رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

شارل ديدييه

رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٦

الفصل السابع

لوحة نابضة بالحياة

المكان للمكين ، لذلك أبدأ بالحاكم. كان الباب العالي العثماني يرسل فيما مضى إلى المدينتين المقدستين ، وجدة باشا يحمل ثلاثة ذيول (١) احتراما

__________________

(١) يستخدم الذيل أو الطوخ للدلالة على الرتبة عند العثمانيين ، والطوخ علامة على الخانية ، وكان عبارة عن عمود يعلق به ذيل ثور ، وقد استبدل الترك ذيل الحصان بذيل الثور. والطوخ أو الذيل عند العثمانيين مزراق رأسه كرة مذهبة ، وقد علق تحت الكرة خصلة من ذيل حصان مصبوغة باللون الأحمر. وكان لرجالات الدولة العثمانية أطواخ أو ذيول بحسب منازلهم ، فللسلطان سبعة أطواخ أو ستة ، وللوزير الأعظم خمسة أطواخ (ذيول) أو ثلاثة ، وللوزير ثلاثة أطواخ (ذيول) ، وللوالي طوخان (ذيلان). ولم يكن يترتب على العزل من المناصب سحب الذيول (الأطواخ) إلا إذا كان العزل بجرم ، وكانت الأطواخ السلطانية وأطواخ رجالات الدولة تسبق الجيش عند الغزو. انظر : أحمد السعيد سليمان : تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل. القاهرة ، دار المعارف ، د. ت. ص ١٤٦ ـ ١٤٨. (عن حاشية ترجمة رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٥١ ، الحاشية (٢)). ويشير ديدييه بعد بوركهارت إلى أن والي جدة كان يحمل ثلاثة ذيول تعني أنه كان لا يقل عن رتبة وزير ، مما يدل على أهمية جدة بالنسبة إلى الدولة العثمانية ، انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٥١. وذكر في معجم المصطلحات ... ، موثق سابقا ، ص ٣١٠ ، أن كلمة «طوخ» كلمة صينية دخلت التركية بمعنى راية من نوع خاص ... ووردت في بعض المراجع بلفظ : توخ ، أو طوغ. وذكر د. صابان ، ـ

١٦١

لقدسية المدن الثلاث. ومع أن هذا الامتياز الذي أسف عليه هواة الأصالة قد ألغي ، فإن ولاية مهد الإسلام ، ظلت أولى ولايات الإمبراطورية العثمانية ، والموظف الكبير الذي يولّى عليها لا يتقدمه إلا رئيس الوزراء ، ويتقاضى سنويا مليونا ومئتي قرش ، يضاعفها مرتين أو ثلاثا عادة ، إن لم يزدها عشرة أضعاف بالطرق المألوفة في تركية وغيرها. ويبدو من الطبيعي أن يقيم في مكة ، ولكنه لا يقوم إلا بزيارات نادرة إلى عاصمة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزياراته للمدينة المنورة أكثر ندرة ، ويقيم في جدة طول الوقت ؛ بسبب أن هذه المدينة هي مقر الجمارك التركية ؛ وهي المورد الرئيسي ، ويكاد يكون الوحيد ، لموارد الحجاز العامة ؛ وإننا لا نستطيع ، حسب مبدأ الخوري تيري (١) Terray ، أن نأخذ إلا حيثما نجد ما يؤخذ ، ومن جمارك جدة غرف الباشا / ١٤٨ / ما شاء الله له أن يغرف (٢). هنا يوجد الكنز في نظر التركي ، وهنا يوجد قلبه وشخصه أيضا.

__________________

ـ في المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية ، موثق سابقا ، ص ١٤٩ : أنها طوغ Tug ? : وهي ذؤابة من وبر الخيول ، تعلق على العمامة التي يلبسها أركان الدولة ، وهي علامة مميزة لهم حسب مكانتهم.

(١) Terray (L\'abbe ? Joseph ـ Marie) ـ الخوري تيري : مراقب مالي عام ، ولد في بوين Boe ? n في منطقة (اللوارLoire) في فرنسا عام ١٧١٥ م ، وتوفي في باريس ١٧٧٨ م. قام بعدد من الأعمال التي قيدت الأعمال التجارية وفرضت عليها ضرائب وقيودا ضخمة بعد أن استطاع على الرغم من أعماله السيئة أن يصبح مفتشا ماليا عاما في عام ١٧٦٩ م.

(٢) يقول بوركهارت في رحلاته ، موثق سابقا ، ص ٥١ ـ ٥٢ : «ويحكم جدة باشا يحمل ثلاثة ذيول (أو أطواخ) وله الأقدمية على معظم الآخرين بحكم ارتباط جدة بالمدينتين المقدستين ، إلّا أن منصب ولاية جدة يعد تشريفا قلّ أن يأبه به نبلاء الأتراك ، إذ إنهم دائما يعتبرون جدة مكانا للنفي أكثر منها مكان ترقية إلى منصب رفيع ، وكثيرا ما يعيّن في ولاية جدة رجل دولة مغضوب عليه. ووالي جدة يلقّب نفسه والي جدة وسواكن والحبش وليس والي جدة فحسب ، وتأييدا لهذا اللقب فإنه يقيم مكاتب للجمرك في كل من سواكن ومصوع اللتين كانتا قبل حكم محمد علي تابعتين كلية لشريف مكة». انظر تعليق المترجمين في الحاشية (١) من ص ٥٢ على المقصود بالحبش.

١٦٢

زرت الباشا منذ اليوم التالي لوصولي ، ولكن ليس قبل أن أرسل من يخبره بذلك ، بضع ساعات قبل موعد الزيارة ، كما هي العادة بين ذوي الاعتبار. كان الاستقبال في غاية اللياقة : إذ كان على الباب لجنة عسكرية لاستقبالنا ، وكان العبيد والخدم ينتشرون على الدرج وفي المدخل ، وكان هناك الشيشة والقهوة والشراب والشاي والحلويات ، وكان كل ذلك يطلب بصوت عال ، وتلك هي غاية اللياقة في الشرق ، حتى يستطيع الجميع أن يسمعوا التشريفات التي تقدّم للزائر ، ولم يكن ينقص الحفلة شيء. لقد خرج الباشا نفسه للقائي لدى باب المجلس ، وقادني إلى غرفة مستقلة تطلّ على البحر ، مليئة بالسجاد والدواوين ، والوسائد ، وبكلمة واحدة مليئة بكل وسائل الراحة المتوفرة في البلد.

أما قنصل فرنسا الذي كان طريح الفراش ، وأقعده المرض الشديد عن مرافقتي ، فقد طلب رسميا من السيد دوكيه M.Dequie ? المترجم ، وموثق العقود في القنصلية أن يمثله ، وقد تفضل السيد دوكيه بالقيام بدور المترجم ، وقد قام بذلك بذكاء وتفان. كان اسم الحاكم أحمد عزت باشا (١) ، وهو رجل حيوي ، جيد الثقافة ، وهذا نادر لدى الأتراك ، بل إنه شاعر ، يستعرض معارفه

__________________

(١) ذكر دحلان في كتابه : خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام ، ط ١ ، المطبعة الخيرية ، القاهرة ، ١٣٠٥ ه‍ ، ص ٣١٦ ، أنه كان أميرا للحج الشامي في عام ١٢٦٨ ه‍ ، وصديقا للشريف عبد المطلب ، وأعانه ضد والي جدة آقه باشا ، وأن الشريف عبد المطلب أرسل للصدر الأعظم رشيد باشا يطلب عزل آقة باشا ، وتوجيه ولاية جدة لأحمد عزت باشا الأرزنجاني فأجيب إلى ذلك في سنة ١٢٦٩ ه‍ ، وهو الذي بنى البيت الذي بالزاهر بالقرب من شهداء فخ في مدة ولايته هذه ، ثم حصلت منافرة بينه وبين الشريف عبد المطلب بعد وصوله إلى جدة بأيام قلائل. وعزل أحمد عزت باشا سنة ١٢٧٠ ه‍ في شهر رجب. وتولى مكانه كامل باشا. ولد عام ١٢١٣ ه‍ في أرزنجان ، وتوفي في ١٤ شوال ١٣١٠ ه‍. كان كاتبا وشاعرا وأديبا ، اهتم في كتاباته بالموضوعات العسكرية. انظر : محمد تويا ، سجل عثماني ، ج ٣ ، ص ٤٦٥ ، ١٣١١ ه‍.

١٦٣

بكل طيبة خاطر. بدأ الحديث بالطبع عن الحرب (١) التي كانت حينئذ قد بدأت ، وقد أمر بإحضار / ١٤٩ / خرائط جغرافية تركية ليتتبع عليها التوضيحات التي كان يطلبها مني.

وجعلته أنا بدوري يتحدث عن الموضوعات التي تهمني أكثر من غيرها ، عن البلد الذي يحكمه ، وقد استقيت منه المعلومات التي ذكرتها سابقا عن مدينة النبي صالح المهدمة. لقد زودني بمعلومات أخرى هي في نظري موضع شك : فهو ، على سبيل المثال ، رفع عدد سكان مكة المكرمة إلى ١٠٠ ألف نسمة ، مع أن عدد سكانها لا يبلغ نصف هذا العدد ، وقال : إن عدد سكان مكة المكرمة الذين تساعدهم إستانبول يبلغ ٢٠ ألفا. وعلمت منه أن إحدى أرامل ملك لاهور رونجيت ـ سينغ (٢) Runjet ـ Singh جاورت بعد موت زوجها في مكة المكرمة ، وهي تعيش من المساعدة التي تقدمها لها شركة الهند الشرقية ، وهي تمارس في عزلتها كل الفضائل التي أمر بها الإسلام.

وأود هنا أن أروي طرفة حدثت في جدة الصيف الماضي ، وهي تكشف بوضوح فساد الطبائع لدى السيدات في الشرق ؛ ولكن رواية تلك الطرفة

__________________

(١) بين روسيا والإمبراطورية العثمانية ، وقد جرت هذه الحرب بين (١٨٥٣ ـ ١٨٥٦ م) في فترة حكم الإمبراطور نقولاNicolas (١٨٢٥ ـ ١٨٥٥) ، والتي انتصر فيها ، وكاد ينجح في إسقاط الإمبراطورية العثمانية لو لا تدخل فرنسا وبريطانيا للحفاظ عليها (حرب القرم Crime ١٨٥٤ ـ ١٨٥٥ م) ، فانهزم نقولا في معركة سيباستوبول Sbastopol ، واضطر حسب معاهدة باريس ؛ ١٨٥٦ م) أن يتلخى عن بعض الأراضي التي احتلها ، وعن الوجود الروسي البحري في البحر الأسود. واشتركت مصر في هذه الحرب إلى جوار الدولة العثمانية ، وقد أشار بيرتون في رحلته إلى حماسة المصريين ورغبتهم بالجهاد ضد الروس. انظر : رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ١٧.

(٢) ولد عام ١٧٨٠ وتوفي عام ١٨٣٩ م ، حاكم هندي (مهراجا) كان يعرف ب «أسد البنجاب» ، حصل على ولاية لاهور منحة من زمان شاه ملك أفغانستان بعد أن استولى عليها وعمره ٢٠ سنة بقوة السلاح.

١٦٤

تحتاج إلى اتخاذ الحيطة والحذر في الحديث ، وليس بالسهل روايتها. وسأحاول أن أفعل ذلك بطريقة لائقة ، إلّا أنها مفهومة ، وإن اللبيب من الإشارة يفهم!

لقد فقد الحج كثيرا من ألقه ؛ فالفقراء والمساكين يؤدون هذا الواجب الديني بأعداد كبيرة ؛ وهم إمّا ممن فترت عواطفهم ، وإما من الشباب ، وإما من المقترين ، أما الأغنياء فإنهم عزفوا عن أداء الحج ؛ فلم نعد نرى سلاطين الماضي العظماء يأتون من كل بقاع العالم الإسلامي / ١٥٠ / ليظهروا بهذه المناسبة الاحتفالية كرمهم ، وليكون حجهم مادة لذكريات رائعة يمكن إدراجها في عداد الحكايات الخيالية في ألف ليلة وليلة. مع ذلك فإن الحج الأخير شهد قدوم سيدة جليلة من أعماق بلاد فارس ، كانت على ما أظن أرملة ، وهي ، وإن كانت لم تظهر من آيات البذخ ما يظهره القادمون من بلاد فارس أو من إستانبول أو من بقية بلدان الشرق الإسلامي ، كانت تسافر ، وبرفقتها حاشية لا يستهان بها. لقد كان معها خصي أسود مقصور على خدمتها ، وكان يقوم لديها بوظيفة أمين الصندوق والقيّم. لقد قدمت الحاجة الشهيرة من مصر ، وزودها القنصل البريطاني العام برسالة توصية إلى السيد كول ، لست أدري بأي قصد ، وقد أكد لي السيد كول كل تفاصيل المغامرة الغريبة. عند ما وصلت إلى جدة انقض رجال الجمارك على أمتعتها كما لو أنهم ينقضون على فريسة ، وبضراوة شرسة تتميز بها مصلحة الضرائب في كل البلاد ، اطلع رجال الجمارك على كل شيء عدا صندوق امتنع الخصي بإصرار عن فتحه بأمر صريح من سيدته ، ودارت بشأنه محادثات طويلة ، وكلما كان الإصرار على عدم فتحه عنيدا ، ازداد إلحاح الجمارك على ضرورة ذلك ، وزادت شكوكهم بسبب ما يرونه من مقاومة. ولما اغتاظت السيدة صرحت في آخر الأمر للجمارك ؛ أنهم إذا أصروا على فتح هذا الصندوق الذي دار حوله نقاش كثير فإنها / ١٥١ / لن تسحبه أبدا ، وستنكر ملكيتها له. ولم يكن لاعتراضاتها أية فاعلية ، وفتح الصندوق على الرغم من كل معارضتها الشرسة. ما الذي كان في ذلك الصندوق العجيب؟ إن كان فضولكم يدفعكم إلى معرفة ذلك

١٦٥

فيمكنكم أن تسألوا مؤلف رواية الساتيريكون (١) Satyricon ، وباستطاعتكم أن تسألوا أيضا جمارك بيربينيان (٢) Perpignan الذين شهدوا منذ عهد قريب حصول مغامرة مشابهة لسيدة جليلة من نساء عصرنا.

إن أول الشخصيات الرسمية التي عرفتها بعد الباشا ، ولكن على سبيل الفضول ، كان كرد عثمان أغا (٣) ، كذا يسمونه في بلاده وفي عمله ، ولد في كردستان ، وكان سنجقا (٤) أو قائدا للخيالة غير النظاميين الذين يبلغ عددهم بين ألف أو ألف ومئتي رجل ، ويعسكرون على بعد عدة فراسخ على طريق مكة المكرمة ، وهم مستعدون على الدوام للتمرد ، إن لم يتقاضوا مستحقاتهم المالية. لقد حصل من قبل في معسكرهم اضطرابات خطيرة ، ويتوقع أن يحدث تمرد عام إن لم تصل النقود بسرعة من استانبول.

__________________

(١) Satiricon ,Sstyricon ـ الساتيريكون ـ الساخر ـ السخرية ، وهي ضرب من الرواية الساخرة تنسب إلى بيترون Ptrone ، لم يبق منها إلّا قطع يختلط فيها النثر والشعر ، وهي أكثر الأعمال الرومانية (روما) إباحية. وتجري أحداثها في مرسيليا وفي جنوب إيطاليا ، وموضوعها مغامرات أحد الشباب الإباحيين الذي لا يملك شيئا اسمه أنكولب Encolope. والمؤلف هو بيترونيوس الحكم (Petronius Arbiter) كاتب وشاعر لاتيني من القرن الميلادي الأول (٢٠؟ ـ ٦٦ م). ويقال : إنه كان من أتباع مبدأ اللذة المرهفين في بلاط نيرون Nron. انظر : Laont ـ Bompiani, Dictionnaire Des Vres, Paris, ٢٦٩١. pp. ١٦٣ ـ ٢٦٣. ويبدو أن ما في الصندوق كان له علاقة بأمور إباحية.

(٢) منطقة فرنسية في جبال البرينيه الشرقية ، تبعد ٦٩٠ كم عن باريس و ١١ كم عن البحر المتوسط.

(٣) ذكر دحلان في خلاصة الكلام ... ، موثق سابقا ، ص ٣١٣ ، أنه كبير العساكر الخيالة في أيام الشريف محمد بن عون خلال فترة شرافته الأولى ؛ وانظر : رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٢١٠.

(٤) سنجق يعني باللغة التركية العلم ، ويطلق اتساعا على القائد نفسه (المؤلف). انظر أيضا : معجم المصطلحات ... ، موثق سابقا ، ص ٢٥٩. وفيه أنه في بعض المصادر : صنجق ، لفظ تركي ـ فارسي معناه : علم أو راية.

١٦٦

إن خيالة الشرق هؤلاء الذين يسمّون باشي بوزوق ، وهذا يعني بالتركية : ميليشيا ، هم داهية تحل في البلد الذي يرسلهم الباب العالي في حملة إليه : إنهم يأخذون كل شيء من الأسواق دون أن يدفعوا ثمنه ، ويعاملون التجار الذين يطالبون بحقوقهم معاملة سيئة ، إن حياة / ١٥٢ / الإنسان لا تساوي في نظرهم حياة كلب ، وهي أقل بكثير من حياة خيولهم. وإذا قابل أحد هؤلاء اللصوص امرأة غير منقبة ، فإنه يشهر مسدسه ويصوبه نحوها ، ثم يطلق ببرودة أعصاب النار على رأسها على مرأى من كل الناس ؛ ثم يقوم بعد فعلته ، وبهدوء ، بإرجاع سلاحه إلى حزامه ، ويتابع طريقه ، وهو يبرم شواربه ، دون أن يفكر أحد بالوقوف في طريقه ، أو بالنظر إليه نظرة احتقار. ولنتخيل مصير الشعب الذي تجعله الحرب تحت رحمة جنود غير منظمين ، ليس لهم دين ولا خلق كهؤلاء الجنود الذين هم سرّ قائدهم. كان كرد عثمان أغا هو الرئيس اللائق لهذه المليشيا التي أطلق لها العنان ، كان طوله ستة أقدام ، مفتول العضلات مثل هرقل ، وتظن حين تراه أنه عملاق يقسم الجبال إلى شطرين ، ولكن هذا العملاق كان يعد من الجبناء ؛ فهو إبّان الأحداث القريبة العهد التي كان معسكره مسرحا لها لم يفعل شيئا لإعادة فرض النظام ، وتلوح الآن في الأفق اضطرابات أكثر خطرا أيضا ، وهو لا يستعد للوقوف في وجه العاصفة ، وإنما يستعد للهرب إلى مصر ، وقد أرسل إليها منذ زمن عائلته وأمواله. لقد سطا خلال نهب إحدى المدن التي لا أذكر اسمها ، ولم يكن حينئذ إلا مجرد جندي ، على مجوهرات باعها ب ٢٠ ألف قرش ؛ واشترى بهذا المبلغ جيادا ، وكان ذلك بداية ثروته. وكانت مستحقاته حينئذ لا تزيد عن ٧٥٠٠ قرش في الشهر ، ولكنه كان يملك / ١٥٣ / الموهبة الكافية لرفعها إلى ٢٠ ألف ، وبفضل كفاءته المالية التي تعوض عجزه العسكري ، كوّن لنفسه ، بوسائل مشروعة تقريبا ، ومع أنه ما زال شابا ، رأسمال يقدر بمئتي ألف تلري ، أي مليون فرنك. إنه متحدث بارع ، ويزعم أنه يعرف تمام المعرفة بلده الأصلي. ويقدر أن عدد الفرسان الأتراك المنتشرين في كردستان يبلغ ١٧٠ ألف فارس ، وكان يذكر بفخر أنه يعرف مواضع سبعة مناجم ذهب في جبالها ، ولم تكن

١٦٧

حماسته بأقل في الحديث عن نبع يتمتع بخصوصية تكمن في أنه يساعد على هضم الطعام فورا ؛ لأن الأتراك حريصون كل الحرص على صحتهم. ويدّعي أيضا أن معرفته بالجزيرة العربية لا تقل عن معرفته ببلاده ، ومع ذلك فإنني لم أستفد منه شيئا ذا بال. استهل حديثه بمقالة فيها الكثير من الهذر والاضطراب عن طرقات الصحراء العربية وأقسامها ، ولم يفهم مترجمي ، ولم أفهم أنا من ذلك شيئا أبدا.

وإليكم بعض المعلومات التي أخذتها عنه ، أظنها أكثر دقة ، مع أنه من المرجح أن هناك شكا في صحتها وأصالتها. يوجد في مكان يبعد مسيرة ثمانية أو عشرة أيام عن جدة ، باتجاه الشرق مكان ، يسمى الدفينة ، فيه حجر عريض قديم مغطى بأشكال محفورة ، وهو مجهول الأصل. وعلى مسيرة عدة أيام في الاتجاه نفسه ، ترتفع جبال دائرية ومنعزلة تماما ، اسمها جبال مرّان ، وتنبع من سفوحها ٧٥ عينا. / ١٥٤ / وتحدث عثمان أيضا عن نبع آخر ماؤه يتحجر بمجرد احتكاكه بالهواء. أورد هذه المعلومات بعجرها وبجرها ، وأود من القارىء أن يخضعها لحسه النقدي ، أكثر من اعتبارها إشباعا لفضوله.

إن المعارف عن قلب الجزيرة العربية قليلة ، وليس لدينا عن سكّانه أيّ معلومات واضحة ؛ لذلك ينبغي أن يصغي المرء لكل ما يقال ، وأن يجمع كل شيء ، بشرط أن يستنتج بعد ذلك من هذا المزيج بعض جوانب الحقيقة.

لم يكن عثمان أغا يقيم في المعسكر ، كان يسكن في مركز المدينة منزلا يعج على الدوام بالضباط الأرناؤوط أو الأكراد في لباسهم العسكري الأصلي : وهو عبارة عن سرّة حمراء مطرزة بالحرير ، وسروال منتفخ معقود عند الركبة ، وحزام عريض فيه خناجر ومسدسات ؛ وكان كل ذلك يشكل لوحة حيوية جذابة جدا.

إن الجيش غير النظامي معفى من ارتداء الزي الذي فرضه السلطان محمود (١) على الجيش التركي. وليس ذلك الزي ، باستثناء الطربوش ، إلّا

__________________

(١) محمود الثاني (١٧٨٥ ـ ١٨٣٩ م) : سلطان عثماني تولى السلطنة بين عامي (١٨٠٨ م ـ

١٦٨

نسخة مقلدة من الزي الغربي ؛ وينبغي على كل الموظفين ، عسكريين أو مدنيين ، الالتزام بارتداء ذلك الزي. ونجد صعوبة في اعتياد رؤية الشيوخ العثمانيين الكلاسيكيين ، وخصوصا الباشا ، وهم يرتدون تلك القلنسوة الحمراء الشنيعة ، وذلك البنطال الضيق ، وذلك المعطف الضيق ؛ وكل ذلك يمثل الآن الزي الرسمي.

إنهم متنكرون بزي الأوروبيين ، كما كنا في طفولتنا نتنكر بزي التركي ، وقد خسروا بهذا التحول بنسبة ٩٠%. لقد كان الزي القديم باتساعه وهيبته / ١٥٥ / يظهر تميزهم ؛ وكان فيه نوع من النبل والجمال ؛ وهو خال من تلك الزينة المستعارة ، ومتناسب مع جوهر شخصهم ، إنهم اليوم يبدون على حقيقتهم ، في غاية القبح عموما ، بدناء قبل الأوان ، وإن سوء مظهرهم لا يقل عن سوء مخبرهم. وإن المثل المأثور : قوي كالتركي ، لم يعد صحيحا.

لقد احتفظ باشا مصر بمصالح ضخمة في الحجاز منذ حرب الوهابيين ، وهو يرسل إلى جدة للسهر على تلك المصالح قائما بالأعمال ، كان إبّان زيارتي هو أمين بيك ، كولونيل سابق في سلاح المدفعية ، رجل حاذق ، ومؤدب ، عارف بكثير من الأمور ، ومنها التجارة ، أفادني بقدر ما كان لطيفا معي. عيّنه محمد علي ، وأبقاه عباس في مصنبه ، على الرغم منه ، لأن مناخ جدة أتلف صحته ، وكان يطلب بإلحاح أن يتم استدعاؤه إلى القاهرة. علمت منه أن الباب العالي لا يجني أي فائدة من سيطرته على الجزيرة العربية ، بل يبدد فيها كل سنة قسما كبيرا ، ٢٩ أو ٣٠ ألف صرة ، من الضريبة التي تدفعها مصر لإستانبول ؛ كان أمين بيك على علم تام بهذا الخصوص ، باعتبار أن تلك الأموال تصرف بمعرفته. وإذا صدقناه فإنه كان لعباس باشا في مكة أنصار. وأجهل إن كان هذا الأمر صحيحا ؛ ولكن ما علمته / ١٥٦ / من مصدر موثوق به أن عباس باشا يداهن بدو سيناء والحدود السورية ، لأنه يرغب أن يكون ابنه الذي كان متزوجا بإحدى بنات السلطان ، أو أنها كانت مخطوبة له ، والي

__________________

ـ ١٨٣٩ م) وأهم أعماله أنه قضى على الانكشارية عام ١٨٢٦ م.

١٦٩

المدينتين المقدستين لكي يدعم بذلك نفوذه الخاص على العرب ويوسعه. وقد جاء موته المفاجىء ليفسد سلسلة تلك المؤامرات.

كان أمين بيك معارضا صلبا لحكومة الأشراف السابقة التي كان يأخذ عليها أنها تطبق نظاما غبيا في الابتزاز والجور من كل الأنواع ، وهو مأخذ غريب عند ما يصدر عن خادم لعباس باشا ، كان يذكر لي أشياء سيئة جدا عن الشريف الأكبر الحالي ، ويتهمه بالبخل والجشع ، ويقول إنه لا يوثق به ، ومخادع حتى المكر. ولكنني كنت أشك في هذا الحكم لعدد من الأسباب : أولها أن أمين بيك هذا صنيعة محمد علي ، الذي قوض حكم الأشراف ، ولمّا كان من أصل تركي ، فإنه كان بالطبع متشبعا بآراء سيده ، ويقاسم مواطنيه تحيزهم ضد السكان الأصليين. هناك كره متبادل ، ومتمكن وعداوة لا تقبل المصالحة بين الأتراك والعرب وبين العرب والأتراك. وإن المثل القائل : معاملة التركي للموريّ (١) Maure ، هي في هذه الحالة أكثر صحة من أي وقت مضى ، وكلمة مور هنا مرادفة لكلمة عربي.

كان العثمانيون باعتبار أنهم الغالبون ، يعاملون الشعب المغلوب بغطرسة ، وبطغيان / ١٥٧ / لا يمكن احتماله. أمّا العرب فإنهم ، من ناحيتهم ، جنس مستقل ومعتز بنفسه ، ويكنّون لحكامهم الغرباء حقدا لا يترك مكانه إلّا للاحتقار ؛ يغتاظون من جهلهم ، ويسخرون من طريقتهم السيئة في التحدث بالعربية ، ويأخذون عليهم أيضا ، أنهم لا يحسنون قراءة القرآن في المصحف ، وأنهم لا يعرفون أداء الصلوات بشكل صحيح. وإن غدرهم هو الذي يثير العرب على وجه الخصوص ؛ فهم لا يشيرون إليهم إلا باسم : الخونة ، وهم في هذا السياق يستهزئون بلقب «خان» الذي يحمله كبار رجال الدولة ، فيحولونه من اسم إلى فعل يدل على الخيانة ، وإليكم القصة التي يروونها في

__________________

(١) استخدم المؤلف هنا كلمةMaure وهي كلمة من أصل لاتيني Maurus وهي بالإسبانيةMoro أطلقت على سكان موريتانيا الحالية والمغرب ويسمون أيضا بالموريسكيين Mauresques ؛ انظر : كتابد. صلاح فضل ، ملحمة المغازي الموريسكية ، القاهرة ، ١٩٨٨ م.

١٧٠

هذا الموضوع. أخلف أحد السلاطين وعده لأحد العرب ، فما كان من هذا إلّا أن نعته بسلطان خان ، ففهم العثماني لجهله أن هذه الشتيمة لقب تشريف ، فأضافه إلى الألقاب الأخرى التي يحملها من قبل ، وأورثه لذريته. وإن كلمة «تركي» إهانة ، حتى لو خرجت من فم الأطفال ؛ وهم يتنابزون بها بينهم ، وينادون بها الكلاب ، كما هي الحالة في أوروبا حيث يطلقون على كثير من هذه الحيوانات اسم : ترك (١).

ونفهم من ذلك لماذا كان الباشا والشريف الأكبر مختصمين ، ويسود بينهم شقاق معلن. إن السلطات الخاصة بكل من صاحبي المنصبين المرموقين غير محددة بوضوح وينتج عن ذلك / ١٥٨ / خصومات أبدية ، ناهيك عن الكره المتأصل والسياسي بينهما. وكانا يستغلان عدم الوضوح في توزيع السلطات ليخدع كل منهما الآخر بكل الطرق الممكنة ، ويسلكا كل الوسائل السيئة التي يمكن تخيلها ، ووصل بهما الأمر إلى أن كلا منهما كان يأمر بسرقة رسائل الآخر الرسمية ، بل وبقتل سعاة البريد.

كانت هذه الخصومة المعلنة ، تجعلني في موقف حرج. كان الباشا يعلم عند ما وصلت إلى جدة أن هدفي هو الذهاب إلى الطائف ، مقر حكم الشريف ، ومركز سلطته ؛ لذلك وجد الباشا نفسه مترددا بين أن يشجع رحلتي أم لا ، وكان يخشى من أن يعرض نفسه للشبهات. ومع ذلك فقد عرض عليّ ، ولكن بلا حماسة ، حراسا لمرافقتي.

أما عثمان أغا الذي كانت ع داوته للشريف الأكبر أكثر استحكاما ، فإنه من جانبه وضع فرسانه تحت تصرفي. لم تكن مثل هذه الطريقة في السفر تناسبني ؛ إذ لم أكن أنوي المثول أمام الشريف الأكبر ، بصفتي رحالة يحميه أعداؤه ويفرضونه عليه ، ولكن بصفتي رحالة حرا ، ومستقلا تماما.

ولم تكن لدي أي رغبة في رؤية الشعب العربي والطباع العربية عبر الأتراك ، وخصوصا عبر الباشي بوزوق ، لذلك رفضت ما عرض علي بقليل أو

__________________

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٥٦ ـ ٥٧.

١٧١

كثير من سلامة الطوية ، واتخذت القرار الوحيد الحكيم باللجوء مباشرة إلى الشريف.

لقد أحس الباشا بالمهانة من جراء هذا الاختيار ، مع أنه أزال حيرته ، وأزاح عن كاهله عبء أي مسؤولية. وحرص كل الحرص ، وهو / ١٥٩ / التركي الأصيل ، ألا يظهر لي شيئا من ذلك ، وخصوصا أنه كان مشغولا بأمر أكثر خطورة من ذلك بكثير : لقد كانت تنتشر في جدة شائعة إقالته من منصبه ، وعلمت من مصدر موثوق به أن ذلك صحيح.

كان ديوان أمين بيك يقع على مقربة من البحر ، يفصله عن ديوان الحاكم ساحة كبيرة حارّه ومغبّرة ، كانت تعسكر فيها حينئذ شبه فرقة من المتطوعين ، وإليكم حكايتها : كان في جدة تاجر هندي ولد في كابول ، وكان يتوق منذ بداية الحرب الأخيرة إلى أن يؤدي دورا فيها ، وقد جمع خلال سعيه لتحقيق ذلك كل ثروته ، ولما ألقى عنه ثوب التجارة الرث ، وتحول بشجاعة من عبادة إله النقود إلى عبادة إله الحرب ، بدأ على حسابه الخاص ، بتطويع مواطنيه ، متسولين كانوا أم غير ذلك ، فاستسلم هؤلاء لإغراء العمل ، وانضم إلى هؤلاء المتطوعين الأوائل متطوعون آخرون كانوا راغبين في ذلك ، وكان اسم هذا المرتزق من النوع الجديد أحمد ـ بيك ، وقد انضوى تحت لوائه ألفا رجل ، يعلم الله وحده كيف تم تسليحهم ، ولم يكونوا ينتظرون للانطلاق إلا المراكب المخصصة لنقلهم عبر مصر إلى ساحة الحرب. كان هذا الكابتن المغامر يسكن قريبا من سكني ، وكنت أذهب بدافع الفضول لرؤيته ، ووجدت أن هيئته هيئة رجل حرب أكثر منها هيئة تاجر ترك التجارة ، كان يلبس برنسا أحمر ، وكان حزامه مملوء بترسانة كاملة من الأسلحة ، يطقان (سيف تركي محدب) / ١٦٠ / سيف ، مسدسات وكل ما يلزم ذلك. وقيادته تتكون من جماعة من الناس المتشردين ، يلبس أغلبهم أسمالا بالية ، وكان يتردد من منزله ليل نهار صدر الاحتفالات العسكرية التي يصاحبها أصوات طلقات البنادق.

لم يعد في جدة مسيحيون باستثناء الإخوة ساوةSawa ، وهم من الجزر اليونانية ، انضووا فرديا تحت حماية القنصل الفرنسي ، في حين أن مصالحهم

١٧٢

الاجتماعية يحميها القنصل البريطاني ، وهي تركيبة عبقرية تسمح لهم بالاستفادة من كلتا الجنسيتين ، ومن رعاية أكبر قوتين بحريتين في الغرب. وتقوم شركتهم بالاتجار مع السودان حيث يوجد لها وكلاء منتشرون حتى حدود الحبشة. كنت أرى في بعض الأحيان هؤلاء التجار الذين كان والدهم عجوزا ، وربّ عائلة كبيرة أصله من ليمنوس (١) Lemonos. وكانت نفسه تذهب حسرات على جزيرته التي ولد فيها ، والتي كان على وشك العودة إليها. يمتلك هؤلاء السادة مجموعة كبيرة من النراجيل الفارسية المخصصة لاستخدامهم الشخصي ولاستخدام زوّارهم ؛ وإن ذلك النوع من النراجيل هو المستخدم في جدة.

وأذكر لمن يهتمون بذلك أن هناك أنواعا مختلفة من النراجيل ، وأن لكل نوع اسمه الخاص : وإن أكبرها وأجملها الكدرةKdra ، التي ترتكز على ثلاثة قوائم ، وهي من الفضة المصمتة المرصعة بطريقة فنية ، ومجهزة بشبيق (بأنبوب) طويل لدن يسمّى : الّليّ. ويدخن أصحاب الذوق الرفيع فيها تبغا شيرازيا. أما النوع الثاني فيسمى : الشيشة ، وهو يكاد / ١٦١ / يشبه الكدرة إلا أنه أصغر حجما. أما النوع الأخير ، وهو أكثرها انتشارا ، فهو ليس إلا جوزة هند مجوفة ، مملوءة بالماء ، شأنها شأن النوعين السابقين ، ويقوم مقام الليّ فيها قصبة مثبتة فيها. واسمها العامي هو : البوري. ويستخدم الناس عموما في الأنواع الثلاثة تبغا قوي النكهة يسمى التنباك يأتي من بغداد والبصرة (٢).

__________________

(١) جزيرة يونانية تقع على مسافة واحدة تقريبا بين مدخل الدردنيل وشبه جزيرة مونت سانتوMonte Santo.

(٢) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٤ ـ ٣٥. يقول : «وفي كل المقاهي يدخن الناس الشيشه Persian Pipe ، ويوجد منها ثلاثة أصناف مختلفة :

١. الكدرةKedra وهي أكبرها وتكون فوق مرجل ثلاثي القوائم Tripod وهي مصنوعة ومزينة تزيينا أنيقا وتوجد فقط في المنازل الخاصة.

٢. الشيشه وتسمّى في الشام أرجيلا وحجمها أصغر من الكدرة لكنها مثلها ترتبط بأنبوب طويل يسمّى «اللّيّ» ومن خلاله يشفط المدخن أو الحشاش الدخان. ـ

١٧٣

كان الإخوة ساوة لطفاء ، يتصفون بلين العريكة مع أنهم تجار : لقد زودوني مقابل فائدة قدرها خمسة بالمئة بكل النقود التي احتجتها بوساطة كمبيالة مدتها ثلاثة أشهر مسحوبة لدى م. حسون M.Husson في القاهرة ، والذي استفاد كل الرحالة من خدماته الحميدة ، والذي لقي في العام الماضي نهاية مؤسفة.

يكاد الحضارمة ، والهنود على وجه الخصوص ، يسيطرون تماما على التجارة في جدة ؛ الحضارمة شعب متزمت ، ولكنه حرفيّ من اليمن ، ومن أرباض عدن. وليس نادرا أن تجد ثروة أحد الهنود وقد بلغت ثلاثة أو أربعة ملايين فرنك : وإن أكثرهم غنى هذه الأيام رجل اسمه فراج يوسف ؛ وهو

__________________

ـ ٣. البوري ويتكون من جوزة هند مجوّفة غير مصقولة ويوضع فيها الماء ، وقصبة سميكة تؤدي وظيفة الأنبوب «اللّيّ». ويكون هذا النوع من الشيشه الرفيق الدائم للطبقات الدنيا وكل ملاحي البحر الأحمر حيث يستعملونها بإسراف.

إن التبغ الذي يستخدم في الكدرة والشيشه يأتي من الخليج العربي وأفضل أنواعه يأتي من شيراز. ويأتي نوع أقل جودة ، يسمى «التنباك» ، من البصرة وبغداد ، ولون ورقته أصفر باهت ومذاقه أقوى بكثير من التبغ العادي ، ولذا فهو يغسل قبل الاستعمال حتى يخفّف من قوة مذاقه ، أما التنباك الذي يستخدم في البوري فيأتي من اليمن ، وهو من نفس فصيلة التبغ السابق إلا أنه أقل جودة. والتجارة في التبغ كبيرة جدا لأن استهلاكه في الحجاز كبير لدرجة يصعب تصديقها ، وتشحن كميات كبيرة منه أيضا إلى مصر. واستخدام الغليون العادي في الحجاز قليل ، وأكثر من يستخدمه الجنود الأتراك والبدو. والتبغ يزرع في مصر ، وفي سنّار وينقل منها إلى سواكن. وقليل جدا التبغ الشامي الفاخر المستورد عبر البحر الأحمر». وانظر كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٤٦ ، حيث يترجم من رحلة بيرتون قوله عن التدخين : «الشيشة في المدينة المنورة جوزة هند كبيرة بساق خشبية طويلة. وكلاهما ـ الجوزة والساق ـ مزين بزينة من النحاس الأحمر ولا يميزها عن «شيشة» مكة سوى اختلافات بسيطة. وهي ، مثل «شيشة» مكة ، توضع على حامل ثلاثي ولكنها غالبا ما تسقط منه وتنثر الجمرات والماء على السجاد. أما الخرطوش المعروف باسم ال (لي) فهو صناعة رئيسة في اليمن. ولعلية القوم في المينة «شيشات» تركية وخراطيش إستانبولية ذات شكل رشيق مقارنة بما في مكة».

١٧٤

يملك عشر سفن ذوات حمولة كبيرة. ويكاد ذلك الهندي يكون أسود اللون ، ممشوق القامة ، وقد وهب هيئة في غاية الظرافة ، تبدو عليها قسمات اللطف والنباهة. وكان له ولد في غاية الملاحة ، اسمه عبد القادر ، لون بشرته يساوي في السواد لون بشرة والده ، وكان يقف أمام والده وقفة احترام ، ولا يجرؤ على الجلوس دون إذنه. وكان يلبس كلاهما / ١٦٢ / عباءة من الموسلين الأبيض ، وثوبا طويلا من حرير بلادهم. وقدما لي في شركتهم الكسكري وهو قهوة تصنع من قشور الحبّ ، مضافا إليها نكهة القرفة وكبش القرنفل ، وإن ذلك عادة يمنية ، وهو شراب في غاية السوء. لم أستطع أن أشرب كل ما قدم لي ، ولم أستطع أيضا تدخين تنباك الشيشه التي قدمت لي ، لأنه كان ثقيلا جدا ، ويحرق الحلق. وإن مما يجدر ذكره أن الهنود متمسكون جدا بالمراسم الرسمية.

لا بد لي ، وأنا أضع اللمسات الأخيرة على هذه اللوحة الإنسانية التي طالت ، أن أشير للذكرى فقط إلى قبطان المرفأ الذي لم يكن لي معه إلا علاقات سطحية ، وإلى رئيس الشرطة ، عبد الله أغا الذي لم أرد أن تكون لي معه أية علاقة ، على الرغم من المبادرات التي خصني بها ؛ وأخيرا عطا بيك ، وهو طبيب عسكري شاب من إستانبول ، كان يتحدث الفرنسية جيدا ، ومسلما صالحا وكان يتركني فجأة عند ما يسمع صوت المؤذن ، حتى لو كنا في سياق حديث ، ليتوضأ ويصلي في غرفة مجاورة.

إن الشخصيات المتنوعة التي سلطت الضوء عليها هي جميعا من الأتراك والهنود واليونانيين ، وكلهم غرباء عن البلد ، في حين أنني جئت للقاء العرب في الجزيرة العربية. ولم أعرف من العرب معرفة قوية إلّا شخصا واحدا في جدة ، ولكنه عربي خالص ، وممثل لائق لأبناء جنسه ، إنه الأنموذج الكامل لأبناء جلدته جميعا. إنه خالد بيك بن عبد الله بن سعود ، آخر زعماء الوهابيين (١). / ١٦٣ / لقد حمل إلى مصر وهو ما يزال في شبابه المبكر بعد

__________________

(١) كذا يسميه ديدييه : خالد بن عبد الله بن سعود ، ويظن الباحثون أنه خالد بن سعود ، ـ

١٧٥

موت أبيه ، وانهيار عائلته ، ونشأ في القاهرة برعاية محمد علي وتحت أنظاره. ثم عاد بعد فترة إلى الجزيرة العربية ، وكان إبّان رحلتي يقيم في جدة ، ويعيش من النفقة التي خصه بها الباب العالي ، بعيدا عن الأحداث. محكوما عليه بالعزلة التامة. ترددت عليه بطيبة خاطر ، وكنت أجد في بيته على الدوام شيوخا عربا يأتون إليه من القبائل المجاورة وخصوصا الهواجر (١) ، إن أسعفتني الذاكرة ، وكانوا يرون فيه ابن عبد الله وحفيد سعود أعظم زعماء الجزيرة العربية المعاصرة. لقد أحزنتني قصته وأعجبني شخصه : فهو محبب ومضياف ، يجمع بين النبل والظرف ، ونلمس من أحاديثه وفي تصرفاته أنه رجل يضم بين جوانحه قلبا كبيرا ، وتسيطر عليه مسحة من الحزن الرقيق والنبيل الذي لا يمس أصوله الكريمة ، ولا يضيره فيما آل إليه.

__________________

ـ وأن ديدييه أخطأ مع أنه يتحدث عن الرجل حديث الواثق ، وقد لقيه وقضى معه سحابة يوم كامل. انظر ترجمة خالد بن سعود في الموسوعة العربية العالمية ، ج ١٠ ، ص ٩ ، وفيها أنه توفي في مكة المكرمة ١٢٧٦ ه‍ / ١٨٥٩ م ، وذكر الدكتور أبو عليه في كتابه : تاريخ الدولة السعودية الثانية ، ط ٤ ، ١٤١١ ه‍ / ١٩٩١ م ، ص ٣٣٦ ، أن خالد بن سعود تولى الحكم من ١٨٣٧ م إلى ١٨٤١ م / ١٢٥٤ ـ ١٢٥٧ ه‍.

وتجمع المصادر على أنه كان صنيعة محمد علي ، وكانت سلطته سلطة اسمية محدودة في ظل السيادة المصرية ، وثارت في وجه خالد حركة مقاومة سعودية قادها الأمير السعودي عبد الله بن ثنيان الذي رجحت كفته وأيده أهل نجد ، وذهب خالد إلى الأحساء ، ثم إلى الحجاز بعد أن فشل في تجميع قوة تقف في وجه ابن ثنيان.

انظر ترجمة خالد أيضا في : عنوان المجد في تاريخ نجد ، للشيخ عثمان بن عبد الله ابن بشر النجدي الحنبلي ، تح. عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ ط ٤ ، ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ م ، مج ٢ ، ص ١٤٠. وفي : مثير الوجد في أنساب ملوك نجد ، للشيخ راشد بن علي الحنبلي بن جريسي ، تح. محمد بن عمر بن عبد الرحمن العقيل ، ١٤١٩ ه‍ / ١٩٩٩ م ، ص ١٢٧ ـ ١٢٨ ، وكتاب جبران شامية ، آل سعود ماضيهم ومستقبلهم ، ص ٧٠ ـ ٧١.

(١) في الأصل : الهواري Haouari والصواب ما أثبتناه. وكان الهواجر من أنصار خالد ابن سعود في أثناء مدة حكمه.

١٧٦

وعلى الرغم من أنه نشأ في الغربة ، وأكل من بصل مصر ، فإنه لم يكن أقل حنكة من أبناء دينه ، وربما كان المستقبل يخبىء له مآلا عظيما في حالة الاضطراب التي تسود الشرق. كان وضعه يفرض عليه الحذر والتحفظ في كل أقواله وأفعاله. وخفت من أن يتعرض للشبهات إن شوهد بصحبتي غالبا ، لأنه ، وبسبب الظروف الحالية / ١٦٤ / كانت السلطات العثمانية ترى أن لرحلتي هدفا سياسيا كانت بعيدة كل البعد عنه. مع ذلك كنت أرغب في جعله يتكلم باستفاضة عن الوهابية ، وعن أسرته وعن نفسه ؛ إذ من الممكن أن يترصد بنا ، فعرضت عليه أن نجتمع في بيت شخص ثالث ، إنه بيت السيد دوكيه ، حيث لن يسمعنا أحد ، ولن يزعجنا أحد ، فوافق على ذلك ، ودام اللقاء طوال اليوم. ولما كانت السمات الحقيقية للوهابيين ، والدور الذي كان لهم في الجزيرة العربية غير معروف جيدا فإنني سأوجز في بضع صفحات المعلومات التي متحتها من مصدر في غاية الأصالة والشرف ، وسأكمل تلك المعلومات بأخرى لا تقل عن الأولى ثقة وأصالة. وسأبدأ ، لكي يندرج ما سيأتي في السياق المناسب ، ببعض المعلومات عن الأشراف الذين ليس لدينا في أوروبا فكرة صحيحة عنهم ، والذين يرتبط تاريخهم المعاصر ارتباطا وثيقا بتاريخ الوهابيين.

١٧٧
١٧٨

الفصل الثامن

الأشراف والوهابيون (*)

يعد الأشراف السلالة الوحيدة في العالم الإسلامي التي توارثت النبل كابرا عن كابر ؛ فهم يعودون / ١٦٥ / بنسبهم إلى الحسن والحسين ، ابني فاطمة ، الابنة الوحيدة (١) للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهناك على امتداد العالم الإسلامي ، حتى أعماق المغرب ، عدد ضخم من الأشراف ، يدّعون النسب نفسه ؛ ولكن أشراف الحجاز عموما ، ومكة على الخصوص ينظرون إلى أنفسهم ، وينظر إليهم ، على أنهم الأحفاد الحقيقيون للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن نسبهم هو الأكثر أصالة ، والأكثر توثيقا. ولما لم يكن في الشرق أحوال مدنية فإن أشجار النسب تقوم مقامها ، وتحفظ الأنساب بعناية كبيرة ؛ لذلك يوطد الأشراف نسبهم بمستندات مؤكدة. إنهم مقسمون اليوم إلى فروع متعددة ، لا يسمح دخول الغرباء فيها ، وينتشرون في كثير من أنحاء الجزيرة العربية ، وهم يعترفون بأنهم أقارب ، ويعاملون بعضهم بحسب ذلك في المناسبات كلها.

__________________

(*) استخدمنا مصطلح الوهابيين بعد أن كثرت كتب أهل هذه البلاد ممن بدا لهم أن الكلمة تحولت إلى مصطلح يدل على أتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب ، يرحمه‌الله ، ولم يعد له أي دلالة من الدلالات التي كان يذهب إليها أعداء الدعوة ، أما الأشراف فقد استفاض في الحديث عنهم سنوك هورخرونيه في كتابه صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، الجزء الأول.

(١) ليست فاطمة هي البنت الوحيدة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما كان له أخريات ، ولكنها الوحيدة التي عاشت بعده ، وأنجبت من زوجها علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه.

١٧٩

وإن كثيرا من هؤلاء الأشراف فقراء جدا ويعيشون على النفقة التي يدفعها إليهم الباب العالي ، ولكن ذلك لا يمنعهم من الاعتزاز بالدم الأصيل الذي يجري في عروفهم ، ويعدون أنفسهم ، على الرغم من فقرهم المدقع ، أرفع مقاما من أعظم الباشاوات الأتراك.

يشكل أشراف مكة طبقتين رئيسيتين : أولئك الذين يعنون بالآداب والشريعة والعبادة ، وبالتجارة ، وأولئك الذين وقفوا أنفسهم على السلاح والأمور العامة. يطلق على الأولين اسم : سيد ، أما الآخرون فهم الذين يحتكرون لقب الشريف (١). ويتبع الأبناء عادة وضع آبائهم / ١٦٦ / وأضيف هنا خصوصية غريبة ، وهي أن بنات الأشراف الذين يصلون إلى سدة الحكم محكوم عليهن بألّا يتزوجن (٢). وكان الأشراف في الماضي يحكمون البلد وحدهم مستبعدين الطبقات الأخرى. وشهدت حياتهم السياسية تقلبات كثيرة.

وأدوا في مكة الدور نفسه الذي أداه المماليك في مصر : فقد احتكروا كل المناصب المدنية والعسكرية ، وكانوا يعدون أنفسهم الأجدر دون غيرهم بالسلطة ، ويتصارعون عليها بينهم بالسلاح غالبا ، ويجرون معهم إلى خصوماتهم الشعب والبدو المجاورين. وليس الحياد بمسموح. ينبغي ، طوعا أو كرها ، مناصرة إحدى الأسر المتنافسة ، والتعرض لأشد الأخطار ، في فتن أهلية تتجدد على الدوام. كان يراق فيها الدم غالبا ، وكان المنهزمون يجلون عن البلد حتى يحدث انقلاب طارىء يغير وجه الأمور ، ويعيدهم إلى مسرح السياسة من جديد.

__________________

(١) ويقال إن السادة (جمع سيد) يعودون بنسبهم إلى الحسين بن علي رضي‌الله‌عنهم ، وهم في مكة المكرمة مجموعة خاصة يتزعمها من تختاره ، وتصادق الدوائر الحكومية على ذلك. ومنذ عام ١٨٨٥ م صار يعينه الشريف أو الوالي أو من هو أقوى منهما. أما الأشراف فهم الذين يعود نسبهم إلى الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهم ؛ وهم أسر فصّل في أسماء أفرادها وأنسابهم هورخرونيه في كتابه صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٦٥١ ـ ٦٥٣.

(٢) انظر رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٢١٢.

١٨٠