رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

شارل ديدييه

رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٦

الموحدين في شبه الجزيرة العربية (١).

ويبدو أن نوال سراج ششة هي أول من أشار بالعربية إلى رحلة ديدييه ووصوله إلى جدة في عام ١٨٥٤ م ، وذلك في كتابها : جدة في مطلع القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي (٢) ، ثم أشار إليه وترجم مقاطع من رحلته (عن الإنكليزية) الدكتور أحمد عبد الرحيم نصر في كتابه : التراث الشعبي في أدب الرحلات (٣) ، وأشارت إليه ، وترجمت له وتحدثت عن بعض أحداث حياته ، وعن كتبه التي لها علاقة بمصر الدكتورة إلهام محمد علي ذهني في كتابها : مصر في كتابات الفرنسيين في القرن التاسع عشر (٤).

إن أهمية هذه الرحلة تكمن في أنها تقدم صورة واضحة عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وهي فترة تقل مصادرها ، ونحتاج إلى مثل هذه النصوص ، لزيادة معرفتنا بها. وللرحلة أهمية لا تنكر في مجال المعلومات الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية عن الأماكن التي مرّ بها ديدييه انطلاقا من السويس حتى الطور ، وجبل سيناء ، والبحر الأحمر ، وينبع ، وجدة ، والطائف ؛ إذ نجده

__________________

(١) انظر القسم المنشور من هذه الرسالة في كتاب : الحركة الوهابية في عيون الرحالة الأجانب ، ترجمة وتعليق أ. د. عبد الله بن ناصر الوليعي ، الرياض ، ١٤١٧ ه‍ / ١٩٩٧ م ، ص ١٧٢.

(٢) كتابها المنشور في مكتبة الطالب الجامعي ، مكة المكرمة ، العزيزية ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م ، ص ١٣٩ ، وقد سمته (شارلز ديدير) وهو خطأ والصواب : شارل ديدييه كما أثبتنا.

(٣) المطبوع في الدوحة ، مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية ، ١٩٩٥ م ، ص ٦٣ ـ ٦٩ وسماه : (تشالز ديديه) وهذا خطأ أيضا.

(٤) المطبوع في الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ١٩٩٥ م ، ص ١١١ ـ ١١٢ ، وانظر : ص ١٣٧ وقد سمته (شارل ديديه) والصواب (ديدييه). وأشار إليه وترجم قسما من رحلته سمير عطا لله في كتابه : قافلة الحبر ، الرحالة الغربيون إلى الجزيرة والخليج (١٧٦٢ ـ ١٩٥٠ م) دار الساقي ، بيروت ، ط ٢ ، ١٩٩٨ م ، ص ١٥٣ ـ ١٩٦.

٢١

يصف الأماكن والأسواق والمياه والأشجار ، ويركز على البشر بطباعهم ولباسهم ومساكنهم ، وسيجد علماء الأنثر وبولوجيا (الإناسة) ، وعلماء الاجتماع ، والجغرافيون فائدة جلّى في رحلة ديدييه.

لقد التقى ديدييه بأشخاص من الطراز الأول إبّان رحلته مثل : خالد بن سعود ، وعبد المطلب بن غالب شريف مكة المكرمة ، وغيرهما من الأشراف ، وبالقنصل الفرنسي في جدة روشيه ديريكورRochet D ? Hericourt ، والقنصل البريطاني فيها السيد كول M.Cole ، والوالي العثماني أحمد عزت باشا ، وكرد عثمان باشا ، أحد القادة العسكريين الأتراك. وغيرهم من التجار من ذوي الأصول الهندية والأوروبية ، ويجد القارىء في الرحلة تحليلا سلوكيا رائعا لكل تلك الشخصيات المختلفة في أخلاقها وطبائعها والحضارات التي تنتمي إليها. إن المعلومات التي يقدمها ديدييه ، بأسلوب رائع ، ومقدرة على الوصف هائلة ، تذكرنا بالكاتب الفرنسي الكبير إميلا زولا ، الذي كان يبلغ من العمر (١٤) عاما عندما قام ديدييه برحلته ، وكان عمره (١٧) عاما عندما نشرت رحلة ديدييه ، فهل قرأ زولا ما كتب ديدييه؟ وقد ضمن ديدييه رحلته كثيرا من معالم ثقافته ، وهو الشاعر الذي بدأ نشر قصائده في سن مبكرة. لقد قرأ ديدييه كما يبدو من رحلته الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد ، وقرأ روايات الأدباء اللاتينيين واليونان ، وأشعار شعراء الأمتين ، واطلع على الفنون التشكيلية لهما ، وأتقن الأدب الفرنسي ، وقرأ كتب المفكرين والفلاسفة في عصره ، كل ذلك يجده القارىء في هذه الرحلة.

أما بخصوص العرب ، فهو بلا شك قرأ ألف ليلة وليلة (١) مترجمة ، واطلع على كتب الرحلات ، خصوصا رحلات بوركهارت ، الذي يستشهد به ديدييه في مكان واحد من رحلته (٢) ، ولكنه اعتمد عليه كلية في الفصل الذي

__________________

(١) أشار إليها ديدييه في مواضع من رحلته ص / ٢٤ / وص / ١٥٠ / وص / ٢٣٨ / وص / ٢٩٤ / ويدل أحد هذه الأماكن على الأقل على أنه قرأها ويتذكر تفاصيل حكاياتها.

(٢) انظر النص الأصلي لرحلة ديدييه ص / ١١٨ / ؛ إذ ينقل عن بوركهارت : أن نوعا من النسور الجريئة التي تختطف الطعام من صحون الحجاج ، تعيش في جبال الحجاز ـ

٢٢

كتبه عن «الأشراف والوهابيين». وقد وضحنا كل ذلك في حواشي الترجمة. لقد كان ديدييه مطلعا على رحلة تاميزييه (١) ، وعلى رحلة روشيه ديريكور ، الذي توفي في جدة يوم ٩ آذار (مارس) ١٨٥٤ م وشارك ديدييه في دفنه. وتظهر الفقرات التي تحدث فيها عن الأمة العربية أنه مطلع على تاريخ الحضارة العربية وإنجازاتها الأدبية والعلمية فهو يقول : «إنها أمة عالمة ومثقفة ، نبغت في العلوم قدر ما نبغت في الفن والحروب. لقد كانت خلال أمد طويل ، أمة مبتكرة حيثما قادها حماسها الديني ، لقد كان لها مدارس تزدهر فيها دراسة الطب والعمارة والرياضيات والفلك. وفي هذه المدارس تعلم الغرب ، وأبدعت روائع أدبية ما زالت حتى اليوم متعة العقول المثقفة كلها» (٢).

تنوعت مصادر ديدييه التي استخدمها أحسن استخدام ، فأغنت ملاحظاته الشخصية ، ومدوّناته اليومية ، وكان مآل ذلك كله هذه الرحلة الممتعة.

٤ ـ ملابسات الرحلة (٣)

يكرر ديدييه في غير موضع من رحلته ، أنه ليس في مهمة رسمية ، وأن رحلته ليس لها أي هدف سياسي ، وأن المصادفة وحدها هي التي قادته إلى

__________________

ـ الممتدة بين المدينة المنورة ومكة المكرمة. انظر : رحلات في شبه الجزيرة العربية ، جون لويس بوركهارت ، ترجمة د. عبد العزيز الهلابي ود. عبد الرحمن الشيخ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط ١ ، ١٤١٣ ه‍ / ١٩٩٢ م ، ص ٣٧٢.

(١) استنتجنا ذلك بالاعتماد على معلومات أوردها ديدييه ووجدناها عند تاميزييه في كتابه : رحلة في بلاد العرب ، انظر نص ديدييه بالفرنسية ، ص / ٢٢٠ / وتعليقنا عليه.

ويبدو أن ديدييه قد اطلع على أخبار الرحلات الفاشلة التي جرت لسبر القارة الإفريقية ، انظر : ص / ٣٦ / من الأصل الفرنسي.

(٢) انظر : النص الأصلي لرحلة ديدييه ص / ٣٠٠ /.

(٣) نشكر للأستاذ الدكتور أحمد خالد البدلي ملاحظاته التي دعتنا إلى إعادة النظر فيما كنا قد كتبناه عن الرحلة في مقالنا في مجلة «الدرعية».

٢٣

الجزيرة العربية ، وأنه ، نفسه ، اعترته الدهشة من الاستقبال الحافل الذي لقيه من الشريف الأكبر ، يقول على سبيل المثال : «... إن وجود بريطاني وفرنسي يجوبان الحجاز في هذه الفترة السياسية السائدة فيه ، مدعاة للشك ، مما يجعل الناس يظنون أن حكومة كلّ منهما أرسلت مواطنها لدراسة الأوضاع في الحجاز ، واستطلاع مدى ارتباطه بالباب العالي ، وموقفه منه. وعلى الرغم من أن ذلك غير صحيح ، ولكنه غير مستبعد ، ولا مبالغ فيه ، وإن شك الشريف الأكبر في ذلك ، جعله يعاملنا تلك المعاملة اللائقة ...» (١).

يمكن أن يصدّق المرء للوهلة الأولى ما يدعيه ديدييه ، ولكن حياة الرجل ، واطلاعه على الأحداث الدولية ، واهتماماته السياسية ، وارتباطه القوي بهويته المسيحية ، وكرهه الشديد للإمبراطورية العثمانية ، ولكل من يرتبط بها (محمد علي وأتباعه) ، وانعكاس ذلك الكره الذي ينقلب في بعض الأحيان إلى عنصرية ، كل ذلك يجعلنا نتساءل ، عمّا سميناه ملابسات الرحلة.

لقد سبق لديدييه أن تولى مهمات سياسية لصالح بلده كما رأينا في أطوار حياته ، وليس بالغريب أن تنسد إليه مهمات أخرى!

إن تدخل القنصل البريطاني السيد كول ، ومرافقة المترجم في القنصلية الفرنسية وموثق العقود فيها السيد دوكيه M.Dequie ? لديدييه ورفيقه البريطاني ، والاستقبال الحافل الذي لقياه في الطائف ، والحراسة التي أرسلها الشريف ، كل ذلك يدفعنا إلى طرح سؤال ربما يجد إجابة في أبحاث لا حقة ليس مكانها هنا. يتحدث ديدييه عن أحداث هامة على المستوى الفرنسي المحلي (انقلاب الثاني من ديسمبر ١٨٥١ م) ، وعن موقف فرنسا من الإمبراطورية العثمانية الذي يصفه بأنه (كوميديا) (٢) ، ثم يتحدث عن حرب (القرم) بين تركيا وروسيا التي جرت بين عامي (١٨٥٣ م ـ ١٨٥٦ م) ، ووقوف بريطانيا وفرنسا إلى جانب تركيا لا حبا بها ، وإنما للوقوف في وجه روسيا. ويخيّل إليه من خلال حديثه

__________________

(١) الأصل الفرنسي ص / ٢٩٥ /.

(٢) انظر ما ذكرناه في الحاشية (رقم ١ ، ص ١٦) من هذه المقدمة.

٢٤

مع الشريف عبد المطلب ؛ أن هذا الأخير يميل إلى دعم روسيا (١) لا حبا بها أيضا ، وإنما لأنه في رأي ديدييه لا يمكن لعربي أن يتمنى انتصار تركيا التي تستعمر الأمة العربية ، وتعامل العرب أسوأ معاملة : إن هذه الإشارات التي تصدر عن ديدييه تجعل السؤال التالي مشروعا : هل كان ديدييه في عام (١٨٥٤ م) مع القس هاملتون Abbe ? Hamilton رفيقه في الرحلة في مهمة لاستطلاع آراء الشريف والشخصيات الأخرى في الحجاز في الدولة العثمانية ، ومدى ارتباط الشعب بتلك الدولة التي كانت على وشك السقوط أمام الزحف

الروسي؟ فقد أكدت الأحداث اللاحقة أن فرنسا وبريطانيا تدخلتا لصالح تركيا طمعا في اقتسام تركتها بعد ذلك ، وإبعاد روسيا عن مناطق نفوذهما ، ودفعتا روسيا قسرا إلى توقيع معاهدة باريس (١٨٥٦ م) ، ناهيك عن أن سياسة نابليون الثالث (الإمبراطورية الثانية) كانت تقوم على إيجاد ضغوط خارجية للاستمرار في الحكم ، وكان ديدييه كما يقول هو نفسه شاهد عيان على انقلاب (٢ ديسمبر ١٨٥١ م) في فرنسا. فهل كان ديدييه مبعوث نابليون الثالث لاستكشاف منطقة الحجاز؟ والإجابة تحتاج إلى مكان أوسع ، ودراسة نترك للمختصين القيام بها ، ونكتفي بطرح القضية هنا ، ونختم بالإشارة إلى ما ذكره الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل في تعليقه على رحلة بلجريف (٢) «... ولما كان نابليون الثالث

__________________

(١) يقول الدكتور آل زلفة في مقالته الرابعة من المقالات المذكورة في الحاشية (١ ، ص ٣١) من هذه المقدمة : «أما موقف الشريف عبد المطلب من الحرب الروسية التركية فربما يلمح المؤلف من خلاله ، تأييده لروسيا. هذا رأي المؤلف ، وربما كان للشريف رأي آخر».

(٢) مسائل في تاريخ الجزيرة العربية ، ألفها وحققها أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري ، منشورات مؤسسة دار الأصالة للثقافة والنشر والإعلام ، الرياض ، ط ١ ، ١٤١٣ ه‍ / ١٩٩٣ م ، ص ٢٠٦ ، ٢٠٨ ؛ وانظر : دراسات في تاريخ الجزيرة العربية الحديث والمعاصر ، د. عبد الفتاح حسن أبو علية ، دار المريخ ، الرياض ، ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م ، ص ١٢٥ ـ ١٤٤. ونضيف إلى ما ذكره الشيخ أبو عقيل منم أدلة على كذب بلجريف وعدم إنصافه ، ما أورده ناصر الدين دينيه في كتابه : الحج إلى بيت الله الحرام ، إذ يقول : «... ولكننا لا نولي ما يورده هذا الرحالة ثقة كبيرة ؛ لأنه ـ

٢٥

إمبراطور فرنسا مهتما بكشف خبر جزيرة العرب ، وبحاجة إلى شراء خيول من أصول عربية لجنوده ، عثر هذا على بلجريف الذي كان يرغب في القيام برحلة إلى بلاد العرب ليكشف عن حقيقة الوضع فيها ... وقد قيل : إن بلجريف كان يمثل نابليون الثالث الذي كان مهتما اهتماما خاصا بمصر والشام ، وربما كان قد وجه اهتمامه إلى نجد لعلاقتها بموضوع قناة السويس الذي كان قد تم اقتراحه آنذاك بالفعل».

وإذا علمنا أن بلجريف جاء إلى الرياض حسب ما يدعي في عام ١٨٦٣ م / ١٢٨٠ ه‍) أي بعد تسع سنوات من رحلة ديدييه الذي لم يذهب إلى نجد ، فهل كانت رحلة بلجريف ، إن صحت ، امتدادا لاهتمام نابليون الثالث بأوضاع الجزيرة العربية والقوى السياسية فيها؟

٥ ـ عملي في الترجمة (١)

إذا كانت الترجمة هي نقل المعلومات من نظام لغوي إلى نظام لغوي

__________________

ـ يكره الإسلام كرها مسعورا ...» انظر مقالنا : ناصر الدين دينيه وكتابه الحج إلى بيت الله الحرام ، موثق سابقا.

(١) نشر الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الله آل زلفة ، مجموعة من المقالات بعنوان : الطائف في كتب الرحالة الأوروبيين ، شارلز ديديه Charles Didier نموذجا (شارل ديدييه) ، في صحيفة «الجزيرة» ، تحدث فيها عن الرحالة الأوروبيين الذين زاروا الطائف ، وتوقف عند ديدييه في المقالة الثانية ، ع ١٠١٥٨ ، ١٩ ربيع الآخر ١٤٢١ ه‍ / ٢١ يوليو (تموز) ٢٠٠٠ م ، ص ٧ ، وبدأ في المقالة الثالثة المنشورة في العدد ١٠١٦٢ ، ٢٣ ربيع الآخر ١٤٢١ ه‍ / ٢٥ يوليو (تموز) ٢٠٠٠ م ، ص ١٢ ، والمقالة الرابعة المنشورة في العدد ١٠١٦٥ ، ٢٦ ربيع الآخر ١٤٢١ ه‍ / ٢٨ يوليو (تموز) ٢٠٠٠ م ، ص ٦ ، والخامسة في العدد ١٠١٧٢ ، ٤ جمادى الأولى ١٤٢١ ه‍ / ٤ أغسطس (آب) ٢٠٠٠ م ، ص ٦ ، والسادسة في العدد ١٠١٧٩ ، ١١ جمادى الأولى ١٤٢١ ه‍ / ١١ أغسطس (آب) ٢٠٠٠ م ، ص ٨ ، بنشر الفصل الذي خصصه ديدييه للحديث عن الطائف. ويبدو أنه يترجم عن الإنكليزية ، وقد استفدنا من ترجمته وتعليقاته.

٢٦

آخر ، فهي تمثّل لثقافة النص المترجم وثقافة النص المترجم إليه أيضا ، ناهيك عن عمليات أخرى معقدة تترافق مع الانتقال من نظام لغوي إلى نظام لغوي آخر ، لأن اللغة في واقع الأمر هي كالموقع الأثري تجد فيها عند التنقيب أخبار مستخدميها ، وتاريخهم ، ومعتقداتهم ، وعاداتهم ، وتقاليدهم مما ينبغي الانتباه إليه إذا أردنا ترجمة نصوص تنتمي إليها.

كان كل ذلك يجول في خاطري وأنا أقرأ نص ديدييه ، وحاولت في أثناء الترجمة أن أنقّب في نصه عما يريد قوله ، وكنت أنقب في العربية أيضا لأجد مقابلات نص ديدييه ، لكي لا يكون الفتى العربي في الترجمة غريب الوجه واليد واللسان.

لم أكتف بالترجمة ، وإنما علّقت عليها بما يزيدها وضوحا ؛ فعرّفت بأشخاص الرحلة ، وما غمض من أمكنتها وحوادثها ، ووثقت النصوص قدر الطاقة من كتب الرحالة الآخرين ، وأحلت إلى القرآن الكريم في الموضوعات الدينية لتتضح الحقيقة في كتاب الله. ورأيت من المناسب أن أثبت في متن النص المترجم صفحات الأصل الفرنسي للرحلة فوضعتها بين / / لتسهل المقابلة بالأصل ، وليسهل اختبار دقة الترجمة على من أراد.

كتبت الأسماء الأجنبية بالعربية ، وبلغتها الأصلية عند أول ورود لها ، وتحققت من أسماء الأماكن بالاعتماد على المعاجم الجغرافية ، وقد لقيت من ذلك عنتا سببه أن ديدييه لم يكن يحسن العربية ، وكان يكتب الأسماء كما يسمعها من أصحابها الذين كانوا لا يراعون في الغالب النطق الفصيح فالسكارى يكتبهاAl ـ Sakara والمهر يكتبهاAl ـ Mahr. أما الحروف الحلقية فيتخبط في كتابتها تخبطا كبيرا. وقد أشار هو نفسه إلى صعوبة كتابتها (١) ، ناهيك عن الأخطاء المطبعية عند ما يتحول : صبح ، إلى Loubh ، ولقيم إلى

__________________

(١) انظر : ص / ١٠٤ / من النص الأصلي حيث يقول : «... ليس من السهل نقل الحروف الحلقية في العربية إلى الحروف الفرنسية ، وخصوصا إذا كنا لم نرها مكتوبة أبدا».

٢٧

Goum ، والعباسي إلى العباري Al ـ Abbari. وقد أثبتّ في الحواشي الأسماء كما كتبها ديدييه لأن بعضها استعصى عليّ بسبب تغير أسماء المواضع أو بسبب خطأ الكتابة (١). لقد اجتهدت في قراءة ما استعصى علي ثم تركته في الأصل مكتوبا كما ورد.

وحرصت على أن يكون للرحلة فهرس يتضمن أسماء الأعلام والأماكن المذكورة في الرحلة لكي تزيد الفائدة منها بإذن الله.

إن هذه الرحلة إسهام في تاريخ الحجاز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وكل ما نأمله أن يجد القارىء فيها المتعة والفائدة ، وأن نكون قد أفلحنا في تقديم نص يدفع بالمعرفة خطوة إلى الأمام ؛ وإلا فإن «مبلغ نفس عذرها مثل منجح» ، والله من وراء القصد.

__________________

(١) الصلاة على النبي ، والترضي على الصحابة ، ووصف مكة بالمكرمة والمدينة بالمنورة لا وجود له في النص الأصلي ، لذا أضفنا ذلك. وما هو بين قوسين () زيادة من المترجم للإيضاح.

٢٨

مقدمة الناشر الفرنسي

لقد ذهب مؤلف الرحلة إلى الشرق بحثا عن الطمأنينة والنسيان ، بعد أن كره باريس ، وفرنسا ، وأوروبا كلها ، بسبب ظروف خاصة وعامة لا جدوى من ذكرها ، وليس بالإمكان التعرض لها في هذا المكان. وبعد أن أمضى في القاهرة شتاء لا يدانيه شيء في الروعة ، وظلت ذكراه متمكنة في نفسه ، كان يستعد للعودة إلى أوروبا. وكان قد مهر جواز سفره بتأشيرة إلى أثينا ، عند ما عرض عليه أحد البريطانيين الذي ربطته به علاقات اجتماعية محدودة ، أن يقوما برحلة يقتسمان تكاليفها إلى جبل سيناء ، مع إمكانية متابعة الرحلة من هناك إلى مدينة جدة في الجزيرة العربية ؛ بهدف زيارة الشريف الأكبر ـ شريف مكة المكرمة الذي كان حينئذ يقيم في الطائف.

لقد طلب المؤلف مهلة أربع وعشرين ساعة للتفكير ، ولكن ميوله إلى الترحال / / دفعته إلى اتخاذ قرار عاجل : فلم تمض ساعة حتى كان موافقا على ما عرضه البريطانيّ عليه. وعمدا في الحال إلى إعداد لوازم الرحلة ، وحدد موعد الانطلاق بعد يومين ، ١٦ يناير (كانون الثاني) ١٨٥٤ م ؛ وبذلك وجد المؤلف نفسه منطلقا إلى الجزيرة العربية ، بدلا من الذهاب إلى اليونان.

وهو ينشر هنا قصة تلك الرحلة أملا في أن تجد بعض الاهتمام ، إذا كان هناك عدا المال شيء يهتم به الناس اليوم.

لا يدعي المؤلف أنه يقدم لوحة تاريخية ، ولا لوحة صغيرة ، وإنما يقدم

٢٩

مجرد رسم بسيط لأحداث الرحلة ، ويعلن بصراحة ، مخلصا بذلك لما اعتاده فيما سبق ، أنه لم يسمح لنفسه ، وهو يرسم الأشخاص والأشياء ، باستخدام أي تجميل ، ولا تعديل ، إن لم يكن متوافقا مع الواقع. لقد استطاع بذلك أن يبتعد عن كل ما يغري الجهلة أو المنحرفين ، وعزاؤه في ذلك ، أنه يعتقد اعتقادا راسخا أن الرحلة المتخيلة أسوأ الروايات كلها.

ومهما يكن من أمر ، فإنه يستطيع القول مع مونتيني (١) Montaigne : إن هذا كتاب صادق ، وإنه ، بحالته الراهنة ، كتابه. لم يؤلفه مستعينا بكتب أخرى ، ولا بحسب انطباعات الآخرين ، ولكنه يحتوي على ذكريات شخصية ، وعلى ملاحظات سجّلت يوما / VII / بيوم في أماكن حدوثها.

ولكي يطمئن القارىء (نقول) : إن الهدف من نشر هذه الرحلة يتحقق إذا استطاعت الأحداث التي تتضمنها أن تجعل بعض الأذكياء يطلعون على المهزلة التي تقوم بها أوروبا لصالح تركيا.

باريس ، في ٢٠ أكتوبر (تشرين الأول) ١٨٥٦ م

__________________

(١) Michel Eyquem de Montaigne ميشيل إيكيم دو مونتيني (١٥٣٣ ـ ١٥٩٢ م) : أديب ومربّ فرنسي. اشتهر كتابه «مقالات» Essais.

٣٠

الفصل الأول

صحراء السويس

يفصل القاهرة عن السويس صحراء مساحتها ١٠٠ ميل. كان الناس في الماضي يخشونها ؛ إما بسبب انعدام الماء فيها بتاتا ، وإما بسبب البدو الذين كانوا ينهبون القوافل فيها. ولكن مظاهر الحضارة دخلت الصحراء ، فلم يعد من المناسب معه إطلاق اسم الصحراء عليها ؛ فقد قامت حكومة محمد علي الحازمة بتطهيرها من اللصوص الذين كانوا ينتشرون فيها ، وانتشر الأمن فيها أنتشاره في طريق باريس في فرساي ، بل ربما أصبحت أكثر أمنا منها. ثم إن إدارة العبور (الترانزيت) المكلفة نقل الأمتعة والركاب إلى الهند عبر مصر أنشأت لهذا الغرض طريقا / ٢ / وسيّرت عليه عربات ، وأقامت محطات (مراكز) بريدية بلغ عددها خمسة عشر مركزا ، زودتها بماء النيل الذي يباع بأسعار مرتفعة ، وأهم تلك المراكز : هي الرابع ، والثامن ، والثاني عشر ، والثاني على وجه الخصوص. وتعدّ تلك المراكز مجموعة من النزل ، نعم ، أيها القارىء ، إنها نزل في قلب الصحراء ، وسيكون التحوّل في هذه المنطقة جذريا عند الانتهاء من أعمال سكة الحديد التي يجري العمل فيها لإتمام السكة المقامة بين الإسكندرية والقاهرة ، والتي تسير القطر عليها منذ زمن. وستربط السكة الجديدة البحر الأحمر بالبحر المتوسط بالنتظار أن يأخذ شق القناة في المستقبل بيد مصر القديمة إلى مصير جديد.

أمّا عربات النقل فهي علب بشعة ، مطلية باللون الأبيض ، لتعكس أشعة

٣١

الشمس ويتقاضى أصحابها (٩) جنيهات وسطيا من كل راكب ، وتحمل كل عربة ستة ركاب في مكان لا يكاد يتسع لأربعة ، يقود العربة أحصنة يرخى لها العنان فتقطع مسافة (١٠٠) ميل في تسع ساعات ، ولا يحتاج البريد المحمول على الحصان لقطع تلك المسافة ست ساعات ، ويمكن أن تتقلص إلى خمس. وسيكون الفارق الزمني بينها وبين القطار ضئيلا كما هو واضح. تلك هي أحوال الذين هم في عجلة من أمرهم.

لم أكن في عجلة من أمري ، ولم يكن هدفي من الرحلة قطع أطول مسافة في أقصر زمن ممكن ، لذلك لم ألجأ إلى أيّ من وسيلتي النقل اللتين ذكرتهما ، بل عمدت إلى وسيلة أكثر بطئا ، ولكنها أكثر إثارة وتثقيفا ، لقد رافقت السكان الأصليين ، نصبت خيمتي على الطريق ، وقضيت فيها ثلاث ليال / ٣ / ، واستغرقت الرحلة مني زمنا يزيد على وقت العربات بثماني مرات. غادرت القاهرة ثالث اثنين على ظهر واحد من تلك الحمير الجميلة التي تكثر في مصر ، والتي ليس لها ما تشترك به مع الحمير الأوروبية إلا الاسم ؛ هذا الحيوان المعذّب الذي يحتقره الفلاحون بغير حق ، ويعاملونه معاملة قاسية. إن المسلمين أكثر رفقا بالحيوان من النصارى. إن لون الحمار المصري أسمر داكن ، وهو رشيق ، حسن الهيئة ، ممراح ، قدماه دقيقتان ، وأذناه مستقيمتان مدببتان ، ذلك مظهره ، أما مخبره فهو حيوان لا يقف شيء في وجه شجاعته ، ولا ينال التعب من همته ، أمّا قناعته بالمأكل والمشرب فهي مضرب المثل ؛ فهو يكتفي بقبضة من الفول في اليوم ، ويمكن أن يسير ثلاثة أيام دون أن يشرب في جو ترتفع فيه درجة الحرارة ما بين ٣٥ و ٤٠ درجة ، ولا يمكن لأي حصان أن يقارعه ، وهو ينافس في ذلك الجمل نفسه. وإن لهذه الحمير القوية قيمة مادية كبيرة ، وإن أحد الأطباء من أصدقائي تلقى هدية من أحد نواب الملك (في مصر) حمارا أبيض اللون قدّر ثمنه من ١٢٠٠ إلى ١٥٠٠ فرنك.

تجتمع آلاف من هذا الحيوان الأثير في الساحات والشوارع ، كما تجتمع الفياكر في مدن أوروبا ، والأحصنة في إستانبول : يستخدمه كل الناس دون حرج ، وليس لسيدات المجتمع من ذوات الخدم والحشم من ركوب

٣٢

سواه. ومع أن برادع تلك الحمير قاسية ، وتشبه كل الشبه / ٤ / البردعة المستخدمة في أوروبا ، إلا أن لها سمات خاصة بها ، ولا نشعر بالضيق ونحن نجلس فوقها. وتنتشر التزيينات الأنيقة فوق السجاد ذي الطرر الذهبية ، التي يكون لها وقع في النفوس عجيب. وأضيف في هذا السياق أن مكاري القاهرة هم أطفال حيويون وأذكياء ، ولكنهم يصبحون في سنوات قليلة بلهاء : إذ إن ضربا من الطيش المبكر هو الذي يجعلهم يتحولون هذا التحول المؤسف.

كانت قافلتنا الصغيرة تتألف من أربعة من الأعيار ، ومن عشرة جمال لازمة لنقل خدمنا وعددهم خمسة ، وكانت أمتعتنا ذات حجم مقبول ؛ لأننا مقدمون على رحلة طويلة ، وينبغي أن نحمل معنا كل لوازمها من خيام وأسرة ، وسجاد ، ومؤن من كل الأنواع ، والنبيذ حتى الماء ، كان ينبغي أن نحمل كل شيء حتى آنية الطعام وأدواتها ولوازم الطبخ.

كان قصر العباسية ، آخر مكان مسكون تراه بعد مغادرة القاهرة ، والعباسية قصر فخم ، رهيب ، بناه الخديوي عباس باشا (١) على حدود الصحراء

__________________

(١) عباس باشا بن طوسون باشا بن محمد علي باشا (١٨٤٩ ـ ١٨٥٤ م) تولى حكم مصر في عام ١٨٤٨ بعد وفاة والده طوسون في ١٠ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٨٤٨ م.

وتوفي في يوليو (تموز) ١٨٥٤ م ، وقد كثرت الروايات عن وفاته ، وقد نال نصيبا وافرا من انتقادات الرحالة ، ويبدو أنه كان يكره القناصل الأجانب ويؤثر عنه قوله : «إذا كان يتحتم علي الخضوع لأحد ما ، فإنني أفضل الخضوع للخليفة ، لا للمسيحيين الذين أكرههم». وقد حاول إخراج مصر من دائرة النفوذ الفرنسي ، فصبّ عليه الرحالة والسياسيون الفرنسيون جام غضبهم. اقتنى عباس باشا الحيوانات ، وخصوصا الجمال القوية التي حصل عليها من الحجاز ، ولم يكن يأذن لأحد بزيارة حظائره لأنه كان يخشى شر عين الحسود على الجياد ولذلك أصدر أوامره بإلقاء القبض على كل من يقترب من الإصطبلات والحظائر ، وكذلك من أبراج الحمام ، لأنها كانت تحوي أجمل وأندر الأنواع. لقد أقام عباس في المناطق البعيدة النائية حيث الهواء النقي ، فبنى القصور في العباسية ، وعند جبل المقطم ، فكان محل إقامته أشبه بالقلعة ، يعسكر فيها مع موظفيه بعيدا عن دسائس القناصل. انظر بخصوص فترة عباس باشا كتاب : مصر في كتابات الرحالة الفرنسيين في القرن ـ

٣٣

ليكون سكنا له. إن هذا القصر بالنسبة إلى عباس باشا هو كجزيرة كابري (١) Capre ? e بالنسبة إلى تيبيريوس (٢) Tibe ? re ، وعباس ليس إلا نسخة مصغرة عن تيبيريوس وهو نصف نمر ونصف ضبع ، لا يحد من وحشيته إلا الخوف.

كان هذا الجحر الغامض والمنيع ، في أثناء حياة الخديوي عباس ، مسرحا لمفاسد لا تصدق ، ولجرائم لا تغتفر. وإن آخر جرائمه التي عاقبه الله عليها لأنه أهلك شابين من المماليك كانا يسهران على ملذاته ؛ فاشترك الشابان اللذان خلفاهما ، / ٥ / خوفا من أن يلقيا المصير نفسه ، بخنق سيدهما في ظروف شنيعة لا يستطيع تصويرها إلا قلم بيترون (٣) Pe ? trone أو مارسيال (٤) Martial ؛ هذه المأساة الفظيعة التي لا نجد مثيلا لها إلا في سدوم (٥) وقعت في

__________________

ـ التاسع عشر ، د. إلهام محمد علي الذهني ، سلسلة مصر النهضة رقم (٥١) ، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ١٩٩٥ ، ص ١٥٧ ـ ١٦٢. وسنشير إليه من الآن فصاعدا ب «مصر في كتابات ...».

(١) Capre ? e جزيرة إيطالية كانت مستوطنة يونانية ثم أصبحت أيام الرومان متنزّها ، وسكنها الإمبراطور أغسطس ، أما الإمبراطور تيبيريوس فبنى هناك عدة مبان أو مساكن.

(٢) Tibre أوTiberius (٤٢ ق. م ـ ٣٧ م) : إمبراطور روماني حكم بين (١٤ ـ ٣٧ م) سلك في الحكم سبيل التعقل في البداية ، ثم أطلق العنان لنزواته وشهواته.

(٣) بيترون ، (بيترونيوس ، الحكم) Petroniuns Arbiter كاتب وشاعر لاتيني من القرن الميلادي الأول (٢٠؟ ـ ٦٦ م) كان بارعا في وصف المشاهد المأساوية وأشهر أعماله : رواية ساتيريكون Satyricon. انظر الحاشية رقم (١٩١).

(٤) مارسيال أو ماركوس فالوريوس مارسياليس Marcius Valerius Martialis شاعر لاتيني ولد في بيلبيليس Bilbilis في شمال إسبانيا حوالي سنة (٤٠ م) ومات حوالي سنة (١٠٤ م) ، سكن روما بين عامي (٦٤ ـ ٩٨ م).

(٥) سدوم : مدينة في سهل الأردن تذكر عادة مقرونة بأخرى هي عمورة ورد ذكرهما في الكتاب المقدس (العهد القديم) دمرهما يهوه إله اليهود بالنار والحجارة الكبريتية بسبب اللواط. انظر : معجم ديانات وأساطير العالم ، د. إمام عبد الفتاح إمام ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، د. ت ، مج ٣ ، ص ٦٤* ـ ٢٦٦ وسنشير إليه ب «معجم ـ

٣٤

بلدة بنها ـ العسل في وجه مصر البحري ، وقد اختفى القاتلان فترة من الزمن ، ثم عادا للظهور ، ويعلم الناس كلهم أنهما اليوم موظفان في القلعة ؛ باعتبار أن الأطباء الشرعيين أفادوا في تقاريرهم الرائعة أن سمّوه قضى بنزيف دماغي (١) (سكتة دماغية). وقد كان من آخر ما قام به في حياته ، بل ربما كان آخر أعماله ، أنه أخاط شفتي خادم مسكين من خدم حريمه ارتكب خطأ بسيطا ، ولم ينقذ موت ذلك الحاكم الفظ الخادم المسكين الذي قضى نحبه هو الآخر جوعا بعد ساعات من موت سيده ، وكان قبل ذلك بفترة وجيزة قد أمر خدمه بذبح أحد المساكين أمام عينيه ؛ لأنه كان يجري قرب سيارته ليسلمه عريضة ؛ لأن عباسا كان يخاف من كل شيء ، ويشك في كل الناس. لقد شاهدنا على طريقنا قبل مغادرة الأراضي المصرية أثرا آخر من آثار ذلك الأمير الإفريقي الذي لم يترك وراءه إلّا أسوأ الذكريات ؛ إذ أقيم قرب القصر مسجد كان يحتفل فيه بعيد أحد الأولياء المسلمين / ٦ / ، وكان ينطلق منه الصراخ والأغاني ، وضرب من الموسيقى البشعة.

إن الشعب المصري ، وأهل القاهرة على وجه الخصوص ، يعشقون الاحتفالات بكل أنواعها : دينية أم دنيوية ، عامة أم خاصة ، ويسمونها جميعا دون تمييز باسم «فنتازيا (٢)» وهي كلمة لاتني تتردد على الأفواه ، وهم يطلقونها على كل شيء.

وهناك عدد من السواقي التي تنقل من النيل الماء البارد والصافي الذي لم أر مثله ، منذ زمن طويل ، إلى هذا المكان ، ويصب ذلك الماء في خزانات

__________________

الديانات ...». وقد تحدث القرآن الكريم عما أصاب قوم لوط فقال تعالى في سورة هود الآيات ٨٢ ـ ٨٣ : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (٨٣).

(١) انظر : مصر في كتابات ... ، موثق سابقا ، ص ١٥٩ ـ ١٦١.

(٢) Fantasia ، وتنطقها العامة في مصر بالطاء : الفنطظة أو الفنطظية بالمعنى الذي أشار إليه ديدييه ، وسبقه إليه بيرتون في رحلته ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٠٤ ، وانظر تعليق المترجم.

٣٥

من الحجارة. ارتوت الحمير والجمال من ذلك الماء ما يكفيها لثلاثة أيام ، ثم ولجنا الصحراء أخيرا. سرنا مدة ساعات دون حوادث ودون معوقات ، على أرض صلبة متعرجة.

ولمّا كان انطلاقنا قد تأخر ، فقد ضربنا الخيام في نهاية النهار قرب المحطة رقم ٣ على ست مراحل فقط من القاهرة ، وبالتحديد تحت برج اللاسلكي الذي أنشىء في هذه المنطقة بالإضافة إلى عربات النقل ، وورديات النقل ، والفنادق ووسائل أخرى من وسائل الحضارة الغربية التي تجعلك تحس بالغربة ، والتي تزيل بهاء صحراء السويس.

إلّا أنّه ، وعلى الرغم من هذه المظاهر المزعجة ، ومن وجود المحطة ؛ لم يكن هناك أحد لتعكير صفو العزلة ، وكان الصمت مطبقا. أما سلسلة المقطم الحجرية التي تسير الطريق على امتداده بمحاذاتها ، والتي تمتد على يمينه من النيل إلى البحر الأحمر ، فإنها كانت بلونها الأسود متباينة كل التباين مع الخليفة المضيئة لغروب متلألىء.

كان / ٧ / رمل الصحراء زهري اللون ، وكان هدوء المساء يعلن بجلال نهاية يوم هادىء ، ويرهص بليلة لن تكون أقل هدوءا ، إلا أن الهواء كان باردا ، باردا حتى إنني وجدت نفسي مدفوعا إلى ارتداء البرنس الصوفي الفضفاض الذي كنت اشتريته صباح ذلك اليوم من سوق القاهرة ، وليس ذلك بغريب فقد كنّا في يوم ١٦ يناير (كانون الثاني).

نصبت الخيام بعد قليل ، وقدّم طعام العشاء ، دون أن ننسى تقديم العشاء للحيوانات ؛ إذ تلقت الجمال المناخة حول المعسكر ، والحمير الواقعة على عراقيبها الفولاذية حصتها البسيطة من الفول أو الذرة ، دون أن يقدم لها قطرة واحدة من الماء.

ثم نام المكارون والجمّالة بعد ذلك مختلطين بحيواناتهم ، يلتحفون السماء المزدانة بالنجوم ، ومرت ليلتي الأولى تحت الخيمة دون أحداث تذكر ، يحرسني رجال الصحراء المهرة ، الذين اعتادوا الأسفار.

نهضت في اليوم الثاني مبكرا ، وكان أول ما وقع تحت ناظري بعد

٣٦

خروجي من الخيمة برج التلغراف : الذي نصب على أكمة كثيرة الحصى ، كان ينتصب أمامي كأنه شبح مخيف في لون الغسق الشاحب. لقد سررت بوجوده في هذه اللحظة ، وبالمصير الذي حمله إلى هذا المكان بفضل الأثر الرابع الذي كان يضفيه على المنظر الطبيعي. بزغت الشمس بعد أن أرهص بها فجر / ٨ / بهي ، بزغت ، وهي لامعة كما كانت عند الغروب ، تعد بيوم أكثر جمالا من سابقه ، وقد وفت بما وعدت.

بدأنا برفع الأحمال على الجمال ، وذلك عمل يقوم به الجمّالة برشاقة وخفة عند ما يوافق ذلك هواهم ، ولكنهم اعتادوا أن يقوموا به متثاقلين لأنهم يكرهون الرحيل في الصباح الباكر. إذا كان الوقت متأخرا عند ما أصبحت القافلة جاهزة للمسير.

لقد لفت نظري في المحطة التالية بيوت منخفضة ، نصفها غائر في الأرض ، يسكنها بعض الفلاحين الفقراء ، القابعين بهذه الجحور كأنهم ثعالب مع إناثهم وصغارهم ، يمارسون مهنة لست أدري ما كنهها؟ ولست أدري كيف يعيشون؟ وأترك حل هذه المسألة لمن هم أكثر تبصرا. كانت إحدى نسائهم المحجبات ، كما هي حال كل النساء ، تجلس القرفصاء على قارعة الطريق كأنها طائر العنقاء ، وأمامها سلة مملوءة بالبرتقال الذي تبيعه للمارة بقليل من البارات (١) ، وإنه لمن المشكوك فيه أن تجني تلك البائعة البائسة ثروة من

__________________

(١) جمع بارة وهي جزء من الريال العثماني ومن النحاس ، وعرفت بين الناس بالبارات المجيدية نسبة إلى السلطان عبد المجيد خان الذي عاش في الفترة ما بين ١٨٢٣ ـ ١٨٦١ م ، وولي الحكم منذ عام ١٨٣٩ حتى وفاته وكانت تحمل غالبا في الوجه الطغرى باسم السلطان العثماني عبد المجيد ، وسنة الجلوس على العرش ، أما الظهر فكان يحوي تاريخ السك ومكانه وتاريخ تولي السلطان. انظر : تطور النقود في المملكة العربية السعودية ، موثق سابقا ، ص ٢١. وتشكل الجزء الأربعين من القرش التركي ، وقال بوركهارت إنها أصغر عملة معدنية تركية (تسمى هنا ديواني) ، متداولة في كل أنحاء الحجاز ، ويطلبها الناس بكثرة بسبب أن سعرها الحقيقي أكثر من القرش المصري. انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٤٩.

٣٧

ذلك ، لأن المارة قلة نادرة ، ولأنه ينبغي العلم أن ثمانية من تلك البارات الهزيلة التي تتلهف للحصول عليها ، لا تكاد تساوي فلسا من العملة الفرنسية.

إن أي حدث يعدّ في الصحراء ظاهرة ، أقل حدث في السماء أو الأرض يخطف الأبصار ويأسر النظر ، / ٩ / انطلاقا من الجنبةArbuste المنفردة التي تأخذ على البعد حجم شجرة عملاقة ، حتى السحب التي تمر فوق الشمس ، والتي ينساب ظلها الخفيف كأنه كائن حي على صفحة الرمال المستوية والمتوهجة. ما زلت أذكر ذلك الأثر الآسر الذي أحدثته في ذلك اليوم رؤية بدوي يمتطي جمله بجلال ، ويتدلى من رحله العالي المغطى بسجادة وجرابان لهما حشفات طويلة وكبيرة من الحرير الأحمر ، وكانت تتأرجح بانتظام حسب خطوات الحيوان المنتظمة وكأنها رقاص ساعة الحائط. وقد رأيت في اللحظة التي تليها منظرا مناقضا وكأنه رسم كاريكاتوري (ساخر) للوحة الرائعة الأولى : رأيت جملا هزيلا يجر متثاقلا عربة قديمة ؛ لكأنني كنت أرى علائم الدهشة بادية على ذلك الجمل المسكين بسبب عمله الذي لم يعتده! لم تكن عجلتا العربة ذواتي شكل دائري بل كانتا بيضاويتين ، وتصدران جلبة وصريرا تحت الجازع. لقد كانت تلك الآلة البشعة ، وهي تقليد غير متقن لعربات النقل ، تحتك بقائمتي ذلك الحيوان المسكين ، وتعيق حرية الحركة لديه حتى إنه لم يكن يتمكن من السير إلا بصعوبة وبارتباك يبعث على الضحك. ما أوسع الشقة بين هذا التجديد البربري والغبي ، وبين المظهر الرائع الذي يبدو عليه الجمل وقد علاه الأعرابي حسب وظيفته المعتادة في الطبيعة. / ١٠ /.

كان هناك أيضا منظر أكثر إثارة للاشمئزاز ، إنه منظر جيف الجمال المنتشرة على الطريق ، بعضها أكلت الحيوانات اللاحمة نصفها ، وبعضها الآخر أفسدته الشمس. عند ما يصل الجمل إلى مرحلة الإرهاق يسقط بما يحمله ، ولا تستطيع قوة إنسانية أن تجعله يقف على قدميه ثانية ؛ عندئذ يوزّع حمله على الجمال الأخرى التي ما زالت تحتفظ بقوتها ، ويترك الجمل لمصيره المحتوم : يموت من الجوع في المكان الذي سقط فيه ، ويصبح بعد موته بقليل طعاما للضباع والنسور.

٣٨

تلك هي النهاية الحتمية لذلك الحيوان الأثير الذي يصلح كل الصلاحية للمكان الذي ولد فيه. وبعد أن رأيت هدوءه وشجاعته وخضوعه فإنني أسميه بكل طيبة خاطر : شهيد الصحراء وليس سفينة الصحراء.

لقد صادفنا في ذلك اليوم ، وفي الأيام التي تلته عددا من القوافل القادمة من الحجاز وهي تحمل الصمغ والتمر الهندي والرقيق الذي يؤتى به ليباع في سوق القاهرة ؛ وكان هؤلاء المساكين مربوطين مثنى مثنى على الرحال ، وكانوا في ميعة الصبا ، ولونهم أسود يتفاوت في شدة السواد ؛ وقد جيء بهم من حدود دارفور ، ومن الحبشة ، وكان التجار الذين يسمون (جلاب) يأتون بهم أولا إلى جدة عبر سواكن والبحر الأحمر ، ولا يحملون إلى مصر إلا أولئك الذين لم يستطيعوا بيعهم بسعر رابح في الجزيرة العربية. وكان في إحدى تلك القوافل / ١١ / امرأة من سكان مكة المكرمة كانت ترتدي ثيابها الفاخرة التقليدية ؛ كانت على ظهر جملها تعلو عن الأرض سبعة أقدام ، وتحميها من الشمس مظلة بيضاء كبيرة ، وكانت محجبة بإحكام كما ينبغي على أية مسلمة ملتزمة. ومع أنها جاءت من مكة المكرمة ، وولدت فيها ، فإنها لم تجد حرجا من الكشف بإدلال عن وجهها عند ما مرت بنا ، لقد كانت جميلة وشابة. لقد كان فيما فعلته مخالفة دينية ، ولكن ما يغفر لها ذلك هو أننا من (الجاورين Giaours) الكفار.

ولا بد من الإشارة ، لكي تكتمل لائحة المقابلات في ذلك اليوم ، إلى عمّال البريد الذين كانوا ينهبون الطرق تاركين العنان لخيولهم التي كانوا يستبدلونها بسرعة في كل محطة ، وكانوا يقطعون المسافات بينها بسرعة ، كانوا يسبقوننا أو يمرون بقربنا بسرعة البرق فلا نكاد نراهم حتى يختفوا عن الأبصار. تسير الجمال بسرعة أقل ولكن إلى مسافات أطول.

كانت أعيارنا القوية تسبق الجمال التي لا تقطع إلا ميلين أو ميلين ونصفا في الساعة ؛ لذلك توقفنا في منتصف النهار لمدة ساعتين للاستراحة وانتظار القافلة ، لقد بدأنا ونحن مستلقون على الرمال على قارعة الطريق الرئيسي بالإعداد لتناول غداء تقشفي ، كان يعتمد أساسا على البرتقال الذي اشتريناه من البائعة المسكينة في المحطة رقم (٤). / ١٢ / وكانت أسراب الغربان والصقور

٣٩

الآتية من المقطم تحوم فوق رؤوسنا ، مستعدة كل الاستعداد وقد نفد صبرها ، لكي تنقض على فضلات طعامنا ، مع أنها قليلة ، وكانت في هذه الأثناء بعض القبرات التي لا تكاد ترى تغني بنغمة فرحة في طبقات الهواء العليا ، وكان القطا ، عصفور الصحراء الذي سمي بذلك محاكاة لصوته الرتيب الذي يشبه النواح ، وهو خاص به ، ويكرره آلاف المرات وهو يتطاير من حولنا.

كان الجو جميلا ، والهواء عليلا حتى إننا لم نستطع أنا وأحد رفاق الرحلة مقاومة الرغبة في السير ؛ وقد كان ذلك رغبة في التسلية ، ولإعطاء حميرنا استراحة هي بالتأكيد مستحقة كل الاستحقاق لها. لقد تمكنا من السير لأن الطريق كانت صلبة ، وكان بالإمكان أن تنقلب تلك التسلية إلى تعب لا يحتمل ، لو أننا كنا نسير على الرمال المتحركة. لقد سرنا لأميال عدة دون أن نلحظ ذلك ، ونحن نتجاذب أطراف الحديث. لقد كان رفيقي يحب المشي شأنه شأني ، وكان رحالة مجربا ، إنكليزيا وضابطا في جيش بومباي ، واشتهر في بريطانيا بكتبه عن الشرق ؛ أحدها عن الصيد بالصقور في سوريا. وكان عائدا إلى فرقته العسكرية بعد عطلة عدة أشهر خصصها لأداء الحج إلى مكة المكرمة شأنه شأن أي مؤمن حقيقي ، كان يتكلم العربية بإتقان ، ويحفظ القرآن ، / ١٣ / وكان يرتدي بسهولة عجيبة الزي التقليدي ، ولا يخلعه أبدا ، إنه باختصار تمثّل أخلاق هذه البلاد وعاداتها حتى إنه أصبح ذا سحنة شرقية ، وأصبح من المستحيل على أي كان أن يقول : إنه أوروبي ، وكان العلماء والأئمة في مكة المكرمة يظنون من هيئة أنه أحد الهنود المسلمين.

لقد استطاع بفضل تنكره المتقن أن يتمّ دون خطر مشروعه المحفوف بالمخاطر ؛ لأننا نعلم أن مكة المكرمة والمدينة المنورة لا يدخلهما ـ حتى اليوم ـ غير المسلمين ، وإن دخلوها فهم يعرضون أنفسهم لعقوبة الموت أو التخلي عن دينهم ، واتباع الإسلام.

نشر السيد بيرتون (١) Burton رحلته بالإنكليزية ، ولم أقرأها ، ولكن ما

__________________

(١) Richard Francis Burton رتشار فرانسيس بيرتون (١٨٢١ م ـ ١٨٩٠ م). ولد بيرتون ـ

٤٠