رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

شارل ديدييه

رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٦

أمّا غزواته ناحية الفرات ولبنان (كذا ، وربما يقصد سورية) فلم تكن إلّا غارات سريعة يقوم بها للحصول على الغنائم لزيادة مكاسبه ومكاسب جنوده. وإن تلك البلاد ، أعني العراق وسورية ، تابعة تبعية مباشرة للأتراك الذين يعدهم هراطقة ، وإن في تلك البلاد كل الأسباب التي تدعوه لكراهيتها ، وكل ما فيها يجعل غاراته عليها مسوغة. لقد انتهى الأمر بباشا بغداد إلى التأثر بتلك الغارات ، وسيّر في عام ١٧٩٧ م لمحاربة الوهابيين المخوفين حملة لم تحرز أي نجاح ، ولم تزد على أنها دعّمت الازدراء والبغضاء اللذين يكنهما الوهابيون للعثمانيين.

أما باشا دمشق فقد كان بصدد تهيئة حملة لإبادتهم ، ولكن تلك الحملة ظلت فكرة ، ولم تخرج إلى حيز التنفيذ. وقد كان الوهابيون أقل حظا في منطقة الخليج العربي (١) حيث كان لهم ميناء اسمه رأس الخيمة ، دمره الأسطول البريطاني في عام ١٨٠٩ م لمعاقبة السكان على عدد من أعمال القرصنة التي تعرضت لها في الخليج سفن التجارة البريطانية (٢).

وكان سعود حينئذ قد أبطل الدعاء للسلطان العثماني على المنابر في الصلوات العامة ، مما يعني أنه أعلن التمرد الذي يعادل إعلان الحرب.

كان أكثر جيران سعود شعورا بالتهديد هو الشريف غالب بلا ريب الذي كان حينئذ يحكم الحجاز ، وقد كانت الأراضي التي تخضع لسلطته تتصل

__________________

ـ الدكتور العثيمين بقوله : «الرسائل التي وجهها سعود إلى والي دمشق توضح أنه كان يرغب في الاستيلاء على بلاد الشام. انظر : تاريخ البلاد العربية السعودية : عهد سعود الكبير لمنير العجلاني ، د. ن ، د. ت ، ص ٦٦ ـ ٦٨.

(١) في الأصل : الخليج الفارسي. لكن الشواهد تؤيد تسميته بالعربي. ولذا ترجم ، هنا ، بالعربي : انظر : مواد لتاريخ الوهابيين ، موثق سابقا ، ص ٨٣.

(٢) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٠١ ـ ١٠٢. وعلق الدكتور العثيمين فقال : «يصف الغربيون دائما الآخرين بالقرصنة إذا هاجموا سفنهم مهما كانت الدوافع لذلك. ومعروف أن القواسم كانوا يهاجمون سفن أعدائهم لا قرصنة وإنما جهادا ودفاعا عن المصالح الوطنية».

٢٠١

بأراضي / ١٩٠ / الأمير الجديد. وقد قام هذا الأخير بعدد من التوسعات ، وكان يخشى من توسعات أكثر خطورة في المستقبل.

لقد كان غالب المذعور ، لا يكفّ عن تشويه صورة الوهابيين لدى الباب العالي ، وعن إثارته ضدهم ، أملا في أن يساعده الباب العالي في توجيه ضربات حاسمة لهم. ولمّا لم يستطع التغلب على حذره حمل السلاح منذ عام ١٧٩٣ م ، ومع أنه اعتمد على موارده الخاصة ، فإنه حقق بعض الانتصارات في نجد. واستمرت الخصومة عدة سنوات بين الجارين ، وكانت الحظوظ إبّان ذلك متساوية بينهما ؛ ولكن ، وفي النهاية ، وعلى الرغم من حنكة غالب العسكرية ، كان الانتصار من نصيب الوهابيين : لقد دخلوا الحجاز بقوة كبيرة ، واستولوا على الطائف في عام ١٨٠١ م وعلى مكة المكرمة في عام ١٨٠٣ م ، وكان انضباطهم مضرب المثل في المدينة المقدسة ، ولم ترتكب أي مخالفة. ولم يعان المكيون إلّا من وجوب مداومة الحضور إلى المسجد في أوقات الصلاة ، ومن حرصهم على إخفاء ملابسهم الحريرية ، ومن الامتناع عن التدخين علانية ، إلّا أنهم عوضوا عن ذلك بالتدخين كما يحلو لهم في منازلهم.

وانسحب غالب إلى جدة ، وتبعه سعود إلى هناك ، ولكن أسوار المدينة منعته من دخولها ، وبدأ المفاوضات مع الشريف ـ الأمير الذي عاد إلى مكة ، واستعاد سلطته فيها ، ولكنه لم يحصل على ذلك إلّا بعد أن اتبع المذهب الوهابي (١). وكان سعود قد استولى على المدينة المنورة ، وعامل السكان معاملة أقل احتراما من تلك التي / ١٩١ / لقيها منه سكان مكة ، فوضع في المدينة المنورة حامية وهابية ، وجرد ضريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأشياء الثمينة التي تبرع بها المؤمنون ، وقد حاول أيضا أن يهدم القبة العالية المقامة على الضريح ، كما قاموا بهدم كل القباب التي لم تكن تابعة للمساجد (٢). وقد قيل خطأ : إن الوهابيين ألغوا الحج : لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شدد على تطبيق هذه الفريضة ،

__________________

(١) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) دخل سعود المدينة المنورة في عام ١٢١٨ ه‍ / ١٨٠٤ م. انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٩٣ ـ ٩٥.

٢٠٢

ولا يمكن ، والحالة هذه ، أن يقوم الوهابيون بإلغائها. ولكن الوهابيين الذين أزعجتهم التجاوزات المتطرفة التي كان يمارسها الحجاج الأتراك ، أجبروهم على تصرف أكثر لياقة ، وردعوا بقسوة الفوضى التي كانوا يثيرونها (١). ولم يتعرض الحجاج المغاربة الذين كانوا أكثر تنظيما لأي مضايقات ، وكذلك الهنود وأفارقة السودان. وإن كانت قوافل الحج من بغداد ودمشق والقاهرة قد توقفت ؛ فإن سبب ذلك هو أن الباشاوات والقوات العثمانية التي ترافقها عادة لم يعودوا يجرؤون على المخاطرة بالسفر عبر المناطق التي يسيطر عليها الوهابيون الذين كان مجرد ذكر اسمهم يثير رعبا كبيرا بين أعدائهم.

كان السلطان العثماني قد عيّن في هذه الأثناء محمد علي ، الذي سيذيع صيته بعد ذلك في أنحاء العالم ، باشا لمصر ، وفرض عليه أن يخلص المدينتين المقدستين من أيدي الوهابيين الذين سيطروا عليهما. ولما تولّى محمد علي منصبه الجديد عام ١٨٠٤ م شغل / ١٩٢ / بالقضاء على المماليك ، ولم يفكر بتنفيذ أوامر السلطان إلّا في عام ١٨٠٩ م ، عند ما كلف ابنه الثاني طوسون بيك (٢) الذي كان له من العمر ثمانية عشر عاما ، ولكنه كان ذا شجاعة مجربة ، نادرة اليوم لدى العثمانيين ، وخصوصا في أسر الباشاوات ، كلفه ، قيادة حملة نزلت في ينبع عام ١٨١١ م. وكانت بداياته سيئة : إذ تقدم نحو المدينة المنورة (٣) التي كان الوهابيون لا يزالون يسيطرون عليها ، والذين هزموه شر

__________________

(١) قارن بما يقوله بوركهارت في : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٩٥. وانظر تعليق الدكتور العثيمين في الحاشية(٢).

(٢) يختصر ديدييه الأحداث اختصارا مخلا ؛ إذ إن محمد علي بدأ في عام ١٨٠٩ م يجهز بجد لحملته ، فبنى أسطولا من ثمان وعشرين سفينة مختلفة الأحجام ، وذلك في مياء السويس في أعوام ١٨٠٩ ، ١٨١٠ ، وبداية سنة ١٨١١ م. ورمم القلاع على طريق الحج بين القاهرة وينبع ، وهي عجرود ونخل والعقبة والمويلح والوجه ، ووضع فيها حاميات من المشاة ، وأنشأ مخازن للقمح في القصير. وبدأت الحملة في نهاية أغسطس سنة ١٨١١ م. انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٠٩ وما بعدها.

(٣) وصل الأسطول المصري إلى قرب ينبع في أكتوبر (تشرين الأول) ١٨١١ م وفي يناير ـ

٢٠٣

هزيمة في مضيق الجديدة (١). وأجبر على التراجع إلى ينبع ، والتحق بجيشه هناك ، ونجح في السنة التالية ـ بفضل المساعدات التي تلقاها من مصر ـ أن يستولي على المدينة المنورة. ووجدت الحامية الوهابية التي ظلت معتصمة في القلعة نفسها مجبرة على الاستسلام بعد ثلاثة أسابيع من المقاومة ، وخرجت بأسلحتها وبأمتعتها بفضل عهد أمان ؛ ولكنها ما إن قطعت مئة خطوة خارج القلعة حتى انقض الأتراك عليها وسلبوها وذبحوا أفرادها. ولنتأمل ما يتمتع به العثمانيون من نية حسنة (٢)!

وقد عيّن أحد المارقين الإسكتلنديين (٣) من خدم البيك الشاب لبعض الوقت حاكما للمدينة المنورة ، ولكنّه سقط بعد ذلك قتيلا وسلاحه بيده في مواجهة الوهابيين. وسقطت أواخر السنة نفسها مكة المكرمة ثم الطائف في أيدي الأتراك الذين كان يقودهم مصطفى بيك ، صهر محمد علي ، وهو رجل

__________________

ـ (كانون الثاني) ١٨١٢ م تقدم طوسون بيك مع جنوده صوب المدينة المنورة. مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١١٣ ، ١١٥.

(١) ممر ضيق يتراوح عرضه بين أربعين وستين ياردة في جبال وعرة شديدة الانحدار تقع على مدخلها قرية الجيدة ... وهي المستوطنة الرئيسية لقبيلة حرب. وطول الممر الضيق ساعة ونصف الساعة. مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١١٦.

(٢) مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٢٣ ـ ١٢٥.

(٣) المسمى إبراهيم أغا ، وكان رئيسا للمماليك الذين مع طوسون ، وهو من إدنبره واسمه الأصلي توماس كيث ، أسر خلال الحملة الإنجليزية الأخيرة على مصر ، ثم أسلم واشتراه أحمد بونابرت ، ولجأ إلى حماية زوجة محمد علي بعد أن قتل صقيليا من خدم أحمد بونابرت ، وغضب عليه طوسون مرة وأمر بقتله إلا أنه دافع عن نفسه وهرب إلى حاميته التي أصلحت الأمر ، وأصبح بعد أن أثبت جدارته رئيسا للمماليك لدى طوسون ، وكان أحد اثنين لم يتخليا عن طوسون في الجديدة ، وقاتل ببسالة في الاستيلاء على المدينة المنورة وتربة ، وكان قد أصبح صاحب الخزانة ، ويحتل المرتبة الثانية في البلاط ، وعين حاكما للمدينة المنورة في إبريل (نيسان) ١٨١٥ ثم قتل بعد ذلك في العام نفسه في القصيم. انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١١٨ ـ ١١٩ ، وص ١٨٩.

٢٠٤

شرس سفك من قبل دماء المصريين ، وكان يفخر / ١٩٣ / قائلا : «إن عدد من سيموتون تحت عصي جلاده يفوق عدد الرجال الذين يولدون في أسرته ، لو أن كل واحدة من زوجاته ولدت في كل يوم مولودا ذكرا» (١). وإن ذكريات وحشيتهم وخداعهم لا زالت ماثلة في أذهان العرب بعد أربعين سنة. لقد أخطأ الوهابيون إبّان تلك الحملة كلها عند ما استهانوا كثيرا بأعدائهم ، ولم يواجهوهم بالقوة المطلوبة ، ونتج عن ذلك أنهم أجبروا على ترك الحجاز ، وعلى العودة إلى حدودهم الأولى.

وقد عين الباب العالي طوسون بيك باشا جدة ، وقدم والده بشخصه من القاهرة إلى مكة المكرمة في عام ١٨١٤ ليجني ثمار الانتصارات التي لم يحققها بنفسه.

أمّا الشريف غالب فإنه كان يصرّف شؤونه بكثير من الحذر والبراعة الفائقة ؛ حتى إنه استطاع المحافظة على سلطته في هذه الظروف الفظيعة. لقد كان ينقل ولاءه بين الأتراك أو الوهابيين حسب المصلحة الآنية ، أو حسب حظوظ العدوين في النصر ، لقد كان يراعي الخصمين ، متجنبا توريط نفسه بالقيام بأي إجراء ذي دلالة مفرطة ، مؤمنا لنفسه في كل الظروف مخرجا. لقد تمثلت سياسته في التذبذب ، وفي التهدئة ، أملا في رؤية أحد العدوين اللذين يخشاهما بالتساوي يضعف أحدهما الآخر ، كان يجد خلاصه في الكره الذي يكنه أحدهما للآخر. وعند ما ظهر أن النصر سيكون نهائيا بجانب العثمانيين ، ضم قواته إلى قواتهم ، وحضر بنفسه معركة الاستيلاء على الطائف. وقد كان أبرز زعماء / ١٩٤ / الوهابيين وأكثرهم توفيقا في تلك الحرب هو المضايفي (٢)

__________________

(١) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) عثمان بن عبد الرحمن المضايفي من قبيلة عدوان المشهورة بالطائف. كان صهرا للشريف غالب تزوج أخته ، وكان أكبر أعوانه وقادة جيشه ، ثم اختلف معه وانضم إلى الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وولاه الإمام عبد العزيز على الجيش المكلف بالاستيلاء على الطائف ، ونجح عثمان في الاستيلاء عليها سنة ١٢١٧ ه‍ / ١٨٠٣ م وأصبح أميرا عليها وعلى المناطق التابعة لها. وعند ما نجح الشريف غالب ـ

٢٠٥

صهر الشريف غالب الذي كان يكرهه ، ولم يجد حرجا من أن يعد بمكافأة لمن يقتله أو يأسره. وقد تمّ تسليم المضايفي لغالب غدرا ، فبادر مسرعا في نشوة النصر بإرساله إلى استانبول حيث تم قطع رأس العربي المقدام. وكان غالب الذي أرضى حقده ، يأمل في أن يرضي الأتراك بذلك. لقد كان ذلك جهلا بطبائعهم ، ولم يدم وهمه إلّا قليلا. لقد ذهب إلى جدة لاستقبال محمد علي عند وصوله إلى الحجاز ، وعادا معا إلى مكة المكرمة ، وتعاهدا رسميا على القرآن في المسجد الحرام ألا يحاول أحدهما القيام بأي شيء يعارض مصلحة الآخر ، وأن يعيشا متحدين. ولقد كان باشا مصر ، على عادة الأتراك المستأصلة فيه ، يفكر ، وهو يقر بذلك العهد ، في أن يخرقه. أما الشريف فقد كان على العكس يحرص على الوفاء بعهده ، ولا يمكن حتى لألد أعدائه أن يتهمه بأي ميل لخرق ذلك العهد. ذلك هو الفارق بين العرقين : العربي يحترم العهود التي يبرمها ، أمّا التركي فلا يحترم أي شيء.

كان الشريف يقيم في مكة المكرمة في قصر محصّن تحصينا منيعا ، تدافع عنه حامية مؤلفة من ٨٠٠ رجل ، ومدفعيون ، مما يجعل السيطرة عليه مستحيلة. ولمّا لم يكن محمد علي يستطيع ، مفاجأته أو القبض عليه في وسط الحاشية الكبيرة التي كانت ترافقه على الدوام عند خروجه ، فإنه دبر له / ١٩٥ / كل أنواع المكائد التي لم تجد في البداية أي نجاح. وقد كان ينوي القبض عليه ، ولو كان ذلك في المسجد الحرام ، لو لا أن القاضي أمر باحترام حرمة

__________________

ـ في السنة نفسها باسترداد الطائف هرب عثمان ، ثم قبض عليه بعد ذلك بدو عتيبة وسلموه للشريف ، ثم أرسله طوسون باشا أسيرا إلى مصر ، ومنها إلى إستانبول وقتل هناك. انظر : عنوان المجد في تاريخ نجد ، تحقيق عبد الرحمن بن عبد اللطيف ، الرياض دارة الملك عبد العزيز ، ط ٤ ، ١٤٠٢ ه‍ / ١٩٨٢ م ، ص ١ / ٢٠٩ ، ٢٦٠ ، ٣٣٤ ـ ٣٣٥. عن حاشية مترجمي رحلات بوركهارت ، موثق سابقا ، ص ٦٨. وانظر كتاب : عثمان بن عبد الرحمن المضايفي أمير الطائف والحجاز في الدولة السعودية الأولى ، تأليف د. إبراهيم بن محمد الزيد ، إصدار لجنة المطبوعات في التنشيط السياحي ، محافظة الطائف ، ط ١ ، ١٤٨١ / ١٩٩٧.

٢٠٦

المكان المقدس. ثم نصب له محمد علي في نهاية الأمر فخا متقنا ، ومدبرا بإحكام فوقع فيه غالب ، وتمّ أسره مع مراعاة المظاهر الخادعة ، واكتفى بعد ذلك بالقول باحتقار : «لو أنني كنت خائنا لما حدث ذلك أبدا». ثم نفاه السلطان إلى سالونيك ، وقد مات فيها متأثرا بالطاعون في صيف عام ١٨١٦ م.

وانتهت بموته حكومة الأشراف. وكل الأشراف ـ الأمراء الذين جاؤوا بعد غالب ، عينهم الباب العالي ، واكتفوا بالمرتب الشهري المحدد الذي كان يدفعه الباب العالي. وأصبح شأنهم شأن موظفي الإمبراطورية العثمانية كلهم ، فهم لا يتمتعون إلا باستقلال شكلي ، وبسلطة اسمية. وقد كانوا يعاملون على الدوام كما يعامل شيوخ قبائل الحجاز ، كانوا يختارون من قدماء الأسرة الحاكمة ؛ ولكنهم لم يكونوا في الحقيقة إلّا موظفين لدى الحكومة التي تعينهم وتدفع رواتبهم ، شأنهم شأن الوزراء والباشاوات. وكان يحيى أول الأشراف الذين عينهم محمد علي ، ويحيى أحد أقارب غالب ، ولا يتمتع بأية موهبة ، وهو مناسب تماما لما يريده محمد علي.

لقد كان الباشا يريد أن يزيل النفوذ العريق والتقليدي لأحفاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جذوره ؛ فنفى ثلاث مئة منهم إلى مصر ، ولم يترك للآخرين إلا أعمالا ثانوية / ١٩٦ / مثل أن يكونوا على سبيل المثال ، أدلاء في جيشه. أثار سجن غالب والغدر الذي كان ضحيته استنكار العرب كلهم ضد الأتراك. وقد بدا المكّيون أنفسهم محزونين لذلك. ولم يكن الوهابيون أبدا ليقوموا بمثل هذه الأعمال الدنيئة ، لقد كانوا عاجزين عن ذلك ، ولمّا كانت أية مقارنة بينهم وبين الأتراك ستكون لصالحهم بالتأكيد ، فإنهم قد نالوا الحظوة الشعبية لأنفسهم.

لقد دفع محمد علي ثمن غدره عددا من الهزائم التي كادت تودي بحياته ؛ أولها كانت الهزيمة الساحقة في تربة حيث انتصر الوهابيون على صفوة قواته التي كان يقودها ولده طوسون ، وهزم تلك القوات شر هزيمة عرب البقوم ، الذين يعمل بعضهم في الزراعة ، وبعضهم الآخر في الرعي ، تقودهم أو تلهمهم على الأقل امرأة اسمها : غالية (١).

__________________

(١) انظر : رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٢١٠.

٢٠٧

لقد كانت غالية جان دارك الصحراء ، وكانت هي الشيخ الحقيقي للقبيلة ، وكان الأتراك بالطبع ينظرون إليها على أنها ساحرة ، وأن سحرها يجعل أنصارها لا يهزمون (١). وأذلّت القوات العثمانية بهزيمتين لم تكونا أقل عنفا من الهزيمة الأولى في زهران والقنفذة (٢) ، وهي إحدى مدن الحجاز الخمس. أمّا محمد علي فكان لا يستطيع الخروج من وراء أسوار مكة المكرمة ، وقد كانت الاتصالات مع جدة غالبا مقطوعة. وأصبح جيشه في أسوأ حال : إذ كانت الجمال تنقصهم للنقل ، وقد / ١٩٧ / هلك من ذلك الجيش ثلاثون ألفا في تلك الحرب. كانت الأغذية نادرة في كل المواقع ، وقد وصلت أسعارها حدا غير معقول. أمّا الجنود الذين كانت رواتبهم غير مجزية ، أو أنهم لا يتلقون رواتب أبدا ، فإنهم لم يكونوا يحصلون إلّا بصعوبة كبيرة على حاجاتهم الضرورية الأولية ، وقد كانوا يرفعون أصواتهم بالاعتراض ، ويفرون بأعداد كبيرة ، ولم يعد المجندون يصلون إلى الحجاز أبدا. وكان محمد علي وحده هو الذي لم ييأس ، لقد كان متأكدا أن خسارة الحجاز تعني بالنسبة إليه خسارة مصر ، وقد بذل لكي يحتفظ بالحجاز جهودا جبارة ، وأظهر حزما نادر المثال. ولما أخفق في الحرب لجأ إلى المفاوضات ، وبدأها أولا مع القبائل المجاورة لمكة المكرمة ، واستمال عددا منها بدفع مبالغ مالية كبيرة [...].

لقد أبدى محمد علي للبدو ودا ومحاباة جعلت له بينهم أصدقاء كثرا : كان يستقبلهم بلا تكلف ، ويسمح لهم بمخاطبته على طريقتهم فيما اعتادوه من عدم المجاملة ، ويغدق عليهم الهدايا ، ويدفع بكرم لكل المتطوعين الذين

__________________

(١) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٤١ ـ ١٤٢.

(٢) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٤٥ ـ ١٤٦ ، وقال بوركهارت : «وهي ميناء يبعد عن جدة سبعة أيام جنوبا. وكانت في السابق جزءا من أراضي الشريف غالب ، ولكنها أصبحت خلال السنوات الخمس الأخيرة في يد طامي (بن شعيب) ، شيخ عرب عسير أقوى القبائل الجبلية جنوب مكة وأشد المتحمسين من الوهابيين». أما هزيمة الأتراك في زهران التي كان على رأس قبائلها بخروش بن علاس فقد تحدث عنها بوركهارت في مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٦٢ ـ ١٦٣.

٢٠٨

يقدمونهم للخدمة في جيشه ، وكان في كل الخصومات يجعل الحق دوما إلى جانبهم ضد جنوده أنفسهم. وأوغل في هذه السياسة فأصبح يستجدي رضا أهل مكة المكرمة ، ومع أنه ماسوني بالمفهوم العربي لهذه الكلمة ، أي ملحد ومشرك مجاهر ، فإنه كان يتظاهر بالحمية والإخلاص ، ويكرّم العلماء ، ويجري لهم الجرايات ، ويرمم الأماكن المقدسة ، ويتردد / ١٩٨ / بكثرة إلى المساجد ، ويؤدي بدقة الشعائر الطويلة حول الكعبة ، كان ، بعبارة واحدة ، يؤدي كل الواجبات التي يؤديها المسلم المثالي.

وعند ما ظهر له أن تلك الوسائل وما شابهها جعلت الأمور تستقيم له بادر بكل قوته ، وبمساعدة فرقة من الخيالة الذين جلبهم من الصحراء الليبية ، إلى تنظيم حملة جديدة ضد الوهابيين المجتمعين في بسل ؛ وهي قرية إلى الشرق من الطائف ، وأحرز شخصيا نصرا حاسما في شهر يناير (كانون الثاني) ١٨١٥ م. كان سعود قد توفي العام الفائت (١) في الدرعية ، وانتقلت السلطة العليا الوراثية في أسرته إلى ولده عبد الله بن سعود الذي كان يتفوق على أبيه في القدرة العسكرية التي عرف بها ، ولكنه كان أقل من والده حنكة في سياسة القبائل ، وفي صيانة مصالحهم والتوفيق بينها. لقد حصلت في بداية حكمه اضطرابات داخلية بين صفوف أسرته نفسها ، ثم امتدت تدريجيا إلى عدد من القبائل. وبدأ كبار مشائخ تلك القبائل يبدون استقلالا لم يكونوا يجرؤون على مجرد الحلم به إبّان حكم الأمير السابق الذي كان أكثر حزما ، وكانت القبائل بالإجماع تخضع لسلطته. وأضعفت تلك المنازعات الداخلية الانضباط الذي تشتد الحاجة إليه إبّان الحرب ، والذي لم يكن فقدانه بعيدا عن أن يكون السبب الرئيسي في هزيمة بسل (٢). لقد كانت كلمات سعود الأخيرة قبل موته لولده عبد الله أنه / ١٩٩ /

__________________

(١) مايو (أيار) ١٨١٤ م ، وجاء في عنوان المجد ، ج ١ ، ص ٢٣٩ أن وفاة سعود كانت ليلة الاثنين الحادي عشر من جمادى الأولى سنة ١٢٢٩ ه‍. وكان «موته بعلة وقعت في أسفل بطنه أصابه منها مثل حصر البول». انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٥٣.

(٢) انظر حديث بوركهارت عن معركة بسل في مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٦٨ ـ ١٧٥.

٢٠٩

نصح له قائلا : «لا تقاتل الأتراك أبدا في أرض مكشوفة» ؛ ولأنه لم يتبع هذه النصيحة القيمة ، وقعت تلك الطامة الكبرى (١). لم يكن عبد الله يقود القوات بنفسه في معركة بسل ، بل كان على رأس جماعة من الاحتياطيين ؛ كان عليها حماية منطقة أخرى من حدوده. وكان يقود القوات الموجودة في بسل أخوه فيصل (٢).

لقد تمتع الأتراك وأسرفوا في استغلال النصر بوحشيتهم المعهودة ؛ فقد كان هناك ثلاث مئة من الأسرى الذين وعدوا بصيانة حياتهم ، ثم رفعوا على الخوازيق بأمر من محمد علي : خمسون على أبواب مكة المكرمة ، ومثلهم على باب جدة ، والباقون على طول الطريق الواصل بين المدينتين. وظلت أجساد أبناء الصحراء الشجعان معروضة حتى ملأت الضواري والوحوش بطونها

__________________

(١) يقول بوركهارت في : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٧٤ : «... وربما كان سبب هزيمة الوهابيين نزولهم من الجبال إلى السهل ؛ إذ لم تكن لديهم أية وسائل لمقاومة الفرسان الأتراك. وكان سعود قد حذّر ابنه في كلماته الأخيرة التي وجهها إليه من القيام بمثل ذلك العمل. لكن احتقارهم للجنود الأتراك ، ورغبتهم في إنهاء الحملة ، وربما رغبتهم في اعتقال محمد علي شخصيا ، من الأمور التي جعلتهم ينسون الأسلوب الحكيم الذي اتبعوه في الحرب من قبل ...». وجاء في : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٥٣ : «... ويقال إن كلمات سعود الأخيرة كانت موجهة إلى ابنه عبد الله ناصحا إياه بقوله : «لا تقاتل الأتراك في أرض مكشوفة» وهذا مبدأ لو اتّبع بدقة لمكّن شعبه ، بدون شك ، من استعادة الحجاز».

(٢) فيصل بن سعود أخو عبد الله أمير الوهابيين ، كان أوسم رجل في الدرعية وألطفهم ، ويحبه العرب كثيرا قتل أثناء حصار الدرعية ١٢٣٣ ه‍. عنوان المجد ، ج ١ ، ص ٢٧٢. وكان لسعود أبناء آخرون غير عبد الله وفيصل ، وهم ناصر الذي توفي عام ١٢٢٥ ه‍ ، وتركي بن سعود الذي توفي قرب نهاية حصار الدرعية. وإبراهيم الذي قتل في أثناء حصار الدرعية ، أما فهيد (فهد) وعمر فقد كانا ضمن من نقلهم محمد علي إلى مصر سنة ١٢٣٤ ه‍ ، ومن أبناء سعود أيضا مشاري وسعد وعبد الرحمن وحسن وخالد ، انظر : آل سعود ، ص ١٦ ـ ١٧ ، وعنوان المجد ، ج ١ ، ص ٢٧٢ ، ٢٠٣ ـ ٢٠٥ ، ٢٧٦. وانظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٣٣ والحواشي.

٢١٠

من لحومهم. ويمكن لهذا التصرف الفظيع أن ينبىء بالفظاعات الأخرى. ومن بسل سار الباشا على طريق اليمن ، حيث كان عدد الوهابيين كثيرا ، وكان يأمل أن يحقق غنائم كثيرة ، لأن تلك المنطقة تشتهر في الشرق بغناها الفاحش ، ولكن القوات عانت معاناة كبيرة في مسيرتها ، ولم تكد تصل إلى منتصف الطريق حتى تمردت ، ورفضت الذهاب إلى أبعد من ذلك : فدفع ذلك الوضع الباشا إلى الأمر بإرسال تلك القوات إلى مكة المكرمة ، ومن هناك إلى مصر ليستبدل بها قوات أخرى جديدة.

وإن هذه الحملة الفاشلة أعطت بفشلها محمد علي / ٢٠٠ / فرصة لإظهار حقده وممارسة قسوته على بعض أحد شيوخ القبائل الذين مكّنته الخيانة من القبض عليهم. فأمر حرسه الخاص بقتله أمام عينيه شر قتلة ؛ إذ طلب من حراسه الخاصين أن يجرّحوه ببطء بسيوفهم لكي يطول عذابه ، فقضى المقدام العربي المسمى بخروش (١) نحبه دون أن تصدر عنه أنة ألم واحدة. أمّا محمد علي الذي كان راضيا عن الانتصار الذي حققه في بسل ، وارتأى أنه حقق ما يكفي لرفعة مجده ، ولمصلحته عند ما خلّص المدينتين المقدستين ، فإنه عرض شروطا للصلح على عبد الله بن سعود ، وذهب إلى المدينة المنورة لانتظار النتيجة التي ستسفر عنها عروضه السلمية. وكان طوسون باشا قد سبق والده إلى المدينة المنورة ، وكان حين وصول أبيه في منطقة القصيم ؛ وهي إحدى مناطق النفوذ الوهابي ، لإبرام سلام باسمه مع أمير الدرعية ، وفي هذه الأثناء كان محمد علي الذي لم يدعم ابنه لا بالمال ولا بالرجال يبحر ثانية وبسرعة إلى مصر التي كان يرى أنها تمر بفترة حرجة ، وهي مهددة بأن يهاجمها أسطول الكابتن باشا. وعند ما وصلته معاهدة الصلح التي أبرمها ولده ، لم يرفض الموافقة عليها ، ولكن غموض لغته أثبتت لأقل الناس بصيرة أن له مطامع مستقبلية في الجزيرة العربية. وتحقق ذلك في عام ١٨١٦ م عند ما قام بإرسال ابنه البكر إبراهيم باشا مع جيش جديد ، هدفه الاستيلاء على

__________________

(١) في الأصل Bakroud والصواب Bakrouch انظر : مواد لتاريخ الوهابيين ، الترجمة العربية ، موثقة سابقا ، ص ١٨٣ ـ ١٨٤.

٢١١

الدرعية ، وتقويض / ٢٠١ / دعائم الحكومة الوهابية تماما. وقد أبدى إبراهيم في هذه المناسبة شجاعة وكفاءة لا يمكن إنكارهما ، وأظهر حزما تكلل بالنجاح ، واستطاع أخيرا في سبتمبر (أيلول) ١٨١٨ م بعد سنتين من الجهد المستمر ، والنضال بلا هوادة ، الاستيلاء على الدرعية (١) التي هدمها رأسا على عقب ، وأجبر السكان على البحث عن ملجأ في مكان آخر. وأخضع نجدا كلها ، واستطاع بفضل مساعدة باشا البصرة أن يصل بجيشه الظافر إلى ما وراء جبل شمر باتجاه بغداد.

لقد دافع عبد الله بن سعود عن عاصمته بتصميم كبير ، وشجاعة نادرة ، ولكنه لم يلق في دفاعه دعم السكان الذين أنهكهم الحصار الطويل ، وثبط هممهم ، والذين كانوا يفضلون الحظوظ التي سيوفرها لهم الاستسلام ، على الويلات التي سيجرها عليهم هجوم إبراهيم باشا ، ولكن تفكيرهم بذلك يعني أنهم يجهلون طبائع الأتراك. لم يعد عبد الله يستطيع الاعتماد إلّا على حرسه الخاص المكوّن من أربع مئة عبد أسود كانوا مستعدين للموت حتى آخر رجل منهم دفاعا عنه. ولمّا فقد كل الآمال كان باستطاعته الفرار والالتجاء إلى قلب الصحراء بانتظار أيام أفضل ؛ ولكنه كان يفضل الاستسلام لأعدائه ، والاعتماد على أريحية المنتصر ، كما لو أن التركي يتمتع بأي قدر من الأريحية! وبعد بضعة أيام من الاستعدادات والتردد سلم نفسه بإرادته لإبراهيم باشا الذي كان لا يزال في ريعان الشباب ، واستقبل عبد الله بن سعود في خيمته باحترام كبير / ٢٠٢ / : «وقال له مواسيا : إن الرجال العظام يعانون صروف الدهر ، وإن باستطاعته الاعتماد على عفو السلطان».

__________________

(١) حطم إبراهيم باشا الدرعية تماما سنة ١٨١٨ م / ٨ ذي القعدة ١٢٣٣ ه‍ ، وفي سنة ١٨٢١ وكانت سيطرة المصريين تامة على الحجاز ، بينما ظلت نجد أقل أهمية بالنسبة إلى المصريين ؛ وهكذا تمكن ابن عم لسعود بن عبد العزيز هو (تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود) أن يقود ثورة اختار الرياض لتكون عاصمة له وظلت كذلك حتى اليوم. انظر : الحركة الوهابية في عيون ... ، موثق سابقا ، ص ٦٩ ، الحاشية (١٦).

٢١٢

لقد كانت النهاية التي آل إليها هذا المشهد فظيعة. أرسل عبد الله إلى القاهرة ، ومعه حاشية كبيرة ، ومن القاهرة إلى إستانبول ، وقد عرف عبد الله هناك عفو محمود الذي كان حينئذ السلطان. لقد طيف بعبد الله إبّان يومين في كل شوارع المدينة ، وفي اليوم الثالث تم قطع رأسه في ساحة القديسة ـ صوفيا ، وتركت جثته للدهماء لكي تروي غليل تطرفها ، وتبلغ ثأرها من جثمانه الذي يبعث على الحزن.

لقد حدث هذا الحدث الفاحش والمقيت في نهاية عام ١٨١٨ م. أما أسرة عبد الله فقد بقيت في مصر ، ونشأ أولاده ، كما ذكرت سابقا ، في رعاية محمد علي. ولم ينهض الوهابيون أبدا من كبوتهم التي أدت إلى خراب عاصمتهم ، وأسقطت حكومتهم. ولكن ، وإن لم يعد لهم نفوذ سياسي ، ولم يعودوا قوة مستقلة ، فإن عددهم ظل كثيرا في الجزيرة العربية ، وخصوصا في الجنوب حتى حدود مسقط ؛ ويكادون يسيطرون وحدهم على صحراء نعمان الشاسعة الواقعة على مسيرة خمسين يوما من مكة المكرمة / ٢٠٣ / وقد كانوا يدفعون ، أو ينبغي عليهم أن يدفعوا ، ضريبة سنوية قدرها عشرة آلاف تلري Talaris. لقد كانوا على الدوام يدينون بالطاعة لزعيم هو أحد أفراد الأسرة السعودية ، وآخر من علمت به من زعمائهم هو فيصل (١) ، قريب خالد بك ، ابن أو حفيد لفيصل (٢) الذي كان يقود الوهابيين في يوم بسل المشؤوم. وهاجرت بعض الأسر الوهابية إلى سواحل بلاد البربر ، ما زالوا حتى اليوم ، وخصوصا في ناحية طرابلس ، يشكلون تجمعات محترمة لصرامة طباعها (٣) ،

__________________

(١) فيصل بن تركي الذي امتدت فترة حكمة الأولى من سنة ١٨٣٤ م إلى سنة ١٨٣٨ م / ١٢٥٠ ـ ١٢٥٤ ه‍ ، والثانية من ١٨٤٣ م ـ ١٨٦٥ م / ١٢٥٩ ه‍ ـ ١٢٨٢ ه‍.

(٢) فيصل هذا الذي يشير إليه المؤلف هو فيصل بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود أخو عبد الله بن سعود آخر أئمة الدولة السعودية الأولى ، وهو ابن عم لفيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود الذي أشار إليه المؤلف بأنه آخر من عرفه من زعماء آل سعود.

(٣) ليس في المصادر أي إشارة إلى هجرة تلك الأسر النجدية إلى نواحي طرابلس الغرب.

٢١٣

التي تذكر بأخلاق المرابطين في أوروبا الشمالية.

ونستطيع بعد ذلك القول : إن الحكومتين الحقيقيتين المستقلتين في الجزيرة العربية ، زالتا الواحدة تلو الأخرى ، بل الواحدة بيد الأخرى ، الوهابيون والأشراف : فالأولى لم تعد إلّا دعوة ، والثانية لم تعد إلّا سرابا. ولم يكن صعبا على الباب العالي أن يستغل تنافسهما ، وأن يبسط سلطته على أنقاضهما. فلو أن أميري مكة المكرمة والدرعية تحالفا بصدق وصراحة ضد عدوهما المشترك ، واتفقا على تسوية مصالحهما الخاصة بعد ذلك ، ولم يكونا متفرقين ، كما فعلا ، في بداية الحرب ، لما استطاع الأتراك أبدا أن يطؤوا أرض الحجاز ، بل لو أنهما بادرا بالقيام ببعض الخطوات ، لما خرج أحد من الأتراك من الحجاز حيا. لو حصل ذلك لكانت الجزيرة العربية مستقلة اليوم ، / ٢٠٤ / ولتخلصت ، وإلى الأبد ، من الطاعون التركي ؛ إن أضاعتهم تلك الفرصة المناسبة يقتضي أن تبدأ من جديد عملية تخليص الجزيرة العربية من الأتراك ، بما يتطلبه ذلك من تضحيات جديدة. وإن الخطأ الرئيسي كان ما قام به غالب الذي لم يكن عليه ، حرصا على مصلحته الخاصة ، أن يتواطأ مع الأجانب ، ولا أن يساعدهم في تنفيذ مخططاتهم. لقد أخل في ذلك الظرف بالحنكة التي كانت أعماله حتى ذلك الوقت تدل على تمتعه بها ، ويحق لنا أن نعجب من ذلك ، لأنه في الحق لم يكن الإنسان بحاجة إلى كثير من الحكمة النافذة ليتوقع النتائج النهائية لتصرفه الغامض ، وغير الحكيم. لقد خسر كل شيء في سعيه لإنقاذ كل شيء ، لقد أسقط بسقوطه العقبة الوحيدة (١) التي كانت تستطيع بمساعدته وقف عدو وطنه ، والحفاظ على وطنيته.

__________________

(١) يقصد الدولة السعودية الأولى.

٢١٤

الفصل التاسع

من جدة إلى الطائف

في يوم ٢٢ فبارير (شباط) جاء مصطفى أفندي ، وكيل الشريف الأكبر ليقول لنا إن الهجن والرجال الذين أرسلهم الأمير لمرافقتنا إلى الطائف قد وصلوا. لقد تلقى الأمر بمرافقتنا ، وبألّا يتركنا إلّا عند عودتنا إلى جدة ، رجل ذو اعتبار في البلاد ، وشريف ، وحاكم مدني أو وال لمكة المكرمة / ٢٠٥ / لقد كان ذلك أكثر من مجرد اهتمام ، إنه شرف استثنائي بسبب أهمية الشخصية. كان اسم ذلك الرجل هو الشريف حامد الذي زارنا بعد بضع ساعات من وصوله ، يرافقه خمسة أو ستة من العرب ، يرتدون ثيابا جميلة ، وهم مدججون بالسلاح. كان يلبس وشاحا كبيرا أبيض ، وجبّة أرجوانية ، ويلتمع في حزامه يطقان مزخرف. كان هو وحراسه حفاة ، ولم أره أبدا يلبس حذاء. كان عمره سبعة وعشرين عاما ، ولون بشرته أسمر داكنا ، وكان له عينان واسعتان سوداوان تشعان حيوية ورقة. وكان لأسنانه بياض ساطع ، وفي صوته رنة الشباب ، ونداوة الفتوة ، وكان له ابتسامة ظريفة. استقبلناه بما يليق بمقامه ، وبمنصب الأمير الذي أرسله ؛ ولكنه طوال الزيارة لم ينبس ببنت شفة ، وليس ذلك مستغربا في الشرق حيث لا نتكلم عند ما لا يكون لدينا شيء لنقوله.

مع ذلك ، استغربت صمته ، بل إنه ، أكثر من ذلك ، أغاظني. هل كان ذلك خجلا أو عجرفة؟ ولست أدري إلى أي من السببين (الخجل أو العجرفة) أرجع ذلك الصمت المتمكن. وكان حكمي عليه في إطار الشك قاسيا ،

٢١٥

وأعترف أن الانطباع الأول كان بعيدا كل البعد عن أن يكون إيجابيا.

زرناه في اليوم التالي في بيت مصطفى أفندي حيث كان يقيم ، ووجدنا المنزل يعج بالعرب الذين سارعوا للتسليم على شريفهم. واستقبلنا بأدب جم / ٢٠٦ / ودون أن يصل به الأمر إلى الانفتاح ، فإنه كان أقل صمتا مما كان عليه في اليوم السابق.

جاءت الشيشة والقهوة وتلاها الشراب الذي تمّ تقديمه في كؤوس كبيرة مذهبة ، وقام بعد ذلك بعض خدم المنزل بصبّ ماء الورد على أيدينا وعلى ثيابنا ، وهم يفعلون ذلك لمن يريدون إكرامهم ، وفي نهاية الزيارة فقط. وحدد يوم المغادرة بعد صلاة العصر من اليوم نفسه.

لقد سمح القنصل الفرنسي بناء على طلبي للسيد دوكيه ، موثق العقود والمترجم في القنصلية بمرافقتي ، وقد كنت مسرورا بذلك. وجدت في دوكيه مرافقا يسارع لأداء الخدمات ، مرهفا ، ومترجما متمكنا من لغة البلد المستخدمة والرسمية. كان عليّ ، لو أنه لم يكن موجودا ، الاعتماد على رفيق رحلتي ، وكنت أفضل ألا أفعل ذلك. ولمّا كان هذا الأخير يتكلم العربية لأنه كان دائم السفر إلى الشرق منذ عدد من السنوات ، وكان يزعم لنفسه خبرة عميقة بالناس والأشياء. تركت له منذ انطلاقنا من القاهرة الإدارة المادية لقافلتنا الصغيرة ، ومع أنه كان سيىء الإدارة ، وأبدى من التكبر أكثر مما هو منتظر ، فإنه في هذا اليوم استنفد صبري وصبر الشريف حامد ، ناهيك عن السيد كول ، قنصل بلاده الذي عيل صبره.

كان علينا أن ننطلق عند العصر / ٢٠٧ / ، وعند ما حلّ العصر لم يكن شيء جاهزا ؛ مع أنه لم يكن علينا أن نحمل إلّا أمتعتنا الضرورية لاستعمالنا الشخصي ، ولو فعلنا غير ذلك لعدّ ذلك إهانة للأمير المضيف الذي كان يعاملنا معاملة في غاية النبل ، ويود أن يوفر لنا كل ما نحتاجه. باختصار ، لم ننطلق إلّا عند المغرب بعد أن تبدى لي أننا لن ننطلق أبدا. ولو حصل ذلك لكان الأمر خطيرا : لأنه كان من المهم أن ننطلق في يومنا هذا ، الذي لم يكن اختياره عشوائيا ؛ فقد كان يوم خميس ؛ وهو أكثر أيام الأسبوع مناسبة لبدء

٢١٦

الأسفار في نظر المسلمين ، فالثلاثاء يوم مشؤوم ، والعرب لا تحب السبت لأنه يوم اليهود الذين يحتقرونهم كل الاحتقار. أما الأحد والاثنين فمن الشائع أنهما يومان مباركان ، والأربعاء تستوي الأمور فيه. وأما يوم الجمعة فهو يومهم المقدس ، وهم يسافرون راضين بعد صلاة العصر (١).

كانت القافلة تتكون كما يلي : كاتب هذه السطور ، إن كان من المناسب أن يبدأ الإنسان بنفسه ، ثم رفيق رحلتي ، والسيد دوكيه ، وستة من الخدم ، بينهم أوروبيان ؛ بلجيكي وطباخنا غاسبارو ؛ ثم الشريف حامد مع أحد أقربائه ، وبعدهما أحمد حمودي رئيس جمّالة الشريف الأكبر ، ناهيك عن اثني عشر عبدا أو خادما من خدم الشريف ، يلبسون ثيابا جديدة ، وهم جميعا مسلحون بالرماح / ٢٠٨ / وبالخناجر ، ولم يكن معهم أسلحة نارية. ورأينا من المناسب ألا نحمل أسلحتنا معنا لكي لا يبدو أن مثقال ذرة من الحذر قد خطر ببالنا : لأن المرافقة التي أرسلها الشريف كانت في نظرنا تكفي لحمايتنا ، ولمّا كنا ضيوفه ، فإنه لم يكن مسموحا لنا أن نتوقع حدوث أي حدث سيىء. لقد أرسل ثلاثة عشر جملا وهجانا كانت كافية لحمل كل من أشرت إليهم ، لأن المرافقين يمشون على الأقدام ، ويستطيعون عند الحاجة أن يصعدوا خلف جماعتنا.

إن الهجان الذي خصّص لركوبي كان الركوب المفضل لدى الشريف الأكبر ، وكان يستحق هذا التفضيل لرقة مظهره ، وحسن طبعه ؛ كان اسمه : سحابة. أمّا هجان رفيقي فكان اسمه : أم القصب ، وكان لا يقل في شيء عن ركوبي ، وكان يمتاز منه بأنه ثاقب النظر في الظلام ؛ لذلك كان الأمير يمتطيه في الليل عادة. كانت أرحلنا رائعة ، مزينة بأنواع من الزينة من كل الألوان ، طرزتها بالحرير والصوف المزين بالفضة يد صناع ، وكانت الأرحل تغطي الحيوان تماما على الرغم من ضخامته. وكان قربوسا الرحل من الفضة أيضا ،

__________________

(١) ليس ما ذهب إليه المؤلف في هذا التقسيم بصحيح ؛ بل الصحيح الذي لا مراء فيه عند أهل العلم أن السفر مستحب في يومي الاثنين والخميس ، مع جواز السفر عند الضرورة في أي يوم حتى يوم الجمعة نفسه.

٢١٧

أما الزمام فكان من الجلد المضفور بمهارة. كان لنا ، ونحن على ظهور الهجن تحفّ بنا المرافقة ، والشريف يقودنا ، / ٢٠٩ / هيئة مؤمنين حقيقيين يتجهون إلى الحج. وعند ما رآنا أحد الأطفال الذين كانوا على قارعة الطريق الذي كنا نمر به أخطأ وقال لرفاقة : «انظروا ، إنهم ذاهبون إلى مكة المكرمة ـ فأجابه أحد الصبية ممن هم أكثر بصيرة ، كيف ذلك؟ إنهم نصارى».

ولمّا كان خروجنا من باب مكة المكرمة فإننا عبرنا معسكر النوبيين ، وأرض المعرض المقام خارج الأسوار ، ثم يأتي بعد ذلك صفين من الحوانيت والمقاهي المشبوهة المنتشرة على جانبي الطريق لمسافة كيلومتر. لقد رافقنا عدد من معارفنا منهم : السيد كول على حصان ، ومصطفى أفندي على بغلته ، والإخوة ساوة ، وآخرون أيضا ، ظلوا برفقتنا حتى الرغامة المقهى الأول من اثني عشر مقهى منتشرة على الطريق من جدة إلى مكة المكرمة. شربنا في الرغامة قهوة الوداع ، وكان الليل قد هبط عند ما تفرقنا. كنا في قلب الصحراء ، وكانت الرمال تجعل القافلة تتقدم بخطوات بطيئة ، حتى إن شيئا لم يكن يعكر سكون الليل. وقابلنا في الظلمات قافلة طويلة من الجمال كان الصمت يخيم عليها ، ولم يكن هناك ما يشير إلى مرورها.

بدأنا بعد بضعة أميال نرتقي أحد الشعاب المحصورة بين جبلين منخفضين ، وكانت النجوم تلتمع على قمتيهما كأنها النيران. وكان هناك في أسفل السفح المقابل مقهى البياضة ، وهو ثاني مقاهي الطريق. وكنا ننوي الاستمرار في المسير حتى المقهى الثالث ، بل أبعد من ذلك ، / ٢١٠ / ولكنني أصبت بنوبة من الحمى مفاجئة وعنيفة ؛ مما جعل من المستحيل المضي أبعد من ذلك ، واضطرت القافلة إلى التوقف في المقهى الثاني لقضاء الليل ، ولكن ليس من دون أن يقوم الشريف بنشر حراس من حولنا لتأمين الحماية. لم نحمل معنا خيامنا ، وكان لي بدلا عنها حصيرة نصبت على أربعة أعمدة ، واستلقيت فيها على سجادتي ينتابني القلق من الظرف الطارىء ، ويتملكني الخوف من أن يكون للوعكة التي أصابتني عواقب غير محمودة ، ويظن العرب أن سبب مرضي يعود إلى شرب فنجان من القهوة مباشرة بعد

٢١٨

تناول قطعة من البطيخ الأحمر ، وهذا في رأيهم أمر إن فعلناه فلا نتجاوزه بسلام. ولئن كان ذلك السبب الحقيقي لما أصابني أم لا ، لقد شفيت خلال الليل ، وفي الصباح لم يعد لمظاهر الحمى أي وجود.

ولمّا لم تكن الهجن تحمل إلّا راكبيها فإنها سرعان ما أصبحت جاهزة للانطلاق ، ولمّا أشرقت الشمس وجدتنا منطلقين. كان منظر القافلة في غاية الروعة. كان أحمد رئيس الجمّالة على رأس القافلة ، وهو يركب هجانا رائعا. ثم يأتي بعده الشريف حامد الذي كان يتسلح بالمترك ؛ وهو عبارة عن قضيب قصير معقوف يستخدمه العرب لتوجيه الجمل من على الرحل. وكان الأشراف وحدهم الذين يباح لهم في الماضي حمله. كنت إلى جانب الشريف أتجاذب معه أطراف الحديث بوساطة السيد دوكيه الذي كان ينقل إليه تساؤلاتي ويترجم لي أجوبته. وكان أصحابنا يتبعوننا على جمالهم ، وكان رجال المرافقة يسيرون على أقدامهم سواء كانوا مستطلعين أم مناوشين ، / ٢١١ / مرة في هذا الجانب وأخرى في ذاك.

تابعنا على تلك الحال طريقنا خلال عدد من الساعات ، نسير في سهل رائع تحيط به الجبال من كل الجوانب ، وليس فيه من الزرع إلّا العوسج وبعض أجمات الأشواك. كان يعسكر في هذا السهل خيّالة كرد عثمان أغا. رأينا من بعيد الخيام البيضاء ، والخيول ترعى بحرية تلك الأشواك.

كانت القافلة تتقدم بهدوء ، تحت شمس لطيفة ، وفجأة ، وبناء على إشارة من الشريف حثت الخطى ، واستمر الجري المصحوب برنين الأجراس نصف ساعة قطعنا خلالها بلدات كثيرة. ولم يكن المشاة أقل سرعة في الجري من الهجن ، ولم يتأخروا عنها خطوة واحدة. ولم يخبرنا الشريف أبدا سبب تلك المناورة السريعة ، ولكنني أحاول تخمينه : إنه حالة العداء التي تسود بين العرب والأتراك ، ولما كان الشريف حامد لا يجهل الحقد الذي يكنه السنجق (١)

__________________

(١) عن كلمة سنجق انظر : المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية ، موثق سابقا ، ص ١٣٦.

٢١٩

(عثمان أغا) للشريف الأكبر ، فقد كان حامد يخشى أن يتعرض هو نفسه أو نحن لبعض الشتائم من الباشي بوزوق. ولكن الحركة التي فرضها الحذر عليه تمّ تنفيذها فجاءة وكادت تكون قاضية بالنسبة إليّ ؛ لأنني لو لم تتوافر لي الفرصة لاعتياد ركوب الهجان إبّان رحلة سيناء لكنت انطرحت على الأرض. وصلنا نخبّ إلى مقهى حدّة أكبر المقاهي الأحد عشر كلها ، وتقع تقريبا في منتصف الطريق بين جدة ومكة المكرمة. ويتألف مقهى حدّة من / ٢١٢ / سقيفة من أغصان الأشجار يحيط بها عدد من السقائف الصغيرة ، وكل ذلك يتشرف بوجود مسجد في الجوار. نجد في هذه المقاهي حليبا وأرزا ، بل إننا وجدنا خروفا قدمناه هدية للرجال الذين يرافقوننا فأتوا عليه بسرعة كبيرة. كان الحر شديدا ، فجلسنا في ظل السقائف نستريح بضع ساعات ، ولم ننطلق إلّا بعد العصر. كنا حتى الآن نسير بخط مستقيم نحو الشرق باتجاه مكة المكرمة التي كنا نسير على طريقها ، ثم غادرنا الطريق فجأة ، وانحرفنا نحو الجنوب لنتفادى المرور في المدينة المقدسة ، لأنه محظور على غير المسلمين ليس دخولها فقط ، وإنما رؤيتها ولو من بعيد. إذا ، كان ينبغي الالتفاف بمهارة حتى لا نسترق النظر إليها ، ونحن نعلم أن الحظر يشمل المدينة المنورة أيضا ، بل هو في المدينة المنورة أشد صرامة لأن أهلها أكثر تعصبا وشدة. ولا زال الناس يتحدثون بسخط عن ذلك الطبيب الإيطالي الذي قضى فيها أيام حرب محمد علي والوهابيين أربعة أشهر كاملة بحماية خاصة من محمد علي. لقد أقيمت حول مكة المكرمة أعلام بين كل مسافة وأخرى لتحديد حدود الأرض المقدسة والمحرمة على غير المسلمين ، وحيث لا يجوز أيضا إراقة دم الإنسان أو الحيوان ؛ فالصيد محرم فيها ، ولا يمكن أن نذبح ديكا. إن التعاليم بهذا الخصوص صارمة ، ولم / ٢١٣ / يتركونا نلمح تلك الأعلام الخطرة خوفا من أن تمتد النظرة العابرة إلى أبعد من ذلك. إلّا أنه لم يكن بالإمكان أن يخفى عنا جبل النور (١) ، وهو مخروط

__________________

(١) يقع إلى الشمال الشرقي من مكة المكرمة وفيه غار حراء الذي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعبد فيه ، وفيه أوحي إليه ، وكان قبل الإسلام يسمى جبل حراء. انظر : رحلات ـ

٢٢٠