رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

شارل ديدييه

رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٦

إذا من نظنهم نحن؟ مئة وعشرون قرشا لأناس مثلهم ، لأناس مثلنا! مئة وعشرون قرشا! إن في ذلك عارا علينا وإهانة لهم! إننا نتسربل بالعار عند ما نقدم مثل هذه الهبة ، وإنه لعار أكبر أن يقبلوها. ومن الجدير بالملاحظة أن المبلغ كان وهم يحتجون قد أصبح في جيوبهم ، ولم يخرجوه منها. لقد كان أكثر أفراد العصابة إثارة راهب يدعى جوزيف ، وكان وجهه مميزا لأنه لم يكن له أنف أبدا ، وكان يتحدث الإيطالية بإتقان تام ؛ كان يقول : أي طريقة في التعامل هذه! وكان يردد ذلك عشر مرات في الدقيقة ، وهو يرتجف كأن به مسا ، وقد كان يمكن له بطيبة خاطر أن يتفوه بكلام جارح لو كانت لديه الجرأة لفعل ذلك. أما الأخ بيير المسكين فقد كان يقوم عبثا بدور المصلح ، وكان كبير الرهبان ، وهو رجل محترم له لحية بيضاء ، يشرف على هذا النقاش البشع ، مظهرا أن في ذلك إهانة شخصية له نفسه. واستمرت العاصفة وقتا طويلا ، ولكنها كانت جعجعة بلا طحن : لم نزد على المبلغ ولا بارة واحدة. كان ضميرنا مرتاحا لأننا / ٨٣ / قمنا بالواجب على أكمل وجه ، بل وسّعنا في ذلك عليهم : لقد صرفنا في الدير بعد كل حساب مبلغ خمس مئة قرش ، وكان ذلك بالتأكيد ثمنا مرتفعا لضيافة دامت أربعين ساعة ، ويا لتلك الضيافة!

كان السقوط ذريعا من قمة جبل سيناء إلى مثل هذه التفاهات ، وأعتذر للقارىء عن ذلك. ولكن إذا كانت الحياة رحلة كما نردد دائما ، فإن باستطاعتنا أن نعكس الآية فنقول إن الرحلة كالحياة مملوءة بالمشاعر المختلفة ، وبالحوادث من كل الأنواع ، وفيها من الحوادث البسيطة والعارضة أكثر مما فيها من الأحداث الكبرى. ناهيك عن أن هذه النزاعات الصغيرة ، مهما كانت سوقية ، فإن ذلك يجعلها تحمل في جوانبها درسا يتمثل فيما ظهر من جشع الرهبان اليونايين. لقد وجدتهم في كل مكان متشابهين ، وخصوصا في القدس حيث كان جشعهم أكثر إزعاجا ؛ لأنه جشع لا مسوغ له ، وهو بالتالي لا يغتفر.

إذا حاولت الدخول إلى كنيسة القيامة (١) Saint Se ? pulcre فإنك تجد

__________________

(١) المكان الذي يزعم النصارى أن المسيح عليه‌السلام صلب فيه ، ثم حفر له قبر وضعت جثته ـ

١٠١

راهبا يونانيا مرابطا عند الباب يمد لك يده ، وإذا حاولت الصعود إلى جبل الجلجلة ، وأنت ترتجف متأثرا بتلك المشاعر التي يحركها هذا المكان في نفوس أقل الناس إيمانا فإنك تجد هناك راهبا يونانيا آخر يصب ماء الورد على أصابعك ويطلب منك أيضا أجرة عمله الخير ، وإنهم في الحقيقة يقنعون بالقليل ؛ فبعض القروش تخلصك منهم. ويبدو أن الرهبان الإغريق لم يكونوا في عهد سوفوكليس (١) Sophocle أقل جشعا ، لأن هذا الشاعر يقول للعرّاف العجوز / ٨٤ / تيرزياس (٢) Tirsias على لسان كريون (٣) Cron : «إن الجنس

__________________

ـ فيه وهو في القدس وعليه كنيسة تعرف ب القديس سيبولكرSaint Se ? pulcre يحج إليها المسيحيون وفيها مكان لعبادات الأرثوذكس ، وآخر للكاثوليك ، وكان قنصل فرنسا في القدس مكلفا بالسهر على حقوق اللاتينيين أمام تطرف اليونان. وانظر : معجم البلدان لياقوت الحموي ، ج ٤ ، ص ٣٩٦ ـ ٣٩٧ ، رسم (قمامة).

(١) سوفوكليس Sophocles (٤٩٤ ـ ٤٠٦ ق. م) ثاني الشعراء التراجيديين الإغريق ، نشأ في طبقة متوسطة ذات اتجاهات سياسية معتدلة بحيث لم تكن مفرطة في شعبيتها كما لم تكن مغالية في أرستقراطيتها ، وكان وسطا في عقيدته الدينية ، لا هو من المتزمتين ولا هو من المستهترين ـ تتسم نزعته الفلسفية بالتشاؤم والضيق بالحياة والرثاء للإنسان وما يلقى من آلام. وكان لهذه النزعة أثرها على مسرحياته فبدت كلها يغلب عليها الطابع المعتم. أفاد من جهود سلفه أيسخيلوس. كتب ٢٣ مسرحية لم يبق منها إلا سبع. كان أرسطو يعد مسرحية «أوديب ملكا» لسوفوكليس مأساة نموذجية ... فليس ثمة بيت شعر فيها دون دلالة ومغزى ، وليس ثمة فرصة لإيقاظ العاطفة إلا حفلت بها. انظر : نظام العبودية القديم والنموذج المثالي للإنسان ، جوزيف فوجت ، تقديم وترجمة وتعليق د. منيرة كروان ، المشروع القومي للترجمة ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، رقم (١٢٢) ، ١٩٩٩ م ، ص ٣٢.

(٢) عرّاف ضرير في الأساطير اليونانية ، ضربته «هيرا» زوجة «زيوس» بالعمى ووهب له «زيوس» القدرة على التنبؤ ، كما وهب له طول العمر. يذكره هوميروس وأسخيلوس ... وسوفوكليس في أعمالهم. ويظهر عند ت. س. إليوت في «الأرض اليباب». معجم ديانات ... ، موثق سابقا ، ج ٣ ، ص ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٣) Cron كريون ، خال ولدي أوديب الذي أصبح ملكا لطيبةThbes بعد موتهما وهماEteacles إيتكليس وPolynice بولينيس ، ثم حكم على أنتيجوناAntigone ابنة ـ

١٠٢

الكهنوتي كله يحب المال». لقد ألقيت لسكان ذلك النزل غير المضياف وأنا أستعد لمغادرته كلمة وداع كانت هي مقولة مواطنهم المشهور سوفوكليس ، وقد قلتها بلغتهم حتى تكون مفهومة لديهم أكثر (١).

لقد فاتني الحديث عن محنة من نوع آخر عانينا منها ، وأجد من المفيد أن أرويها. لما كانت سيناء التي تسمى رسميا جبل الطور واقعة في منطقة نفوذ عباس باشا فقد كانت له فيها حامية صغيرة كانت تعسكر حينئذ بالقرب من الدير ، وكان قائد الحامية برتبة بنباشي (مقدم) (٢) ، وقد قمنا بزيارة مجاملة لهذا الضابط عند وصولنا ، فلم يحسن استقبالنا : لقد التقيناه عند مدخل المعسكر ، في الهواء الطلق ، ونحن وقوف ، بلا قهوة ولا شيشة ، بل إنه لم يدخلنا إلى خيمته. كنّا ممتعضين لأنّه أساء استقبالنا ، وأعلمناه بذلك عن طريق خادم تركي كنا نستخدمه ، وطلبنا منه قصدا أن ينقل إليه الرسالة بالتركية ؛ وهو أمر يغضب المصريين والعرب لأن التركية لغة الغزاة. لقد انزعج من توبيخنا له / ٨٥ / ، وأراد بدوره أن يثأر منا لذلك ، فطلب أن نسأل عن جوازات سفرنا ؛ نعم أيها القارىء ، جوازات سفر في سيناء! إن مصر الغنية بأسباب الحضارة

__________________

ـ أوديب بالموت. وهو أحد شخصيات مسرحيات سوفوكليس وخصوصا في «أوديب ملكا» و «أوديب في كولون» و «أنتيجونا».

(١) أثبت ديدييه قول سوفوكليس باليونانية.

(٢) يستخدم ديدييه هنا لقب Bin ـ Bachi التركي ليسخر من هذا الضابط المصري الذي لم يحسن استقبالهم. ودليلنا ما تتضمنه السطور التالية التي يتحدث فيها عن الانطباع السيء الذي تتركه لدى المصري خصوصا والعربي عموما عند ما تحدث بالتركية لأنها حسب قول ديدييه لغة الغزاة. وبنباشي أو بيكباشي : لفظ تركي بمعنى رأس الألف ، واستعملت بيكباشي في العصر العثماني المتأخر ، وتعادل وفق المصطلحات العسكرية المعاصرة رتبة (مقدم) ، انظر : معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ، تأليف مصطفى عبد الكريم الخطيب ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ١٤١٦ ه‍ ـ ١٩٩٦ م ، ص ٨٣ ـ ٨٤. انظر المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية ، د. سهيل صابان ، ط. مكتبة الملك فهد الوطنية ، الرياض ، ١٤٢١ ه‍ / ٢٠٠٠ م ، ص ٦٦.

١٠٣

الأوروبية لم تنس من بينها هذا السبب (جوازات السفر). كان ذلك البنباشي يظن أنه سيجد في أوراقنا نقصا ، إلّا أنه نال ما يستحق ؛ لقد كان رفيقي نظاميا ، وكنت أنا أكثر نظامية منه ، لأن مبدئي في السفر هو الحصول على عدد كبير من التأشيرات ، وعدم الاقتصاد في ذلك ، لكي أتجنب الانزعاج والتأخير ؛ لذلك كان معي جواز سفر خاص بالذهاب إلى سيناء حصلت عليه من القنصل الفرنسي في القاهرة ، ومؤشر من السلطات المصرية ، وقد طلبت زيادة في الحيطة أن يسجّل عليه السلاح الذي أحمله. ولما لم يجد وسيلة لأزعاجنا ، لم يكن لديه ما يستطيع فعله إلّا أن يعيد لنا أوراقنا : وهذا ما فعله ، ولكن ليس دون أن يمتع نفسه بوضع تأشيرته الخاصة عليها ، وقد علمت من ذلك أن هذه الشخصية المشهورة تسمّى Hassim Ibrahim هاشم إبراهيم. ولما شعر بأنه قد هزم في هذا الجانب أراد أن يثأر بطريقة أخرى ، لقد تخيل أن باستطاعته مصادرة الجمال التي حملتنا من مدينة الطور ، والتي كان من المفترض أن ترجعنا إليها. وإليكم الدافع أو الحجة للقيام بهذا الإجراء العشوائي ؛ إن الأعمال الجارية في الطريق ، وحاجة معسكر العاملين فيه ، جعلت الحكومة المصرية تحجز كل جمال المنطقة : صحيح أنهم كانوا يدفعون لأصحابها / ٨٦ / أجرة جيدة ؛ ولكن ثقل الأحمال ، والمعاملة السيئة التي تلقاها تلك الجمال من الجنود ، جعل عددا كبيرا من هذه الحيوانات التي تغذى تغذية سيئة ، وتكاد تكون من قبل منهكة بسبب الضائقة العامة ، جعلها ، تموت من التعب ، وجعل طرق الصحراء مليئة ببقايا جثثها. لذلك لا يلتزم البدو ، إلّا بعد تردد ، بأوامر الباشا ، ويراوغون للتخلص منها كلما استطاعوا فعل ذلك ، دون أن يعرضوا أنفسهم للخطر ؛ لأن بدو سيناء مفسدون تماما ومهجنون تماما : لقد أصبحوا فقراء ، لا يملكون إلا ماشية قليلة ، وليس لهم من مورد في الأوقات العادية إلّا أن يذهبوا إلى القاهرة لبيع ملح المناجم والفحم. وتتحاشى السلطات استخدام العنف الشديد في معاملتهم ، وذلك لسببين ، أولهما : أن سياسة عباس باشا حينئذ كانت تقوم على استثناء البدو كلهم من هذه الإجراءات ، مخافة أن يؤدي التشديد عليهم إلى إثارتهم. وثانيهما : أنهم إذا هربوا إلى قلب الصحراء فليس

١٠٤

هناك من سيذهب للبحث عنهم ، وكلما كثر البدو كثرت الجمال. تلك كانت حالة البلد ، واعتمادا على أوامر المصادرة التي أصدرتها حكومته نظّم البنباشي أمر مصادرة جمالنا زاعما أنها تابعة للمعسكر ، وأنه اعتمادا على ذلك لا يحق لبدو الطور أن يؤجروها. وقد أجبناه عن ذلك بالقول : إن كوننا غير مصريين ، وغير بدو / ٨٧ / يجعل أوامر الباشا لا تخصنا أبدا ، وإن جمالنا لنا حتى الطور لأننا استأجرناها ، ودفعنا أجرتها ؛ وإننا نمنعه من أن يمسها ، ونلقي على عاتقه مسؤولية تعويض الأضرار التي تلحق بنا ، ولن نتوانى عن طلبها من الحكومة المصرية عن طريق قنصلينا عن كل ساعة تأخير يسببها لنا ، ناهيك عن إزاحته عن منصبه التي ستتلو ذلك دون أدنى شك. وبعد هذا الاعتراض الحاسم ، كتبنا في المساء نفسه رسالة إلى صديقينا المهندسين في معسكر وادي حبران ليمدوا لنا يد المساعدة عند الحاجة. ولم تصل الأمور إلى هذا الحد لأن البنباشي خاف ، وعدل عن مزاعمه ، وأفرج عن جمالنا وجاءنا زائرا ، ولكننا رددنا له الصاع صاعين باستقباله كما كان قد استقبلنا. كنا على طاولة الطعام عند ما جاءنا ، وبدلا من أن ندعوه إلى مشاركتنا طعامنا ، كما كنا سنفعل ذلك في ظروف مختلفة تماما ، وكما جرت العادة دوما في الشرق ، تركناه واقفا ، ولم ندعه يدخل علينا بل تركناه على قدميه أمام الباب ، ولم نوجه إليه أي كلمة ، ولم نعره أي اهتمام كما لو أنه ليس بموجود. كان هذا الدرس القاسي ضروريا : وينبغي على الدوام معاملة الأتراك كذلك في مثل هذه الحالة ، وإلّا / ٨٨ / فإنهم سيحتقرونك ويزعجونك. لقد أبدينا في مقابل ذلك احتراما كبيرا لطبيب عسكري شاب كان يرافقه ، ولم يكن لدينا ما نأخذه عليه ، كان مصريا ، ويتحدث الفرنسية والإنكليزية بطلاقة. وقد لمحنا في أثناء رحيلنا من بعيد أن البنباشي ، قد خطرت له فكرة عبقرية ؛ إذ نصب في وسط المعسكر منصة عالية من الخشب فوقها كرسي ، وكان يجلس عليه ، وكأنه مشعوذ على سريره ، ظانا بلا شك أن مكانته المعنوية ترتفع بسبب مباشر من ارتفاعه المادي. مررنا على مرمى منه دون أن نلتفت إليه ، ولست أشك بعد كل ما حدث ، أنه لم يحتفظ بذكرى حسنة عن إقامتنا في سيناء.

١٠٥

إن أخشى ما أخشاه في السفر هو أن أسلك الطريق نفسها مرتين ، وقد كلفني تلافي ذلك القيام بانعطافات لا يستهان بها ؛ ولكن الضرورة هنا دفعتني إلى ذلك. لقد كان علينا أن نسلك في العودة الطريق نفسها التي سلكناها في المجيء ، وأن نضع أقدامنا على آثار خطواتنا التي ما زالت واضحة. تجاوزنا مرة أخرى السهل الكبير الذي نزل فيه العبرانيون بقيادة هارون (١) الأخ الشقيق لموسى ، وعبدوا العجل فجأة. ثم هبطنا بعد ذلك عبر نقب الدير الذي يبدو لي الآن ، لو كان ذلك ممكنا ، أكثر تهدما وأكثر رعبا أيضا من المرة الأولى. لقد التقينا أحد المسافرين الأوروبيين وهو يصعد القمة / ٨٩ / ولما كان هو أيضا يقوم بزيارة الدير فقد نصحنا له بأخوة ، وبلا إلحاح أن يكون حريصا كل الحرص على أمواله ، ولم نقابل أحدا آخر حتى نهاية الرحلة إلى سيناء.

نصبنا خيامنا على حدود وادي صلاف ، الذي يقع تماما عند أقدام نقب حبران. كان ذلك التوقف رائعا ، ولا زالت ذكراه ماثلة حية تختلج في

__________________

(١) يزعم العهد القديم أن بني إسرائيل عبدوا العجل الذهبي الذي صنعه لهم هارون في غياب موسى في جبل المناجاة (سفر الخروج ٣٢ : ١ ـ ٢). انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٤٥٦ ؛ وانظر : معجم ديانات ... ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٤٦ ـ ٤٧.

وقد حدثنا القرآن الكريم في غير موضع عن اتخاذ بني إسرائيل العجل إلها معبودا في سورة البقرة ، الآيات ٥١ ـ ٦١ ، والآيتان ٩٢ ـ ٩٣ حيث يقول تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩٣). وقد صنع العجل من حلي بني إسرائيل وكان صورة مجسدة لعجل لا روح فيها ، إنما هي جسد فقط ، كانت الريح تدخل فيه ، فيسمع له صوت كخوار البقر ، انظر سورة الأعراف ، الآيات من ١٤٨ ـ ١٥٠ ، وسورة طه ، الآيات من ٧٧ ـ ٩٨ ، وفيها دلالة على أن السامري هو الذي أخرج لهم العجل ، وأن هارون نهاهم عن عبادته ولكنهم لم يستجيبوا له ، وعاتبه موسى عليه‌السلام عتابا شديدا فأجاب ، طه ٩٤(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤).

١٠٦

ذاكرتي. كان الزمان والمكان يزخران بالجمال والسحر : كانت الوديان والكتل السفلية من الجبال قد بدأ يغشاها الغسق ، ولكن القمم العالية كانت ما تزال تقدح بعض شرر الغروب. إنه النزاع الأخير بين الضوء المتلاشي وبين الظلمة التي تولد ، وكانت عظمة المكان وجماله ، وهدوء الطبيعة ، والهواء العليل ، والمساء الحزين ، والعزلة ، والصمت ، والحرية ، كل ذلك ، كان يمس شغاف القلب ، ويجعله ثملا بالأحساسيس التي لا يمكن التعبير عنها ، وفي هذا اليوم أشعر حقا لأول مرة أنني أقمت في الصحراء.

ثم شددنا الرحال عند مطلع الشمس إلى ذلك النقب البغيض ، نقب حبران الذي لا يقل عبوره من هذه الجهة صعوبة عنه من الجهة المقابلة ، والذي أجهدنا في المرة السابقة كل الإجهاد ، وقد أجهدنا في العودة أكثر أيضا ، لأننا هبطنا منه هبوطا يكاد يكون عموديا ، عبر طريق أكثر قصرا ، ولكنها أكثر سوءا من الأخرى ، تكثر فيها الصخور المحدبة ، والحجارة المتدحرجة ، لقد كان النقب سريع الانحدار حتى إن الجمال لا تستطيع نزوله ، فقامت بالتفاف طويل حوله استغرق وقتا ، وجدنا أنفسنا معه مضطرين / ٩٠ / لانتظار وصولها وقتا طويلا في أسفل المنحدر.

ولما دخلنا وادي حبران تبدى لي من جديد جبل سربال الذي كان عاريا وقاحلا ، ولكنه كان جليلا كما تركته في الذهاب. ولقد أدهشني عند ما اقتربت منه عارض مزدوج من التناغم بين الضوء والأرض ، كانت قد فاتتني ملاحظته في المرة الأولى ، لأن الشمس كان لها حينئذ وضعية مختلفة : إنه منحدر ضخم ، ناتىء جدا ، ويحدث في الجبل قطعا عرضيا جانبيا ، وكانت طريقة الإضاءة في تلك اللحظة تعكس عليه ظلا واضحا كل الوضوح ، وأسود فاحما حتى لتظنّه ثوب حداد ضخما ، ملتفا بشكل متصالب على أحد العمالقة. لقد انضم إلينا خلال الطريق متطوع جديد : إنه قعود صغير وحر ، ضائع بدون شك ، وما زال غير مستأنس أيضا ، انضم إلى قافلتنا بدافع حب الجماعة ، وأضحكنا طوال فترة الصباح بقفزاته الجميلة ، وباستقلاليته ؛ فمع أنه كان يتبعنا عن قريب ، لم يترك أحدا يمسك به ، أو أن يقترب منه. وقد لقي جنود حملة

١٠٧

استطلاع وجدناهم معسكرين حول نبع نقب حبران صعوبة كبيرة في الإمساك به ، ولم ينجحوا في ذلك إلّا باستخدام أنشوطة ؛ لقد كان دفاعه عن نفسه بطوليا ، وقد استطاع أن يجندل غير واحد من مهاجميه خلال الصراع. لقد كنت شاهدا على المعركة ، وأتيحت لي الفرصة خلالها لمراقبة قوة ذلك الحيوان ورشاقته الفطريتين ، وكيف يتحول إلى حيوان وديع كل الوداعة ، ويصبح في غاية من اللطف ، عند ما يكون / ٩١ / مستأنسا ؛ ويصبح حينئذ أكثر بطئا ، وأكثر تأنيا.

كان العمل في الطريق قد تقدم خلال الأيام الخمسة التي استغرقتها رحلتنا ، ومع ذلك فإن المهندسين لم يكونا بعد قد غادرا مكان إقامتهما في جانب المسيل المائي ليكونا على الدوام كعادتهما مشرفين على الأعمال. كانا ينتظراننا في خيمتهم ، وقد هيّا غداء فاخرا ، كان الطبق الرئيسي فيه فخذ جدي بري ، وقد كنا نحن أيضا قد أتينا بجدي كامل اصطاده أحد البدو في جبل سيناء ، واشتريناه منه عند مغادرة الدير.

لعلكم تظنون ، وقد كنت أظن ذلك ، أنه لا وجود لذلك الحيوان البالغ الروعة إلّا في فلك البروج ، وفي المنحنى الخيالي للمدار الجنوبي ، إنه موجود حقا ليس في صحراء سيناء فقط ، وإنما في السودان ، حيث رأيته بعض المرات ، أقل حجما من اليحمور ، وأقل منه علوا ، يشبه الأيل شبها كبيرا إلا أن قرنه ليس له ضخامة قرن الأيل الكثير العقد والفروع ، والذي لا يتناسب أبدا مع حجم رأسه وبقية أعضاء جسده.

كان الغداء بهيجا ، وقد تعرفت خلاله على سميرين جديدين هما : علي أفندي ، وسليمان آغا من ضباط المعسكر ، وهما مسلمان ملتزمان ، ويتحدثان الفرنسية ، ولا يشربان النبيذ ، مع أنهما يجلسان على طاولة أوروبية ، وهما يخشيان دوما من أن يطعمهما أحد في غفلة منهما لحم الخنزير أو دجاجا غير مذبوح على الطريقة الإسلامية. / ٩٢ /.

على الرغم من أننا كنا في شهر يناير (كانون الثاني) فإن الجو كان خلال الرحلة مشرقا ؛ وهو شيء غير معتاد في هذا الفصل ، إلّا في مثل هذا المناخ

١٠٨

المناسب ؛ ولكن اليوم التالي ، آخر أيام الرحلة ، كان مزعجا : كانت السماء مكفهرة ، وكان هواء البحر البارد والعاصف يجعلني أتجمد على ظهر الهجان الذي كان يسير بسرعة دون أن أستحثه على المسير ، ووصلنا إلى الطور في ساعة مبكرة.

لقد وجدت ريس مركبنا جالسا في المقهى نفسه الذي تركته فيه عند المغادرة ، فهب واقفا أمامي بلطف ، ورحب بي بشهامة عربي من العرب الأوائل. وبينما هو يوجه إلي التهاني وعبارات المجاملة كان جمّالتنا يهربون بسرعة مع جمالهم التي ما كادت الأحمال تنزل عنها ، خوفا من أن يتم حجزها في الطور كما حدث في سيناء ، وعلى حين غرة كانوا في أعماق الصحراء.

ولما لم يعد لي ما أفعله في الطور ذهبت للنوم في المركب الذي انتظرنا بصبر في الميناء ثلاثة أيام أكثر مما كان مشترطا في العقد. وفي اليوم الثاني ، ومنذ الفجر نشرنا الأشرعة في الطريق إلى جدة.

١٠٩
١١٠

الفصل الخامس البحر

الأحمر (*)

يسمى المركب الذي صعدت ظهره في البحر الأحمر ، السنبوك (١). طوله ٦٠ قدما ، وعرضه ١٥ قدما ، ولم يكن مجسّرا إلّا في الخلف حيث يرتفع

__________________

(*) يمثل البحر الأحمر (٩٣) الذي تسميه العرب «بحر القلزم» جزءا من الأخدود الإفريقي العظيم الذي يمتد من جنوب خط الاستواء حتى شمال فلسطين. وهو أكثر أجزاء الأخدود وضوحا ، ويمتد بصفة عامة من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي ، بين خطي عرض ٣٥ء شمالا ، ٣٠ ، ١٢ء شمالا لمسافة طول ١٩٣٢ كم ويبلغ اتساع البحر عند شبه جزيرة سيناء ١٧٥ كم ، في حين يبلغ إتساعه ٣٥٠ كم فيما بين مصوع وجازان ، ثم يضيق إلى ما بين ٣٠ ـ ٤٠ كم عند النهاية الجنوبية لمضيق باب المندب ، ويصل عمقه في بعض المواضع ٤٨٤ م ، بينما يصل في القناة الوسطى إلى ٣٠٣٩ مترا ، وتحيط بسواحله الشعاب المرجانية. انظر تفصيلات أوسع في كتاب الموانىء السعودية على البحر الأحمر ، دراسة في الجغرافيا الاقتصادية ، د. محمد أحمد الرويثي ، ط ١ ، مؤسسة الرسالة ، ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ م ، ص ٤٧ ـ ٥٧. وذكر البلادي في معجم معالم الحجاز ، ١٣٩٨ ه‍ ـ ١٩٧٨ م ، ج ١ ، ص ١٧٩ أنه سمي البحر الأحمر لوجود الشعب ذات اللون المرجاني بداخله ، والتي كثيرا ما تتحطم السفن بسببها.

(١) السنبوك (والجمع سنابيك) بفتح السين ، وأصلها غير عربي ، لكن العرب يعرفون هذا النوع من السفن بهذا الاسم. انظر : تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي ، تأليف سيف مرزوق الشملان ، ج ١ ، ص ٢٧١. ويلاحظ أن بعض المؤلفين يكتبها بالميم وهو خطأ. انظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٥٤.

١١١

ضرب من الكوثل ، أعدوا تحته خلوة أطلقوا عليها اسم مقصورة ولا فخر! وهي واسعة تكفي لاحتواء مرتبتين ولا شيء غيرهما ؛ كنا ننام هناك ، أمّا في النهار فكنا نعيش في الهواء الطلق على الكوثل. وإن للسنبوك الذي يسير بالتجديف شراعين يكادان يكونان لاتينيين ؛ أحدهما في مقدمة السنبوك ، ويمتد بكامله خارج السنبوك عند ما ينفخه الهواء ، ويشكل ما يشبه بالونا نصف مدور. أما جؤجؤ السفينة ، فقد كان يشبه ما رأيته مرسوما على لوحات جدارية أو ميداليات قديمة ، وأراهن واثقا ، أنه ومنذ قرون ، لم يتغير أي شيء فيه ، وأن المراكب والأشرعة والمجاديف هي بالتأكيد نفسها منذ العصور الموغلة في القدم ، وأن البحارة يرسون في المرافىء نفسها ، ويمارسون العادات نفسها ، ولديهم الأحكام المسبقة نفسها ، ونذر الشؤم نفسها التي كانت في عهد سكان الكهوف.

كان السنبوك مصنوعا من خشب هندي قاس جدا يسمّى : الساج. وقد رأيت في ميناء مرسيليا ، / ٩٤ / سفينة قديمة تابعة لشركة الهند ، مصنوعة من الخشب نفسه في بومباي في عام ١٧٠٧ م ، وقد أصبح هيكلها قاسيا حتى إنه يثلم المسامير التي نود غرزها فيه ويلويها. يبحر بطريق البحر هذا ، منذ مئة وخمسين عاما ، ويعدّ فأل خير لأنه لم يغرق أبدا ، وأغنى كل من ملكه (١).

وقد كان لسنبوكنا أيضا سمعة حسنة جدا ، لقد كان يعدّ عن استحقاق سنبوكا سريعا ، وكان الشيخ عبد الغفار ، مالكه ، وهو تاجر ثري من تجار جدة ، مسرورا مما ينجز به من أعمال ، وقد كنت مسرورا أنا نفسي لأنني وجدته يقوم بالرحلة.

كان على متنه ، ناهيك عن الريس ، فريق مكون من عشرة بحارة ، وعبد أسود صغير ، رشيق ونبيه ، كان في الوقت نفسه يعمل نوتيا وخادما للجميع. وكانوا يعاملونه معاملة إنسانية لائقة ، ولم أره خلال خمسة عشر يوما قضيتها على ظهر السنبوك يعاقب إلّا مرة واحدة ، وبلطف شديد. وأجدني مدفوعا إلى

__________________

(١) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٦.

١١٢

الاعتراف ، لكي أظل صادقا ، أن السنبوك كان يعج بالجراذين ، وبتشكيلة كبيرة من الهوام ؛ ولكنني أضيف مسرعا أن تلك الهوام كانت كما يبدو قد اعتادت العرب ، وظلت وفية لهم ، ولم ينلنا منها إلا إزعاج بسيط.

تلك هي السفن المستخدمة في البحر الأحمر ، إنها آلات خفيفة لملاحة صعبة. يعدّ هذا البحر واحدا من أخطر البحار / ٩٥ / التي نعرفها : تقطعه وتعبره في كل الاتجاهات تيارات مائية ، وتملؤه الصخور البحرية والشعاب المرجانية ، وهو ، ناهيك عن ذلك ، معرض لعواصف هوائية عاتية ، يجعلها تقارب الشاطئين والجبال كثيرة الحدوث ، والتغير ؛ لذلك كثيرا ما تغرق السفن فيه ، على الرغم من حذر البحارة الشديد ووجلهم. لقد علمتني تجربتي ، كما سنرى ، أن هذا البحر غير مفترى عليه ، وإن كنت لم أهلك فيه ، فقد أو شكت على ذلك ، وإنني أدين بخروجي سالما لحماية السماء وصلابة السنبوك.

أبحرنا من الطور فجرا ، وكان الهواء طوال اليوم مؤاتيا ، وها نحن قريبا نتجاوز رأس محمد ، الذي يعد الحد الأقصى لشبه جزيرة سيناء. وفي المساء ، وعلى الرغم من أن الهواء كان ما يزال مؤاتيا ، فإنه أصبح عنيفا ، يثير القلق ، وهاج البحر ، وأصبحت الأمواج تتقاذفنا بعنف شديد ، ونحن في زورقنا السريع العطب.

قلت : إن المراكب في البحر الأحمر ، لا تسير ليلا أبدا. وقد كان ينبغي هنا بالتأكيد الالتزام بهذا العرف ، والبحث عن ملجأ يقينا هذا الجو العاصف ، ولكن الأمر هذه المرة كان مستحيلا ؛ لقد وصلنا خليج العقبة الذي كان ينبغي تجاوزه كاملا لكي نجد ملجأ أو مرفأ ، إذا ، كان ينبغي الإبحار طوال الليل على الرغم من عتو الأمواج المتزايد أبدا ، ومن عنف الهواء. / ٩٦ /.

كان المركب يسير بلا بوصلة ، لأنني لا أستطيع إعطاء هذا الاسم للبوصلة البدائية المصنوعة من الخشب ، والتي لا يكاد أحد ينظر إليها في النهار ، وليست مضاءة في الليل أبدا ، كنا نسير وسط الظلمات نحو المغامرة بلا أمم ، وحسبما تقودنا العاصفة ، ولما يئس البحارة من السيطرة على المركب ، وهم لم يحاولوا ذلك ، فإنهم تركوا قيادة السنبوك ، واستسلموا

١١٣

للكسل والرعب ، سلموا أمرهم لله وحده في توجيه المركب وحمايته ؛ بعضهم صمت ، وبعضهم الآخر كان يستغيث بكل أولياء الإسلام. وكان أحد خدمنا ، التركي الذي تحدثت عنه سابقا ، يزيد من حالة الرعب العام ، كان في أقصى حالات الخوف ، يثير الضحك في بعض حالاته ، حتى إنني كنت سأضحك من ذلك ملء شدقي لو كان الضحك مقبولا في مثل هذه اللحظات. كان السنبوك يصرّ عند كل عاصفة عابرة كما لو أنه سيخرق ، وكان يميل على جانبيه كل الميل ، حتى ليخيل أنه من المستحيل أن يستوي مرة أخرى ، وكنت أنتظر أن أراه بين لحظة وأخرى وقد انقلب أعلاه سافله. كان الموج يغطي كل شيء ، ويكتسح كل شيء ، حتى الكوثل على الرغم من ارتفاعه. ولما لم يكن باستطاعتنا ، رفيق سفري وأنا ، مواجهة ذلك إلّا في المقصورة ، فقد كنا هناك مستلقيين جنبا إلى جنب ، كلّ على فراشه ننتظر مستسلمين انجلاء المحنة على أي وجه ؛ ناهيك عن أنه كان علينا أن نحافظ على توازننا / ٩٧ / لأن ميل المركب كان شديدا ، ويجعل فرشتينا تنقلب إحداهما فوق الأخرى كأنهما ورقتا كتاب ، ويسطحنا بينهما كأننا ثبتتان في كتاب الأعشاب ، ثم يقذفنا بعنف على جانبي المركب متعرضين لخطر أن تهرس رؤوسنا ، زد على ذلك أن الماء كان يتسرب من كل مكان ، وكأنما كنا نسبح في مياه البحر حقا. ولحسن الحظ أننا لم نصب بدوار البحر مما كان سيزيد الطين بلة.

استمر ذلك الكرب طوال الليل ، كانت ليلة طويلة من ليالي الشتاء ، ولم يضع النهار حدا لذلك الكرب ، بل كان استمرارا لليل وأكثر سوء منه : واستمرت العاصفة حتى المساء ؛ حينئذ فقد ارتحنا بعض الارتياح ، وسمح لي بمغادرة فراشي وسجني. ولما كان القول : عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم صحيحا كل الصحة فإن العاصفة دفعتنا في وجهتنا التي نريد ، وكان لها على الأقل ميزة ، تكمن في أنها جعلتنا نقطع في وقت قليل مسافة كبيرة من الطريق. وألقينا المراسي عند غياب الشمس ، في جزيرة مقفرة ورملية اسمها نعمان ، تقع على مقربة من الشاطىء الذي تقع عليه ضبا ؛ وهي قرية كبيرة من العربية الصخرية مشهورة بطيب مياه آبارها.

١١٤

إن خليج العقبة الذي قاسينا ما قاسينا في تجاوزه ، وترك في نفسي ذكريات مؤلمة ، هو مثل خليج السويس جون صغير على البحر الأحمر الذي ينفتح / ٩٨ / في هذا المكان ليوسع مكانا لشبه جزيرة سيناء. لقد اكتسب خليج العقبة اسمه من قلعة (١) قديمة مهدمة اليوم ، تكاد تشغل كل مؤخرته ، وتحدد أقصى الأراضي المصرية.

وادعى مؤخرا أحد البريطانيين ، وهو الكابتن ألان W.Allan ، أن هذا الخليج كان في أحد الأيام الغابرة متصلا بالبحر الأبيض المتوسط عبر البحر الميت وبحيرة طبريا ، واستند في ذلك على التوضعات الأرضية الممتدة من القواعد الشمالية في لبنان حتى البحر الأحمر ، والتي ليست إلّا واديا عميقا ، واستند أيضا على اختلاف بالغ في المستوى مع البحر الأبيض المتوسط ، حتى إنه يتجاوزه في بعض الأماكن ٤٠٠٠ متر. وهو يرى ، والحالة هذه ، أنه إذا تم حفر قناة في محيط جبل الكرمل فإن البحر سيندفع في هذه اللجة ليتصل بالبحر الأحمر كما كان الأمر في غابر الأزمان.

إن أكبر بحيرتين في فلسطين ستلتقيان بسهولة مع البحر الأحمر كما يفترض الآن بوساطة قناة ثانية تحفر من البحر الميت إلى خليج العقبة. وتصبح الصحراء السورية بذلك محيطا ، ويصبح البحران بحرا واحدا. وإن كان هذا المشروع العملاق ممكن التنفيذ ، فإنه سيغني عن شق القناة الحالية في مضيق السويس ، ويجعل الوصول إلى الهند أكثر سهولة.

لقد عوضنا اليوم التالي عن المحن الصعبة التي مررنا بها في اليوم السابق : فالهواء الذي كان على الدوام مؤاتيا جدا ، أصبح أكثر تناسبا مع طاقة / ٩٩ / الإنسان ، أما البحر الذي كان ما يزال في الصباح هائجا ، فإنه هدأ تدريجيا. واستعاد طاقم البحارة شجاعته ؛ ولمّا لم يكن لديهم ما يفعلونه ، فقد أخذوا في الغناء ، حتى الخادم التركي نفسه ، كان بعد أن زال عنه الرعب ، يغني كالآخرين ، ويزعم أنه لم يعرف الخوف لحظة واحدة. نزلنا إلى البر

__________________

(١) انظر وصفا لهذه القلعة في كتاب : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ١٩٤ ـ ١٩٥.

١١٥

مساء في الوجه التي تلفظ وش (١) Ousch. استقبلنا عند نزولنا بعض الجنود الأتراك الذين كانوا حامية في هذا المكان البعيد. وكان أحدهم ، ويا للمفاجأة السعيدة ، يتحدث الفرنسية ، وكان يقول : إنه من إستانبول ، وربما كان أحد الجنود الفارين من جيشنا ، وسواء أكان فارا أم لا ، فإنه أبدى اهتماما كبيرا بنا ، وكان لطيفا كل اللطف ، وقدم لنا خدمات صغيرة متنوعة. قضيت الأمسية معه جالسين أمام القهوة ، وحولنا بالطبع بعض السكان الأصليين الذين يمكن بالتأكيد تفهم فضولهم الذي لم يكن على أية حال مزعجا.

إن رؤية أوروبي في هذه الأنحاء شيء نادر ، ولما وصلت أنباء وصولنا إلى بدو الجوار ؛ وهم أعراب من قبيلة بلي فإنهم حملوا إلينا أغذية من كل الأنواع ، البيض ، والخراف ، والحليب ، والسمك ، والخبز أيضا ، حتى إنه أصبح من السهل علينا أن ندعم مخزوننا من الطعام اللازم للرحلة ونجدده.

كان الجو لطيفا ، وكان البحر الذي استعاد هدوءه يأتي لتتكسر أمواجه على الساحل الرملي ، وكانت أسراب من النوارس تحلق فوق سطح البحر. تحتوي قرية الوجه على قصر يحمل الاسم نفسه ، يقع على بعد فرسخين أو ثلاثة فراسخ إلى الداخل / ١٠٠ / على طريق قافلة الحج المصرية الكبرى من القاهرة إلى مكة المكرمة ، وإذا صدقت الروايات ، فإن هناك إلى جهة الشمال البعيد ، على بعد خمسة أو ستة أيام من المسير ، وعلى بعد ١٤ يوما من العقبة ، على طريق قافلة أخرى ؛ هي قافلة دمشق ، آثار في غاية الروعة ؛ إنها مدائن صالح (٢) ؛ حيث ما زلنا نرى هناك منازل يبلغ عددها بين ٨٠ إلى ٩٠ منزلا ،

__________________

(١) انظر : رحلات في شبه الجزيرة العربية ، بوركهارت ، موثق سابقا ص ٣٩١. قال : إنها محطة توقف للحجيج اسمها الوجه (وتنطق أيضا الوش El ـ Ousch). وتسميتها الوش تأثر باللهجة المصرية.

(٢) تحدث عنها بالتفصيل هاري سنت جون فيلبي في كتابه : أرض الأنبياء ، مدائن صالح ، تعريب عمر الديراوي ، منشورات المكتبة الأهلية ، بيروت ، ١٩٦٢ م ؛ وانظر : مدائن صالح ، محمد عبد الحميد مرداد ، المكتبة الصغيرة ، ٢٩ ، د. ن. ، ط ٢ ، ١٣٩٩ ه‍ / ١٩٧٧ م ؛ وانظر : شمال الحجاز ، أ. موسل ، نقله إلى –

١١٦

منحوتة ومحفورة في الصخور ، وهي كلها تقريبا مؤلفة من صالة كبيرة ، ومن عدد من المقاصير الصغيرة ، ومن مكان للصلاة ، ويوجد على أبواب أغلبها نقوش تمثل نسورا ، ولكن الحجاج حطموا كل ما وصلت إليه أيديهم منها ، وظل عدد قليل منها لم تمتد إليه يد التحطيم. وإن على الصخور المستخدمة في بناء جدران هذه البيوت الغربية نقوشا لم يستطع أحد فك رموزها أبدا ، أو الوصول إليها بسبب علوها : إننا نجهل اللغة التي كتبت بها تلك النقوش (١). ويوجد في هذا المكان آبار كثيرة ولكن ماؤها مر ، وهواؤها فاسد ، ويظن الناس أنه مشحون بالسموم. ويعدّ المسلمون هذا المكان من الجزيرة العربية مكانا مشؤوما منذ الأحداث التي رافقت قصة ناقة النبي صالح عليه‌السلام (٢).

وإن قافلة الحج الشامية التي تجد نفسها مضطرة لعبور هذا المكان الملعون في الذهاب والإياب تفقد في كل مرة عددا من حجاجها ، وخصوصا أولئك الذين في قلوبهم مرض / ١٠١ /.

إذا ، أي مدينة هي تلك المدينة المجهولة ، المدفونة في حضن الصحراء؟ من أسسها؟ ومن سكنها؟ ومن هدّمها؟ إن وجودها مشكل ، ومصيرها لغز عويص. يخيم الصمت على ماضيها كما يخيم على آثارها. وإن كل ما قلته هنا هو ترداد لما أخبرت به ، لأن شيئا لم يكتب أبدا ، حسب علمي ، بخصوصها. وإنني إذ أقدم للقارىء ما انتهى إلى معرفتي من معلومات عنها فإنني أدعوه إلى أن يأخذها مع الاحتفاظ بحق المراجعة ، كما فعلت ذلك أنا نفسي (٣).

__________________

ـ العربية د. عبد المحسن الحسيني ، الإسكندرية ، ١٩٥٢ م ، ص ٦٩ ـ ٩٦.

(١) بل إنها كتبت بالخط النبطي المعروف. وهناك دراسات كثيرة تمّت عليها ، ولعل الاطلاع على كتب الدكتور سليمان الذبيب المتعلقة بنقوش شمال غرب المملكة تغني في هذا المجال.

(٢) في الأصل : منذ هياج الجمل المعروف الذي روضه النبي صالح :

depuis la re ? volte d\'un chameau traditionnel dompte ? par le prophete Salih

وأثبتنا في الأصل ما هو ثابت في نص القرآن الكريم عن قصة النبي صالح عليه‌السلام. لأن ما أثبته المؤلف اختصار مخل للقصة المعروفة.

(٣) قصّ علينا القرآن الكريم خبر قوم صالح في عدد من السور ، ونذكر هنا ما جاء في ـ

١١٧

حصلت على هذه المعلومات من باشا المدينتين المقدستين الذي أكد لي أنه رأى الأمور بعينه ؛ وأقرّ أن ذلك ليس ضمانة صدق ، أو دقة. وليس هناك في الشرق ما هو أصعب من الحصول من أي كان ، وحول أي موضوع كان ، على معلومات ، وإن كانت إيجابية. وينبغي أن يسيطر الحس النقدي على أكثر الأقوال تأكيدا لمراقبتها. وتكمن الصعوبة في أبسط الأشياء ؛ فأنا على سبيل المثال أتحدى إن كان بالإمكان أن يعرف على وجه الدقة مقدار المسافة التي تفصل بين المكانين ، وكلما طرحت على الريس سؤالا من هذا النوع فإنه يصرخ في الإجابة قائلا : «إن الله مع الصابرين». لم ننزل إلى اليابسة أبدا في الأيام الثلاثة التالية وهي ٣ ، و ٤ ، و ٥ فبراير (شباط) ، وكنا على مسافة بعيدة عن الشاطىء حتى إننا لم نكن نراه في بعض / ١٠٢ / الأحيان.

كنا في الليل نتوقف في وسط البحر ، وكان الجو في الأيام الثلاثة المذكورة رائعا ؛ لم يكن في السماء أي سحاب ، وكان البحر خفيف الموج ، ولم يكن هناك هواء إلّا ما يكفي لنشر أشرعتنا. وبعد أن كنّا قد تعرضنا لهزات عنيفة أصبحنا الآن نتحرك بلطف وكأننا في المهد.

كنت مستلقيا في مؤخرة المركب على سجادة غطينا بها الكوثل ، وكان هناك سجادة أخرى نصبت فوق رأسي تحميني من الشمس التي كانت شديدة الحرارة في هذا الفصل. كنت أقضي الوقت ، وأنا أحلم ، وأتأمل ، وأستنشق النسيم البحري ، وأنتشي بهذه السماء ، وبهذا البحر الرائع ، ومرت ساعات العبور الطويلة بسرعة ودون ملل. كان الساحل الإفريقي قد غاب عن الأنظار منذ فترة طويلة ، ولكن ساحل الجزيرة العربية أصبح ظاهرا للعيان منذ اليوم الأول ، كان محاطا بسلسلة من الجبال الحمراء التي كانت نتوءاتها الطويلة وقممها المسنونة تلفت النظر بتنوع أشكالها ، وكانت منذ طلوع الشمس حتى

__________________

ـ سورة الشمس حيث قال تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها) (١٥).

١١٨

غيابها تتلون بكل الألوان ، وبكل ظلال الطيف الشمسي. وإن أكثر الجبال ظهورا من تلك السلسلة هي : جبل رعل (١) (رعال) ، وسفخة (٢) (؟) Safkha ، وجبل كركما (٣) ، وهي أسماء أخذتها من فم الريس وكتبتها كما كان يلفظها.

وإذا انحدر النظر من الجبال إلى البحر فإننا نؤخذ بتنوع الألوان الذي ينتج ، حسب ظني ، عن اختلاف الأعماق : فهو هنا لون / ١٠٣ / أخضر مائل إلى السواد ، وهناك لون أبيض معكر ؛ وفي مكان آخر يتلون بفروق اللون الأزرق كلها من الأزرق الصافي إلى الأزرق النيلي الغامق جدا ؛ وهو في كثير من الأمكنة يكتسي اللون الأحمر القاني. وإن هذا اللون يكتسبه البحر دون شك من الرصيف المرجاني الضخم الذي ينتشر فيه وفي كل الجهات ، وإنه من المحتمل على الأقل أن هذا البحر اكتسب اسمه من هذا الظرف الطبيعي. إن أبسط قواعد الاشتقاق هي أكثرها قبولا ، وخصوصا تلك التي تقوم على

__________________

(١) جاء في معجم معالم الحجاز ، عاتق بن غيث البلادي ، دار مكة المكرمة ، ١٤٠٠ ه‍ / ١٩٨٠ م ، ج ٤ ، ص ٧٥ «رعل أو رعال : مكان ذكره فيلبي وقال : يقع جنوب شرقي أم القرايا ، وإنه مقر شيخ قبيلة بلي المعروف بابن رفادة ، وترتفع رعال (٣٠٠٠) قدم وتشرف على وادي المحض» ؛ وانظر : أرض الأنبياء ، مدائن صالح ، لفيلبي ، تعريب عمر الديراوي ، المكتبة الأهلية ، بيروت ، ١٩٦٢ ، ص ٣٣٣. وكتبت في الترجمة الإنكليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥٠Ghal وهو خطأ.

(٢) كذا كتبت في الترجمة الإنكليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥٠ ولم أجدها.

(٣) رأس كركما : ميناء صغير جنوب الوجه عند مصب وادي المياه ، على رأس مشهور يحمل الاسم نفسه ، وأهل هذا الميناء يشتغلون بصيد السمك ، وبيع بعض الحاجيات إلى البادية ، وهم من بلي. وقد كتبها ديدييه Korkoum. وقال فيلبي في : أرض الأنبياء مدائن صالح ، موثق سابقا ، ص ٣٣٥ : «... وتفضي هذه الطريق (من الوجه إلى العلا) إلى الدلتا الفعلية لوادي (حمضة) (كذا والصواب : الحمض) الذي يمتد مسافة بعيدة إلى الغرب حيث يقع المرتفع المعروف باسم (رأس كركمة) وهو مرتفع يتوجه رأس أصفر اللون. ومن هذا اللون اكتسب المرتفع اسمه. و (الكركم) باللغة العربية نبات يعطي لونا أصفر». وفي الترجمة الإنكليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ص ٥٠Karkamah.

١١٩

وقائع مادية وملموسة. لقد سمعت من ينسب صفة الأحمر إلى قبيلة عربية تعيش على سواحله وتحمل هذه الصفة نفسها. ولكن ذلك قول فيه بعض العشوائية ؛ لأن تلك القبيلة لم تعد موجودة ، وربما لم تكن موجودة في يوم من الأيام : ولكن إذا افترضنا أنها وجدت في يوم من الأيام فإن ما ينبغي معرفته إن كانت هي التي أعطت البحر اسمها ، ولماذا لا يكون البحر هو الذي أعطاها اسمه.

وما دام الحديث عن الاشتقاق يجر بعضه بعضا فإنني أقدم اشتقاقا ، ولا أدّعي أنه الصحيح ، ولكنّه الاشتقاق الذي أراه صوابا. تسمي العرب جهنم الدار الحمراء ، وإن لهذه الصفة لديهم على الدوام دلالة شؤم ؛ فهل من المستحيل إذا أن يكونوا قد أطلقوا على هذا البحر المهلك بسبب أخطاره المحدقة ، وأحداثه الفظيعة اسما يقترن بالرعب الذي يلقيه في نفوسهم؟

توقفنا في الليلة الأولى بين دكتين من / ١٠٤ / الصخر تظهران على وجه الماء ، وهما ملجأ ممتاز للاحتماء من المد البحري ؛ لأن الموج يأتي ليتحول إلى زبد في كلا الجانبين ، في حين أن الوسط يبقى هادئا تماما. يسمّى هذا المكان «أبو حرير» (١) : ليس بالأمر السهل أن نكتب بالأحرف الفرنسية الأصوات الحلقية العربية ، وخصوصا عند ما لا نكون قد رأيناها قط مكتوبة. رسونا في الليلة التالية لنحتمي بجزيرتين تفصلهما قناة ضيقة تسمى الأولى لبانة والأخرى جبل حسّان (٢) ، وتسكن الجزيرتين في أيام الرعي قبيلة جهينة العربية

__________________

(١) في الأصل Bou Kharid ثم يصحح المؤلف فيقول والأصح Abouharir. وانظر : الترجمة الإنكليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥٠.

(٢) لبانة جزيرة في البحر الأحمر مقابل مدينة أم لج تقع على مسافة كيلومترين غرب جزيرة الحساني وعلى الطرف الغربي للشط الصخري ، ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر ٧٦ م ، تمتلىء المياه حولها بالشعاب المرجانية والصخور الغاطسة. انظر : جزر البحر الأحمر (الملف العلمي) مجموعة من المؤلفين ، موثق سابقا ، ص ٧٠٩.

وقد كتبها ديدييه Libna ، والصواب Libana. أما حسان : بفتح الحاء والسين المشدة المفتوحة فألف ونون. فقال البلادي في معجم معالم الحجاز هو : جبل في البحر ـ

١٢٠