رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

شارل ديدييه

رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٦

حدثني به عنها يجعل منها مصدرا في غاية الأهمية ، وإنني على صحة ما ورد فيها لشهيد(١). لقد قام بيرتون بعد فترة من زمن رحلته ولقائي به بزيارة القبائل المتعصبة التي تقطن حول مدينة عدن ، وقد كان منذ وقت قريب يفكر في محاولة العبور من شاطىء زنجبار إلى النيل الأبيض عبر خط الاستواء. وهو

__________________

ـ عام ١٨٢١ م وادعت أمه أنها منحدرة من سلالة أحد الأولاد غير الشرعيين للملك لويس الرابع عشر ، ومع أن أباه كان ضابطا في الجيش ، لكنه كثيرا ما قيل : إنه من أصل غجري ، وتعلم عددا من اللغات المحلية ، والتحق بالجيش البريطاني في بومباي (الهند) برتبة نقيب في القوات المسلحة لشركة الهند الشرقية ، وقد برع كل البراعة في إتقان اللغات الأجنبية حتى إنه كان في أواخر حياته يستطيع أن يتكلم تسعا وعشرين لغة ، وما لا يقل عن اثنتي عشرة لهجة مختلفة. قام بأسفار عديدة. وزار الجزيرة العربية متنكرا بزي حاج مسلم عام ١٢٦٩ ه‍ / ١٨٥٣ م وألف كتابا بعنوان : مناجم الذهب في مدين والمدن الأثرية وذلك بعد رحلته الثانية إلى مدين عام ١٨٧٧ م ، وإن قائمة مؤلفاته لتغطي أكثر من ٣٠٠ صفحة. ترجم إلى الإنكليزية : ألف ليلة وليلة ، والروض العاطر ووضع شروحات لها تضمنت عصارة أفكاره وتجاربه ، ومنح لقب «فارس» في عام ١٨٨٦ م قبل أن يتوفى في عام ١٨٩٠ م.

وقد طبعت رحلة بيرتون في مجلدين في لندن ١٨٩٣ ، وأعيد طبعها جزئيا في نيويورك Dover Publication ، عام ١٩٦٤. وقد ترجمت رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز ، ترجمة وتحقيق د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ج ١ ، ١٩٩٤ م ، ج ٢ ، ١٩٩٥ م. وانظر في حياة بيرتون كتاب : الرحالة الغربيون في الجزيرة العربية ، لروبن بدول ترجمة د. عبد الله نصيف ، الرياض ١٤٠٩ ه‍ / ١٩٨٩ م ، ص ٥٤ ـ ٦٦ ، وكتاب التراث الشعبي في أدب الرحلات ، مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون لدول الخليج العربي ، الدوحة ١٩٩٥ م ، ص ٣١ ـ ٦٠. وانظر حديث ناصر الدين دينيه عن رحلة بيرتون في كتابه : الحج إلى بيت الله الحرام ، وقد ترجمنا الفصل المخصص للحديث عن رحلات الغربيين في كتاب دينيه وسيظهر مضمنا في مقالنا : ناصر الدين دينيه وكتابه «الحج إلى بيت الله الحرام» الذي نشر في مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية ، المجلد السابع ، العدد الأول ، ١٤٢٢ ه‍ / ٢٠٠١ م ، ص ٢٣٠ ـ ٢٨١

(١) نشرت المجلة البريطانية ، كما علمت ، بذلك قطعا من هذه الرحلة (المؤلف).

٤١

مشروع كان يشغل حيزا كبيرا من تفكيره منذ أن لقيته.

كنا ذات مساء نخيم قرب المحطة رقم (٨) بعد يوم من السير قطعنا فيه عشر مراحل ، وكانت مشاهد الغروب تتكرر متطابقة في التفاصيل ؛ فالشرق / ١٤ / كما نعلم ليس بلد التنوع ، ما فعلناه البارحة سنفعله غدا وبعد غد ، وهكذا دواليك في كل يوم حتى آخر الزمن. كان الليل صافيا صفاء لا نجده إلا في سماء مصر ، كانت النجوم تلتمع كأنها جواهر مرصعة باللازورد ، وكأنها رمز شعار بيزنطة القديم قبل أن يؤول إلى العثمانيين في إستانبول. كان القمر هلالا يتطاول بجلال إلى قبة السماء. وكان عواء الكلاب في وسط الظلمات يدل على وجود مضارب بدو في الجوار ، وإن مثل ذلك الجوار كان يثير قلقا وخوفا مسوغين في الماضي ، وهو اليوم بلا أدنى خطورة ؛ مما جعلني أنام في خيمتي دون أي قلق ، ولم يزعجني إبان نومي أي عارض مقلق.

ولم تكن القافلة في اليوم التالي جاهزة للمسير إلا في وقت متأخر عن اليوم السابق ، وكانت الشمس قد ارتفعت عند ما لاحظت إلى يساري قصر دار البيضا ، كان محاطا بالأبراج ولا يختلف بقليل أو كثير عن القصير الصغير الذي كان يبنيه الإقطاعيون في القرون الوسطى (في أوروبا). إن قصر العزلة هذا ، هو أيضا أحد أمكنة إقامة عباس باشا ؛ ذلك التركي المتوحش ، والمتعصب الذي كان يمقت المدن وخصوصا تلك التي يقيم بها القناصل الذين كانوا في رأيه أناسا مزعجين ، وكان يهرب منهم بقدر ما كان جده محمد علي يتقرب منهم ، ومع ذلك فإنه كان يظن أنه ليس بعيدا عنهم بقدر كاف. ولذلك كان يمقت الإسكندرية مقتا كبيرا ، ولا أظن / ١٥ / أنه زارها مرة واحدة خلال فترة حكمه : وكان يقول لكي يسوغ غيابه عنها : إنه «يرى فيها كثيرا من القبعات».

وكانت القاهرة نفسها تبدو له موبوءة بالطاعون الأوروبي ، ولكي يتلافى العدوى قام بإنشاء قصر العباسية على حدود الصحراء ، وكنا قد رأيناه ، خلال مرورنا ، ولكن ذلك القصر المنعزل سيبدو له بعد قليل شديد الاقتراب من القاهرة ، وانتهى به الأمر إلى الالتجاء إلى حضن الصحراء. كان يعيش هنا مع أكثر المقربين إليه ، ويا للمقربين! كان على الدوام يؤجل أكثر الأعمال

٤٢

المستعجلة ، ولا يسمح للقناصل بمقابلته إلا عند ما لا يجد دفعا لذلك ؛ ويكون مجبرا على ذلك بسبب الخوف.

كان مفرطا في الريبة ، تلاحقه الشكوك الدائمة حتى هنا ، وكان لا يثق بأحد حتى إنه لم يكن يشرب إلا الماء الذي كانت ترسله من القاهرة أمه في زجاجات مختومة. وكانت تسليته المفضلة هي أن يملأ حظائره بالحيوانات ذات الأسعار المرتفعة ، كان بالطبع بخيلا ، ولكن أعظم التضحيات لم تكن تعني له شيئا عند ما يتعلق الأمر بتحقيق رغباته التي تسيطر عليه. كان له في كل مكان ، وفي أمكنة بعيدة في بعض الأحيان ، عملاء مكلفون بأن يشتروا له أجمل الخيول والجمال وأغلاها ، وقد وصل سعر عدد منها إلى عشرة آلاف فرنك ، ولكنه لم يكن يسمح لأحد برؤيتها / ١٦ / خوفا عليها من العين ، لقد كان تطيره يوازي حذره.

كان الموضع الذي أقيم عليه قصره يسمى قديما الدار الحمراء ؛ وهو اسم يطلقه العرب على جهنم بسبب ألسنة اللهب التي يعتقدون أنها أبدية الاشتعال. وقد سمي هذا المكان بهذا الاسم المخيف لكآبته.

وقد وافق المقام كل الموافقة ظهور بعض النكت الماكرة ، ولم يعدم الشعب أبدا أن يخلط عبر جناس مناسب وجيد بين القصر وجهنم ، وبين جهنم والقصر. وقد بلغت تلك الطرفة أسماع عباس فأسرع إلى تغيير ذلك الاسم المزعج : فتحول اسم الدار الحمراء بأمر عباس إلى الدار البيضاء ، ولكنه لم يزدد في أذهان العامة إلا سوادا وشيطانية.

تقع المحطة رقم (٨) قرب الدار البيضاء ، وتكتسب من هذا الجوار بعض الأهمية ، فقد كان الأشخاص الذين لهم علاقة بنائب الملك المتوفى ، أو بأحد ضباطه يسكنون في المحطة ، ويقضون هناك أسابيع وأشهرا كاملة ، لأن أقل الأشياء تحتاج كثيرا من الوقت. إن المسافرين الذين يمرون بالمحطة يفضلون ، كما فعلنا نحن ، وسائل النقل القديمة على عربات السفر السريعة (الترانزيت) لأنهم مع الأولى يستطيعون التمتع بهذه المحطات على الأقل ، ولكن يشرط عليهم في القاهرة الحصول على بطاقة دخول تباع بسعر غال ،

٤٣

ودون هذا الإجراء / ١٧ / تظل المحطات مغلقة في وجوههم ، ويمكن أن يموتوا عطشا على الباب دون أن يفتح لهم. توجد غير بعيد عن المحطة رقم (٨) في نصف الطريق بين القاهرة والسويس شجرة الحجاج.

يكنّ العرب للأشجار احتراما كبيرا ، ولما كانوا لا يرون إلّا قليلا منها في صحرائهم فإنها بالنسبة إليهم شيء نادر وجديد. وقد وعدهم القرآن بجنان رائعة في الحياة الآخرة[...].

وناهيك عن حب العرب للأشجار ، فإن هناك بعض الأشجار المباركة التي تلقى معاملة خاصة : إنها الأشجار التي تنبت قرب ضريح أحد الأولياء ، أو في أي مكان آخر يكرسه الدين أو التطير. فهم يحرصون في أثناء مرورهم بهذه الأشجار ، على تعليق شيء يملكونه عليها لكي يدفعوا عنهم مصائب الدهر ؛ وهذا الشيء هو عادة قطعة من قماش ثيابهم. تلك هي حالة الشجرة التي تحدثت عنها ، وقد اكتسبت اسمها من الحجاج المتوجهين إلى الحج ، والذين لا يفوّت أحد منهم أن يقوم بهذه الممارسة الطقوسية : لذلك تبدو هذه الشجرة مملوءة بالخرق الوسخة من كل الأشكال ، ومن كل الألوان ، بدلا من أن تحمل أزهارا وثمارا ، بل أوراقا (١). إنه ضرب من النذور غريب!.

__________________

(١) تحدث سنوك هورخرونيه في كتابه : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، ترجمة د.

علي عودة الشيخ وأعاد صياغته وعلّق عليه د. محمد محمود السرياني ، ود. معراج نواب مرزا ، ط. دارة الملك عبد العزيز ، الرياض ١٤١٩ ه‍ / ١٩٩٩ م ، ج ٢ ، ص ٣٧٦ ـ ٣٧٧ عن شجرة مماثلة فقال : «وعلى الطريق المؤدي من جدة إلى مكة المكرمة ، توجد هناك شجرة يقدسها أهالي المنطقة المجاورة ، التي تحوي كل أنواع الخرق الملونة. ومن المعلوم أن عبادة الأشجار وتقديسها عادة جاهلية قديمة في الجزيرة العربية. والسؤال هو : لماذا كل هذه الخرق البالية على هذه الشجرة؟ والجواب عن ذلك يأخذ صورا عديدة ، فبعض الناس يقولون : إن هناك شيخا مدفونا تحت هذه الشجرة ، وإن ذلك من قبيل تبجيله. وفي رواية أخرى : أن هذه الشجرة هي شجرة الرضوان التي تمت تحتها بيعة الرضوان سنة ٦٢٨ م (ذي القعدة ٦ ه‍). وهناك تفسير ثالث : هو أن الرسول الكريم قد نشبت عمامته في الشجرة ، فتمزق ـ

٤٤

ولما كانت حميرنا قد سبقت الجمال بقدر / ١٨ / ما سبقتها في اليوم السابق فقد كان علينا أن نتوقف عند الظهيرة لانتظار القافلة ، وتناولنا غداءنا على الرمل كما فعلنا في اليوم السابق. وبينما كنا نزيل قشور البيض المسلوق والبرتقال أدركنا مسافر يمشي على قدميه ، ويسير وراءه مرافق يسوق أمامه حمارا تعتليه امرأة : كان المسافر هنديا ، وكانت المرأة زوجته ، وكان عائدا من مكة المكرمة بعد الحج ، وقد أراد مع زوجته ومرافقه أن يمروا بالقاهرة قبل العودة إلى بلادهم ؛ بأية طريقة؟ الله أعلم! وعند ما شاهد الهندي السيد بيرتون عرفه من النظرة الأولى لأنه سبق أن رآه في جبل عرفات قبل بضعة أشهر ، وهو يؤدي بورع شأنه شأن الهندي مناسك الحج الأخير ؛ وقد حيّاه مناديا إياه باسم الشيخ عبد الله ؛ وهو الاسم الذي يحمله بيرتون في الشرق. لقد عرف كل منهما الآخر ، وأخذ الحاجان يتجاذبان أطراف الحديث باللغة الهندية العالية ، وهي لغة كان بيرتون يتقنها كل الإتقان شأنه مع اللغة العربية ، وربما كان يتحدثها أفضل من الهندي نفسه باعتبار أنه ألف كتابا في قواعد واحدة من أكثر اللغات الهندية صعوبة وهي الهندوستانية. لقد كانت مرافقة اثنين من غير المسلمين مثلنا محرجة لبيرتون ؛ ولكنها على أي حال لم تزعزع الثقة التي كان الهندي العجوز يضعها في عقيدة مواطنه المزعوم الذي استطاع أن يخرج منتصرا من هذا الموقف الحرج. / ١٩ / كانت تبدو في الأفق غزالة

__________________

ـ بعضها وعلق في الشجرة ، ولهذا فإن الناس يعلقون هذه الخرق كذكرى لما حدث مع الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وعلق مخرجا الكتاب بالقول في ص (٣٧٧) الحاشية : من المستحيل أن تكون الشجرة المذكورة هي شجرة الرضوان ؛ لأن الثابت تاريخيا أن هذه الشجرة قد قطعها عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ؛ دفعا لهذه البدع. غير أن الناس لم يتورعوا عن ذلك فيما بعد فاتخذوا لهم شجرة ربما كانت في المنطقة المجاورة للشجرة القديمة. ولكن الشجرة التي يتحدث عنها ديدييه تقع على الطريق بين القاهرة والسويس ولعلها عند مقام ضريح أحد الأولياء الذين يكثرون في تلك المناطق.

٤٥

مسرعة ، سرعان ما اختفت في عمق الصحراء. وكانت أولى الغزلان التي رأيتها طليقة في الطبيعة ، ثم رأيت بعد ذلك مئات منها في السودان وفي النوبة.

وعند ما حل المساء اكتسى جبل المقطم لونا بنفسجيا لا يضاهي في جماله ، كان صفاء الجو يسمح برؤية أصغر الأشياء بوضوح من مسافة بعيدة كل البعد.

ولكن فجأة لم نعد نرى شيئا ، لأن الشمس غربت ، وفترة الغروب قصيرة في هذه المناطق حتى إنه بمجرد غياب الشمس يهبط الليل دفعة واحدة ودون تدرج.

نصبنا خيامنا قرب المحطة رقم (١٣) ، على أرض حجرية تنتشر عليها نباتات الداتورة (١) Daturas. لقد كتب بعض الرحالة أن شجرة الحجاج هي الشجرة الوحيدة التي نراها على طريق القاهرة ـ السويس ؛ وليس ذلك بصحيح ، فقد كان هناك حول خيامنا ما يقرب من عشر أشجار ميموزا (السنط). وتوقف قرب مضاربنا لقضاء الليل أحد الألمان ، وكان يعبر الصحراء مع جمل واحد وجمّال واحد. وكنا ننوي استقباله استقبالا لائقا بدعوته إلى مشاركتنا طعام العشاء ؛ ولكن طبعه الكئيب ، وصمته ، بدد رغبتنا في استضافته ؛ لقد انزوى ، وتركناه كذلك ، وكأنه دب في غابته التي ولد فيها. أما جمّاله ، وكان لين العريكة أكثر من الألماني ، فإنه سرعان ما استأنس بجمّالتنا ، وعلى الرغم من أنهم كانوا قد ساروا / ٢٠ / على أقدامهم عشر ساعات ، فإنهم ظلوا يتسامرون جميعا حتى وقت متأخر من الليل.

انطلقنا في اليوم الرابع ، في وقت أكثر تأخرا من اليومين السابقين ؛ لأننا لم نكن إلا على بعد ستة فراسخ من السويس. سرنا على الطريق ما يقارب مئة خطوة ، ثم تركناها متجهين يسارا نحو بئر عجرود ، المحاطة بالأسوار ، وتقع في قلب قصر مهدم ، واستبدل بالحامية التي كانت تقيم فيها عائلة بدوية أوكل

__________________

(١) نبات ذو خصائص تخديرية. انظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٣٠.

٤٦

إليها أمر حماية البئر ، وكانت تأخذ رسوما من كل من يأتي للتزود بالماء. شربت حميرنا هنا لأول مرة ، ولعلنا نتخيل بأي شراهة فعلت ذلك ، بعد أن ظلت تسعا وستين ساعة محرومة من الماء ؛ قطعت خلالها مسافة ثمانية وعشرين فرسخا. لقد كان للموقع ، على الرغم من جفافه ، مظهر مدهش ؛ فهذه البئر التي تردها الجمال ، وذلك القصر المتداعي ، والبدو الذين يسكنونه ، كل ذلك يوحي إلى الفنان بفكرة لوحة أصيلة.

كان هناك على بعد عدة فراسخ بئر أخرى ، تسمى بئر السويس ، بسبب قربها من المدينة التي منحتها اسمها ، ولكن ماءها أجاج ولا يصلح إلا للمواشي ؛ وهي محاطة بالأسوار أيضا ، وكانت في تلك الأثناء قافلة تحمل الرقيق قد توقفت عندها. كان العبيد السود عراة تماما ، ويجلسون على الرمل وقد اختلطوا بالجمال ، وهم يتناولون طعام الغداء المتواضع المكوّن من قبضة من التمر وقطعة / ٢١ / من الخبز العربي المدور والمرقوق كأنه الصحن ، والطري كالإسفنج ، عجينته لم تختمر ، ولم ينضج كما ينبغي له ، وقد وجدت له في كل مكان أكلته فيه طعما غير مستحب هو طعم النحاس. لم يكن يبدو أن أولئك الأحداث الذين أخذوا من أسرهم صغارا يشعرون بما هم فيه من أسى ، بل كانوا تحت مراقبة الجلاب وسوطه يترنمون فرحين بصوت خافت وكأنهم جماعة نحل. إن الرق في الشرق أقل صعوبة مما هو عليه في الغرب ، وستسنح لي الفرصة بلا شك كي أعود إلى الحديث عن تطور تجارة الرقيق ووضع العبيد عند المسلمين (١).

لقد تغير مدى الرؤية ، وبدأنا نلمح البحر الأحمر الذي تعجز الأوصاف عن نعت لونه الأزرق الصافي. وكانت جبال الجزيرة العربية تنتصب في الجنوب الشرقي ، ويعلو كل ذلك القمم الجرانيتية لسلسلة جبال سيناء الممتدة على شكل مدرج حتى أبعد نقطة في الأفق. كان منظرها رائعا ، وكانت

__________________

(١) سيتحدث ديدييه عن رفيق رحلته هذا ببعض التفصيل في ص ١٣٧ ـ ١٤٢ من أصل الرحالة الفرنسي الذي وضعنا أرقامه في النص العربي بين / / وسنذكر بعض المصادر الأخرى في المكان المشار إليه.

٤٧

الذكريات الجليلة التي تستدعيها تلك الجبال تطبعها بطابع هو أكثر مهابة وجلالا. وصلنا في ظهيرة اليوم الرابع من الرحلة إلى أبواب السويس ، وقبل أن نتجاوز باب المدينة ، وندلف إلى الأماكن المأهولة وجدتني مدفوعا إلى الاعتراف بأن الرحلة في كل مراحلها ، وساعاتها ، لم تحدث في نفسي أيا من تلك المشاعر المثيرة / ٢٢ / والاحتفالية التي شعرت بها بعد ذلك في صحراء النوبة الكبرى وفي صحراء السودان التي كانت تغريني بجدتها المثيرة على الدوام ، ولكنها لم تشعرني بالبرود وعدم الاهتمام.

إن لخيبة الأمل هذه أسبابا عدة : أولها أن جبل المقطم يقطع صحراء السويس طوليا ، فيحجب أفق الرؤية من هذا الجانب ، ولا يتنوع إلا من الجانب الآخر تنوعا محدودا بسبب الهضاب التي تنتشر فيه.

إن مثل هذه المناظر ، ليست مصدر لذة تأملية ، ولا مصدر شعور باللامنتهي ، الذي يمكن لمنظر الرمال الممتدة بلا حدود ، كما هي الحال مع البحر بلا شاطىء أن يبث الروح فيها وحده. وإذا كان المكان ضيقا ، فإن الشعور بالوحدة هو الآخر كان غائبا ، وقد قلت في البداية : إن بعض المخترعات التي أصبحت قديمة بالنسبة إلينا ، وإن بعض وسائل الترفيه الشائعة في الحياة الغربية التي لا نأتي إلى هنا بحثا عنها ، كل ذلك ، غزا هذه الصحراء وأفسدها ، وغيّر حياتها البدائية : نشم رائحة الإنسان فيها ونراه كثيرا ، ليس إنسان الخيمة والحرية ، ولكن إنسان الوكالات الأجنبية والمصانع. وليس في ذلك أي جوانب مغرية ، وليس بالمستغرب أن تفسد عليّ تلك الصورة غير المناسبة أولى خطواتي في هذه الطبيعة الموحشة. أرجع مع ذلك إلى الحديث عن السويس. / ٢٣ /.

٤٨

الفصل الثاني

السويس

إن موقع السويس الهام ، في قلب خليج على البحر الأحمر ، جعل منها منذ أمد بعيد مركزا تجاريا مهما. وكان بطليموس فيلادلف (١) Ptolme Philadelphe الذي شق بين النيل والبحر الأحمر قناة ما زلنا حتى اليوم نجد بعض آثارها مدفونة تحت الرمال ؛ وهو ابن وريث الإسكندر الأكبر ، قد أطلق على هذه المدينة اسم أخته أرزينوي (٢) Arsino التي كان مشغوفا بها ، وتزوجها حسب تقاليد سلالة البطالمة (٣) Des Lagides. أما اسمها الحديث «السويس»

__________________

(١) بطليموس الثاني Ptolme ll (٣٠٤ ـ ٢٤٦ ق. م) : ملك مصر الملقب فيلادولفوس ، لقب بذلك لأنه تزوج أخته أرزينوي (٢٨٥ ـ ٢٤٦ ق. م) : بنى منارة الإسكندرية ، وجعل منها مركزا للثقافة الهيلينية ، وقيل : إنه في عهده ترجم العهد القديم العبري إلى اليونانية. انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٧٠٦.

(٢) Arsino ll أرزينوي الثانية ، أميرة مصرية ابنة بطليموس سوتير (المنقذ) المسمى لاغوس Lagos ، وأخت بطليموس الثاني فيلادولفوس ، ولدت حوالي عام ٣١٦ ق. م. ، وتزوجت أخاها بطليموس الثاني بعد أن تزوجت مرتين قبل ذلك ، ولما تزوجها حسب التقاليد الفرعونية أطلق اسمها على عدد من المدن.

(٣) اسم السلالة التي أرسى دعائمها في حكم مصر أحد أفضل مساعدي الإسكندر الأكبر بطليموس سوتير الذي كان يعرف بالأول ، وحكم مصر من (٣٢٣ ـ ٢٨٥ ق. م.) ، واستمر البطالمة في الحكم حتى سنة (٣٠ ق. م.) ، وقد استطاع بطليموس الأول أن يقيم حكمه الغريب حسب العادات والتقاليد المصرية القديمة. ـ

٤٩

فإن بعض علماء الاشتقاق الجريئين يرون فيه تحريفا لكلمة : Oasis التي تعني بالعربيّة : الواحة. فإن كان الأمر كذلك ، فإن هناك تباعدا بين الاسم والمسمّى : لأن السويس بعيدة عن أن تكون واحة ؛ إذ ليس فيها شجرة واحدة ، ولا خيط ماء رفيع ، وليس هناك ما هو أكثر قحطا منها ، ولا ما هو أكثر كآبة منها. إنها أرض ضيقة محصورة بين البحر والصحراء ؛ وهما محيطان يغزوان الأرض ويحطمانها ، وهي تكافح بصعوبة ضد هذين العدوّين المخيفين.

فالبحر يشق ويقضم بلا كلل ولا ملل ، الرأس الترابيّ الذي تقع عليه ، أما الرمل فيزحف إليها في كل يوم ، ولم تعد تتسع / ٢٤ / إلا بصعوبة للأربعة أو الخمسة آلاف نسمة الذين لم يغادروها (١). إن من يقرأ عدد السلع التجارية التي تفخر السويس بأنها مركز تجمعها : كالمعادن ، والنسيج من أوروبا ، والحرير والتوابل من الهند ، منتجات مصر والجزيرة العربية ، والرز والصوف ، والعطور والجواهر والبن اليمني ـ يتوقع أن يجد مدينة مزدهرة في إمبراطورية الخلفاء التي تحدثنا عن روعتها ألف ليلة وليلة.

ليس هناك شيء من ذلك. فكل تلك السلع الثمينة تعبرها ليس إلا ، دون أن تتوقف إلا في محطات الصحراء ، وإن تجارتها البائسة ، تسيطر عليها جماعة من الوسطاء اليونانيين الذين لا يعملون لحسابهم. أما السويس نفسها فهي لا تبيع شيئا ، لأنها لا تنتج أبسط الحاجات الضرورية الأولية ، ماذا أقول؟ لا ينمو فيها أي نوع من الخضار ، وليس هناك قطعة واحدة من العشب الأخضر على أديمها ، ولا يهديها البحر إلا بعض الأسماك القليلة والصغيرة. يأتيها كل شيء من القاهرة ، وليس فيها الماء الذي تشربه الحيوانات ، والذي ينبغي أن يذهب الناس إلى مكان يبعد أكثر من مرحلة للبحث عنه ، أما الماء الذي يشربه البشر

__________________

ـ وآخر من حكم من هذه السلالة هي كليوباترة التي سقطت مصر في عهدها بأيدي الرومان.

(١) انظر حول الوصف الذي قدمه الرحالة لمدينة السويس وغيرها من مدن البحر الأحمر في كتاب : مصر في كتابات ... ، موثق سابقا ، ص ٣٦٠ ـ ٣٦٣. وفصّل بيرتون في الحديث عن السويس في رحلته ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٣٥ ـ ١٥١.

٥٠

فهو أكثر بعدا أيضا ؛ إذ يذهب الناس بحثا عنه إلى بركة موسى ، الواقعة على الشاطىء الآخر لخليج السويس ، وإن هذا الماء الذي لا يقل ثمنه عن قرشين للقربة غير صالح للشرب دائما ؛ وإن الأشخاص الحريصين على ما يشربون ، لا يشربون إلا ماء النيل الذي يستقدم على ظهور الإبل عبر الصحراء ، وذلك مبالغ فيه للحصول على كأس من الماء. / ٢٥ / أما المدينة نفسها فلا تكاد تستحق الوصف ، شوارعها وأزقتها ضيقة وملتوية ، وتعج بالغبار ، وهي وسخة غالبا. أما البيوت فسيئة العمارة ، لا يهتم أصحابها بترميمها ، وأغلبها من الخشب أو من اللّبن ، وفيها بعض المساجد البسيطة ، ومناراتها أشد بساطة منها أيضا ؛ فيها فنادق واسعة ، ولكنها وسخة جدا ، مخصصة للبضائع والتجار ، وفيها سوق واحد يفتقر في ثلاثة أرباع السنة إلى الحاجات الضرورية جدا : تلك هي اليوم حال تلك المدينة ، التي كانت في سالف الدهر مزدهرة بلا شك ، ويمكن أن تعود إلى ما كانت عليه من ازدهار بل أكثر ، عند ما يتم فتح القناة التي ستجعل منها واحدا من أهم الموانىء التجارية ، بل السياسية في العالم كله. وإن لمينائها ، مع ذلك ، وعلى حالته الراهنة ، مكانة متوسطة ، تحيط به بيوت صالحة للسكن ، وله رصيف على البحر تجده بعض الأحيان يعج بالناس. إن هناك عددا كبيرا من المراكب المصنوعة محليا ، والمخصصة لتمخر عباب البحر الأحمر ، ولكن عدد المراكب التي تقضي الليل في المرفأ يدل على أن حركة الملاحة ليست بالنشاط المطلوب. وقد كان أحد تلك المراكب المشحونة بالرقيق يفرغ حمولته البشرية لحظة وصولنا. يقيم قليل من الأوروبيين في هذا المكان الكئيب ، ومع ذلك عرفت سيدة فرنسية يعمل زوجها بالتجارة في هذه الأنحاء ، وكانت / ٢٦ / تعيش في انتظاره مع ابنتها الجميلة البالغة من العمر ثمانية عشر عاما ـ في عزلة تكاد تكون مطلقة. ورأيت أيضا القنصل أو نائب القنصل البريطاني الذي تجدر الإشارة إلى أنه يسكن المنزل الذي كان ينزل به الجنرال نابليون في عام ١٧٩٩ م. وكان ذلك القنصل يجمع بين وظيفة القنصل ووظيفة الوكيل التجاري لشركة الهند الشرقية ، وإن هذه الازدواجية السياسية التجارية صفة مشتركة للقناصل البريطانيين جميعهم ؛

٥١

ولكنني أفضل القانون الفرنسي الذي يحظر التجارة على قناصلها ؛ حفاظا على كرامتهم ، وإن كانوا يخسرون ماديا.

لقد اكتسب موقع السويس بعض الأهمية لدى القنصل البريطاني منذ أن أصبحت شركة بريد الهندLa malle des Indes تمرّ بهذا الطريق مرتين في الشهر ؛ إذ أصبحت سفن بومباي وكلكتا تنزل في السويس الركاب الذين يذهبون إلى الإسكندرية ليركبوا السفينة إلى بريطانيا وبالعكس. ويحدث هذا في كل خمسة عشر يوما نشاطا ينتج عن توفير الخدمات لمئتين أو ثلاث مئة شخص يزيدون أو ينقصون عن ذلك بقليل ؛ مما يعني أن هناك متوسطا سنويا يبلغ ستة إلى سبعة آلاف راكب. ينزل هذا الجمع الموسمي من مسافري العبور في مصر ، وكأنهم يريدون ابتلاعها ، شأنهم شأن جراد موسى (١) ؛ فأولئك الذين يصلون من بريطانيا يكادون يكونون جميعا من الشباب المشاغبين ، ومن الفتيات البيض المتوردات اللواتي يأتين إلى المستعمرات الهندية للبحث عن أولئك الذين لهم مكانة إدارية أو تجارية ليتخذن منهم أزواجا / ٢٧ /. أمّا في العودة فالمشهد يتغير ، فالشباب أصبحوا رجالا سمرا ، وقد شاخوا قبل سن الشيخوخة ، والفتيات أصبحن أمهات أو جدات.

لقد أقيم في السويس على شاطىء البحر ، فندق بريطاني واسع مخصص لإسكان القادمين وإطعامهم وسقايتهم ، وليس ذلك بيسير ، بسبب نهم القادمين الجدد ، وفقر السوق بالبضائع. حينئذ تصبح المدينة ضحية غزو أوروبي حقيقي. أما بقية العام فهي كئيبة ساكنة. أمّا في هذه الأيام ، ففيها حركة مفتعلة ، تكاد تكون محمومة ، وليس لها من نتائج إلا أنها تجعل السكون عند ما يعود أكثر عمقا ، ثم تعود إلى حالة الخمود في اليوم التالي. ولما رفضنا النزول في محطة الطريق ، ولم نرض بالنزول في الفندق البريطاني المريح فقد

__________________

(١) الجراد الذي أرسله الله على آل فرعون ، كما في قوله تعالى (الأعراف ، ١٣٣) : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (١٣٣).

٥٢

عسكرنا في المدينة ، وكأننا في الصحراء ، لقد نصبنا خيامنا على الشاطىء ، وسط عدد من المدافع المنصوبة في هذا المكان للدفاع عن الساحل ـ زعموا ـ ، وهي لم تستخدم ولن تستخدم أبدا ، لقد كانت متروكة هنا دون أن يكون قربها ظل حارس يسهر عليها ، ولا تستخدم إلا لعبا للأطفال يلهون بها ، ويعتلونها دون خوف وكأنها أحصنة خشبية. يمتد هذا الشاطىء الواسع والجميل كل الجمال بعيدا حتى سفح الجبل الذي يبدو منحدرا انحدارا عموديا في البحر. أما الميناء فيمتد إلى الجنوب وكأنه سماط أزرق ، / ٢٨ / وتسد الأفق قمم سلسلة جبال سيناء الوعرة.

لقد كانت السويس قبل وصولنا بفترة وجيزة ، مسرحا لاضطرابات شعبية ضد الأوروبيين الذين يسكنونها ، فقد تجمع الناس أمام منازلهم ، وبدأوا يكيلون لهم الشتائم ويهددونهم ، ويرمون نوافذ بيوتهم بالحجارة ، وكان يمكن لسلطات المدينة أن تعيد الهدوء إليها ببساطة ، لأن الشعب المصري لين العريكة ، ولا يحب الشراسة ، ولكن حاكم المدينة لم يأبه للأمر ، أو أنه تهاون في اتخاذ الإجراءات ، معتقدا ـ دون شك ـ أن مثل هذا التصرف لا يعدم أن يعجب الباشا الحاكم ، ويشجع الحقد المتطرف ، ولم يكن بالتالي من الحكمة أن يبدي الحاكم حماسة بالغة لضبط الأمور في مثل هذه الأحوال. ولكن العاصفة مرت بسلام ، ولم تخلّف أي أضرار ، وهدأت وحدها ، ولكن ليس دون أن تترك آثارها في الجالية الأوروبية في القاهرة.

وصلنا والمعمعة محتدمة ، وتلقيت من يد مجهولة حجرا وأنا أتجول في أحد الأزقة الضيقة. وأقر أنه كان عليّ التزام الحذر الواجب في مثل هذه الظروف ، وعدم التخييم في العراء دون أن يكون لنا ما يحمي رؤوسنا إلّا سقوف خيامنا ، ولكننا مع ذلك لم نكن نستطيع التراجع عن خطوتنا الجريئة ؛ ولم يتعرض مخيمنا لأية مضايقة. ولكننا تعرضنا لحادثتين / ٢٩ / من نوع آخر ، ويحسن أن أسجلهما لتكونا عظة للرحالة الذين يسيرون على خطانا في المعاناة من حياة الرحيل ومشكلاتها البسيطة التي لا تخلو منها الحياة الإنسانية عموما ، وحياة كل فرد على وجه الخصوص. كان يقوم على خدمتي شاب

٥٣

أسود ، كان من قبل في خدمة كلوت بيك (١) Clot ـ Bey الذي اصطحبه إلى باريس ، حيث تعلم الفرنسية هناك ، وكان اسمه عبد الله ، وكان يحب الموسيقى ، ويحب أن ينفخ بالمزمار ، وهي بلا شك تسلية بريئة ، إلّا أنها كانت مع ذلك وبالا عليّ. كان عبد الله في إحدى الأمسيات يمتطي أحد المدافع التي تحدثت عنها ، وكأنه على ظهر حصان ، وكان ينفخ في آلته الموسيقية المفضلة ، وقد نسي شمعة مضاءة في خيمتي مما تسبب في إشعال النار فيها ، وأكلت النار الخيمة تماما ، وحولتها إلى كومة من الرماد ، وقد عانينا صعوبات جمة في إنقاذ أمتعتي الخاصة من ألسنة اللهب. ولست بحاجة إلى القول : إن أحدا من السكان الأصليين لم يفكر بمديد العون لنا ؛ وأشير هنا إلى جزئية تدل على التخلق بأخلاق الشرقيين ؛ وهي أن أحد السكان من أصول بريطانية ، كان يعمل موظفا في النقل ، وكانت خيمتي منصوبة أمام البيت الذي يسكنه ، وكان ينظر ببرود من نافذته إلى الخيمة تحترق ، ولم يكلف نفسه عبء السؤال عن حاجتنا للمساعدة في هذه اللحظة الحرجة ، مع أنني كنت أحمل إليه رسائل توصية.

أمّا الحادثة الثانية فتتمثل في أنه كان لدينا طبّاخ من القاهرة ؛ وإن من ولدوا في هذه / ٣٠ / المدينة العاصمة يحبونها حبا لا يستطيعون معه الابتعاد عنها إلّا على مضض. ومع ذلك فإن طباخنا العربي وافق على مرافقتنا ، وهو يظن أننا لن نذهب إلى أبعد من جبل سيناء. ومنذ أن علم أننا سنمضي في رحلتنا حتى جدة ، بل أبعد من ذلك ، تراجع عن مرافقتنا ، ولم يكن هناك ما يمكن أن يغريه بالسير خطوة واحدة ، حتى النقود. لقد كنا في حيرة من أمرنا ، لأننا كنا بحاجة ماسة إلى أي طباخ بسبب طبيعة الرحلة التي ننوي القيام بها.

__________________

(١) كلوت بك Clot ـ Bey ضابط وطبيب فرنسي عضو الأكاديمية الملكية الطبية في باريس ، زار مصر ثم استقر فيها ، ويعد مؤسس الخدمات الطبية فيها. وضع كتابا بعنوان : لمحة عامة عن مصر نشر في عام ١٨٤٠ م. اتهمه عدد من الرحالة بأنه كان من المدافعين عن سياسة محمد علي. انظر : مصر في كتابات ... موثق سابقا ، ص ١٠٠.

٥٤

وكانت الوسيلة الوحيدة أن نحاول إيجاد طباخ في السويس ، ويبدو أن أقدار الله ساعدتنا فساقت إلينا غاسبارو مازانتي Gasparo Mazzanti وهو من سكان فلورنسة الأصليين ، وكان يتحدث اللغة التوسكانيةToscan بلهجة واضحة ، خاصة بأهل فلورنسة ، ولم يكن يعرف أي كلمة عربية ، على الرغم من أنه أقام في مصر خمسة عشر عاما ، بعد أن ساقته إليها خلافات أسرية. وكان يتملك مطعما في الإسكندرية ، وكان في هذه الأثناء موجودا بالمصادفة في السويس ، وعرض علينا خدماته ، فقبلنا ، وقد كان على استعداد للذهاب معنا إلى آخر الدنيا من أجل عشر تلرات (١) Talari في الشهر. لقد قضى هذا الرجل الشجاع في خدمتي ثمانية أشهر كان خلالها مثالا في التفاني والاستقامة. وإن مثل هذا الخلق أصبح نادرا كل الندرة لدى الأوروبيين الذين يقيمون في الشرق ، حتى إنه ينبغي الوقوف عنده وتسجيله.

ترسل فرنسا إلى السويس قنصلا ، ولكنه بالطبع يفضل الإقامة / ٣١ / في القاهرة أو الإسكندرية على الإقامة في هذا المنفى. ويدير أعمال القنصلية التي لا تكاد تذكر في غيابه تاجر من السكان الأصليين اسمه كوستاCosta ؛ وهو يوناني الأصل كما أظن. وهو لا يتقن لغة البلد التي يمثلها ، ولكنه في مقابل ذلك يتقن الحديث بالعربية ، ويحفظ عددا من الحكايات والقصص الممتعة التي يوشّي بها أحاديثه. وقد كان أحد أبنائه يتكلم الفرنسية ، فأفدنا منه فوائد جمة ، ولا يسعني إلا الإشادة بما قدمه لي من خدمات جيدة إبان إقامتي.

__________________

(١) ريال ماريا تيريزا ـ ثالر (النمساوي) ، وقد اشتهر في الجزيرة العربية باسم (الريال الفرنسي) وقد طغى هذا على الاسم الحقيقي للريال ... ويعد من أشهر العملات الأجنبية التي استخدمت على نطاق واسع في الجزيرة العربية ، وقد سكت من معدن الفضة في عام ١٧٨٠ م ووزنها يوازي الأوقية الواحدة ، وظل التعامل بها قائما في أقطار الجزيرة العربية حتى وقت قريب بسبب ثبات وزنها وعيارها اللذين لم يتغيرا ، وقد أطلق العامة عليه اسم (أبو طاقة) بسبب الرسم الموجود على ظهره. انظر كتاب : تطور النقود في المملكة العربية السعودية ، الصادر عن مؤسسة النقد العربي السعودي ، ١٤١٩ ه‍ ، ص ١٩.

٥٥

كنا بحاجة إلى مركب يحملنا إلى جدة ، ولم يكن الحصول على مركب يناسبنا بالسهولة التي نعتقدها ، لأن مراكب السويس كلها مرقمة ، ومسجلة ، ليبحر كل واحد بدوره ، دون أن يكون بالإمكان تغيير الدور أبدا. إذا ، لا نستطيع اختيار المركب الذي نريد ، ونحن مجبرون على ركوب المركب الذي جاء دوره في الإبحار سواء كان مناسبا أم لا. لم يكن هذا الأمر ليناسبنا. ولم يكن بوسعنا تجاوز ذلك إلّا بموافقة الحاكم ، وقد كان بلا شك سيوافق على استثنائنا من الدور ، ولكن كان ينبغي طلب ذلك ، وهو إجراء شكلي ممل.

وجدنا أنفسنا بفضل المصادفة وكوستا في غير حاجة لطلب مساعدة أحد ، أو لدفع شيء ؛ وهما أمران متطابقان في الشرق. لقد كان يرسو في المرفأ / ٣٢ / مركب من جدة ، ولم يكن ينتظر للعودة إليها إلّا أن يجد أي حمولة كانت ، لقد استأجرناه كاملا لنا ولمرافقينا ولأمتعتنا مقابل مبلغ بسيط بلغ ألف قرش (١) ؛ وهو بالتأكيد مبلغ تافه إذا علمنا أن المسافة تبلغ ستة آلاف كيلومتر بحرية ، ناهيك عن أنه كان على المركب أن ينتظرنا في الطور الزمن اللازم لزيارة جبل سيناء. وقد وقع كوستا نفسه عقدا بالعربية ، وختمه بالخاتم القنصلي زيادة في الاحتراز.

ولم يكن بيرتون ليسافر معنا لأنه كان ، كما قلت سابقا ، ذاهبا للالتحاق بوحدته العسكرية في بومباي. وإن الباخرة التي ستحمله إلى هناك مع الركاب البريطانيين الآخرين ، التي كان وصولها إلى السويس منتظرا بين لحظة وأخرى ، رست على بعد خمسة أو ستة أميال عن الشاطىء ؛ لأن ضحالة البحر لا تسمح للقطع البحرية الكبيرة بالاقتراب أكثر ، دون أن تتعرض للخطر. وكان أحد الزوارق التابعة للباخرة يؤمن الاتصال بينها وبين المدينة ، ويقوم بعدد من الرحلات بينهما يوميا ؛ وكان على متنه ثمانية أو عشرة من الشجعان الذين يرتدون سترا بيضاء وأحزمة حمراء ، وكان يسير على وجه الماء المستوي كأنه

__________________

(١) ذكر بيرتون ذلك في كتابه : قصة رحلة شخصية إلى الحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة ، مج ١ ، ص ١٧٨ ـ ١٧٩ ، من النص الإنكليزي ، ط ١٩٦٤ م.

٥٦

طائر النّوء (١) Pe ? trel.

وقدم لي الشيخ عبد الله ، أعني بيرتون ، عند الفراق تذكارا منه نسخة من القرآن الكريم كان يحملها معه إبّان / ٣٣ / الوقوف على عرفات ؛ وهي الشعيرة التي يتوج بها الحج إلى مكة المكرمة ، والتي تكفل للمؤمن أن يحمل اللقب الأثير (الحاج) ، وكان على المصحف إهداء بالعربية كتبه بيرتون بخطه ، يسجل الذكرى ، ويحدد تاريخ تلك الأيام التي لا تنسى في حياة المسلم ، ولعلها أكثر رسوخا في حياة مسيحي.

إذا ، غادرت السويس مع رفيق رحلة واحد ، وهو إنكليزي أيضا ، يتحدث العربية جيدا ، ويكتبها عند الحاجة ، وكان يتجول مسافرا في الشرق منذ عدد من السنين ، وإن حياة المغامرة التي كان يعيشها تستحق أن أشير إليها ، وربما سأخصها فيما سيأتي بإشارة تكاد تكون غير مشرفة (٢).

__________________

(١) طائر بحري صغير الجناحين يمعن في الطيران بعيدا عن اليابسة.

(٢) علمنا من حاشية خصصها بيرتون للإشارة إلى لقائه بدييه أن هذا اسم المرافق الذي لم يذكره ديدييه أبدا هوAbbe ? Hamilton القس هاملتون البريطاني وأشار بيرتون إلى أنهما دفعا ١٠٠٠ قرش (ما يعادل ١٠ جنيهات إسترلينية) أجرة السنبوك من السويس إلى جدة. انظر نص رحلة بيرتون الموثق أعلاه ، ص ١٧٨ ـ ١٧٩ ، الحاشية (٤).

وانظر بحثنا : قراءة في رحلة إلى الحجاز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عنوانها : «إقامة في رحاب الشريف الأكبر ـ شريف مكة المكرمة» تأليف : شارل ديدييه ، مجلة الدرعية ، العدد ٨ ، ١٤٢٠ ه‍ / ٢٠٠٠ م ، ص ٨٥ ـ ١١٠.

٥٧
٥٨

الفصل الثالث

الطور (*)

أبحرنا يوم الحادي والعشرين من يناير (كانون الثاني) في الساعة الثانية ، ونشرت الأشرعة بعد ذلك بقليل ، ولكن إبحارنا لم يدم إلا فترة بسيطة ، لأننا ألقينا المراسي في الساعة الرابعة عند سفح جبل أبو دراج (١) لقضاء الليلة هناك ، مع أن البحر كان هادئا ، والريح مؤاتية ، ولم يكن هناك ما يمنع مواصلة الإبحار. ولكن مراكب البحر الأحمر لا تمخر عباب البحر إلّا في النهار (٢) ، ناهيك عن أننا كنا على مسافة قريبة من بركة فرعون (٣) ، وهو اسم يطلقه

__________________

(*) وسميت بالطور نسبة إلى طور سيناء الذي هو أشهر جبالها ... وكانت تسمى قديما «ريثو» وبقيت معروفة بهذا الاسم إلى القرن الخامس الميلادي. انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ١١٣. وتحدث عنها بيرتون في رحلته ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٦٥ ـ ١٦٧.

(١) كتبها ديدييه : Mont Abou d Anadj ، ولعل الصواب ما أثبتناه في الأصل ، انظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٣٢. وكتبت في الترجمة الإنكليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ١٨ ، Abu Anaj ولعل ما ذكرناه هو الصواب.

(٢) انظر : رحلات في شبه جزيرة العرب ، بوركهارت ، ترجمة د. عبد العزيز الهلابي ود. عبد الرحمن عبد الله الشيخ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ١٤١٣ ه‍ / ١٩٩٢ م ، ص ٣٩٠ ـ ٣٩١. وسنشير إليها ب «رحلات بوركهارت ...». وانظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٦٠.

(٣) انظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٦٣ ، ١٦٥.

٥٩

العرب / ٣٤ / على مكان هلاكه ، ويظنون أنه ، منذ ذلك ، مسكون بجان أشرار : لذلك لا يخاطر البحارة بقطع تلك اللجة الضحلة ليلا ، إنهم يفعلون ذلك بصعوبة في وضح النهار ، ولا يفعلونه إلّا بعد أن يصالحوا الأرواح الشريرة بأن يقوموا بممارسات خرافية.

إننا هنا في قلب الذكريات الموسوية. فهناك غير بعيد على الأرض حمام طبيعي يحمل اسم نبي بني إسرائيل ؛ حمام سيدنا موسى (١) ، وقد تركنا وراءنا عينا مشهورة تحمل اسمه أيضا. عيون موسى (٢) ، وتبدو بيضاء اللون على الشاطىء في وسط أشجار النخيل. ومن هذه العيون تتزود مدينة السويس بماء الشرب كما ذكرنا سابقا. وهو مكان يقصده المسافرون. لقد زارها نابليون بونابرت نفسه إبّان إقامته في مصر ، دون أن يمضي في التقضي أبعد من ذلك. ويروى أنه فوجىء خلال عودته بالمدّ ، وتعرّض لخطر حقيقي عند ما غمر الماء حصانه حتى بطنه ، ولم ينج من هذه العثرة إلّا بمساعدة البدو الذين سارعوا إلى مساعدته. لنفترض أن إمبراطور المستقبل هلك هنا ، ولنتصور التغيير الذي كان سيحدث في مصير العالم! يا له من مجال مفتوح لتخمينات (٣)! وينتصب

__________________

(١) ويقع في جبل صغير على خليج السويس على أربعة أميال من مدينة الطور فيه سبعة ينابيع كبريتية ... وبقرب هذا الجبل ميناء «أبو صويرة» ، انظر : تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها ، نعوم بك شقير ، دار الجيل ، بيروت ١٤١١ ه‍ / ١٩٩١ م ، ص ٣٤. وسنشير إليه ب «تاريخ سيناء ...».

(٢) عيون موسى : وهناك ميناء على ثمانية أميال من السويس ، فيه محجر صحي قديم ، انظر : تاريخ سيناء ... ص ١٥. وانظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٣) جاء في كتاب : الحملة الفرنسية في مصر ، بونابرت والإسلام ، هنري لورنس وآخرون ، ترجمة بشير السباعي ، سينا للنشر ، القاهرة ١٩٩٥ ، ص ٣٠٨ : «وفي السويس ، يتحدث بونابرت مع قباطنة سفن البحر الأحمر ، وهو يبشر آنذاك باستئناف العلاقات التجارية خاصة مع الحجاز. والحادث المهم الوحيد هو أن القائد وعددا من رفاقه الذين يضلون طريقهم خلال ليلة ٢٨ ديسمبر ، يفلتون بصعوبة من الغرق ، حيث يصعد مد البحر بسرعة بالغة في تلك المنطقة. وهو يشير بنفسه إلى أن ذلك ـ

٦٠