها يوسف وبنيامين ... وماتت راحيل في طريق ـ

٢٨٥

صفورة ، لم نر أحدا آخر في هذا المكان المشبوه ، ولم أر رجلا واحدا ، لا في القرية ولا في نواحيها. وتأتي بعد هذه القرية ، قرية أخرى اسمها بوجاري Bougari ، سيئة السمعة كسابقتها ، وهناك أدركنا الشريف حامد يسوق هجانه مسرعا. واستمر بنا السير إلى وقت متأخر في وسط الظلمة التي كان الهلال يخفف منها بضوئه السحري ، وقضينا الليلة في مقهى حدّة. كنا بذلك قد وصلنا إلى النقطة التي يلتقي بها طريقا الطائف بعد التفاف طويل لكي نتجنب الاقتراب من مكة المكرمة أو رؤيتها حسب التعاليم الإسلامية.

أغمضت عيني بعض الوقت لأننا كنا محاصرين بالجرذان وغيرها من زوار الليل التي لم تكن أقل إزعاجا منها ، لأنها كانت تختبىء في حصر المقهى ، وكنت أسمع طوال الليل أصوات مرور القوافل التي يعلق بعضها أجراسا بأعناق رواحلها ، وهي عادة وجدتها بعد ذلك / ٢٨٩ / في سمرن (١) Smyrne ، في موسم جني العنب. كانت هذه الطريق هي طريق جدة إلى مكة المكرمة ، وكانت القوافل كلها تتوقف ، ولو لحظة في حدة ، وقد كان فيها عند ما طلع النهار عدد كبير من المسافرين ، وكان بينهم مفرزة من جنود المدفعية الأتراك ، وقد كان السيد دوكيه يعرف قائدهم : قدّمت له قهوة الصباح ، وعلمت منه أنه يتوجه إلى مكة المكرمة ليأخذ أحد المدافع الحربية ويتوجه بها إلى الشريف الأكبر ، وكان هذا الأخير قد طلبه من الباشا لاستخدامه في تأديب إحدى القبائل المتمردة.

ولمّا كان الشريف الأكبر لا يملك لا مدفعية ، ولا فرسانا ، ولا جنودا منظمين فإنه كان مجبرا ، على غير رغبته كما نظن ، أن يطلب ذلك من السلطة العثمانية كلما كان بحاجة إليه لإخضاع القبائل التي يحكمها أو من المفترض أنه يحكمها ، والتي تتمرد عليه. وينتج عن ذلك أنه لا يلجأ إلى القوة إلّا عند الحاجة الشديدة ، وبعد أن يستنفد كل وسائل الصلح.

__________________

ـ إفراتةEprath «بيت لحم» بعد أن وضعت مولودها الثاني بنيامين فنصب يعقوب عمودا على قبرها وهو عمود راحيل إلى اليوم (سفر التكوين الإصحاح ٣٥ : ٢٠).

انظر : معجم ديانات وأساطير العالم ، موثق سابقا ، ٣ / ١٧١.

(١) مدينة في تركية.

٢٨٦

كنت في أرض أعرفها ، ولم يحدث في اليوم التالي ما يهمني. لقد رأيت من جديد خلال مرورنا خيام الباشي بوزوق ، وقد وجدنا أنفسنا بعد مسافة قصيرة وسط زمرة منهم كانت تعود إلى معسكرها. وكان الشريف حامد لا يود لقاءهم ، ولكن تجنبهم كان مستحيلا / ٢٩٠ / ولم يكن في اللقاء على أية حال ما أزعجنا : فقد كانت علائم الذل تبدو عليهم ، وهم عادة متغطرسون ، وبدوا مؤدبين ولو قليلا. ويبدو أن سبب ذلك ما أخبرونا به من أن سنجقهم (قائدهم) كرد عثمان أغا قد عزل ؛ إذ كانت عداوته للعرب عموما وللشريف الأكبر خصوصا معروفة ، وكان عزله بالنسبة إليهم نصرا حاسما. كان الخبر صحيحا بدليل أننا قابلنا في مقهى البياضة ، وهو المكان الذي أصبت فيه بالحمى في بداية الرحلة ، بديل عثمان ، وكان يذهب لاستلام منصبه على صوت الطبلة التي يستخدمها الجنود غير النظاميين في مسيرتهم ، وكانت حاشية ضخمة وباهرة ترافق القائد الجديد. ولمحنا عند الظهيرة البحر في الأفق. كان الجو قائظا مع أن الهواء كان عاصفا ؛ ولم يكن ليحمل أية برودة ، بل كان يلفح وجوهنا بلظى النار ، ويثير حولنا سحابات من الرمال. ومع أننا كنا قريبين كل القرب من المدينة فإننا توقفنا طويلا في الرغامة حيث ودعنا قبل اثني عشر يوما أصدقاءنا في جدة. والرغامة مكان كئيب كل الكآبة ، وقبيح كل القبح ، ولكن المصادفة جعلتنا نجد فيه لبنا لذيذا منعشا. وكان هناك أحد الجنود غير النظاميين ، تأخر عن زملائه ليريح حصانه ، وقد لقينا منه / ٢٩١ / ، وهو أمر غريب ، عناية فائقة.

إن عزل كرد عثمان أغا قد أذلّ أولئك الأجلاف. أدى الشريف حامد بالقرب مني بخشوع صلاة العصر ، ثالثة الصلوات ؛ ولمّا انتهى من صلاته حملنا عصا الترحال ، ودخلنا جدة قبل الرابعة عبر باب مكة المكرمة. كنت في اليوم التالي حريصا بالطبع على زيارة الشريف حامد في بيت مصطفى أفندي ، وكيل الشريف الأكبر ، وقد وافقا على دعوتي لهما لتناول العشاء ليودع بعضنا بعضا ؛ وذلك في سكني المؤقت ، ودعوت أيضا السيدين كول ودوكيه ، وصديقي خالد بيك بن سعود الذي كانت سعادتي حقيقية برؤيته من جديد.

٢٨٧

تكفل غاسبارو بإعداد الطعام ، عدا الخروف المحشو الذي لم يكن يعرف طريقة تحضيره كما ينبغي ؛ لذلك عهدنا بتحضيره إلى طباخ محلي مشهور في جدة بمهارته في ذلك ، فحضّره في بيته ، وجاء إلينا به في الوقت المحدد ، وقد أتقن تحضيره كل الإتقان. يشوى هذا الخروف الذي يعد الوجبة الرئيسية لدى الشرقيين مطمورا في فرن محفور في الأرض لهذه الغاية ، وأعترف أن اللحم المشوي بهذه الطريقة يبلغ حدا من الإتقان غير معروف في فن الطهو الغربي (١).

لقد شهد عشاؤنا اضطرابا غير عادي ؛ فقد وصل خالد بيك بن سعود ، وعلامات الأسى بادية عليه ، وقد احمرّت عيناه من الدموع. لقد أخفى سبب هذا الحزن الشديد عنّا باعتبار أن الأمر حدث أسري ، والعرب كما سبق لي القول ، لا يتحدثون أبدا عمّا يحدث لنسائهم. ولكنني علمت من / ٢٩٢ / مصدر آخر سبب الحزن الذي كان يعتريه ؛ وإليكم ما علمته.

في مرحلة من مراحل حياته التي أجهلها ، قامت إحدى النساء العربيات بإنقاذ حياته ، وذهب أخوها ضحية ما قامت به هذه المرأة ، وقد تزوجها خالد بيك بن سعود اعترافا بجميلها ، وكان يحبها ويحنو عليها. كانت حينئذ مريضة ، وكان قلقا كل القلق على حالتها ، ولمّا ألححت عليه لبّى دعوتي خوفا من أن يكدرني بغيابه. ولم أكن قاسيا كي أفرط في استغلال لطفه الشديد ، بل سارعت إلى إخباره أنه في حلّ من دعوتي ، فانتهز ذلك للعودة فورا إلى منزله ، وقد أثبت لي تسليمه علي عند المغادرة كم كان متأثرا بحسن تصرفي.

وقد تلا هذا الظرف الطارىء ظرف طارىء آخر ؛ فقد انتظرنا الشريف حامدا ومصطفى أفندي ساعتين كاملتين ، وعند ما وصلا أخيرا كان يرافقهما

__________________

(١) تعرف هذه الطريقة في الطبخ ب «المندي» ، وهو وضع برميل من حديد أو جرة كبيرة من فخار في حفرة في الأرض ، ثم يوضع بها مقدار من الحطب وتشعل فيه النار حتى يصبح جمرا ، ثم ينزل الخروف أو اللحم أيا كان على الجمر على أن يكون بينهما عازل ثم تغطى هذه الحفرة بالتراب بإحكام حتى ينضج اللحم وعادة يكون بعد ساعة ونصف من وقت دفنه ، وهي طريقة اشتهرت في حضرموت.

٢٨٨

ثمانية أشخاص غير مدعوين ، منهم أحمد حمودي ، مما أحدث بعض الاضطراب في الخدمة. وبعد هذا التأخير ، أدركنا المغرب في وسط العشاء ، وغادر مدعوونا الطاولة لمّا سمعوا نداء المؤذن لأداء الصلاة في غرفة مجاورة. إنني ، باختصار ، لم أر في حياتي عشاء أكثر تهافتا ، وأكثر / ٢٩٣ / اضطرابا. لا يمكن إتقان الأمور إلّا في بيئتها المناسبة. كانت لحظة الوداع حرجة ؛ إذ لم يحصل رئيس الجمّالة ومن رافقونا إلى جدة على بخشيشهم في الطائف ، وقد وزعنا عليهم تلرات تتناسب مع طول بقائهم معنا ، والتعب الذي اعتراهم من خدمتنا ، وأضفنا إلى بخشيش رئيسهم ثوبا أحمر طارت له نفسه فرحا ، ولبسه على الفور ، وجاب السوق لتراه المدينة كلها.

لم يكن بوسعنا نسيان الشريف حامد نفسه ، فقدمنا له تذكارا هو وشاح كشميري ، ثمنه ألفا قرش ، وقد بدا راضيا عنه كل الرضا ، ووعدنا أن يلبسه إكراما لذكرانا. وقد علمت ، بكل أسف ، أنه لم يلبسه طويلا ، لأن هذا الرجل النبيل ، الأنموذج الكامل للسيد العربي ، توفي بعد بضعة أشهر من تاريخ عودتي إلى فرنسا.

٢٨٩
٢٩٠

الفصل الثاني عشر

بعض التأملات

لقد قصصت بالتفصيل ، بلا زيادة ، ودون أية مبالغة ، كيف / ٢٩٤ / استقبلني الشريف الأكبر. لم أكن بالتأكيد أنتظر مثل ذلك الاستقبال الذي يذكّر بأجمل أيام الكرم العربي التي تحدثت عنها قصص «ألف ليلة وليلة» الرائعة. لمّا وصلنا إلى جدة كنا نحدّث أنفسنا بزيارة الطائف كما فعلنا عند ما وصلنا إلى الطور ، وزرنا جبل سيناء. لقد طلبنا ، أو رجونا أن يطلب لنا ، السماح من الأمير ـ الشريف لزيارة مكان إقامته ؛ لأننا كنا نظن أننا بذلك نقوم بإجراء شكلي لا يمكن تجاهله ، كما نفعل في أوروبا عند ما نطلب من السفراء وضع تأشيرات البلاد التي سنجوبها على جواز السفر ؛ ووضعنا في حسباننا أن استقبالنا سيكون للإجابة بأنه يسمح لنا بمجرد الزيارة ، شرط ألا نبالغ في ذلك ، وأن زيارتنا ستكون على مسؤوليتنا الخاصة ، وعلى حسابنا ، وكما يحلو لنا أن نقوم بذلك. وقد رأينا أن الأمور سارت على خلاف ما كنا نتخيل تماما.

لقد سئلت في بعض المرات ، وسألت نفسي ، عن سبب مثل ذلك الاستقبال الذي حظيت به ورفيق رحلتي ؛ لأن الأمير ـ الشريف لم يكن في واقع الأمر يعرف أحدا منا ، وإذا قبلنا فرضا أنه أراد أن يكون لطيفا مع القنصل البريطاني الذي نقل إليه رغبتنا فيعامل من أوصاه بهم القنصل معاملة جيدة ، فقد كان بإمكانه أن يحقق ذلك بأقل مما فعل.

لقد كان السيد كول (القنصل البريطاني) نفسه مندهشا من تلك الطريقة

٢٩١

الرائعة في السلوك. ومعاذ الله أن تكون غايتي من البحث عن السبب هي التقليل / ٢٩٥ / من قيمة ذلك الكرم الرفيع ، لكي أزيح عن كاهلي أعباء الاعتراف بالجميل ، ولن يكون في بحثي عن الأسباب أي نوع من أنواع إنكار الجميل.

إن العرب حذرون بطبعهم ، وخصوصا من الأوروبيين ، والعرب يرون بواعث سرية تكمن وراء تصرفات الأوروبيين كلها ، حتى لو كانت غير ذات بال. والحال أنه من الطبيعي ، في الحالة السياسية التي كانت الجزيرة العربية تعيشها آنذاك ، أن يكون وجود بريطانيّ وفرنسي يجوبان الحجاز مدعاة للشك ، وأن يظنّ أن حكومة كل منهما أرسلت مواطنها لدراسة الوضع في البلد ، واستطلاع مدى ارتباطه بالباب العالي ، وموقفه منه. وعلى الرغم من أن ذلك غير صحيح ، فإنه غير مستبعد ، ولا مبالغ فيه بسبب الظروف ، وإن شك الشريف الأكبر بذلك جعله يعاملنا تلك المعاملة ، باعتبار أنه كان لذلك الشك أساس متين. وحتى لو كان الأمر كذلك ، فإنني أكرر أن اعترافي بالجميل لا تشوبه شائبة. كان الشريف الأكبر حريصا خلال حديثه معنا على ألّا يظهر أي تحيز لصالح روسيا ، بل بدا قاسيا بأحكامه عليها ، معاديا لها ، ذا موقف هجومي ؛ مع أنه من المستحيل أن تجد عربيا ، بله الشريف الأكبر ، لا يكنّ تعاطفا خفيا لأعداء تركية. ولا ينبغي أن ننسى أنه ليس للأتراك حق في الجزيرة العربية أكثر مما للنمسا في إيطاليا على سبيل المثال ، وأكثر مما لروسيا في بولونيا ، وأن الأتراك يسيطرون على الجزيرة العربية بالقوة بعد / ٢٩٦ / أن أسقطوا حكومة الأشراف الوطنية ، وبعد أن وقع غالب والد الشريف عبد المطلب ضحية خيانتهم المشهورة ، ومات في المنفى بعد أن نفوه إلى أراض تابعة للدولة العثمانية ، وقضى ابنه عبد المطلب نفسه أربعا وعشرين سنة من عمره في ذلك المنفى ، ولمّا عاد في النهاية إلى وطنه ومنصبه الوراثي لم يكن له إلّا ظل سلطة محدودة.

إن كل ما يضعف الباب العالي لا بد له أن يلقى قبولا في نفوس العرب عموما ، وفي نفس الشريف الأكبر خصوصا ، وأن يمنحهم أملا مشروعا في

٢٩٢

التخلص من الأتراك. وعلى العكس ، إن كل ما يجعل الأتراك منيعي الجانب يحزنهم بالضرورة ، ويزيد من أمد خضوعهم لهم.

ولست أرى سببا وجيها للكيل بمكيالين ؛ بأن ننكر على العرب تطلعهم للاستقلال ، ونجد ذلك عدلا عند الإيطاليين والبولونيين ، وعند كل الشعوب الأوروبية التي تعاني من السيطرة الأجنبية. إن الأصيل يظل على الدوام أصيلا ، وينبغي ألا يجعله كونه بالطبع أقل ذكاء وقيما ممقوتا من أولئك الذين يستبد بهم ؛ وإن وصوله بنفسه إلى مرحلة التهالك يجعله يحافظ على ما اغتصبه بالمكر والفساد ومساعدة الآخرين.

تلك هي بالتحديد وبالاختصار حال الأتراك مع العرب ، كما هي حالهم أيضا مع اليونانيين والسوريين ، ومع كل الشعوب التي خضعت لهم في الماضي. لم يعد / ٢٩٧ / باستطاعتهم الدفاع عن أنفسهم ، ويقمعون الآخرين ، وإن ذلك ، مهما يمكن أن يقال : وضع خاطىء ، ومخالف للواقع ، وينبغي أن يوضع حد له ، ولا يمكن أن يستمر زمنا طويلا ؛ وإن كل المؤتمرات والبروتوكولات لن تجعل تركية تنبعث من جديد ، لقد انهارت ، وكان يمكن أن يزول اسمها منذ زمن طويل من على الخريطة لو لا أن الغرب اتفق على اقتسام تركتها. إن كل خطط الإصلاح التي نباهي بها في هذه الأيام ، والتي ليست في واقع الأمر إلّا أطماعا ، هي أوهام وأكاذيب. ويمكن أن استشهد بتلك الشخصية التركية المرموقة التي أرسلت إلى مؤتمر السلام في باريس ، والذي كان أول الساخرين من الأمر السلطاني (١) المشهور في شهر فبراير

__________________

(١) استخدم ديدييه مصطلحا تركيا جاء في الأصل Hat ـ Houmayoum ، والصواب Hatt ـ I ـ Hmayn (خطي همايون) ، وهو الاسم العام الذي يطلق على الأوامر الصادرة من السلاطين وبكتابة أيديهم أو ما حرره الكتاب وأمضاه السلطان ... وقد سمي الخط الهمايوني بالخط الشريف أيضا. انظر : المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية ، موثق سابقا ، ص ١٠١. ويبدو أن المقصود هنا هو الأمر السلطاني الذي قضى بقبول إنهاء الحرب مع روسيا والذهاب إلى مؤتمر السلام الذي عقد في باريس في مراس (آذار) ١٨٥٦ م.

٢٩٣

(شباط) الماضي ، وصرح علانية أنه لا يمكن قبوله أبدا.

إننا لا نصلح من مات ، ولكن ندفنه ؛ وإن لم يقم جيلنا بهذا الواجب فإن الجيل القادم سيقوم به. وتكمن في هذا ، المسألة الشرقية التي سبق طرحها ، والتي عالجها مونتسكيو (١) Montesquieu قبل أكثر من قرن ، وتحدث عنها مستخدما الكلمات نفسها التي نستخدمها اليوم ، واقترح لها الحلول نفسها التي نطرحها اليوم.

إن الأتراك أنفسهم ، وأعني هنا عددا قليلا منهم ؛ ممن لديهم بعد نظر ، لا يخدعون أنفسهم ، ويغمضون عيونهم عن الوضع المتهافت للإمبراطورية العثمانية ، إنهم يعرفون حق المعرفة ، المصير الذي ينتظرها في المستقبل ، ويعرفون أن تنافس القوى الأوروبية هو الذي يجعلها تحافظ على توازنها المصطنع الذي يمكن أن ينهار انهيارا لا قيام بعده ، عند أول مواجهة / ٢٩٨ / حقيقية بين تلك القوى.

لا تتخيلوا أن الأتراك يكنون لفرنسا وبريطانيا أي اعتراف بالجميل : إنهم مقتنعون أن البلدين يقفان في وجه القوة الروسية سعيا لمصالحهما الخاصة ، وليس لمصلحة تركية. إن الحماية التي تجعلهم تبعا تحطم كبرياءهم ، وإن كان ضعفهم يجبرهم على إخفاء حقدهم ، فإن هذا الحقد عميق ، وعاجز ، ومنكمش على ذاته. أما عامة الشعب التي لا تعرف شيئا ، ولا تفهم شيئا مما يحدث فإنهم يخدعونهم بحكايات سخيفة : فيجعلونهم على سبيل المثال يعتقدون أن السلطان أجبر فرنسا وبريطانيا على مساعدته ضد الروس دفاعا عن العلم التركي ، وقد سمعت بنفسي هذه الحماقة تتكرر مئة مرة في كل أنحاء تركية التي زرتها.

لنفترض أن الأتراك استطاعوا في القرن السادس عشر ، أو بعد ذلك في القرن السابع عشر ، وقبل انتصار سوبيسكي (٢) Sobieski ، أن يفتحوا أوروبا ،

__________________

(١) مونتسكيوMontesquieu (١٦٨٩ ـ ١٧٥٥ م) : كاتب وفيلسوف سياسي فرنسي ، أشهر آثاره «روح القوانين L\'Esprit des Lois» (عام ١٧٤٨ م).

(٢) Sobieski , (Jean lll) سوبيسكي ملك بولونيا (بولندا) ولد عام ١٦٢٩ م ، وتوفي قرب ـ

٢٩٤

ولو أنهم استقروا فيها كما في بيزنطة ، كيف كان يمكن أن يعاملوا آباءنا؟ لن يكونوا بالتأكيد ، ولو حصل ذلك ، ليهتموا بالتحديث ، ولا بالتسامح ، ولكانت المقابر غصت بموتى النصارى. كانت الحرب في غير صالحهم ، وانتصر العنصر الغربي ، وإن الأتراك اليوم تحت رحمة أوروبا ، كما أن أروبا كانت ستكون تحت رحمتهم لو أن الهلال انتصر على الصليب. ولا أطلب أن / ٢٩٩ / نحقد عليهم ، ولا أن ننتقم منهم ؛ لأن مثل هذه الوسائل لم تعد مناسبة لروح العصر وطباعه ، والإنسانية تنكرها. ولكنهم ، ودون أن نعمل فيهم حد السيف كما فعلوا ذلك دون رادع بأعدائهم ، وكما كانوا سيفعلون بنا لو كنا تحت رحمتهم ، لا يستحقون في آخر الأمر هذا القدر من المراعاة ورحابة الصدر ؛ ولمّا كانت تركية ، كما يتردد بحق ، ليست إلّا مخيما عسكريا في أوروبا ، فما عليها إلّا أن تطوي خيامها وتذهب لتنصبها في مكان آخر : وإن آسيا واسعة لتعوضها عن ذلك. عند ما يصبح الأقوى هو الأضعف فإنه ببساطة يخسر كل ما كان يدين به لقوته. وإن كل شعب عاجز عن الدفاع عن نفسه بنفسه ، ليس أهلا للحياة ، ومحكوم عليه بالفناء.

لم نعد اليوم نحترم هذه المقاييس العظيمة التي تحل وحدها كبريات المسائل ، والتي تجعلها الضرورة حتما لا بد منه. وكلما أجلنا الحلول كان تطبيقها أكثر صعوبة ، وفي بعض اوحيان أكثر هؤلاء ، ونجد أنفسنا بعد ذلك ، لأننا لم نوجه الضربة الحاسمة في الزمن المناسب ، مضطرين لتوجيه ألف ضربة لا تصيب في الغالب هدفها ، وتكلف أكثر بكثير. إن اليونان ، أو على الأقل قسما صغيرا من هذه القارة المجيدة ، كسرت قيودها بتشجيع متعاطف من أوروبا وبمساعدتها. وإن الإمارات الدانوبية / ٣٠٠ / ستفعل مثل ذلك

__________________

ـ فرصوفيا عام ١٦٩٦ م ، وأعظم أعماله الحربية أنه أفلح في إيقاف جيش من ٣٠٠ ألف تركي وتتري عند أسوار فينا ومعه جيش قليل وذلك في عام ١٦٨٣ م ، وكان قد تمكن في عام ١٦٦٧ م من رد هجوم جيش من الأتراك والتتار والقوقازيين عدده ١٠٠ ألف جندي.

٢٩٥

قريبا ، بانتظار أن تستعيد بلغاريا وصربيا ، وتيساليا (١) ، ومقدونيا ، وكل البلاد التي يسلبها الأتراك حريتها.

لقد جاء دور الجزيرة العربية أخيرا ؛ هي أيضا ينبغي أن تسترد شخصيتها الوطنية ، ولا يمكن بالتأكيد لأحد أن يجد سعيها إلى ذلك منكرا. إن الأمة العربية متفوقة على الأتراك في كل المجالات. فإذا أردت الحديث عنها باعتبارها أمة محاربة ، فإننا نعرف إلى أين وصلت فتوحاتها ؛ إلى آسيا ، وإفريقيا الشمالية كلها ، وصقلية وإسبانيا ، وخضع جنوب فرنسا لسلطانها في بعض الفترات. إنها تلقت ونشرت في أقاصي الأرض دينا عمره اثنا عشر قرنا ، ولن يزول حتى نهاية الزمن.

إنها أمة عالمة ومثقفة ؛ نبغت في العلوم قدر ما نبغت في الفن والحروب ، لقد كانت خلال أمد طويل أمة مبتكرة حيثما قادها حماسها الديني ، لقد كان لها مدارس تزدهر فيها دراسة الطب والعمارة والرياضيات والفلك ، وفي هذه المدارس تعلم الغرب ، وأبدعت هذه الأمة روائع أدبية ما زالت حتى اليوم متعة العقول المثقفة كلها. ماذا لدى الأتراك في موازاة ذلك؟ الجهل والوحشية.

وإن انتقلنا من الماضي إلى الحاضر فإننا نلحظ التفوق نفسه لدى العرب ، وخصوصا في الجانب الأخلاقي. إنهم يتحلّون بفضائل عظيمة ، فالشجاعة والكرم / ٣٠١ / والاستقامة تقيم معهم في خيامهم ، يحاربون بإنسانية ، وبشرف ، ويحترمون العهود والمواثيق ، وتسود بين أسرهم صفات الشرف والوئام والإخلاص ، ويجهلون العبودية والسفالة : فكل رجل ، مهما كان مقامه ، يحافظ ، وفي كل المناسبات ، على إحساسه بالأنفة ، وإن حاجاته المحدودة لا تجعل الفقر ينال من أخلاقه.

إن الصحراء صرح المساواة. وإن السيئة الوحيدة الرئيسية لدى البدو هي حبهم الكبير للمال ، أو لما يمثله ؛ ولكن عذرهم في الفقر ؛ ولماذا نأخذ عليهم

__________________

(١) مقاطعة يونانية كان يسيطر عليها الأتراك.

٢٩٦

ذلك ، وأي شعب في أوروبا كلها لا يبدي نهما للذهب يفوق بكثير ما نجده عند أولئك البدو من حب المال : والفارق الوحيد بين الحالتين هو أننا في أوروبا نختلس بمهارة ، ونغش ، ويبيع المرء ضميره وشرفه ، بينما يفرض العربي المال على القوافل ، ويغزو أعداء قبيلته من القبائل الأخرى علنا ، ويعرّض حياته للخطر ، ويقترن كل ذلك في ذهنه بمصادفات الحرب ، وأخطارها ، وقوانينها ، وتكون تلك الأفعال مطبوعة في الوقت نفسه بضرب من السمو لا تجده بالتأكيد في الاختلاس الصامت والخفي الذي يمارسه الأوروبيون.

ليس لدى الأتراك ما يقدمونه مقابل هذه المناقب والمثالب إلّا المثالب الخالصة ، ومناقب لم تعد موجودة ؛ فالشجاعة التي كانت مصدر قوة أسلافهم ونجاحهم لم تعد موجودة لديهم إلّا في الحكايات ؛ فلا يكاد أحد ينجو من شراستهم ، ولا يعادل عنفهم / ٣٠٢ / إلّا غدرهم ؛ وهم فاسدون بلا رادع : فالجشع الذي لا يشبع ، والارتشاء بلا خجل ينتشران في كل الأعمال العامة والخاصة ، من أعلى موظفي الإمبراطورية إلى أدناهم. إذا ، إن العرب يتفوقون عليهم إن في الجانب الأخلاقي ، وإن في الذكاء ، والعقلية ، والثقافة.

وليس بالغريب انطلاقا من ذلك كله أن يعاني العرب معاناة مضاعفة من تبعيتهم للأتراك ؛ لأن ذلك طغيان أجنبي ، ولأن الذين يمارسونه هم زعماء محليون. لقد حاولوا في وقت قريب التخلص من نير الأتراك ، ولكن المشروع كان ينقصه الاتحاد ففشل. جرى القتال في مكة المكرمة ، وخرّ مئة من العرب صرعى في المواجهة الأولى ، واستولى الأتراك على المدينة المقدسة ، واستعادوا الطائف التي كانت قد أعلنت استقلالها عنهم ، والله وحده يعلم ماذا فعلوا بعد نصرهم! أتعرفون من كان على رأس الحركة؟ إنه الشريف عبد المطلب الذي تعرفنا إليه في هذه الرحلة ، والذي امتدحت خصائله باستطراد ، والذي استطعت على الرغم من تحفظه ، الوصول إلى ميوله الحقيقية. ولمّا كان مقتنعا بضرورة التمرد فقد قام السلطان بنزع صلاحياته ، واستبدل به ابن عون الذي كان عبد المطلب نفسه قد حل محله قبل خمس أو ست سنوات ، وهو يقيم في إستانبول. وقد وقع عبد المطلب بعد زمن بأيدي الأتراك فحملوه

٢٩٧

إلى إستانبول / ٣٠٣ / ونفوه منذ وقت قليل إلى سالونيك Salonique كما نفي إلى هناك قبله والده غالب الذي مات هناك بالطاعون منذ أربعين سنة (١).

ولا يستطيع أحد التنبؤ بالمصير الذي ينتظر الابن على هذه الأرض الغريبة ؛ ولكن مهما كان مصيره ، وإن كان سقوطه نهائيا ، أو أن الحظ سيعيده إلى السلطة مرة أخرى ، فإنني أعدّ نفسي سعيدا إذا أتيح له أن يعلم ، وهو في منفاه ، أنني أحمل له كل الامتنان والتعاطف ، وأنني أنذر النذور لكي تستقل أمته التي هي واحدة من أشرف الأمم التي تبوأت مكانها في التاريخ ، والتي فرضت عليّ احترامها عند ما عرفتها.

__________________

(١) لم ينف عبد المطلب إلى سالونيك ، وإنما ظل في إستانبول حتى عام ١٨٨٠ م / ١٢٩٧ ه‍ عند ما عاد ليكون شريفا للمرة الثالثة ، ويموت في البياضة عام ١٨٨٦ م / ١٣٠٣ ه‍ وهو تحت الإقامة الجبرية. انظر ترجمته فيما سبق الحاشية رقم (٢٨٩).

انظر : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ٢٨٧ ؛ ويتحدث ديدييه هنا عما قام به الشريف عبد المطلب عام ١٢٧٢ ه‍ عند ما توجه من الطائف إلى مكة المكرمة على رأس عدد من القبائل لقتال الوالي التركي كامل باشا ، ولكن عبد المطلب هزم وعاد إلى الطائف ، وجرت به وبن كامل باشا والشريف عبد الله بن ناصر ثلاث معارك هزم جيش عبد المطلب فيها ، وأخرها في الثامن من شعبان ١٢٧٢ ه‍ ، وبعدها بيومين وصل إلى مكة المكرمة الشريف محمد بن عون الذي تجهز بالعساكر بعد وصوله بأيام وتوجه بهم إلى الطائف ومعه ابنه الشريف علي باشا والشريف عبد الله بن ناصر واستولوا على الطائف في رمضان ١٢٧٢ ه‍ ، وأصبح محمد بن عون شريفا. انظر : خلاصة الكلام ... ، موثق سابقا ، ص ٣١٨ ـ ٣٢٠.

٢٩٨

الفصل الثالث عشر

مغادرة جدة

عند عودتي إلى جدة ، كان عزل الحاكم أمرا مقضيا ، أو على الأقل شائعا بين الناس ؛ لكنه لم يكن قد غادر بعد موقعه الذي كان عليه البقاء فيه حتى وصول خليفته. وأدى عزله إلى عزل عثمان آغا معه ، وكان يعدّ صنيعته ، وقد كان كذلك حقيقة. وكان أحمد عزت ينأى بنفسه ، باعتباره من أكبر باشاوات الإمبراطورية العثمانية ، عن زيارة أحد ، حتى قنصلي بريطانيا وفرنسا اللذين كانا ضعيفين ، / ٣٠٤ / ويحتملان منه هذا الغرور.

لم يقم ، والحالة هذه ، بردّ الزيارة التي خصصته بها عند وصولي إلى جدة ، ولم أتلق منه إبّان إقامتي كلها في تلك المدينة أي آيات المجاملة ، ولعله كان بذلك يود إفهامي أن أكتفي بما كان ، وأن أذهب ، وألا أعود إليه. إلّا أنه ، لمّا كان حريصا على إظهار تهذيبه ، مع الاحتفاظ بخيلائه ، فإنه أرسل إليّ في اليوم الذي تلا يوم عودتي إلى جدة أحد أقربائه ليهنئني باسمه لنجاح رحلتي. وقد غيّرت هذه المجاملة انطباعي الأول ، وخصوصا أنني رأيت أنه من مبادىء الذوق السليم ألّا أعتب على موظف معزول. فقمت برفقة السيد دوكيه بزيارة استئذان مرت كالزيارة الأولى ، بفارق طفيف هو أن الباشا بدا أكثر عجلة ، وأكثر إقناعا ، وأثقلني باعتراضاته التي لم أعرها كبير اهتمام. لم يكن ينبغي أن أذكر كلمة واحدة عن رحلتي إلى الطائف ، ولا أن يصدر عني أي تلميح للشريف الأكبر. وإن مثل ذلك الصمت يدل كل الدلالة على الحقد الشديد الذي يكنه للأمير الشريف.

٢٩٩

ولمّا لم يعد لدي ما أفعله في جدة فلم أكن أفكر إلّا في مغادرتها في أسرع وقت ممكن ، لكي أعود إلى القاهرة ، ولكن ، عبر أي طريق؟ ترددت بعض الوقت ، لأن الاختيار لم يكن سهلا. وينبغي أن أقول في هذه المناسبة إن الشريف الأكبر في الطائف عرض علي أمرا مغريا : لقد عرض علي / ٣٠٥ / ، وإن بتلميح دون تصريح ، وبوساطة أحد أعوانه ، أن يرسلني إلى البصرة وبغداد عبر نجد إذا كانت رحلتي تمضي في هذا الاتجاه. وقد كان للأسف يعرض عليّ السير في الاتجاه المعاكس : كنت أود المرور مرة أخرى عبر مصر ، ولم أفكر بالذهاب إلى المدينتين المذكورتين ، وعلى الأقل بغداد ، إلّا في وقت متأخر عبر دمشق وحلب وصحراء الرافدين الواسعة ، لأصل بعد ذلك إستانبول عبر طربزون (١) Trbizonde.

تماسكت إذا أمام الإغراء المذكور ، وبقيت على مخططي السابق. وقد أصابني في الصيف الماضي زحار شديد لم يسمح إلّا بإنجاز مرحلة صغيرة من تلك الرحلة ، وقد منعني فقدان بصري إلى الأبد من القيام بالرحلة كاملة.

كان بوسعي العودة من جدة إلى القاهرة كما أتيت ؛ وقد كان أمين بيك يستعد في تلك الفترة بالتحديد لإرسال سفينة شراعية مصرية إلى القصير ، وكنت أستطيع من هناك خلال بضعة أيام أن أذهب لركوب النيل في قنا. وقد تفضل بوضع السفينة تحت تصرفي ؛ ولكن هذه الوسيلة التي تبدو في الظاهر سهلة كانت تبدو لي مستحيلة التنفيذ عند ما فكرت فيها. لقد كان علي في البداية أن أسلك مرة أخرى طريق العودة من جدة إلى ينبع ، بل أبعد من ذلك ، لأن السفن تسير بحذاء الشاطىء أطول وقت ممكن ، قبل أن تمخر عباب البحر لتدرك الجانب المصري. إن الرحلة التي لم تستغرق في القدوم / ٣٠٦ / إلّا عددا قليلا من الأيام ، بفضل الرياح الموسمية الشمالية التي تكاد تهب على الدوام على البحر الأحمر ، تحتاج في العودة خمسة أو ستة أضعاف ذلك الوقت ، وغالبا أكثر من ذلك ، وتراجعت أمام عبور يحتمل أن يستغرق ثلاثين

__________________

(١) مدينة تركية في القسم الأسيوي (الأناضول) على البحر الأسود.

٣٠٠