رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

شارل ديدييه

رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٦

أما بقية اليوم فقد انقضت في استقبال الزوار ، فقد جاء لزيارتنا على التوالي خازن الشريف الأكبر ، وكبير خدمه ، وغيرهما من موظفيه ، ولست أدري إن كان سيدهم قد أرسلهم أم أنهم قاموا بذلك متطوعين. ثم جاء بعدهم أصدقاء أسرة شمس وجيرانهم ، وأشخاص آخرون من المدينة دفعهم الفضول إلى المجيء. / ٢٥٩ / نتزاور في الشرق دون سابق معرفة ، وهناك تسامح كبير في هذا المجال. فغالبا لا يتبادل الزائر والمزور كلمة واحدة ، ولكن المجاملة هي القانون ، ولن يخطر ببال أحد ، أيا كان ، أن يسأل زائرا ، وإن كان غير معروف ، لا من يكون؟ ولا لماذا يأتي؟

لقد كان شمس العجوز ، وخصوصا ابنه عبد الله ، يقضيان معنا وقتا أكثر مما يقضيانه في منزلهما ، وقد أسديا لنا بطيبة خاطر خدمات جليلة ، وزوّدانا بمعلومات عن أشياء تثير فضولنا ، لقد كانا باختصار ينتهزان كل الفرص ليكونا مفيدين لنا ، ولطيفين معنا. وخطر ببالهما أن يأتيا بشخص من الجوار يقوم بدور المهرج ، أملا في أن تستطيع حماقاته تسليتنا.

إن للعرب ميلا واضحا لهذا النوع من الترويح عن النفس ، ويبدو أنه ليس من الصعب إرضاؤهم في اختيار الطرف التي تكاد تكون في غالب الأحيان

__________________

ـ القرى وما ينبت عليها من الأشجار وما فيها من المياه ، موثق سابقا ، (نوادر المخطوطات) ، ج ٢ ، ص ٤٢٠ : «والطائف ذات مزارع ونخيل وموز وأعناب وسائر الفواكه ، وبها مياه جارية وأودية تنصب منها إلى تبالة. وجلّ أهل الطائف ثقيف وحمير ، وقوم من قريش ، وغوث من اليمن ، وهي من أمهات القرى ... وبالطائف منبر ...». وذكر ياقوت الحموي تعليلات كثيرة لتمسيتها بالطائف. وقال البكري : وإنما سميت بالحائط الذي بنوا حولها وأطافوه بها تحصينا. وكان اسمها : وج. قال أمية بن أبي الصلت (الثقفي) :

نحن بنينا طائفا حصينا

يقارع الأبطال عن بنينا

ومصيفها معروف من قديم الزمان ، قال النميري في زينب بنت يوسف أخت الحجاج يصف نعمتها :

تشتو بمكة نعمة

ومصيفها بالطائف

٢٦١

إباحية. أما أنا فقد كان هذا النوع من الترويح يبدو لي في الأعم الأغلب مضجرا ، خصوصا أن القسم الأعظم من فكاهات المهرج كانت تتناول أشخاصا أو أشياء غريبة عليّ ، ولم تكن في غالب الأحيان إلّا توريات لم أفهمها في أصلها ، وحينما تترجم تفقد روح الدعابة كلها.

لقد أتيح لي بذلك مخالطة عدد كبير من السكان الأصليين ، وسنحت لي الفرصة في الطائف كي أتأكد من أمر كنت لاحظته في جدة ؛ وهو : أن العرب أكثر نباهة ، وأكثر ظرفا ، من الأتراك ، ولا نجد / ٢٦٠ / لديهم ، كما هو الحال في عدد من مناطق الشرق ، تلك التصرفات الاستعراضية والحمقاء التي تجعلهم يرون أن منزلتهم مرتبطة بلا مبالاتهم.

زرت أسرة شمس في بيتهم الذي انتقلوا إليه ليتركوا لنا منزلهم الذي يسكنونه عادة ؛ وبدا لي ضيّقا جدا لاحتواء أسرة كبيرة مثلهم ؛ وقد ازداد تقديري للإزعاج الذي عانوا منه بسببنا. ليس للبيوت في الطائف طابق أرضي كما هو الحال في بيوت مكة المكرمة ، ويستقبل الزوار في الطابق الأول. ولست بحاجة للحديث عن الاستقبال الذي لقيته في منزل شمس ، فقد بالغوا في إكرامي ؛ كانت القهوة والشراب والحلويات تتابع دون انقطاع ، وخصوني بأجمل شيشة في المنزل. وبينما كنت هنا أدخن وأطرح الأسئلة ، دخل علينا شخص يعلوه البياض من الرأس إلى القدمين : لحية بيضاء ، وثوب أبيض ، ووشاح أبيض ، كل شيء باختصار أبيض ، عدا الوجه واليدين التي تكاد تكون سوداء. كان رجلا وقورا ، وحكيما ، عالما بالشريعة الإسلامية ، ومعروفا بورعه وتقاه. لقد كان حديثه موشى بسلسلة لا تنقطع من آيات القرآن الكريم ، والحكم الشائعة في الشرق. وإليكم إحدى الحكم التي أتحفني بها ، والتي يمكن أن تعطي فكرة عن الحكم الأخرى : «الصبر مرّ كاسمه ، ولكن ما يتلوه حلو كالعسل». إن فهم هذه الحكمة يقتضي / ٢٦١ / فهم التورية (١) التي تقوم عليها : لأن الكلمة العربية : الصبر ، تطلق على مسحوق شديد المرارة ، شائع

__________________

(١) في المثل طباق بين مرارة الصبر وحلاوة العسل.

٢٦٢

في بلادهم ، ويمكن أن يكون مأخوذا من النبتة التي تسميها العامة : عنب الذئب Douce ـ Ame ? re.

ذهبنا عشية مغادرتنا الطائف لزيارة الشريف ليأذن لنا بالانصراف ، وسارت الأمور كما كانت عليه في الزيارة الأولى تماما ، باختلاف بسيط ، هو أن جيش البدو الذي كان متجمهرا حول القصر كان أقل عددا ، واستقبلنا بأبهة أقل ، ولكن باللياقة نفسها ، والاحترام نفسه. كان الشريف الأكبر في تلك الأمسية يرتدي عباءة خضراء كشميرية رائعة ، مزينة بسعفات حمراء. ولمّا كنّا قد تعارفنا فإن الحديث كان أكثر دفئا ، تحدثنا عن الكوليرا التي تجتاح مكة المكرمة ، وتتجنب الطائف ، وعن مصر ومحمد علي الذي كان الشريف يتحدث عنه باعتدال شديد ، مع أن هذا الباشا الذي كاد أن يصبح ملكا هو الذي قوّض السلطة شبه المطلقة التي كان يتمتع بها والده غالب. كان أكثر قسوة على عباش باشا ، وكان يدين أفعاله الخاصة والعامة.

تحدثنا أيضا عن المعرض الصناعي الكبير الذي كان يعدّ له حينئذ في باريس ، ولمّا دعوت الشريف الأكبر إلى أن يرسل إلى المعرض نماذج من المصنوعات المحلية مؤكدا له أنها يمكن أن تلقى هناك بعض الرواج : «أجابني ضاحكا ، نعم إنه رواج إثارة السخرية». / ٢٦٢ / إن نظري الذي أكاد أفقده تماما لحظة إملاء حكاية آخر رحلاتي كان حينئذ في أسوء حال ، وقد أظهر لي الأمير بأصدق العبارات ، تمنياته بصحة أفضل ، وأعرب عن تعاطفه معي ، واهتمامه بي ، مؤكدا لي بصدق أن قلبه ينفطر لحالتي. وقال لي على سبيل المواساة : إن واحدة من أصغر نساء حرمه أصيبت بالداء نفسه ، وإن لها أن تشتكي من حالها أكثر مني ؛ لأنها لا تملك لمداواة ذلك ما نملكه نحن في أوروبا من وسائل ، ومن أطباء مهرة. وقد قطع عليّ وعدا صريحا أن أرسل إليه أخباري ، وأن أكتب إليه بمجرد عودتي إلى فرنسا ، وقد وفيت بذلك الوعد بإخلاص.

أضيف لكي أنتهي من حديث الزيارة الأخيرة أن الشريف الأكبر كان إبّان إقامته الطويلة في إستانبول على علاقة مستمرة بالسفير البريطاني هناك

٢٦٣

اللورد ستراتفورد كانينغ Stratford Canning ، وهو اليوم يحمل لقب دو ردكليف (١) De Redcliffe : وقد سأل رفيقي في الرحلة عن أخبار كانينغ ، لأن رفيقي كان ، كما سبق لي القول ، بريطانيا ، وقد أكد رفيقي للشريف الأكبر أنه يعرف ذلك الدبلوماسي معرفة وثيقة : واعتمادا على ذلك كلفه الشريف بحمل رسالة منه إلى اللورد ، وقد قام السيد كول بلا شك بإرسالها إلى عنوانه.

ولا أستطيع هنا التعبير عن مدى / ٢٦٣ / استيائي ، باعتباري أوروبيا وإنسانا ، من التصرف الوضيع الذي قام به رفيق رحلتي في حضرة الشريف : ليست المرة الأولى التي تسنح لي الفرصة فيها لإبداء مثل هذه الملاحظة على الإنجليز هم نموذج الغطرسة ، وقد صورهم كذلك جان ـ جاك روسو (٢) J. ـ J.Rousseau نفسه في شخصية الميلورد (٣) إدواردMilord Edouard. وقد ثبتت على الزمن والتجربة ، صحة ذلك الحكم المسبق. عرفت أنا كثيرا من

__________________

(١) ١ st Viscount Straford Caning de Redclie السير ستراتفورد كانينغ دورد كليف (١٧٨٦ م ـ ١٨٨٠ م) دبلوماسي بريطاني كان يحمل لقب فيكونت أول (نبيل ـ دون الكونت وفوق البارون) ، عمل سفيرا لبلاده سنوات عديدة في إستانبول ، وفي وقت من أهم المراحل التي كانت تمرّ بها الدولة العثمانية (النصف الثاني من القرن التاسع عشر) وله بصمات في كثير من الأحداث التي واجهتها الدولة العثمانية في الجزيرة العربية وخصوصا في عسير والحجاز ، ولا غرابة أن تكون له علاقة ومعرفة بالشريف عبد المطلب الذي أقام في إستانبول فترة طويلة ، وكان له في الحجاز دور فاق ما كان لغيره وعلى مدى ما يقرب قرن. انظر : آل زلفة ، الطائف في كتب الرحالة الأوروبيين ، موثق سابقا ، الحلقة ٦ ، الجزيرة ، العدد ١٠١٧٩ ، ١١ جمادى الأولى ١٤٢١ ه‍ / ١١ أغسطس (آب) ٢٠٠٠ م ، ص ٨. وكتب ديدييه Radclie والصواب ما أثبتناه في الأصل كما في المعاجم التي ترجمت للرجل. وانظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٤٣.

(٢) جان ـ جاك روسو (١٧١٢ ـ ١٧٧٨) كاتب وفيلسوف فرنسي. كان لآرائه السياسية أثر كبير في تطور الديمقوراطية الحديثة.

(٣) الميلورد : رجل إنجليزي كريم المحتد.

٢٦٤

الإنجليز ، ومن كل المستويات ، سواء في البلاد الأجنبية ، أم في بلادهم ، ورأيتهم في كل الأماكن يخضعون خضوعا مطلقا للقوى الحاكمة سواء كانت مغتصبة أم شرعية. وليس لهم في هذا المجال أي نوع من الاستقلالية أو الرويّة ، ويعلّمون كل الطبقات تقديس المراكز الاجتماعية ، والتفاخر بأتفه الأشياء ، حتى لو كان فيها بعض الدناءة ، وقد تحدث عن ذلك بموضوعية ، وأنّبهم عليه بكثير من الظرف مواطنهم ثاكري (١) Thackeray في روايته «معرض الخيلاء» Foure aux Vanits. إن التربية هي التي جعلتهم كذلك ، ويبقيهم الروتين في هذه الهوة. لقد ولدوا ونشؤوا على أرض الإقطاعيين ، وشربوا مع حليب أمهاتهم روح الطبقية التي هي أساس تشريعهم الاجتماعي ومبدؤه. إن لدى الإنجليز خيلاء يعادل خيلاء الفرنسيين الذين ذكر دانتي (٢) Dante ومكيافيللي (٣) Machiavel أنهم أكثر الشعوب زهوا ، وهم (الإنجليز) يجهلون أبسط مفاهيم المساواة. / ٢٦٤ / كم أفضل على ذلك عزة النفس الفطرية لدى بدو الصحراء ، الذين يقتربون من أكبر الشخصيات بثقة ، ويحدثونهم بحرية ، ولا يتنازلون ، أمام أي كان ، عن الأنفة المشروعة التي تليق بالرجال. ويبدو ذلك واضحا في علاقتهم مع شيوخ القبائل ، فهم لا يذهبون إلا إلى خيامهم لطلب الضيافة ، وهم يفعلون مثل ذلك مع الشريف الأكبر نفسه ؛ إذ يعدّون قصره مثل بيوتهم ، ومخازن غلاله مثل مخازن غلالهم. يشيع في الشرق كله كما نعلم تقليد تقديم الهدايا ، ولم يستثننا

__________________

(١) William Thackeray وليم ثاكري (١٨١١ ـ ١٨٦٣) روائي إنجليزي. أشهر آثاره : «معرض الخيلاء» Vanity Fair (عام ١٨٤٨).

(٢) Dante Alighieri دانتي اليغييري (١٢٦٥ ـ ١٣٢١ م) كبير شعراء إيطاليا. صاحب ملحمة «الكومييا الإلهية» Divina Commedia ,La Commedie Divine (١٣٠٨ ـ ١٣٢٠ م).

(٣) Niccol Machiavelli نيقولو مكيافيللي (١٤٦٩ ـ ١٥٢٧) : فيلسوف إيطالي. قال إن : الوسائل كلها مبررة من أجل تحقيق السلطان السياسي (الغاية تبرّر الوسيلة) ، أشهر كتبه : «الأمير».

٢٦٥

الشريف الأكبر من هذا التقليد ؛ فأرسلها لنا مع أمين خزانته ؛ فتلقيت أنا عباءة بيضاء رائعة ، مصنوعة من الصوف البغدادي ، وموشاة بالذهب الخالص ، وتلقى السيد دوكيه عباءة سوداء ، وتلقى رفيق رحلتي قماش سرج موشى بالفضة. أما نحن فقد أبدينا كرما فياضا إزاء أشخاص منزل الشريف كلهم ، ممن أدوا لنا بعض الخدمات ، دون أن ننسى بالطبع أفراد أسرة شمس ؛ لأننا كنا نظن أنه ينبغي مقابلة الاحترام الذي أبدوه لنا بالبخشيش. وقد طلب السيد دوكيه من الشريف حامد النصيحة في ذلك ، فقام الشريف بتحديد حصة كل واحد من خدم البيت ؛ ومع أن المبلغ الذي حدده الشريف حامد كان معقولا ، لكنني كنت أرى أن نضاعفه ، وشاركني رأيي رفيق رحلتي / ٢٦٥ / الذي كنت أتقاسم معه نفقات الرحلة. وأيا كانت التضحيات التي فرضها علينا ذلك ، فإنه كان يليق بالمكانة التي منحونا إياها ، وفيها حفاظ على شرف الأوروبيين ، وكان ينبغي ، في حدود الممكن ، أن يكون كرمنا مساويا للضيافة التي حظينا بها. وأستطيع القول دون أي ادعاء : إن ما رأيناه باعتبارنا مجرد أشخاص عاديين ، كان عظيما ، ويمكن أن يذهب بعض الأوروبيين إلى الطائف بعدنا دون أن يعتريهم الخجل من الذكريات التي تركناها هناك. ولمّا لم يكن معي أي شيء مادي يمكن أن يهدى لأسرة شمس ، وعدت حفيده الصغير عبد القادر بأن أرسل له فيما بعد تذكارا مني ، ووفّيت بكلامي ، وأرسلت له من الإسكندرية بوساطة السيد اللطيف أوتري M.Outrey الذي عيّن بعد فترة من وصولي إلى الإسكندرية قنصلا لفرنسا في جدة ، ساعة ثمينة ، وتلقيت إثر ذلك من والده رسالة أثبت هنا ترجمتها الحرفية (إلى الفرنسية طبعا) نموذجا للأسلوب التراسلي لدى العرب المعاصرين.

٢٦٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

إلى عين النبلاء ، وفخر أقرانه ؛ صديقي السيد شارل ديدييه ، هداه الله العلي إلى طريق السلام الأبدي! بعد التعبير عن الاحترام اللائق / ٢٦٦ / بمكانتك ، أعلمك أنني لا أني أسأل عن أخبارك. استلمت رسالة من السيد دوكيه ، ومعها الساعة التي أرسلتها لابني عبد القادر. سلمتها له ، وقبلها مع الاعتراف بالجميل ؛ ولمّا كانت الأمور قد جرت بيننا على أساس من التسامح ، وعدم الاهتمام بالرسميات ، فلم يكن من الواجب أن تجشم نفسك هذا العناء.

ورأيت من المناسب في النهاية أن أكتب إليك هذه الرسالة لأخبرك بذلك.

والدي وابني عبد القادر ينتهزان هذه الفرصة ، ويبعثان إليك تحياتهم واحترامهم.

الطائف في ٢٠ جمادى الأول ١٢٧١ ه‍

١٥ فبراير (شباط) ١٨٥٥ م

التوقيع : عبد الله بن محمد سيد شمس الدين

٢٦٧
٢٦٨

الفصل الحادي عشر

من الطائف إلى جدة

غادرنا الطائف في ٢ مارس (آذار) ، في الخامسة مساء ، للعودة إلى جدة ، وعبر طريق أخرى ، صالحة لسير الهجن في كل مراحلها ، وهي تنحرف عن مكة المكرمة أكثر من الطريق الأولى. كان يوم السفر يوم خميس أيضا ، وهو أكثر أيام الأسبوع مناسبة للسفر كما ذكرت سابقا. كانت قافلتنا / ٢٦٧ / كما في القدوم : الهجن نفسها ، والأرحل نفسها ، والمرافقة نفسها ، ولم يكن ينقصها إلّا العبد أبو سلاسي الذي لم نكن راضين عن تصرفاته. ويبدو أنه شكي للشريف الأكبر فأبعده عن الطائف خلال وجودنا فيها ، واستبدل به في العودة عبدين آخرين من خدمه هما : علي ومرزوق ، وكانا مختلفين كل الاختلاف عن أبي سلاسي ، وكانا طوال الرحلة يتسابقان لأداء الخدمات ، وإشاعة البشاشة والابتهاج. وكان الشريف حامد ورئيس الجمالة أحمد حمودي قد عادا إلى وظيفتهما بمرافقتنا.

وانضم إلينا شريفان آخران لحظة الانطلاق ، أحدهما أرسله الشريف الأكبر لمصالحة قبيلتين في حالة حرب ، والآخر اسمه عبد المطلب ، وهو عجوز عمره ٧٥ عاما كان عائدا إلى بيته في وادي فاطمة (١) الذي كان ينبغي علينا عبوره. كانا يمتطيان هجانين ، بينما كانت فرساهما تخبّان بحرّية في وسط

__________________

(١) يقع وادي فاطمة شرقي جدة ، ويبعد عنها قرابة ٦٠ كيلومترا ، كما يبعد عن مكة المكرمة حوالي ٢٥ مترا. وفيه أملاك كثير من الأشراف. وفي معجم أودية الجزيرة ـ

٢٦٩

القافلة. لم يكن بالإمكان بكل تأكيد أن نسافر برفقة أشخاص أكثر تقديرا من هؤلاء على أرض الإسلام المقدسة.

خرجنا من المدينة عبر الباب المقابل للباب الذي دخلنا (١) منه ، وقدّمت

__________________

ـ لعبد الله بن خميس أن اسمه القديم : مرّ الظّهران ، وهو واد من السفوح الغربية للسراة غرب الطائف ... ويسمّى عند أبي حصاني وادي (فاطمة) نسبة إلى فاطمة زوجة بركات بن أبي نميّ أو أمه أو نحوه ، ويسمى الوادي أيضا وادي (الشريف) نسبة إلى الشريف أبي نميّ الذي حكم مكة ٦٠ سنة من ٩٣٢ ـ ٩٩٢ ه‍ ، وكان ممتلك الوادي فنسب إليه. وذكر البلادي في معجم الحجاز ٨ / ١٠٢ أنه كان في مر الظهران (٣٠٠) عين ، وأنه أدرك «٣٦» منها ... أما القرى ففي وادي مر الظهران اليوم ما يزيد على أربعين قرية ، وطوله (٢٠٨) كيلومتر. وانظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨. وقد ذكر البلادي في : أودية مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ص ٩ ـ ١١ جغرافيته وتاريخه ؛ وانظر مكة المكرمة في شذرات الذهب للغزاوي ، دراسة وتحقيق لبعض المعالم الجغرافية ، اختيار وتصنيف وتحقيق د. عبد العزيز صقر الغامدي ، ود. محمد محمود السرياني ، ومعراج نواب مرزا ، مطبوعات نادي مكة الثقافي ، ١٤٠٥ ه‍ ، ص ٢١٦ ـ ٢١٩. ويبدو أن أساس ما يذكره ديدييه من أن الوادي كان صدقة فاطمة الزهراء رضي‌الله‌عنها ما جاء في كتاب عرام بن الأصبغ السلمي : أسماء جبال تهامة وسكانها ، المنشور ضمن نوادر المخطوطات ، تحقيق عبد السلام هارون ، ط. دار الجيل ، بيروت ، ج ٢ ، ص ٤٠٤ ، ١٤١١ ه‍ / ١٩٩١ م ؛ إذ يقول عرام : «... ومنها (أي من القرى في وادي مر الظهران) ، أم العيال : قرية صدقة فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... وعليها قرية يقال لها : المضيق». ويميل محققو ما جاء عن مكة المكرمة في شذرات الغزي ، ص ٢١٨ ـ ٢١٩ (الحاشية) أن الوادي منسوب إلى فاطمة بنت الشريف ثقبة بن رميثة ، وقد تزوجت ثلاثة أشراف كانوا يقطنون الوادي ، وقضت شطرا كبيرا من حياتها في الوادي ... وربما تكون هي التي أعطت الوادي اسمه الحالي.

(١) لعله باب الحزم الذي يؤدي إلى قصر شبرا ، وللطائف ثلاثة أبواب هي : باب الريع ، وباب الحزم ، وباب ابن عباس. وذكر تاميزييه في رحلته (النص الفرنسي) ، ج ١ ، ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣ أن الدخول إلى الطائف عبر ثلاثة أبواب : أولها في الجهة الشمالية الغربية ويسمى : باب مكة أو السيل أو الشريف. (والثاني) : باب السلامة ، ويقع في ـ

٢٧٠

لنا هنا أيضا ، وللمرة الأخيرة ، التحية العسكرية من الحرس العثماني. ولم نكد نتجاوز الأسوار ، حتى وجدنا على يميننا قصرا ضخما أبيض ، تحيط به حديقة خضراء / ٢٦٨ / كثيفة الأشجار ، اسمه شبرا مثل اسم قصر خالد باشا الذي يقع على بعد ثلاثة أميال من القاهرة. ثم دخلنا بعد ذلك في مراع فسيحة حيث أدركنا الليل هناك. وكانت تبدو من بعيد في الظلام باقات من أشجار النخيل ، وكان ضجيج قطعان الماشية يختلط بعواء الكلاب. واستمر بنا السير على تلك الحال حتى وصلنا إلى قرية لقيم (١) التي كانت المحطة الأولى في هذه المرحلة.

وكان أحد تجار الطائف ، واسمه قاري Kari ، وهو عدو لأسرة شمس ، يمتلك في هذه القرية منزلا هيأه لنزولنا ، وجاء بنفسه إلى القرية لاستقبالنا مع بعض أقاربه. لقد أراد ، وبعد أن استضافتنا أسرة عدوه شمس في الطائف على غير ما كان يتمناه ، وتعويضا عما حصل ، أن يستقبلنا في بيته الريفي. لقد أدى واجبه على الوجه الأكمل ، وإن كان لي ما آخذه عليه فهو أنه جعلنا ننتظر خروف الضيافة المعتاد حتى بعد منتصف الليل. كان يشرف على العشاء ، ولكنه رفض المشاركة فيه : حسبما تقتضي أصول اللياقة. نمنا كما ينام المسافرون ، أي بكامل ثيابنا ، في غرفة كبيرة في الطابق الأول ، وقد فرش فيها من أجلنا السجاد بعضه فوق بعض. ولمّا أطللت في الصباح برأسي من النافذة ، بل من الكوة التي تسمح للضوء بالدخول إلى الغرفة ، وقع ناظري على بركة ماء كبيرة تحيط بها حديقة تغطيها أشجار البرتقال / ٢٦٩ / والرمان والليمون.

__________________

ـ الجنوب الغربي ... والثالث هو أبو العباس (الصواب ، ابن عباس) ويشرف على جهة ـ جنوب ـ جنوب غرب ... وقد كان فيما مضى باب رابع اسمه : باب تربة ، ولكن محمد علي عند ما استولى على الطائف من الوهابيين أمر بسده لأن هجمات الوهابيين كانت من هذا الجانب ، ولم يعد يعرف مكانه من ذلك الحين.

(١) في الأصل Gouem ، ولعل الصواب لقيم. وقد أشار البلادي في كتابه : على طريق الهجرة (رحلات في قلب الحجاز) ، د. ت ؛ ص ٣٧ أن لقيم تنطق مدغومة القيم ولعل ديدييه سمعها كذلك. وقال البلادي إنها من أودية الطائف.

٢٧١

قدم لنا الفطور في سرادق مفتوح ، غارق في حضن الخضرة ، وجعلنا سحر هذا المكان الرطب نبقى فيه أكثر مما ينبغي للمسافرين ، ثم غادرناه متأخرين. كان علينا بادىء ذي بدء أن نعبر أحد المراعي أو ما يسمّى بذلك في الجزيرة العربية ، وهو سهل رملي فسيح ، تنتشر فيه طاقات من الأعشاب التي كانت في ذلك الوقت يابسة من الشمس ؛ ونجد في تلك المراعي بعض الأغنام والماعز التي ترعى وحدها. وتبدو هنا أو هناك قرية للرعاة المستقرين تنتشر بيوتها في ذلك السهل. ويسمّى هذا البلد كله حزم القميع (١). وينتهي السهل قريبا ، وندخل في منطقة جبلية جرداء فيها أودية مثل : وادي طلح ، ويتلوه وادي النبيعة. وكلما توغلنا في المسير أصبح المكان أكثر وحشة وكآبة ؛ فيتعرّج الطريق بين المرتفعات الجرانيتية القاحلة التي أحرقتها الشمس ، أمّا الصخر فهو قاس ، ويكتسي لونا أمغر ، وتلتمع فيه الميكا (٢) Mica وكأنها شذور الجوهرة. ومع أن الشعب كثير الحجارة فإن السير فيه كان في البداية سهلا ، ولكنه ينخفض فجأة ، ويصبح الطريق منحدرا انحدارا عموديا إلى قعر هوة ، كان هذا الممر المسمى ريع المنحوت بفضل الله قصيرا ، ولكنه كان من الصعوبة بمكان. ولم تكن الهجن لتستطيع السير فيه إلّا بصعوبة كبيرة ، وكانت تنزلق في كل خطوة على / ٢٧٠ / الصخور الناتئة أو المتحركة. مع ذلك فإنني لم أهن سحابة ، وهو اسم الهجان الذي كنت أركبه ، بالنزول من على ظهره ، بل بقيت بشجاعة على الرحل ، ولم أندم على ذلك.

وصلنا كلانا ، الهجان وأنا ، سالمين إلى أسفل الهوة ، ولم تكن بقية القافلة أقل حظا منا ، ولما تجاوزنا تلك العقبة ، دخلنا في ريع أكثر تناسبا مع

__________________

(١) كتبت في الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ١٣٧HAzm al ـ Qumayyah وفي أصلنا الفرنسي Hazm ـ el ـ Ko ? me ? e وهو الصواب.

(٢) الميكا أو الميكة : هو أحد مكونات الجرانيت ، وكان العرب يسمونه «بلق» ، انظر : معجم المصطلحات العلمية والفنية والهندسية (إنجليزي ـ عربي) إعداد أحمد الخطيب ـ مادةMica عن حاشية رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٦٥ ، الحاشية (١).

٢٧٢

قدرة الإنسان هو : ريع الزلالة. وقد كان هذا المكان في سالف الأيام يثير رعب المسافرين ، الذين كان بدو قبيلة عتيبة يهاجمونهم فيه ، ويسلبونهم أمتعتهم ؛ وعتيبة (١) قبيلة قوية ، ومحبة للحرب ، تنتشر في الجبال الممتدة جنوب الطائف حتى المدينة المنورة. ويمكن لها أن تستنفر ثمانية آلاف فارس غالبيتهم مسلحون ببنادق الفتيلة ، وهي لاتني تغزو جيرانها. وعلى الرغم من أنها ما زالت تتقاضى خوة من القوافل التي تعبر أرضها ، فإن سلطتها لم تعد تمتد إلى هذه المنطقة ، ولم يخطر ببالي أبدا أن يعرض لنا عارض خطر لأننا كثر أولا ، ولأننا ضيوف الشريف الأكبر ، ونحن في حمايته ، سواء كنا في جنابه أم بعيدين عنه.

ينتهي الريع بواد واسع يسمى السيل ؛ وهو قاحل ، ورملي ، وقد أحرقته الشمس. وكانت تنتظرني فيه مفاجأة : إذ ما كدنا ندخله ، ونسير فيه بعض الأميال تحت شمس حارقة ، وجو خانق ، حتى وجدت نفسي دون سابق إنذار ، وكأنما بفعل السحر على حافة / ٢٧١ / نبع غزير ، وصاف ، ينبجس من الرحل ويتدفق بغزارة ، وتنتشر حوله نضارة عذبة. ويوجد بالقرب منه نطاق واسع من الصخور المنحوتة بزوايا مستقيمة ، ولا تكاد تظهر على وجه الأرض ، ومرتبة بتناسق وكأنها مدرجات.

وإننا لنخال أن يد الإنسان امتدت إليها بالتنظيم ، وسيكون من السهل ، بقليل من الخيال المبدع أو حسن النية ، أن نرى في هذا المدرج الطبيعي عمل شعب بائد من العمالقة الذين كانوا قبل الطوفان. ولم نكن لنعفي أنفسنا من التوقف في هذا المكان المعدّ أحسن إعداد : لقد توقفنا فيه وقتا أطول مما ينبغي ، وأخرجنا للمرة الأولى المؤنة التي حمّلونا إياها في الطائف. ولما أذّن العصر هب الأشراف إلى الوضوء والصلاة وسط القوم ، وكانوا على سجاجيد الصلاة يركعون ويسجدون بخشوع كما لو كانوا وحدهم. ولا يخجل

__________________

(١) انظر عن قبيلة عتيبة كتاب : الطائف ، جغرافيته ـ تاريخه ـ أنساب قبائله ، موثق سابقا ، ص ٨٦ ـ ١٠٣.

٢٧٣

المسلمون من ذلك في هذا الخصوص ؛ فهم يبادرون إلى ممارسة أركان دينهم في أي مكان كانوا ، ومع كائن من كان. وانضم إلى الشريفين اللذين رافقانا من الطائف ثالث ، ولم أعد أدري في أي مكان حصل ذلك ، كان ما يزال حدثا ، لم يكد يتجاوز سن الطفولة ، وليس له من العمر أكثر من أربعة عشر عاما ؛ كان اسمه أحمد ، وكان يمتطي جوادا أشهب جميلا. ولم تقم بيني وبينه أي علاقة ، ولست أدري هل هو الخجل؟ أم كوني نصرانيا ، هو الذي أبقاه بعيدا عني. أما العجوز عبد المطلب فقد كان أقل عزلة ؛ ووعدنا / ٢٧٢ / بالتوقف في منزله عند ما نمر به ، واتفقنا على أن نمكث لديه يوما كاملا ، وعرض أن يدعو على شرفنا عددا من جيرانه الأشراف. ولكن هذا المشروع لم يكتب له النجاح ، كما سنرى بعد قليل.

إن وادي السيل محاط بالجبال في كل الاتجاهات ، ويحدّه من الغرب هرم ضخم من الجرانيت المقوض بعضه فوق بعض ، والذي تتراكم صخوره فوق بعضها ، راقدة هنا منذ آلاف السنين ، وكأنها خرائب الصروح العملاقة. رأيت في هذا المكان راعي الصحراء الحقيقي ، وأعني قطيعا من النوق مع صغارها ، وكان أحدها ، وقد ولد في اليوم نفسه ، محمولا كالطفل الصغير بين ذراعي أحد الرعاة. لقد استقبلنا هؤلاء الرجال الشجعان استقبالا حافلا ، وقدموا لنا لبنا كثيرا في صحفات من خشب. وكان وسط السهل بدوي أرخى العنان لجواده واقترب من هجني ، ليس ليضربني بسيفه ، ولكن من أجل أن يلمس يدي ، ومددتها له بطيبة خاطر ، ولمّا قبض عليها حياني على الرغم من كوني غير مسلم بقوله : السلام عليك ، وهي تحية يتبادلها المسلمون بينهم. ولعل القرّاء الفرنسيين قد تعرفوا في هاتين الكلمتين العربيتين (السلام عليك) الأصل الاشتقاقي للكلمة الفرنسيةSalamalec (بمعنى السلام عليك).

كنا في هذه الأثناء نسير بحذاء أسافل جبل / ٢٧٣ / في غاية القحط ؛ إنه جبل يسومين (١) ، وكان هناك جبل آخر ليس أقل قحطا منه هو أم

__________________

(١) كتبه ديدييه Djebel ـ Yassoumaine ? ، جاء في معجم معالم الحجاز ، ج ١٠ ، ص ٢٢ : ـ

٢٧٤

الخصف (١) Djebel ـ Em ـ El ـ Khassaf الذي كان يسد الأفق أمامنا. ولكننا لمّا التففنا حول هذا الجبل الأخير ، بدا ممتدا أمامنا واد ضخم ، ومع أننا كنا نسير ، والشمس توشك على الغروب ، فإنها كانت تشع أمام عيوننا ؛ مما كان يضايقني على الرغم من أنني كنت أضع كفية للاحتماء منها ، ولم أكن أرجو إلّا رؤيتها تغرب. لقد غربت أخيرا ، وعند الغروب كنّا ندخل في وادي الليمون أحد أشهر أودية هذه المنطقة من الحجاز. ولم أكن أستطيع الحكم سلفا إن كان يستحق هذه الشهرة ، لأن الليل لم يتأخر في إدراكنا ، ولم يتركني أرى إلّا المظهر العام المظلم للجبال على خلفية ملتمعة من النجوم.

كنا نسير منذ اثنتي أو ثلاث عشرة ساعة ، وبدأ البشر والحيوانات يشعرون بالحاجة إلى الراحة. توقفنا لقضاء الليل قرب قرية الزيمة التي لم يكن أي شيء ، لا وميض ضوء ، ولا أي ضوضاء يدل على أنها في جوارنا ، ولمّا لم يكن معنا خيام فإننا خيّمنا في العراء فوق الرمال ، كما لو أننا جنود في حملة عسكرية ، وذهب العرب الذين برفقتنا ليأتونا بالحليب ، وجاؤوا بما يكفي الجميع.

وبدأ غاسبارو في ممارسة مهنته للمرة الثانية منذ أن غادرنا جدة ، ولم يتأخر العشاء بفضل المؤنة التي حملناها من الطائف. وبعد وقت قصير كانت القافلة كلها تغط في نوم عميق ، ومع أننا كنا / ٢٧٤ / ثلاثين رجلا ، وستة عشر

__________________

ـ يسوم : المعروف اليوم يسومان : جبلان أسودان متقابلان على جانبي وادي نخلة اليمانية ، يسمى الشمالي يسوم سمر لشعب يصب منه في نخلة ، ويسمى الثاني ـ وهو الأشهر ـ يسوم هلال لشعب يصب منه في نخلة أيضا ، وهذا الجنوبي هو الأشهر يبعد عن مكة «٦٣» كيلا شرقا ، يدخل الطريق وسيل نخلة بينهما.

(١) المعروف هو أبو خصف : جبل كبير أشهب يقع على وادي نبع الشرقية مقابل لجبل أظلم من الشمال ، قرب الجعرانة (وهي على طريق مكة ـ الطائف). انظر : معجم معالم الحجاز للبلادي ١٣٩٩ ه‍ / ١٩٧٩ م ، ج ٣ ، ص ١٣٠ ـ ١٣١ ؛ وانظر : معجم أودية الجزيرة العربية ، عبد الله بن خميس ، ط ١ ، ١٤١٥ ه‍ / ١٩٩٤ ، ج ٢ ، ص ٣٢٤.

٢٧٥

جملا أو هجانا ، وثلاثة أو أربعة أحصنة في مكان ضيق ، فقد نام كل واحد حيثما توفر له المكان. كان الصمت مطبقا ، وحسبت نفسي وحيدا. كنت مستلقيا على سجادتي ، وملتفا بعباءتي ، كنت آخر من تسلل النوم إلى جفونه ، وبانتظار أن يغلق النوم جفنّي أرخيت العنان لبصري ليجول في قبة السماء الواسعة المتلألئة التي لم تكن قد انطفأت بعد في نظري ، كما هي الحال عليه اليوم. ومنذ أن انطفأ نور السماء أمام عيني ، في الوقت الذي تضيء للآخرين ، فإنني أعود بذاكرتي برقة خالصة ، مشوبة بالحزن ، إلى ليالي الجزيرة العربية التي طالما أسعدتني بروعتها ، وأحب أن أرى بنور البصيرة ما لم أعد أستطيع رؤيته بطريقة أخرى.

ولمّا كنت قد حرمت للأبد من أكثر المشاهد التي يمكن للإنسان تأملها روعة ، مشهد هو أكثر مهابة أيضا في تلك المرتفعات المميزة ، فإنني أمتح من ذكريات الماضي ما يعزيني في الحاضر ، ويمنحني للمستقبل شجاعة وقوة ، كي لا أضعف وسط الظلمات التي تحيط بي ، وحتى أستطيع ، وأنا أحتضر في ظلمتي ، وأنا أعيش مستسلما لها ، أن أردد مع أحد الشعراء:

لقد غرقت ، وصرت اليوم في لجج

من الظلام ولا أرجو شواطيها

وعالم النور قد سدّت منافذه

أمام عيني ولا شيء يداويها

وإن روحي تضاء اليوم آملة

أن السلام من الحسرات ينجيها

وإن علمي أن المرء مختبر

أعطى الحياة كثيرا من معانيها

/ ٢٧٥ / كنت في الفجر صاحيا. واكتشفت المشهد الطبيعي شعّت أول حزم الضوء في الصباح ؛ ذلك المشهد الذي لم أستطع رؤيته في مساء اليوم السابق. كان قعر الوادي ضيقا جدا في هذا المكان ، تغطيه الرمال القاحلة ، ولكن الجوانب مزروعة بالأشجار ، يكسوها العشب الأخضر الكثيف على مدى امتدادها ، وتتفجر الأرض عيونا في عدد من الأماكن مما يحافظ على النضارة والخصوبة على الجانبين. وتختفي كل أنواع النباتات على علو الأشجار ؛ فجوانب الجبال الجانبية وقممها جرداء تماما.

لقد كان هناك عدد من البيوت البائسة المنفردة ، المفصول بعضها عن

٢٧٦

بعض ، والتي تنتشر على أطراف المنطقة الخضراء ، ومنها تتكون قرية الزيمة التي يسكنها بدو متحضرون ، ينصرفون إلى زراعة الأرض الصالحة للزراعة ، وتربية قطعان الماشية. وينتصب على نتوء صخري ، في مكان يشرف على القرية ، حصن بني في سالف الأيام للدفاع عن المكان وحمايته ؛ وهو مهدم منذ زمن طويل ، ولا يخطر ببال أحد أن يعيد بناءه.

ما كادت القافلة تصبح على أهبة الاستعداد حتى تدفق علينا الحليب من كل حدب وصوب ، لقد جاء من البدو ، وبينهم بدويات بقين منقبات بإحكام احتراما للأشراف ؛ ولو لا وجودهم لكنّ أكثر تهاونا ، ولكنّا رأينا وجوههن بلا صعوبة. ولكنني أعتقد أننا لم نخسر شيئا إذ لم نر وجوههن ؛ لأن هيأتهن لا توحي بأنهن في سن الصبا ، وأثواب القطن الأزرق التي تتلفع بها كل / ٢٧٦ / نساء المنطقة بعيدة عن إضفاء الأناقة عليهن. طالما لا حظت فيما مضى أن روح المساواة تسود بين العرب ، ووجدت هنا دليلين آخرين على ذلك : أولهما يكمن في الطريقة التي تعامل بها العرب مع الأشراف ومعنا ؛ إنها طريقة عفوية وأبية ، ولكنها على الدوام مؤدبة ، وثاني الأدلة يكمن في السمة السلوكية التي أذكرها لكم : كان الشريف حامد يأكل معنا عادة ، ولكنه كان يمتنع عن ذلك في بعض الأحيان ، وفي هذا الصباح على سبيل المثال ، تناول فطوره قبل الانطلاق مع أحمد حمودي ، رئيس الجمّالة ، وآخرين ممن ليسوا من طبقته. لم يكن يتصرف كذلك متصنعا ، ولا سعيا إلى أن يكون له شعبية لديهم ، لقد كان يقوم بذلك ببساطة فطرية ، ولأن ذلك كان يبدو له أمرا عاديا ، متأصلا في سلوك البلد.

لقد تأخر انطلاقنا بسبب حادث مؤسف : إذ أصيب الشريف العجوز عبد المطلب بنوبة حمى شديدة جعلته غير قادر على الانطلاق ، ولا على مغادرة سجادته. كان التغير الذي اعترى قسماته يدل على اضطراب عميق في أعضاء الجسد ووظائفه. وكان هو نفسه يظن أنه يعيش ساعته الأخيرة ؛ ولكنه لمّا كان مستسلما لمصيره ، فلم يكن يصدر عنه أية شكوى أو أنين ، ولم يكن يرجو من الله إلّا أن يمنحه القوة كي يستطيع الوصول إلى أهله ليموت بينهم. كان يقول

٢٧٧

بصوت خافت : «خمسة وسبعون / ٢٧٧ / عاما ، وأنا على ظهر البسيطة ؛ لقد حان الوقت كي ألحق بأسلافي. وأود أن أموت في بيتي بين أهلي وعشيرتي ، وإن كان القضاء غير ذلك فلتتحقق إرادة الله! وإنني راض بما قدره من قبل. أينما يمت المسلم فإنه يذهب إلى الجنة ؛ إذا كان قد التزم خلال حياته بما شرّعه الله في القرآن الكريم ، وأنا التزمت بذلك طوال حياتي بقدر ما يستطيع الإنسان الضعيف أن يفعل ذلك ، وإن حصلت مني مخالفة فذلك بسبب ضعفي ، وليس أبدا بنية عصيان الله ، وأرجو إذا أن يرحمني ، لأنه الرحمن الرحيم».

لم يقل المريض هذا الكلام متتابعا ، وبصورة خطاب كما ذكرته ، ولكنه كان في الغالب متقطعا بآلام المرض. كنا نحيط به ، والحزن يملأ نفوسنا لحاله ، ولكن لم يكن بوسعنا القيام بأي شيء لمساعدته ؛ إذ لم يكن معنا طبيب ولا صيدلي ، ولعل ذلك بالتحديد ما أنقذه. ولمّا تراجعت نوبة الحمى قليلا أصبح بالإمكان وضعه على ظهر هجانه في وضعية مريحة ، ليستطيع تحمل وعثاء السفر. كان الشريف الصغير الذي أظنه من أقربائه المقربين ، يرافقه مع بعض رجال مرافقتنا. وكنت في غاية الرضا عند ما علمت في اليوم التالي أنه وصل إلى منزله في حالة أفضل بكثير من حالته عند ما غادرنا ، إذ لم يكن قد شفي تماما. وبذلك فشل / ٢٧٨ / مشروع زيارته في بيته خلال مرورنا بديرته.

وكان الشريف الثاني الذي جاء معنا من الطائف قد غادرنا لتنفيذ مهمة المصالحة التي كلفه إياها الشريف الأكبر ، ولم يبق معنا من الأشراف الأربعة الذين كانوا برفقتنا في مساء اليوم السابق إلّا الشريف حامد الذي ظل حتى ساعة الرحلة الأخيرة ، كما كان عليه في ساعتها الأولى ، رجلا لطيفا ، وظريفا ، وحريصا ، وأكثر الرجال كياسة.

انطلقت القافلة أخيرا ، ولكننا لم نسر وقتا طويلا لأننا بعد ساعة على الأكثر توقفنا في سولة ، وهي قرية أحسن بناء من الزيمة ، وبيوتها أكثر تجمعا من بيوت الزيمة. يبدأ هنا وادي فاطمة المشهور في الحجاز ، وهو ينتج الخضار التي تستهلكها مكة المكرمة وجدة. إنه متسع كل الاتساع ، ويدين

٢٧٨

باسمه لفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي‌الله‌عنها ؛ إذ يروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدمه لها صدقة عند ما زوّجها عليا رضي‌الله‌عنه. ولمّا كان الأشراف ينحدرون منها عبر ولديها الحسن والحسين رضي‌الله‌عنهم فإنهم يكنون لهذا الوادي الغني ، والخصب ، وللريف الذي يتبعه ، ويستعير منه اسمه ، اعتبارا خاصا. ويتخذ منه كثير من الأشراف دار إقامة ، ومنهم الشريف اللطيف حامد. ترجلنا من على ظهور المطايا عند باب أحد المنازل الذي كان أصحابه ينتظروننا ، ولكنني لم أدخله لأن الشريف حامدا قادني مباشرة إلى بستان مجاور ، اسمه النص El ـ Noss ، حيث هيأ لي مفاجأة.

لقد كانت مفاجأة سارة ، ومن ألطف ما يمكن أن يكون ، لأن / ٢٧٩ / المشهد لم يكن البتة منتظرا ، ولم أكن قد رأيت أجمل منه منذ زمن طويل ، وفيه بعض أوصاف الجنة كما بينها الله تعالى في القرآن الكريم. ولم يكن ينقص هذا المكان إلّا الحوريات لكي يستوفي كل أسباب الكمال. كان يتعرج عبر هذه الجنة الصغيرة جدول ماء غزير وصاف ، على أرض مملوءة بالحصى الأبيض ، وكانت تعرجات الجدول الأنيقة تختفي في كثير من الأماكن تحت العشب الطويل المتشابك. وتزدهر فيه بروعة ، وتتآلف بدقة ، أشجار البرتقال ، والنخيل ، والموز ، وغيرها من أشجار المناطق الاستوائية ، إنها تختلط ، ويقترب بعضها من بعض ، حتى إن أشعة الشمس القائظة لا تستطيع اختراق ظلالها لشدة كثافتها وعدم نفوذيتها ، وتسود فيه في قلب الظهيرة برودة لذيذة. لم يكن هناك ما يمكن أن ينتزعني من محيط الخضرة الذي أستحم فيه ، كنت مستلقيا قرب جدول الماء تحت شجرة موز (١) كانت أوراقها العريضة بمثابة مظلة فوق رأسي ، وتتدلى من حولي كما لو أنها عدد من المراوح ، كنت أود تناول طعام الغداء تحتها ، والبقاء هنا طوال النهار. ونفهم عند ما نرى هذه الشجرة التي لا مثيل لها ، لماذا يجلّها الهندوس إجلالا عظيما ، ولماذا

__________________

(١) قال البلادي في معجم معالم الحجاز ، ج ٤ ، ص ١٥٠ ، الزيمة : عين ثرة عذبة الماء بوادي نخلة اليمانية ... وهي مشهورة بجودة الموز ، ويغرس إلى جانبه النخل والفواكه. يمر بها طريق مكة إلى الطائف المار بنخلة اليمانية على (٤٥) كيلا.

٢٧٩

يمارسون في ظلها طقوسهم ، ويقدمون تحتها قرابينهم ، ولماذا يجعلون منها المكان الذي يضعون فيه أكثر آلهتهم تبجيلا ، جانيشا (١) Ganesha ، إلههم الكبير / ٢٨٠ / الذي تجتمع فيه كل الصفات ، ويجمع بين وظائف أبولون (٢) Apollon وميركور (٣) Mercure في التقاليد الهيلنيسيّة.

كان يقوم على خدمتي ولد صاحب هذا البستان أو حفيده ، وعمره بين ١٤ و ١٥ عاما ، كان يفعل ذلك دون أن يزعجني ، فيحمل إلي النارنج ؛ وهو نوع البرتقال الوحيد الذي ينتج في هذه البلاد ، ويقوم بتبريد الماء في زجاجة معلقة بالأغصان ، كان باختصار ، يقدم لي ألطف ما يمكن أن يقدم من واجبات العناية بالضيف ، ويفعل ذلك بابتهاج هو من خصوصيات سن الشباب.

كنت متوترا بفعل القحط ، وحر النهار القاسي في اليوم السابق ، استرخت أعصاب جسدي كلها بالتدرج بتأثير ذلك الجو الرطب المنعش. كانت كل طاقات الحياة تستعيد فيّ لدونتها. كنت أتنفس بارتياح شديد ، وكان الدم يجري في عروقي بحرية أكبر ، وقرّت عيناي عند ما وقعتا على الكساء الأخضر الفضفاض الذي كان يرفرف من حولي ، بعد أن كانتا متعبتين من التماع الرمل والصخور ، لقد شعرت بالجملة برغد العيش المادي والمعنوي الذي لم أكن عرفته ، أو أنني كنت أظن ذلك. لقد انتهى بي الأمر بفضل

__________________

(١) واحد من أحب الآلهة وأكثرها شعبية في الديانة الهندوسية بدأت عبادته حوالي عام ٤٠٠ ميلادية وما يزال يعبد حتى اليوم وتبدأ جميع الطقوس الدينية لدى الهندوس بالتضرع إلى جانيشا ، ويمكن أن يكون له عدد كبير من الرموز ، ولا سيما الصدفة أو المحارة والصولجان والقرص وزنبق الماء ، ويضرع إليه الناس قبل القيام بأي رحلة أو في بداية مشروع جديد ، ونجد صوره في مدخل المعابد والمنازل. انظر : معجم ديانات ... ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ١٢ ـ ١٣.

(٢) أحد آلهة الأولمب الاثني عشر في أساطير اليونان ـ وهو إله متعدد الوظائف. انظر : معجم ديانات ... ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٠١ ـ ١٠٤.

(٣) إله التجار والتجارة في الأساطير الرومانية ، وكان يقوم بمهمات عديدة. انظر : معجم ديانات ... ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٤١٢.

٢٨٠