رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

شارل ديدييه

رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٦

ضخم تقبع مكة المكرمة في أسفله ، كان أمامنا ، وكان جديرا بالاسم الذي يحمله ، لأنه كان يلتمع تحت حزم ضوء الغروب. أمّا السهل الواسع والرائع سهل معبرة (١) (؟) Moebarreh فقد كان يحول بيننا وبين جبل النور ؛ وكانت تعبر ذلك السهل نسور أكثر حظا منا ، كانت تمرّ من فوق رؤوسنا لتذهب إلى مكة المكرمة حيث كانت هناك بدون شك أوكارها ، لم نكن إلا على بعد ساعة على الأكثر من مكة المكرمة ، ولكن أحدا لم ينطق باسمها ولو مرة واحدة. وعند الغسق دخلنا في سهل آخر هو سهل العكيشيّة (٢) وفيه أدركنا الليل. ثم سرنا ساعتين في ظلام دامس ، وبصمت مطبق. لم يكن أحد يغني ، ولا أحد يتكلم ، وكان يبدو أن لا أحد يتنفس ؛ ولم نكن نسمع إلا صوت تكسر الأعشاب اليابسة تحت خفاف الهجن. وفجأة توقفت القافلة. لقد ضللنا الطريق.

يمر الطريق العادي بين جدة والطائف عبر مكة المكرمة ، ولم يكن العرب الذين يرافقونا بدءا من الشريف حتى العبيد ، قد سلكوا من قبل طريقا غيرها ، لأنه لم يكن عليهم أن يرافقوا قبلنا مسيحيين ، ولم يكن عليهم بالتالي أن يتجنبوا المرور بمكة المكرمة. ولمّا كانوا يحرصون على إخفائها عن

__________________

ـ بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٦٣ ـ ١٦٤. وانظر : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٥٦٥.

(١) كتبت في الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ١١٠Plain Of Mubarrah سهل المبرح. ولعل الصواب في ذلك أنه سهل المعابدة الذي أصبح اليوم حيا من أحياء مكة المكرمة بعد أن امتد إليه العمران.

(٢) جاء في معجم معالم الحجاز ، للبلادي ، ج ١ ، ص ١٥٣ ـ ١٥٤ العكيشيّة : بلاد أسفل مكة المكرمة ، كانت لآل السبحي ، بات بها جيش الحسين بن علي أمير مكة المكرمة عند حملته على عسير سنة ١٣٢٩ ه‍. وهي اليوم مزارع عثرية إلى الجنوب الغربي من مكة المكرمة ، يصب سيلها على حد الحرم الجنوبي وتصب فيها شعاب الوتائر ـ جمع وتير ـ من الغرب ، وهذا هو ما كان يسمى الوتير ، أما اسم العكيشية فحادث ، وفيها بئر تسمى بئر السبحي ... وأرضها عبارة عن نهي بين الجبال. وكتبها ديدييه Okech.

٢٢١

عيوننا ، فإنهم ضلوا الطريق الصحيحة ، وإن التفافهم على الطريق بدافع التقوى / ٢١٤ / جعلهم يخطئونه ، وبذلوا جهودا لم تنفع للاهتداء إليه ، وأصبح من المستحيل عليهم أن يسلكوا الوجهة الصحيحة. حينئذ تشاور الشريف ورئيس الجمالة بصوت منخفض ، انصرف الأخير مباشرة بعد ذلك مسرعا لاستكشاف الطريق. كنا في تلك اللحظة قريبين كل القرب من مكة المكرمة التي ذهب إليها رئيس الجمالة على الأرجح. وألقينا عصا الترحال بانتظار عودته.

قلت في بداية هذا الفصل إن انطباعي الأول لم يكن إيجابيا عن الشريف حامد ، وإنني فسرت صمته تفسيرا خاطئا ؛ ولم أتأخر في العودة عن حكمي المتعجل ، وفي مؤاخذة نفسي على ظني الذي لم يكن عادلا. إن ما ظننته عجرفة كان خجلا. ولا يمكن تصور الرعاية التي أحاطني بها خلال الرحلة ، والعناية المؤثرة التي خصني بها عند ما ألمت بي الوعكة القصيرة في الأمسية السابقة ، والاهتمام الذي أولانيه في مساء ذلك اليوم الذي ضللنا فيه الطريق.

كان يخشى أن يكون ركوب الهجان خلال اثنتي عشرة ساعة قد أرهقني ، ولم ينفع التأكيد المتكرر بأنني لست مرهقا في إقناعه بذلك. وكان لا يني يعبّر لي بأروع الكلمات وأفصحها عن قلقه وأسفه. لقد أخذ زمام هجاني ، وجعله يسير إلى جانب هجانه ، خوفا من أن / ٢١٥ / ينحرف عن طريقه في الظلام ؛ كان يقوم بكل ذلك على أحسن وجه ، وأتم آيات الأدب.

كان بين المرافقين عبد ضخم ووسيم ، يسمّى : أبو سلاسي ـ Abou Slace ? ، وكان موضع ثقة الشريف الأكبر ، وكان يبدو أن له نوعا من السلطة على الآخرين ، لم يعرنا منذ الانطلاق أي اهتمام ، ولم يكن لطيفا ، وكان يقوم بما يكلفه به سيده من مهمات باستياء ظاهر. وعند ما ظللنا الطريق كان يردد شكوى محزنة ، ويحتج بسفاهة قائلا : إن سيده يبالغ فيما يقوم به من أجلنا ، وإننا لسنا في نهاية الأمر إلّا نصارى ، لا نستحق كل هذه التشريفات ، وإن في معاملة الكفار مثل تلك المعاملة في مهد الإسلام إغضابا لله تعالى الذي جزانا بجعلنا نضل الطريق في قلب الظلام.

لقد نبهه الشريف بلطف ، وأظهر له أن كلامه غير لائق ، وقال له : إننا

٢٢٢

ضيوف الشريف الأكبر ، وهذه الصفة تفرض عليه احترامنا ، وإنه يسيء كل الإساءة إلى سيده بتصرفه الذي لا يتناسب أبدا مع نواياه. وأضاف أن حسن الضيافة هو الواجب الأول الذي يقوم به العرب إزاء الأجانب ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصى بذلك حتى تجاه الكفار أنفسهم ، وأننا نأتي من بعيد جدا لزيارة بلادهم ، وعند ما نعود إلى أوطاننا ، ماذا سنقول / ٢١٦ / عنهم لمواطنينا إن لم نجد في الجزيرة العربية ما نستحقه من تقدير واحترام؟ ولم يفت السيد دوكيه كلمة واحدة من ذلك الحوار ، وأعاده على مسامعي كلمة كلمة في اللحظة نفسها. ولكن «أبو سلاسي» لم يرعو بعدها ، إلّا أنه بدا أكثر تحفظا في كلامه ، ولم يكن ليجرؤ في المستقبل على القيام بمثل تلك التجاوزات.

ظهر أحمد (رئيس الجمّالة) من جديد أخيرا ، وحمل معه كما يبدو معلومات محددة ، لأن القافلة عادت إلى مسيرتها دون أي تردد ، كان عليها أن تعود القهقرى بعض الوقت ، ثم تنحرف فجأة نحو الجنوب ، وترتقي هضبة وعرة لم أتبين في الظلام ملامحها. وعند ما وصلنا إلى القمة لمحنا أضواء على البعد ، وسمعنا نباح الكلاب ، ومررنا بعد لحظات قليلة قرب قطيع من الأغنام ؛ أما رعاته الذين لم أتبين إلا أشباحهم السوداء فقد برزوا أمامنا ، وحيوا الشريف باحترام ، وقادونا إلى ملكيّة مسورة ، واسعة ، مكونة من أفنان متداخلة ، واستقبلنا هناك طاهر أفندي ، أحد خدم الشريف الأكبر ؛ وأستعمل هنا كلمة خادم بالمعنى الذي كانت تحمله في القرن السابع عشر ، للإشارة إلى شخص حر يعمل في قصر أحد الأمراء. كان طاهر أفندي قد جاء من مكة المكرمة في اليوم نفسه لاستقبالنا ، وقد خلصه وصولنا المتأخر من / ٢١٧ / قلق كبير : كان الوقت قريبا من منتصف الليل ، وكان يرتعد خوفا من أن يكون أصابنا أي مكروه. ويالعظم دهشتي عند ما رأيت موظف أمير مكة المكرمة هذا يرتدي بزّة أوروبية.

لقد رافقني مصطفى أفندي للقيام بجولة في البستان المسور المسمى الحسينية ، وهو ملكية زراعية أو رعوية للشريف الأكبر ، اطلعت خلال الجولة على مشهد حقيقي من مشاهد الحياة العربية : كانت الملكية مسورة بإحكام من كل الجهات ، وكانت المساحة الداخلية غير مسقوفة ، وكان الموقد يتأجج في

٢٢٣

الوسط ، وقد وضع عليه قدر ضخم من النحاس. وكان هناك عدد من الخدم يذرعون البيت جيئة وذهابا ، يقومون على العناية بالطبخ ، أما خدمنا فقد استلقوا حول النار متعبين من يوم شاق.

كان البستان فسيحا يتسع للجميع ، وظلت الهجن وحدها في الخارج ، وكانت قطع من الخشب الصمغي قد أشعلت بمثابة مشاعل ، وتنشر في المكان رائحة قوية طيبة ، وانعكاسات حمراء لها مظهر رائع. ولم يتأخر طعام العشاء : كان عبارة عن خروف ضخم مسلوق كاملا ، إنه خروف الضيافة الأصيلة ، استخرجوه من قعر ذلك القدر ، ووضعوه أمامنا في جفنة (١). ثم قام أحد العبيد السود بشقه إلى قسمين بضربة يطقان ، وقامت أصابعنا بعد ذلك مقام شوكات الطعام ، ونال الجميع أسيادا وتبعا نصيبهم من الوليمة. وعند ما انتهينا من الطعام قام الخدم بمد السجاد على الأرض الجرداء / ٢١٨ / ، واستلقينا عليه دون أن نخلع ثيابنا ، ونمنا مختلطين ، نلتحف السماء. لم يكن النهوض أقل روعة من النوم ، ولكنه لم يكن مبكرا ، ومع أن الجميع انتهوا بعد فترة وجيزة من الاغتسال ، وكانت الشمس قد بدأت بالسطوع منذ زمن طويل عند ما كنا جاهزين للانطلاق. وكان عدد من عبيد المنزل أو بعبارة أدق : البستان ، قد حيونا عند الاستيقاظ بالضرب على طبول صغيرة يحملونها معهم على الدوام. وكان ينتصب أمام الحسينية جبل ثور (٢) حيث اختبأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع صاحبه المخلص أبي بكر رضي‌الله‌عنه في الغار للإفلات من مشركي مكة المكرمة الذين كانوا يلاحقونهما. وتذكر إحدى الحكايات المحلية أن النبي داود عليه‌السلام (٣) مدفون في

__________________

(١) Madrier ـ جفنة وجمعها جفان وجفنات ؛ وهي ما كانت العرب تضع الطعام به ؛ وقد وصفها ديدييه بقوله : إنها محفورة على شكل صحن.

(٢) يقع إلى الجنوب من مكة المكرمة بحوالي ساعة ونصف الساعة ، إلى الشمال من الطريق المؤدية إلى قرية الحسينية ، وهو جبل شامخ يقال : إنه أعلى من جبل النور. وقد أشار القرآن الكريم في سورة التوبة ، الآية ٤٠ إلى اختبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر في الغار. انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٦٤.

(٣) لم أجد هذا في مكان آخر.

٢٢٤

هذا الجبل ، وهناك عدد من الروايات المعروفة بهذا الخصوص. وإن لضريحه ، أو ما يسمى بذلك ، مدخلا ضيقا ، لا يدخل منه الرجل المتوسط القامة إلّا بصعوبة : وإن أولئك الذين يستطيعون تجاوز المدخل يصبحون واثقين من خلاصهم ، أمّا الآخرون فإنهم لن يدخلوا الجنة أبدا. ويحكى في مصر مثل هذه الحكاية بخصوص عمودين في مسجد عمرو بن العاص في القاهرة القديمة ؛ إذ يحكي المصريون بخبث أن عباس باشا. عند ما حاول تجاوز اختبار المرور بين العمودين علق بين دعامات الاتهام ، وكانت محاولة إخراجه من بينها من الصعوبة بمكان ؛ ويستنتجون من ذلك بالطبع أنه سيعاقب في الآخرة على الجرائم التي ارتكبها في الحياة الدنيا. / ٢١٩ / انضم طاهر أفندي إلى القافلة ، وكان يمتطي بغلة كما يليق بأفندي مثله ، ورافقنا حتى الطائف. سرنا في البداية في واد عريض جدا ، محاط بعدد من الهضاب كثيرة الحجارة ، وتغطيه رمال شديدة النعومة ، وشديدة البياض ، وكانت بضع أجمات من العشب ذات اللون الأخضر الجميل تخفف من التماع الرمال ، وكانت بعض الأشجار المنتشرة في المكان تنشر ظلالا لا تقدر بثمن ، لأن الحر كان قد بدأ يشتد.

كان هناك عدد من القنوات المائية تشق الأرض ، وتذهب لتصبّ في حوض محفور في الرمال لجمع الماء. وكان هناك بعض قطعان المواشي التي ترعى في الجوار ، ثم تأتي إلى الحوض لتروي عطشها : كانت قطعان من الماعز الأسود ذي الشعر الطويل ، ومن الأغنام الجميلة البيضاء ذوات الآذان المسترخية ، ومن العجول والأبقار من ذوات الحدبات ، وهي أصغر من مثيلتها في أوروبا.

وكان هناك أطفال شبه سود ، عراة تماما ، يجرون على الرمل بين المواشي ، ورعاة يقاربونهم في السواد ، وهم مثلهم في قلة الثياب التي يرتدونها ، يكملون ، والرماح في أيديهم ، تلك القصيدة الرعوية العربية. كان لون خيامهم داكنا ، وكانت مثل خيام البدو كلهم مبعثرة بأعداد قليلة في سفح الهضاب. قدم لنا أولئك الرعاة المتجولون ، القادمون من الشرق ، والذين

٢٢٥

يمرون من هنا ، الحليب ، فقبلناه وشكرنا لهم ذلك. إن أكبر إهانة يمكن أن توجهها للبدو هي أن تعاملهم معاملة تجار الحليب : إنهم يعطون حليب حيواناتهم ، ولا يبيعونه أبدا. / ٢٢٠ / تصبح البلاد بعد بضعة أميال أكثر انفتاحا ، وتتجلى في الأفق البعيد الواسع سلسلة من الجبال.

كان الوقت ظهرا ، عند ما وصلنا إلى سفح جبل عرفات الذي يقع على بعد ثمانية أو عشرة فراسخ إلى الشرق من مكة المكرمة ، وهو المكان الذي تجري فيه كما ذكرت سابقا المناسك التي تختم الحج. وكان ينتصب في قمة الجبل عمودان يحددان المكان الذي يقف فيه خطيب مكة المكرمة ، ممتطيا ناقة بيضاء ، مزينة بزينة نفيسة ، ليلقي الخطبة التي تعلن نهاية الحج ، والتي ينبغي على الحاج سماعها ليحمل هذا اللقب.

إن هذا المكان المقدس في الإسلام ، القاحل والصحراوي ، يكون في ذلك اليوم مكانا لمشهد رائع ؛ إذ يتزاحم فيه جمع هائل من المؤمنين الذين يجتمعون فيه في زمن واحد ، ويوجد هناك معسكر خاص بكل جنسية من المسلمين ؛ فالعرب ، والأتراك ، والسوريون ، والفرس ، والهنود ، والمصريون ، والمغاربة ، حتى السودانيون ، لكل منهم ، معسكره الخاص.

وإن الأوروبيين الذين استطاعوا تأمل هذا المشهد العظيم أكدوا جميعا أنه ليس هناك ما يمكن أن يعطي فكرة عنه. يوجد هذا الجبل المقدس على أرض قبيلة قريش التي اكتسبت بذلك شرفا كبيرا ، وتعد واحدة من أكثر قبائل الجزيرة العربية نبلا ، ومع أنها اليوم قد تقلص عدد أفرادها إلى ثلاث مئة (١) شخص. يا للغرابة! إن المسلمين الذين لا يتركون غير المسلم يرى رأس منارة من منارات

__________________

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٦٨. ويبدو أن ديدييه استقى هذه المعلومة من رحلة تاميزييه ، انظر : اكتشاف ... ، موثق سابقا ، ص ٢٥٧ إذ تقول المؤلفة : «... وأخيرا سار الجيش (جيش محمد علي) نحو الطائف في السابع عشر من شهر أيار (مايو) من سنة ١٨٣٤ م وراء عدد من الأدلاء القريشيين الذي حيّر جومار فقرهم البادي. وقد قيل له إن هذه العشيرة التي ينتمي إليها النبي محمد بن عبد الله رضي‌الله‌عنه ، لم يبق منهم إلا ثلاثمائة رجل ...».

٢٢٦

مكة المكرمة ، ولو لمحا فقط ، يسمحون له بالصعود بحرية إلى جبل عرفات ، وباستكشافه على هواه. ولما ذكرت / ٢٢١ / ذلك التناقض للشريف حامد اصطنع أنه لا يفهمني ، وكان جوابه الوحيد أنه رفع صوته قائلا : «الله أكبر ، ومحمد رسول الله!» ولكن ذلك لم يكن يكفي للإجابة عن سؤالي.

لقد كان يجري في تلك الأنحاء نبع ماء بارد ونمير ؛ وذلك كنز لا يقدر بثمن في تلك الصحراء ، كان النبع يجري من أسفل الجبل ويذهب إلى مكة المكرمة عبر قناة مغطاة ، مبنية ، ومطوية ، وينسب الناس شرف هذا العمل إلى السيدة زبيدة إحدى نساء الخليفة هارون الرشيد. وعند ما تجاوزنا المدينة المقدسة أدرنا لها ظهورنا وكان في هذا الجانب من المدينة عدد من المقاهي كما في الجانب الآخر ، وبعد استراحة قصيرة في مقهى عرفات الذي يقع في أسفل الجبل الذي يحمل اسمه ، وحيث وجدنا ، وهذا شيء نادر ، لبنا. تابعنا طريقنا عبر وادي نعمان ؛ وهو واد رملي ، شديد الحرارة ، تنتشر فيه جنيبات شوكية ، ونباتات جميلة جدا ، لها أوراق سميكة ، طولها من ست إلى ثماني أقدام ، ولها أزهار بيضاء وبنفسجية ، بتلاتهاPe ? tales ناعمة نعومة المخمل. وعند ما ينكسر ساقها يخرج منه سائل يشيع في البلد أنه يذهب بالبصر. نسيت الاسم الذي يطلقه العرب على هذه النبتة ؛ ويسمونها في السودان حيث تنتشر بكثرة عشر (١) Ochar. وكان أحد الضباع الضخمة القابع وراء دغل قد هرب لدى اقترابنا منه ، وظل طوال مدة جريه يبدو وكأنه نقطة سوداء على رمال الصحراء الملتمعة. توقفنا ثانية / ٢٢٢ / لاستراحة طويلة في مقهى شداد الواقع في أسفل جبل كرا ، الذي كان طوال اليوم في مواجهتنا ، والذي كان علينا الآن تجاوزه. كان علينا الترجل عن الهجن التي لا تستخدم ركوبا لدى تجاوز الجبال ، وهي في الواقع ليست مهيأة لذلك. لقد كان على هجن قافلتنا أن تقوم

__________________

(١) ذكره بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٢٧١ ، وقال إنه ذكره كثيرا في رحلته إلى بلاد النوبة ، وقال المترجمان : إنه عريض الورق ومنابته في الحجاز ونجد ، واسمه اللاتيني Asclepia وقد ورد في معجم الشهباي أنها فصيلة نباتية من ذوات الفلقتين منها الصقلاب والعشر.

٢٢٧

بالتفاف طويل كي تصل إلى الطائف. وأرسل لنا الشريف الأكبر بدلا منها ما يقارب خمسة عشر بغلا كانت تنتظرنا في المقهى. وبينما كنا نعدها ، كان يطاف علينا من جميع الجهات بشراب في صحيفة من خشب. وكانت أخبار وصولنا اجتذبت بدو الجوار. كانوا جميعا يرتدون أثوابا زرقاء مشدودة ، إلى الخصر بضفيرة من الجد تلتف اثنتي عشرة أو خمس عشرة مرة حول الجسد ، ناهيك عن أنهم يتجندون حمالات سيوف مزينة بصفائح صغيرة من الفضة ، موضوع بعضها فوق بعض على شكل حراشف الأسماك. أما الخنجر المعقوف الذي يسمونه هنا جنبيّة فقد كان موضوعا في أحزمتهم ، وكانوا يحملون في أيديهم رمحا جميلا ، قناته طويلة جدا ، ومستقيمة ، ومجلوة. أما العصا فقد كان يلتف حولها سلك من النحاس الأصفر المجدول بطريقة فنية. وكان بعضهم يحمل بنادق بفتيلة ، كان أخمص كل منها مربعا ، ومرصعا بالعاج. وكانت الكفيات الزرقاء تغطي رؤوسهم ، وقد وضع عليها عقال أسود مصنوع من خليط من الشمع والزبدة والراتنج المعجونة معا ، وتكون حواف ذلك العقال الخارجية مزينة / ٢٢٣ / بعروق اللؤلؤ (١).

كان هؤلاء الرجال طوالا ، ممشوقي القامة ، وقسماتهم متناغمة ، وبشرتهم سمراء داكنة ، وكان بينهم أطفال صغار لا تتجاوز أعمارهم عشرة أو اثني عشر عاما ، يلبسون كالرجال ، ويتسلحون بمثل سلاحهم ، وكانوا في غاية الكياسة. لقد شد انتباهي السلوك الأبيّ والمؤدب في الوقت نفسه لدى الرجال والأطفال على حد سواء. كانوا يعنون بنا دون تجاوز حدود الاحترام ، وكانوا يحدثوننا دون ارتباك ، كنا نلمس لديهم الاستقلالية ، وعزة النفس ، وضربا من النبل الغريزي الذي لم يستطع أي احتكاك بالأجنبي أن يفسده عليهم في عمق صحرائهم.

ليس بالإمكان تقديم لوحة أكثر روعة ، ولا استعراضا أكثر تأثيرا ومفاجأة. كانوا أول بدو أشاهدهم في بيئتهم الحقيقية ، وحملت لهم منذ تلك

__________________

(١) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٥.

٢٢٨

اللحظة احتراما واستلطافا لم تزدهما التجربة الطويلة إلّا تمكنا. وكانت إحدى قبائل الجوار (١) باتجاه الجنوب ، والتي آسف لنسيان اسمها ، تدّعي بحق أنها تتكلم العربية الفصحى في الجزيرة العربية. وبعد أن استبدلت آسفا كل الأسف بالهجان الرائع الذي كنت أركبه بغلا ، وبالرحل الحريري المزين بالفضة سرجا من الجلد كانت له كثير من صفات البردعة. ركبت الطريق متأخرا. وكانت تضاريس الأرض قد تغيرت تماما : إذ حلت محل الرمل أرض صلبة ووعهرة ، كان يصدر عن حوافر البغال عند وقوعها عليها صوت يشبه صوت احتكاك المعادن. وبعد ميل على / ٢٢٤ / الأكثر قطعناه في أرض سهلية ، دخلنا في مضيق واسع في بدايته ، ولكنه يضيق بعد قليل منكمشا ، ويرتفع تدريجيا. وتمتد على جانبيه دكك كبيرة من النضيد الرخامي بطبقات أفقية. كان جبل كرا الذي كنا حينئذ نتسلق أولى منحدراته ينتصب أمامنا ، وكأنه يتحدانا ، كانت جوانبه متصدعة متشققة ، وقممه جرداء ومنحوتة على شكل قباب ورؤوس مسننة. إن الجبال التي لا تزال على حالة خلقها الأولى أكثر توحشا ووعورة من جبال العصور التالية. إنها هياكل من بداية العالم ، كانت ، كما نرى ، عرضة للهزات ، وجعلتها الاختلاجات العميقة متعرجة ، وهدمتها الاندفاعات الهائلة.

تلك هي طبيعة جبل كرا ، كتلة جرانيتية انبجست في بداية الخلق ، مثل جبل سيناء ، من أحشاء الكون. تغشاه الشمس كاملا عند غروبها ، وتضفي فجأة على كل النتوءات درجة إشراف الألوان الذهبية والسوداء مما يمنحها انعكاسا مدهشا. كانت تلك اللحظة قصيرة ، ولكنها مهيبة. كان الغسق قد بدأ يخيم على الأجزاء السفلية من الجبل عند ما تلفتت فرأيت بعيدا ورائي جبلا آخر منفردا ، ضخما يغشاه أيضا حتى قواعده لون زهري فاقع. يسمى ذلك الجبل كبكب ، وهو واحد من أعلى جبال الحجاز. أرخى الليل سدوله مبكرا على المنظر / ٢٢٥ / الرائع ، وأدركنا في أكثر مناطق المضيق الذي نسلكه وعورة ،

__________________

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٦٩.

٢٢٩

وأكثرها توحشا ؛ لقد أصبح ضيقا ، ولا يتسع إلّا لمرور بغل واحد ، ومنحدرا لا يمكن التقدم فيه إلا ببطء شديد. كان فيه عقبات كثيرة ، جعلها الظلام أكثر صعوبة أيضا ، بيد أننا أدركنا بلا حوادث مقهى الكر (١) ؛ وهو مكان واسع مسور بالأحجار بلا طين ، وفي وسطه موقد مشتعل كما في الحسينية ، ولكن هذا الموقد ليس عليه أي قدر ، وعليه ، فليس هناك عشاء ، مع أن الشريف كان قد أمر بأن نجد العشاء هناك جاهزا ؛ ولكن يبدو أن الرسالة لم تبلّغ كما هي ، أو أنها لم تبلغ أبدا. لم يعدوا لنا أي خروف ولو كان صغيرا. وكنت على الدوام أشك في أن العبد «أبو سلاسي» هو الذي فعل ذلك بنا على طريقته. وكان على غاسبارو الذي لم يجد منذ جدة ما يفعله أن يمارس مهاراته هنا. ولكن الحقيقة أن ذلك لم يكن ليهمه كثيرا ؛ لأنه كان علينا أن نرضى بالحليب والأرز. ذهبنا ، بعد هذا العشاء المتواضع ، للنوم كل على سجادته ، تحت قبة السماء التي تزينها النجوم. ولما كنا قد وصلنا إلى الكر ليلا فإنني لم أستطع تبين ملامح المكان الذي كنا فيه. ورأيت في الصباح أننا في قعر حفرة ذات فوهة واسعة ، جدرانها شديدة الانحدار ، وجوانبها مسننة برؤوس تتفاوت في حدتها. / ٢٢٦ / وكانت رؤوس تلك المسننات عند ما انطلقنا تضاء الواحد تلو الآخر حسب علوها بضوء الشروق ، وكانت بعد حزم الضوء قد بدأت تتسرب على طول النتوءات الصخرية العليا ؛ إلّا أن عتمة الشفق ما زالت تغشانا ، وكنا بحاجة إلى عدد من الساعات للوصول إلى المناطق التي تضيئها الشمس. كان ينبغي ألّا نشكو مما قاسيناه من مصاعب ، لأن الصعود الشاق الآتي سيجعل ذلك ذكرى جميلة ، وقد كان يمكن أن يكون أكثر الصعود أكثر صعوبة لو أننا لم نبادره في جو بارد. وهذا ما كان الشريف حامد خطط له بدقة. ومع أن جبل كرا أقل ضخامة ، وأقل هولا من جبل سيناء فإنه يذكّر به ، بوعورة طرقاته ، وبقحطه. لعله ، شأنه شأن جبل سيناء ، قد تعرض لهزة عميقة ؛ لأن التصدعات الواسعة والتهدمات التي تنتشر فيه وتكثر ، هي آثار لا تدحض

__________________

(١) نهاية جبل الكرا وأسفله ، انظر : ما رأيت وما سمعت لخير الدين الزركلي ، ص ٧٢ ـ ٧٣.

٢٣٠

لزلازل عنيفة خربته. لم أر في امتداده كله شجرة واحدة ، هناك بعض الجنيبات الشوكية ، وبعض من أشجار السرو القزمة التي تظهر على مسافات متباعدة عبر الصخور. كان الطريق في كل الاتجاهات منحدرا ووعرا كل الوعورة في بعض المواضع ، وإذا رأيته من الأسفل فإن سلوكه يبدو مستعصيا أبدا. لقد وصلنا على أية حال إلى نهايته بفضل خطوات البغال الواثقة ، ونفهم لماذا لا تستطيع الجمال سلوك هذه الطريق. إن مدفعية محمد علي ، إبّان حرب الوهابيين / ٢٢٧ / استطاعت مع ذلك تسلق هذه المنحدرات الوعرة ، وما زالت على الطريق الحالية آثار بعض الأعمال التي نفذت في ذلك الوقت لجعل الطريق سالكة. بل تم في بعض المواقع تعبيده مما جعله اليوم أكثر صعوبة : لأن الزمن والأمطار أزالت ذلك التعبيد ، ولم يتم إصلاحه بعد ذلك أبدا ، وقد تحولت مواد التعبيد اليوم إلى أحجار متحركة ، وإلى أفخاخ مزروعة عمدا تحت أقدام المطايا. وقد بلغت الصعوبات في بعض الأحيان حدا كان يقتضي الترجل عن البغال ، وإنزال كل الأحمال عنها ، كانت البغال متشبثة بالأرض ، تنزلق إلى الوراء ، تكاد تسقط في الهوة ، لو لا أن البغّالة كانوا يسندونها ، وكانوا غالبا مضطرين لحملها. أما عرب المرافقة فكانوا حفاة الأقدام ، يقفزون من صخرة إلى صخرة ، وكأنهم من ظباء الجبال ، وكان يمكن لهم أن يخلفونا وراءهم بمسافة طويلة ، لو لا أنهم كانوا يتوقفون غالبا لانتظارنا. كانوا ، وهم جالسون أو واقفون على رؤوس الصخور ، يبعثون الحياة في الطبيعة القاسية التي كانوا سمة من سماتها الأساسية.

وجدنا أنفسنا بعد ساعتين أو ثلاث من الصعود المتعب ، وكأنما للتعويض عن ذلك التعب ، ومكافأة عليه مستحقة ، أمام نبع عذب محمي تحت كتلة ضخمة من الجرانيت ومحاطة بالنعناع ، والزقوم (١) Absinthe ،

__________________

(١) عشبة معمرة تستعمل في الطب للهضم والإدرار. وذكر تاميزيه في كتابه : رحلة في بلاد العرب ـ الحملة الصمرية على عسير ١٢٤٩ ه‍ / ١٨٣٤ م ، القسم المترجم ، ص ١١٦ أن العرب تسمي الأفسنتين Absynthe الزقوم ، وأضاف تاميزيه : «... وجدنا بالقرب من العقيق نوعا من الزقوم ، يشبه الذي نجده في أوروبا ، ولونه هنا يميل إلى ـ

٢٣١

والخزامى ، ونباتات أخرى ذات رائحة عطرة. / ٢٢٨ / كان الشريف حامد على غير عادته قد سبقنا بما يقارب مئة خطوة ، وأعدّ لنا هناك قرب النبع وجبة طعام بسيطة ، كان ماء النبع البارد والنمير أبازيره المناسبة. وظهر في إعداد الوجبة ما عرفناه من أناقة الشريف في كل أفعاله. كان النظر من هذا الموضع يقع ، إذا نظرنا إلى الخلف ، على هوة واسعة من الحجر خرجنا من قعرها الذي تستطيع العين بهلع أن تقدر مدى عمقه : إذ تنتشر في كل مكان شعاف جرداء ، وجروف شاسعة ، ومنحدرات مذهلة. كان يشيع في تلك الطبيعة المخيفة صمت عميق ، لا يقطعه إلّا أصداء بعيدة لأصوات بعض الرعاة الذين لا نراهم. وفي الأفق البعيد نحو الغرب ، وفيما وراء تلك الشعاف ، كان يقبع بجلاله وانفراده جبل كبكب الرائع الذي بدا لي في مساء اليوم السابق ، وقد غشاه لون وردي جميل. أما الآن فيغشاه لون أزرق لامع ، أكثر غمقا من لون السماء ، كان ينتصب في الأفق وكأنه جدار من الفولاذ الأسمر.

أمّا جبل كرا فيسكنه نزلاء أكثر حبا للسلم ، أعني القرود التي يحمل كل ما يمكن القبض عليه منها إلى مكة المكرمة ، ويحملها الحجاج معهم من هذا المكان إمّا إلى دمشق وإمّا إلى القاهرة حيث رأيت عددا منها يصل إبّان الحج الأخير ، / ٢٢٩ / ولكنني في مقابل ذلك لم أر أيا منها حرا متوحشا في الطبيعة. ويروي الناس بخصوصها حكاية ، يضحك العرب لها كثيرا ؛ إذ يروى أن المطر أصاب بضاعة أحد تجار الطرابيش فبلّلها ، فنشرها في الشمس لتجفيفها ؛ وما إن رأت القرود ذلك حتى هرعت من كل أنحاء الجبل ، وكم كانت دهشة التاجر عند ما رآها تتواثب حوله ، وقد اعتمر كل واحد منها طربوشا. وتشيع دعابة مماثلة في الموانىء البحرية الأوروبية بفارق بسيط هو أن الطرابيش تتحول في الحكاية الأوروبية إلى قبعات من القطن (١).

__________________

ـ الأخضر الداكن ، ويستخدمه العرب هنا كبهارات عند الطبخ ، ويستخرجون منه عصيرا ـ أيضا ـ». ترجم هذا القسم من رحلة تاميزيه الدكتور محمد بن عبد الله آل زلفة ، ونشره في الرياض ١٤١٤ ه‍ / ١٩٩٣ م.

(١) قال العياشي في رحلته ماء الموائد (الرحلة العياشية) ، ج ٢ ، ص ١١٦ : «... ورأينا ـ

٢٣٢

كان الطريق من النبع إلى ذروة جبل كرا أكثر وعورة وخطرا ، وفي النهاية ، وبعد ثلاث ساعات أو أربع من هذا المسير الشاق ، وصلنا قمة الجبل ، وأصبحنا تحت أشعة الشمس التي كان الجبل نفسه يحمينا منها. إن أول ما يلفت النظر هو المجرى المائي الصافي الذي كان ينتظرنا على جانبه مفاجأة أخرى ، بل إكرام آخر. كان هناك في استقبالنا أحد أشراف المنطقة ممتطيا هجانا أبيض ، وكان معه في انتظارنا أيضا شريف آخر اسمه سليم ، يمتطي فرسا بيضاء ، أرسلهما الشريف الأكبر من الطائف مبالغة في إكرامنا. كان يلتف حولهم ستون / ٢٣٠ / من البدو ، من قبيلة هذيل المشهورة بالشجاعة ، وكانوا يرتدون ثيابا تشابه تماما ما كان يرتديه البدو في مقهى شداد ، وهم مسلحون أيضا بالخناجر والرماح والبنادق ذات الفتيلة. كانوا مشهورين بأنهم أمهر الرماة في الصحراء. لقد اصطفوا على طريقنا بكل الاحترام الذي يليق بضيوف أميرهم ، ولكن بغير نظام ، ولا انضباط ، وكأن كل منهم كان يفعل ما يحلو له ، وبإرادته الشخصية. حدث كل ذلك في صمت مطبق : لم يصدر عن البدو أي صيحة ، والشريفان لم ينبسا ببنت شفة ؛ واكتفيا بالسلام علينا كما يسلم الشرقيون بوضع اليد اليمنى على الصدر ، ثم على الفم ، ثم على الجبهة. رددنا السلام بالطريقة نفسها ، ثم قادانا بعد ذلك ، يرافقنا ستون من البدو ، إلى بيت مجاور أعدّ لنا.

كان اسم المكان الهدى ، وكان قد أسس المنزل أو يسكنه على الأقل أحد المارقين من أهل موسكو لم أستطع الحصول على أي معلومة عنه ، وعلمت بعد ذلك بالمصادفة في القاهرة من أحد اليونانيين ، وكان يعرفه ، أنه

__________________

ـ القرود به (جبل كرا) تصيح وتثب في أعالي تلك الصخور فتعجبنا من ذلك وأخبرنا أنها توجد في هذا الجبل ، وما سمعنا قط أنها بأرض الحجاز ، وإنما يقال : إنها تجلب من الشام والروم إلى مصر والحجاز». عن كتاب : الطائف ، جغرافيته ـ تاريخه ـ أنساب قبائله ، تأليف محمد سعيد بن حسن آل كمال ، ١٤١٦ ه‍ / ١٩٩٥ م ، جمع وتعليق د. سليمان بن صالح بن سليمان آل كمال ، مكتبة المعارف بالطائف ، ١٤١٧ ه‍ ، ص ١١٤.

٢٣٣

من قدامى ضباط الحرس الذين تورطوا في الفتنة العسكرية عام ١٨٢٥ م ، عند ما تسلم العرش الإمبراطور نقولاNicolas. ثم أفلح في الهرب ولجأ إلى إستانبول ، ولكن السفير الروسي ألح في طلبه ، وخوفا من أن تستجيب الحكومة التركية الضعيفة للمطالب المتكررة / ٢٣١ / لجارها القوي ، اعتنق الإسلام لكي يفلت من ثأر القيصر. ولمّا أصبح يتمتع بالحصانة بسبب تخليه عن دينه ، فإنه ذهب للإقامة في الحجاز حيث قضى فترة طويلة ، ثم قضى أيامه الأخيرة في الأناضول. ومع أن أوروبيا كان يسكن ذلك البيت ، فليس فيه ما يذكّر بأوروبا : كان مربعا ، صغيرا جدا ، مبنيا بالحجارة فقط ، تمتد أمامه مصطبة ، ويحيط به عدد من الأفنية التي تطل غرفاته عليها.

كانت الغرف الرئيسية في الطابق الأرضي ، وكانت مغطاة بالبسط ، وقد أعدت لنستريح فيها ، خلوت بنفسي بضع ساعات للاستظلال ، بل قل للاستراحة ؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يتحمل الحركة واختلاط الأمور في منزل صغير ، حطّ فيه رحالهم ما يقارب مئة رجل مسلح. لم يستطع الجميع دخول المنزل ، بل ظل كثير منهم في الخارج ، مستلقين على الأرض ، أو يجلسون القرفصاء بمحاذاة الجدران ، أما الآخرون فقد كانوا يتزاحمون في فناء المنزل. لقد أكل وشرب هذا الجمع الغفير كله كيفما اتفق. أما نحن فقد قدّم لنا في البداية اللبن ، وله لدى العرب استخدامات كثيرة ، والمعروف أنه صحي جدا في تلك الأجواء.

ثم حملوا إلينا بعد ساعتين جبلا من الرز يعلوه خروف ضخم مشوي ، يحمله عبدان ينوءان بحمله ، ثم وضعوه أمامنا. دعونا الشريفين لمشاركتنا الطعام ، وها نحن جميعا جالسون على شكل دائرة ، وأقدامنا / ٢٣٢ / متصالبة حول هذه الجفنة الضخمة : كنا سبعة ، وكانت شهيتنا مفتوحة ، ولمّا شبعنا نحن السبعة كان الطعام لا يزال وفيرا ، وذهب ما بقي من المائدة إلى المعنيين. كانت الساعة حوالي الثالثة عند ما فكرنا بالانطلاق ؛ لأن الوصول إلى الطائف كان يحتاج أربع ساعات على الأقل. لم يرافقنا شريف الجبل ورجاله من البدو ، وتمت مراسم الوداع من الجانبين بالمراسم والصمت اللذين سادا عند الوصول.

٢٣٤

انضم إلينا الشريف سليم وحده كما فعل ذلك في اليوم السابق طاهر أفندي في الحسينية : كان الشريف سليم على رأس القافلة ممتطيا فرسه البيضاء ، وقد اكتشفنا خلال الطريق مدى تقاه وورعه. توقف في المغرب والعشاء ، ومد سجادة الصلاة على جانب الطريق ، وسجد فوقها متجها باتجاه مكة المكرمة ، وأدى الصلاتين في موعدهما المحدد. ولمّا لم يكن هناك ماء فقد تيمم بالرمل ، كما رخص القرآن بذلك للمسلمين كافة.

إن قمة جبل كرا مستوية ، وتنتشر عليها بين كل مسافة وأخرى مخاريط جرانيتية ، واضحة ، ومنتظمة حتى لتظن أن يد الإنسان قد نحتتها. وتبدو من بعيد حقول الشعير والقمح ؛ وتكثر في هذه المنطقة الأشجار المثمرة التي تعيش في أجوائنا الأوروبية ، وخصوصا أشجار المشمش / ٢٣٣ / والدراق واللوز ، وتعطي غلة وافرة ، وليس هناك أشجار نخيل أو برتقال لأن جبل كرا لعلوه غير مناسب لها. أما دوالي العنب فإنها تنتج عنبا من أفضل الأعناب وأحلاها. لقد اختل مقياس الضغط الجوي لدينا خلال الرحلة ، ولم يكن باستطاعتي تحديد درجة ارتفاعنا عن سطح البحر ؛ ولكنني لا أبالغ ، حسب الصعود الطويل والشاق ، إذا قلت إننا كنا في هذه النقطة على علو ١٦٠٠ أو ١٧٠٠ متر ؛ مما يجعل درجة الحرارة في هذه النقطة تقارب درجة الحرارة المتوسطة في بلادنا : لذلك يأتي إلى هذا المكان سكان مكة المكرمة خلال الصيف بحثا عن الخضرة والبرودة. لقد وجدت أن للمكان شبها يلفت النظر ببعض أقسام جبال الألب الوسطى في فوسيني Faucigny ، وبصخرة إيطاليا الكبيرةGrand ـ Rocher D\'ltalie في أبروز (١) Abruzze.

كنا لبعض الوقت نسير في منطقة سهلية ، ثم تأخذ بالتعرج والاضطراب أكثر فأكثر ؛ اختفت الأراضي المزروعة ليحل محلها الرمل ، عدا بعض طاقات العشب التي تطل برأسها بصعوبة ، لتكون حينئذ مرعى للأغنام الهزيلة ، ثم

__________________

(١) منطقة إيطالية مشهورة بجبالها وسهولها ، وتنتمي الجبال فيها إلى سلسلة الأبينان L\'Apennin ، وأعلى قمة فيها هي صخرة إيطاليا الكبرى (٢٢٩١ م).

٢٣٥

تختفي المزروعات تماما. وترهص كتل الجرانيت الضخمة المتراكبة فوق بعضها بنهاية الأرض السهلية.

بدأنا بالانحدار ، ولكن ، باستثناء بعض المنحدرات الشديدة بعض الشدة ، وبعض الممار التي كان في عبورها شيء من الصعوبة ، فإن هذا الجانب لا علاقة له البتة / ٢٣٤ / بالجانب المقابل ، وإذا قورن به فإنه سيكون بمثابة انحدار صغير. وقد كان بإمكان الهجن أن تسير عليه بيسر وسهولة. كان هناك منحدر أول ، يتبعه شعب رملي مستو كل الاستواء ، محصور بين هضبتين منخفضتين ، وينتصب في آخره حصن مهدم كان فيما مضى مخصصا لحماية القوافل. ولم يعد اليوم يستخدم إلّا لتزيين المشهد ، وسكن الجوارح التي تخفي فيه أو كارها. لقد كان الأفق حتى هنا مغلقا ، ثم انفتح فجأة ، كما لو أن ذلك تمّ بفعل السحر. لقد انبسط أمامنا سهل ضخم دائري ، ولكنه كان أكثر انخفاضا من المنطقة التي كنا فيها وتحيط به من كل الجهات سلسلة جبال غزوان (١) الجرداء ؛ وهي جبال متساوية العلو تقريبا ، ولكنها تتفاوت في أشكالها ، وكانت كلها حينئذ يغشاها لون المساء الأرجواني. وكان شيء من البياض يبدو في وسط السهل : إنها الطائف. يؤدي منحدر ثان أقل انحدارا وقصرا من الأول إلى وادي القرن الذي كان مرصعا بالروضات ، وتشقها كلها سواقي المياه التي تدل على أن الشعب الذي يسكن المكان شعب حاذق.

قابلنا طوال الأمسية كثيرا من العرب المسلحين في الجبل ، وقابلنا أكثر منهم أيضا في الوادي ، ولكنهم بلا سلاح ، ويعملون بسلام على استخراج الماء لري روضاتهم ، أو لسقاية قطعانهم. / ٢٣٥ / وكان الجميع يتركون أعمالهم عند اقترابنا منهم ، ويقبلون للسلام على الشريفين وعلينا بطريقة غير مباشرة. كانت رؤوس هؤلاء البدو المزارعين الذين هم أكثر سوادا من بدو حدّة

__________________

(١) ذكر البلادي في معجم معالم الحجاز ، ج ٥ ، ص ٢٢٤ أن الصواب : عروان بالعين المهملة والراء المهملة ، ويبعد عن الطائف سبعين كيلا. ولا يعتدّ بهذا لأنه : غزوان في الكتب الجغرافية العربيّة القديمة ؛ انظر : المقدسي وغيره.

٢٣٦

حاسرة ، وكان كل ما يلبسونه ثوبا قصيرا من الكتان الخشن. وكان كل شيء يوضح أنهم يعيشون حياة ريفية شاقة ، وأنهم يتمتعون بلطف فائق ، وبطبائع وعادات غاية في البساطة. كانت تبدو في عيونهم وهم يروننا نمر أمامهم علائم الدهشة والفضول في بعض الأحيان ، وليس علائم العدوانية أو الضغينة ، ولم يكن ثمة أي ظل من التعصب.

لم يكن علينا بدءا من هذه المنطقة أن ننحدر ؛ لأن الطريق كان يتعرج في بعض المواضع ، ولكنه كان لينا جدا ، وكانت حوافر البغال تنغمس بكاملها في الرمال ، وكانت تسير ببطء شديد مما أخر سيرنا. أدركنا بعد قليل ليل دامس ، ولكنه مرصع بالنجوم ؛ وكانت هناك بعض الأعشاب الشوكية التي تنتشر حولنا ، وتقف في طريقنا ، وتعلق رؤوسها الحادة ببرانسنا وعباءاتنا.

وصلنا أخيرا إلى أسوار الطائف ، كانت الساعة السابعة مساء ، وكان الباب مغلقا ، ولكنه انفتح لحظة وصولنا ، وكأنما بفعل السحر ، لأننا لم نر أحدا يقوم بذلك. دخل الشريف سليم أولا ، وكان مقدّمنا. كان مركز الحراسة التركي المؤلف مما يقارب اثني عشر جنديا من المشاة في رتل واحد ، وقد تقلدوا السلاح لتأدية تحية الشرف عند مرورنا. / ٢٣٦ / ولمّا دخل الجميع تحركت مفاصل الباب من جديد ، وانغلق كما كان قد انفتح. فاتني القول : إن طاهر أفندي سبقنا قبل ميل تقريبا من الوصول إلى الطائف ، ليخبر الشريف الأكبر بوصولنا الميمون ، ولكي يتأكد بنفسه بلا شك من أن كل شيء يتم كما ينبغي. رأينا كيف تم كل شيء على أحسن حال ، وسنرى في الفصل التالي أن كل شيء سيتم لاحقا بأحسن مما سبق.

٢٣٧
٢٣٨

الفصل العاشر

الطائف (*)

عبرنا قسما من المدينة الغارقة في الصمت والظلام ، وقادنا الشريف سليم مباشرة إلى المنزل الذي جهزوه لإقامتنا : كانت تشتعل على بابه عدة مشاعل ، واصطف لدى الباب أيضا حرس مكون من عبيد منزل الأمير ، وهم

__________________

(*) ترجم الدكتور محمد بن عبدالله آل زلفة ما كتبه ديدبيه عن الطائف ونشره في صحيفة الجزيرة ، العدد ١٠١٦٢ ، الثلاثاء ٢٣ ربيع الآخر ١٤٢١ هـ / ٢٥ يوليو (تموز) ٢٠٠٠ م ، ص ١٢ ، بعنوان : الطائف في كتب الرحالة الأوروبيين شارلز ديديه نموذجاً ؛ والصواب : شارل ديدبيه كما يقتضي النطق الفرنسي. والترجمة عن الإنجليزية وقد استفدنا منها ، وتعقبه الدكتور سليمان بن صالح آل كمال في مقالة بعنوان : تعقيب علي د. محمد آل زلفة : الرحالة وقعوت في أخطاء يجب التصدي لها ، الجزيرة ، العدد ١٠١٨٨ ، ٢٠ جمادي الأولى ١٤٢١ هـ / ٢٠ أغسطس (آب) ٢٠٠٠ م ، ص ١٣. وقد تحدث تاميزييه وبوركهات عن الطائف ، وتحدث الأستاذ محمد سعيد بن حسن آل كمال في كتابه : الطائف ، جغرافيته – تاريخه – أنساب قبائله ، جمع وتعليق د. سليمان بن صالح بن سليمان آل كمال ، مكتبة المعارف بالطائف ، ١٤١٧ ه ، ص ١٣ – ٢٧ عن مؤرخي الطائف ومؤلفاتهم. وانظر في مجلة «المنهل» م ٧ ، ع ١ ٠ ، ١٣٦٦ هـ ، ص ٤٤٥ – ٤٤٦ مقالة للأستاذ الشيخ عبدالوهاب الدهلوي بعنوان : «تعريف بالكتب المؤلفة عن الحرمين والطائف وجدة» ؛ وانظر كتاب : تاريخ الطائف قديماً وحديثاً ، مناحي ضاوي حمود القثامي ، مطبوعات نادي الطائف الأدبي ، د. ت.

٢٣٩

يلبسون ويتسلحون كما كان الرجال الذين يرافقوننا يلبسون ويتسلحون ، ناهيك عن جندي انكشاري يحمل عصا في رأسها كرة من الفضة ، وكأنه من حرس الكنائس أو الفنادق السويسريين. وعند ما ترجلنا جاء إبراهيم أغا خازن الشريف الأكبر حتى الشارع لاستقبالنا ، / ٢٣٧ / وأدخلنا إلى مجلس مستو يطلّ على الفناء ، الذي كان في واقع الأمر امتدادا له ، ولا يتميز منه إلّا بأنه مغطى ، وأكثر ارتفاعا ببعض درجات. كان الفناء مرصوفا ببلاط كبير ، وفي وسطه بركة من الرخام الأبيض فيها نافورة مياه ؛ وكان هناك دالية تعرّش على طول الجدران. كان المجلس مفروشا بسجاد أحمر وأسود جميل ؛ وتنتشر فيه أرائك من الحرير الأخضر المطرز بخيوط ذهبية.

وكان هناك أربعة قناديل مضاءة تتدلى من السقف ، وشمعدانان ضخمان ، يبلغ علو كل منهما ثماني أقدام ، يتلألآن في ضوء الشموع ، وعبدان أسودان يلبسان ثيابا فاخرة ، ويرجّان برصانة مبخرتين زاخرتين بالعود ، ونشرا حولنا عند دخولنا سحابة من البخور ؛ وهو تقليد لا يقومان به إلا عند استقبال شخصيات مهمة. لقد هيؤوا لنا كراسي أوروبية. وما كدت أجلس حتى أحضر عبدان الإبريق لغسل اليدين ، وبينما كان أحدهما يصب الماء الفاتر على يدي من وعاء جميل ، كان الآخر جاثيا على ركبتيه أمامي ، وهو يحمل إبريقا عريضا ذا قعرين ، مثبتا في وسطه كوب صغير لوضع الصابون ؛ وكان في القعر الأول ثقوب متعددة يتسرب منها الماء ويختفي في الداخل.

قدّم لي بعد ذلك فوطة طويلة من الكتان ، مزينة بالأهداب ، ومطرزة / ٢٣٨ / بالذهب من الطرفين. تلك الأشياء كلها : الإبريق ، والوعاء ، والمبخرتان ، والشمعدانان ، والقناديل ، مصنوعة من الفضة المصمتة ، المرصعة بمهارة ، وقد جلبت ـ شأنها شأن بقية الأشياء ـ من منزل الشريف. وعند ما قدّر القائمون عن خدمتنا أننا نلنا قسطا كافيا من الراحة انفتح باب في صدر المجلس ، وظهرت لنا طاولة أعدّت على الطريقة الأوروبية ؛ مع الصحون ، وغطاء المائدة ، والسكاكين ، وحولها الكراسي ؛ أي كل الأشياء المجهولة في الشرق حيث يأكل الناس جلوسا على الأرض ، وتقوم أصابع

٢٤٠