رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

شارل ديدييه

رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٦

المدعوين مقام كل الأشياء الأخرى. كانت الشوكات من الحديد ولها قبضات من العاج ، والملاعق كانت من المحار المرصع بزخارف ذهبية.

كان العشاء يزخر بأنواع الأطعمة المحلية. جاء أولا الخروف الذي يعدّ من عادات الضيافة ، كان محشوا بالرز ، واللوز والفستق. ثم تلته أوراق العنب المحشوة ، والكباب ؛ وهو قطع من اللحم مربعة ومشوية على السفود ، وعصائر الورد المخثّرة المطبوخة مع صدور الفراريج أو الخراف ، أتت بعد ذلك كله تشكيلة منوعة من الحلويات تسمى «الفطير». ناهيك عن الأشياء الأخرى العجيبة ؛ كان كل ذلك متبلا بالأعشاب العطورية المقطعة في الخل ، وله صلصة بالكريما المطيبة بالتوابل ؛ وهو خليط كان يثير الرعب لدى بدر الدين حسن ؛ الحلواني المشهور في «ألف ليلة وليلة». ثم أعلن تقديم البيلاف (١) نهاية العشاء الذي جرت مراسمه بسرعة كبيرة.

كان الساقي / ٢٣٩ / يحمل دورقا ، أو قلّة ، مملوءة بالماء البارد يطوف به في كأس من الفضة يشرب الجميع منها. ولست بحاجة للقول : إن النبيذ لم يكن موجودا ؛ ولكن القائمين على خدمتنا كانوا يعرفون عادة المسيحيين ، فقالوا لنا بلطف : إنه لا ينبغي أن نخجل من ذلك إذا كنا نحمل معنا ، وقد كنا في واقع الأمر قد اتخذنا الاحتياطات لذلك ؛ إلّا أننا لم نشربه إلّا في غرفنا الخاصة احتراما لمستضيفنا.

ولمّا انتهى الطعام ، عدنا إلى المجلس لشرب القهوة والتدخين ، وفي حوالي العاشرة قادونا إلى الحر ملك في الطابق الأول حيث أعدت لنا مبالغة بالاهتمام أسرّة أوروبية. وكانت النساء قد غادرن المنزل في الصباح ليخلين لنا المكان ، ومع أنهن غائبات فإن كل شيء في البيت كان يذكّر بهن. كان هذا البيت من أجمل بيوت المدينة ، ويمتلكه تاجر غني من أصل هندي اسمه محمد سيد شمس (٢) ، وكانت أعماله في مكة المكرمة ، إلّا أنه كان في تلك الفترة

__________________

(١) البيلاف : طعام شرقي من أرز ولحم وتوابل.

(٢) قال الدكتور سليمان بن صالح آل كمال في تعقبه الدكتور آل زلفة ، موثق سابقا : «إن ـ

٢٤١

يسكن الطائف ، ووضع بيته تحت تصرف الشريف من أجلنا ، وذهب مع أسرته كلها إلى منزل آخر ، وكان في الأسرة ثلاثة أجيال ابنه عبد الله ، وحفيده عبد القادر الذي يذكّرني ، سنه ، وصورته ، وثيابه ، بفتى آخر يحمل الاسم نفسه ؛ إنه ابن فراج يوسف في جدة ، وقد كان هنديا مثله.

إن اسم عبد القادر الذي اكتسب شهرة واسعة في فرنسا هو اسم ولي من أكبر / ٢٤٠ / أولياء المسلمين ، وهو شائع جدا في الشرق. كانت الأجيال الثلاثة في استقبالنا عند وصولنا. ولكن ابن محمد شمس وحده هو الذي لبى دعوتنا للعشاء ، بينما ذهب الجد بسبب كبر سنه ، والحفيد بسبب صغره إلى النوم في ساعة مبكرة. وتناول الشريف حامد طعام العشاء معنا ، ولكن الشريف سليما الذي أنجز مهمته استأذن منا للذهاب إلى منزله للاستراحة. وباستثناء واحد أو اثنين من خدم المنزل ، كان الجميع قد قدموا من بيت الشريف الأكبر الذي تخلى لنا عن طباخه الخاص ، واستغنى عنه طوال مدة إقامتنا في الطائف : لقد كان فنانا حاذقا ، أصله من إستانبول ، وأخذ عنه غاسبارو عددا من وصفات الطبخ المحلية ، وحضرها لنا فيما بقي من الرحلة. وكانت طاولتنا في كل يوم عامرة بأنواع المآكل التي كانت في اليوم الأول.

وجاء في اليوم التالي القائمون على خدمتنا يتلقون رغباتنا فيما نود أن يقدم لنا في الفطور كما لو أننا كنا في بيوتنا ، ويقوم على خدمتنا خدمنا الخاص. وكان جوابنا ، أننا لا نأكل في الصباح إلّا قليلا ، فقدموا لنا في صحون صغيرة الحجم وجبة طعام خفيفة من الزبدة الفاخرة ، والجبن الطازح القليل الملح ، والفواكه ، والزيتون ، والعسل اللذيذ ، وتشكيلة من المربيات

__________________

ـ هذا البيت موقعه في محلة واسط (أي وسط القرية) بزقاق الخميس ، مبني من الحجر ويتألف من عدة طوابق. أما بيت شمس الدين فهم من الأسر المكية الثرية في ذلك العهد ، برز منهم بعض العلماء ، وكانوا يمتلكون مكتبة ضخمة. أورد ذلك عنهم الشيخ أبو الخير عبد الله مرداد رحمه‌الله في كتابه القيم (المختصر من نشر النور والزهر) وينسب إليهم في الطائف مسجد شمس بمحلة السليمانية. وذكر غير ذلك. وانظر : بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ١١٩ ـ ١٢٠.

٢٤٢

من كل الأنواع تم تحضيرها في منزل الشريف الأكبر بعناية نسائه. إن الرقيق في الشرق ، وخصوصا الحبشيات ، ماهرات جدا في هذا المجال ، وتشرف السيدات / ٢٤١ / عادة على عمليات الإعداد المهمة. وهذه واحدة من أكثر وسائلهن براءة لتمضية الوقت ، وهو أمر مهم لهؤلاء السيدات اللواتي لا يقمن بأي عمل. وتنافس الحريم في هذا المجال بعض الأديرة الإيطالية حيث تكشف الراهبات عن مواهب جليلة في هذا النوع من الأعمال ، ويتمتعن بشهرة مستحقة. وإن راهبات دير لامارتوراناMartorana في بلرم (١) Palerme ، وأخريات غيرهن ، يتركن ذكريات لطيفة في ذاكرة كل المسافرين. وإن للرهبان اختصاصاتهم أيضا ؛ إذ يصنع كثير منهم ، كما هي حال رهبان دير غرونوبل الكبيرLa Grande ـ Ghartreuse de Grenoble ، ماء ورد لا نظير له.

يقيم الشريف الأكبر في قصر يبعد نصف ساعة عن المدينة ، بناه في عمق الصحراء ، وكان لا يكاد يغادره. وأرسل لنا خيولا لتحملنا إليه. كان اسم حصاني «عسير» باسم المنطقة التي جلب منها ، وكان فحلا رائعا أسود اللون ، يشتعل حيوية ونشاطا ، وكان وديعا ، شأنه شأن الخيول العربية كلها ، ويستطيع الطفل ركوبه. أمّا السرج الذي كان مكسوا بالصوف الأزرق ، وموشى بخيوط ذهبية رفيعة ، حسب الطريقة التي يستخدمونها في إستانبول ، فقد كان ذا ثمن باهظ وروعة تليق بالأمراء حقا.

كان الجندي الانكشاري يسير في مقدمة الموكب ، وهو يحمل عصاه الطويلة ذات المقبض الفضي ، وكان يرافقنا عدد كبير من الحراس ؛ منهم الفارس والراجل. وكان سائس خيل الشريف يسير أمامي ، وهو يرتدي الثياب الخاصة بالمناسبة. إن لسائسي الخيول عند العرب منزلة عالية ، وتنحصر وظيفتهم الأساسية في الجري / ٢٤٢ / على أقدامهم أمام حصان السيد أو هجانه ، ومهما كانت سرعة الحصان أو الهجان فإنه لا يرتضي لنفسه أن

__________________

(١) بلرم ، بالرمو بالإيطالية : مينة في جزيرة صقلية ، وهناك كنيسة تحمل اسم لامارتورانا تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي ، ورمّمت في القرن السابع عشر.

٢٤٣

يسبقاه. وقد اعتاد السائس الذي أتحدث عنه أن يسير أياما طويلة أمام هجان الشريف الأكبر.

إن قوة هؤلاء الرجال عجيبة ، وإن لهم قدرة على السير خارقة ، ورئتين من فولاذ. ويضرب الناس مثلا في القوة والسرعة بأحد ساسة محمد علي الذي جرى بلا انقطاع أمام هجان الباشا طوال الطريق من القاهرة إلى السويس ، ثمّ سقط ميتا عند الوصول. عبرنا السوق (البازار) ، حيث كنا بالطبع محل اهتمام فضول العامة. لقد كنا أول الأوروبيين الذين قدموا إلى الطائف علنا باستثناء قنصل فرنسي مريض جاء إلى الطائف للاستشفاء بدعوة من الشريف الأكبر. وكان فيها أيام حرب الوهابيين عدد لا بأس به من الأوروبيين من أطباء أو غيرهم في خدمة باشا مصر (١). وقد جاء إليها بسبب أعمالهم المتنوعة عدد من الأوروبيين في ذلك العصر ، ولكنهم كانوا جميعا يرتدون زي العثمانيين ، ويختلطون بهم. أما أنا فقد كانت هويتي المسيحية شبه ظاهرة لأنني احتفظت بالزي الأوروبي ، باستثناء الطربوش ، وارتديت فوق الزي الأوروبي لكي أبدو أكثر احتشاما ، عباءة فضفاضة سوداء كنت قد اشتريتها في جدة.

خرجنا من المدينة عبر باب الريع ، وقدم لنا الحرس التركي / ٢٤٣ / التحية العسكرية ، كما حصل عند وصولنا. وما كدنا نتجاوز أسوار المدينة حتى وجدنا أنفسنا نسير بين خرائب ضاحية قديمة تهدمت ، ولم يعد بناؤها أبدا (٢) ، ثم تبدأ الصحراء بعد ذلك ، ويقوم غير بعيد على قارعة الطريق مسجد

__________________

(١) محمد علي ، ولعل ديدييه يشير هنا إلى تاميزييه الذي كان ضمن جيش محمد علي الذي دخل الطائف في سنة ١٨٣٤ م ، وقد وصفها تاميزييه وصفا مفصلا يبدو أن ديدييه قد اطلع عليه ونهل منه ، انظر عن تاميزييه ورحلته كتاب جاكلين بيرين ، اكتشاف ... ، موثق سابقا ، ص ٢٥٣ ـ ٢٦٢. ومقدمة الدكتور محمد بن عبد الله آل زلفة لترجمته الجزء الثاني من رحلة تاميزييه المعنونة : رحلة في بلاد العرب ، الحملة المصرية على عسير ١٢٤٩ ه‍ / ١٨٣٤ م ، الرياض ، ١٤١٤ ه‍ / ١٩٩٣ م. ووصف الطائف في رحلة تاميزييه (النص الفرنسي) ، ج ١ ، ص ٢٧٠ ـ ٣٥٣.

(٢) ذكر الدكتور آل كمال في مقاله الموثق سابقا ، أن هذه الضاحية هي قرية السلامة ـ

٢٤٤

منفرد ترتفع فوقه مئذنة بيضاء.

إن لمظهر قصر الشريف بعض الأناقة ، ولا ترى العين فيه أي تناسق. وهو ليس ضخما ولا أنيقا ، إنه خليط غير متناسق من الأبنية المتجاورة بدون نظام ، والتي أقيمت بلا مخطط ، ولكن يحيط بها سور واحد ، ومن المؤكد أنه واسع من الداخل إذا احتكمنا إلى العدد الكبير من السكان الذين يضمهم بين جنباته.

ليس للشريف الأكبر إلّا امرأة واحدة شرعية ، كما هي العادة اليوم بين المسلمين ، ولكن حرمه يعج بما يقارب ستين جارية من السود أو البيض ، وعدد لا يقل عن ذلك من الخدم الذكور ، ناهيك عما يقارب مئة من الخصيان أو غيرهم مكلفين أعمالا مختلفة. أجهل عدد أبنائه ، إلا أنني لمحت أحدهم وكان حينئذ يبلغ العاشرة أو الثانية عشرة من العمر ، والذي وافته المنية بعد ذلك الحين ، وكان يرتدي ثوبا من الحرير الأصفر. يمتلك الشريف الأكبر ثروة ضخمة ؛ لأنه استرد ثروة أبيه غالب كلها ، ويزعم الناس أن في خزانته مئة مليون فرنك ، ناهيك عن أنه يتلقى منحة سنوية من إستانبول تتجاوز ٤٠٠ ألف فرنك ، ويزعمون أيضا أنه ، وهو يعيد بناء قصر والده الذي دمره / ٢٤٤ / محمد علي ، وجد بئرا مليئة بالذهب أخفاه فيها جده الشريف مساعد.

ولمّا وصلنا إلى القصر كان يجتمع هناك أكثر من ثلاث مئة بدوي ، يرتدون قمصانا زرقاء ، هي لباسهم الوحيد ، وكان أغلبهم قد وضع فوق الثوب على الكتف وشاحا أرجوانيا ، وكانت أحزمتهم من الجلد ، وحمائل سيوفهم مزينة بصفائح الفضة ، وعمامائهم مزينة بالأصداف ، لقد كانوا يشبهون في كل شيء بدو هذيل الذين رأيناهم في جبل كرا ، وكانوا ، مثل أولئك ، يحملون خناجر معقوفة ، ورماحا ، وبنادق من ذوات الفتيلة ، وكانوا جميعا حفاة ، يميلون إلى النحول. ولكنهم كانوا عموما ذوي قامات ممشوقة ، يتمتعون بالرشاقة وكأنّما قدّوا للسير والتعب. وكان بينهم كثير من السود ، الذين لا

__________________

ـ التي تقع في قبلة الطائف من قبل باب الريع.

٢٤٥

نكاد نلحظ سواد العرب أمام سوادهم. اصطف هذا الجيش المتعدد الأعراق على جانبي الطريق لتحيتنا ، ليس كما يصطف الجيش النظامي ، ولكن بنوع من الفوضى التي تسود بين الرجال غير المنظمين. رددنا لهم التحية حسب تقاليد البلد ، دون أن نرفع أيدينا حتى الرأس لأن مثل هذا التقدير لا ينبغي إلّا للأسياد ، أو الأقران الذين نود تشريفهم. إن كل شيء في الجزيرة العربية ، كما في الشرق كله ، له قوانينه المحددة ، وكل شيء يحكمه العرف ، وإن بين أبسط أمور / ٢٤٥ / الحياة فوارق دقيقة ينبغي التقاطها للالتزام بها.

نصعد إلى القصر عبر مدخل له درج مؤلف من سبع أو ثماني درجات ، استقبلنا عنده كلّ من إبراهيم أغا الذي كنا قد عرفناه من قبل ، وكبير الخدم ، وبقية العاملين في بيت الشريف الأكبر. ووجدنا بينهم صديقنا القديم طاهر أفندي الذي كان لباسه الأوروبي يتباين تباينا واضحا مع الأثواب الفضفاضة ، والمخصّرة ، والبهية التي كان يلبسها الآخرون. كان المدخل يعج بالخدم ، وخلعنا أحذيتنا فيه كما تقتضي الكياسة. إن آداب اللياقة في هذه النقطة محكومة بقوانين هي عكس قوانيننا تماما : إن الرجل الذي يأتي المجالس في الشرق منتعلا حذاءه ، حاسر الرأس ، يترك الانطباع الذي يتركه الأوروبي إذا دخل الصالون حافي القدمين والقبعة على رأسه. ولكنني في هذه العادة أرى أن الحق مع الغربيين الذين يكشفون القسم النبيل من جسدهم (الرأس) ويغطون القسم الأدنى (القدمان).

أدخلونا مجلسا صغيرا ، بسيطا كل البساطة ؛ كان سقفه مطليا ، أمّا الجدران الداخلية فقد كانت عارية تماما ، إلّا من حسام تركي رائع ، أهداه السلطان للشريف ، مرصع بالأحجار الكريمة ، وكان معلقا على الجدار وكأنه لوحة. لقد كان الزينة الوحيدة في ذلك المجلس. كان السجاد نفيسا ، / ٢٤٦ / والأرائك من الحرير الأخضر الموشى بخيوط الذهب ، كتلك التي كانت موجودة في المنزل الذي نقيم فيه ، والتي أتت بالطبع من المصدر نفسه.

لم يكن الشريف في المجلس عند ما دخلناه ، وإليكم السبب؟ إن كونه الشريف الأكبر ، وأمير مكة المكرمة يحتم عليه ألّا ينهض لأحد إلّا للسلطان

٢٤٦

الأكبر الذي ينهض هو بدوره له. وإذا أراد الشريف إكرام أحد زواره فإنه يحرص على ألّا يكون موجودا في المجلس عند دخول الزائر ، لكي لا يستقبله جالسا ؛ فهو لا يدخل إلّا بعده ، محافظا بهذه الطريقة على أصول اللياقة ، ومحتفظا أيضا بما يتميز به.

وقد جرت الأمور معنا بهذه الطريقة ؛ لقد خرج بعد لحظات قليلة من الغرفة المجاورة ، يرافقه عدد من الأشراف الذين جلسنا ولجسوا مثلنا ، والشريف أيضا ، على كراس أوروبية كانت ، والحق أقول ، غير مناسبة بعض الشيء في مثل هذا المكان. إن بداية الزيارة في الشرق تكون على الدوام صامتة ، ندخل ، ونجلس ، ونسلّم ، وكل ذلك دون أن ننبس ببنت شفة ، وبعد أن نتناول القهوة ، وليس أبدا قبلها ، يبدأ الحديث بالمجاملات المتبادلة ، وهي على الدوام المجاملات نفسها التي لا يمكن إغفالها ، وإلّا نخالف أصول الكياسة. وما إن انتهى هذا القسم الأول من الزيارة حتى انسحب الأشراف ، وبقينا وحدنا مع الشريف الأكبر ، ونحن ندخن جميعا غلايين طويلة في نهايتها العنبر ، أحضروها لنا بعد القهوة ، من غير أن يمنعهم ذلك من توزيع الحلويات التي تلت القهوة ، والتي كان يطاف علينا بها طوال وقت الزيارة. / ٢٤٧ / كان حسين عبد المطلب (١) بن غالب هو الشريف الأكبر ، وكان شيخا جليلا يبلغ

__________________

(١) كذا سماه ديدييه والمشهور أنه عبد المطلب بن غالب من ذوي زيد تولى الشرافة ثلاث مرات ، الأولى : في أغسطس (آب) ١٨٢٧ م / صفر ١٢٤٣ ه‍ وتخلى عنها في العام نفسه ، وخلفه محمد بن عون ١٨٢٧ ـ ١٨٥١ م / ١٢٤٣ ـ ١٢٦٧ ه‍. وسافر إلى دمشق في عام ١٨٣١ م / ١٢٤٦ ه‍ مع قافلة الحج الشامي ، ومنها إلى إستانبول. والثانية : في عام ١٨٥١ ـ ١٨٥٦ م / ١٢٦٧ ـ ١٢٧٣ ه‍ ، وقد زاره ديدييه إبّان هذه الفترة ، وكان عبد المطلب اتجه إلى الطائف خوفا من تآمر باشا جدة عليه ، ونجد فيما يقوله ديدييه أصداء ذلك الخلاف بين الباشا والشريف. والثالثة : في عام ١٨٨٠ ـ ١٨٨٢ م / ١٢٩٧ ـ ١٢٩٩ ه‍ ، وقد تم في نهاية هذه الفترة أسره في الطائف أولا ، ثم سمح له فيما بعد أن يعيش تحت الحراسة في أحد بيوته الكبيرة في البياضة بمكة المكرمة في الطريق إلى منى ، وبقي تحت الإقامة الجبرية إلى أن مات ـ

٢٤٧

الستين من العمر ، طويل القامة ، نحيلا ، تلمس النبل في تصرفاته ، والتميز في كل جوانب شخصيته. كان لون بشرته غامقا جدا ، يكاد يكون أسود ، وعيناه تتوقدان حيوية ، وأنفه مستقيما ، وله لحية خفيفة ، ومحياه لطيفا جدا. كان يتوشح وشاحا كشميريا ، ويلبس ثوبا أزرق فاتحا ، ويزين خصره خنجر رائع مطلي بالذهب ، تلتمع عليه الأحجار الكريمة التي يخطف لمعانها الأبصار.

بدأت حديثي بأن شكرت له كرم الضيافة الذي خصني به ، وبالإشادة بما قام به الشريف حامد من أعمال ودية تجاهنا ؛ فأجابني الشريف على ذلك بلطف بقوله : إنه اختاره لأنه كان يعرف حق المعرفة أننا سنكون مسرورين منه. كان الشريف قد علم منذ زمن بإزاحة عدوه باشا جدة من منصبه ؛ وإلّا فإنه كان على علم بالشائعات التي تسري بهذا الشأن. لم يكن بالإمكان أن أتقرب إليه بطريقة أفضل مما حدث ، وقد خدمتني المصادفة كما أتمنى. وعلى الرغم من أن العرب يحسنون السيطرة على أنفسهم ، ولا يتركون مشاعرهم تبدو على وجوههم ، فإن وجه الشريف تهلل لهذا الخبر بعلائم الفرح ، وسواء كان يريد أن يبدو ذلك عليه أم لا فإن علائم السرور بدت على قسمات وجهه كلها.

ثم بدأ الحديث بعد ذلك عن الشؤون اليومية ، وعن مطامع روسيا ، وعن التحالف بين فرنسا وبريطانيا / ٢٤٨ / ، وعن موقف أوروبا عموما والنمسا على وجه الخصوص. كان يصغي بانتباه شديد إلى كل المعلومات التي كنت أخبره بها ، وكان يطرح عليّ أسئلة تظهر حسن اطلاعه على الأمور ، وفهمه العميق

__________________

ـ في كانون الثاني (يناير) ١٨٨٦ م / ربيع الثاني ١٣٠٣ ه‍. وهكذا فقد تميز عهد الشريف عبد المطلب بفتراته الثلاث بالخلاف الدائم بينه وبين الولاة العثمانيين. انظر : دراسات من تاريخ عسير الحديث ، د. محمد بن عبد الله آل زلفة ، ط ١ ، الرياض ، ١٤١٢ ه‍ ، ص ٤٥ ـ ٦٢ ؛ وكتاب : عسير من ١٢٤٩ ه‍ ـ ١٨٣٣ م إلى ١٢٨٩ ه‍ ـ ١٨٧٢ م ، دراسة تاريخية ، علي أحمد عيسى عسيري ، مطبوعات نادي أبها الأدبي ١٤٠٧ ه‍ / ١٩٨٧ م ، ص ٢٧٢. وانظر : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ٢٧٦ ـ ٢٧٨ ، ٢٨٤ ـ ٢٨٧ ، ٢٩٤ ـ ٢٩٧.

٢٤٨

للوضع. لقد بدا لي منفتحا بقدر ما هو مستقل ، وإن كان لدي ما آخذه عليه فذلك أنه كان مدنيا أكثر مما ينبغي ، ومتأوربا أكثر من اللزوم. ولعل سبب ذلك أنه قضى أربعة وعشرين عاما من حياته في إستانبول قبل أن يسمح له الباب العالي بالعودة إلى الجزيرة العربية ، وأن يعيد إليه لقب أبيه غالب ، وعلى الأقل ، قسما من ثروة أبيه وسلطته.

لم أنس أبدا ، وأنا أحدثه ، وأستمع إليه ، أنني أتعامل مع عربي ، وليس مع تركي ؛ وأنه لا يستطيع باعتباره عربيا ، أن يرجو صادقا انتصار الجيش العثماني ، بل إنه على العكس تماما كان يأمل اندحار غزاة وطنه ، وأنه باختصار كان في دخيلته أميل إلى الروس منه إلى البريطانيين أو الفرنسيين. وحاولت أن ألمح تلميحات بعيدة وغير مباشرة إلى موقفه الخاص ، وموقف بلده : ولكنه لم يكن يود التنبه إليها ، وظل متمسكا في هذا الخصوص بتحفظ لم يتخل عنه ولو لحظة واحدة. وقد أثبتت الوقائع التالية أنني ، وعلى الرغم من حذره ، وصمته ، استطعت التعرف على ميوله الحقيقية.

كان بكل تأكيد قد بلغت أسماعه أخبار انقلاب الثاني (١) من ديسمبر (كانون الأول) ، وقد بدا كثير / ٢٤٩ / الفضول ليعرف مني حول هذا الحدث تفاصيل شاملة ، لقد أشبعت فضوله بالإجابة عن كل أسئلته ، وبإخباره خلال ساعتين كاملتين ، وباعتباري شاهد عيان ، بالقصة الكاملة تقريبا لتلك الواقعة المعاصرة. ولمّا انتهت زيارتنا الأولى عدنا إلى الطائف بطريقة القدوم نفسها ، ولقينا الاحترام نفسه من البدو الذين كانوا ما زالوا متجمهرين حول القصر ، ومن جنود الحرس التركي على باب المدينة. لقد كنت ، بخصوص الحرس

__________________

(١) في عام ١٨٥١ في فرنسا ، وحدث الانقلاب إثر خلاف بين رئيس الجمهورية الفرنسية الثانية المنتخب بالاقتراع المباشر عام ١٨٤٨ م وهو الأمير لويس بونابرت الذي كان على خلاف مع المجلس الوطني وتمخض الخلاف عن الانقلاب المذكور الذي حمل إلى السلطة دكتاتورا هو نابليون الثالث الذي حول الجمهورية بعد سنة من وصوله إلى الحكم (٢١ ديسمبر ١٨٥٢) إلى إمبراطورية وراثية. ويقول ديدييه إنه كان شاهد عيان على هذا الانقلاب.

٢٤٩

التركي ، مندهشا من أنهم كانوا يقدمون لنا التحية خلال مدة إقامتنا كلها ، وهم تابعون للباشا ، وليس للشريف الأكبر الذي كان يتجنب أي احتكاك بهم. إذا ، لم يكن الشريف هو الذي يأمرهم بأداء التحية لنا ، وأجهل لمن كنت أدين بذلك التميز الذي لم يكن من حقي ، ولا أطمح إليه.

أقيم منزل أسرة شمس الذي نزلنا فيه على نمط منازل مكة المكرمة ، إلّا أنه أكثر صلابة وأناقة ، ويتألف من ثلاثة طوابق. الطابق الأرضي الذي سبق أن تحدثت عن موقعه ، وهو يستخدم في الأحوال العادية لاستقبال الزوار ، ولا تنزل فيه النساء أبدا. أما الطابقان الآخران فيتألفان من غرف ضيقة ، وسيئة الإضاءة ، وهي مخصصة حصرا للحريم ولكل ما / ٢٥٠ / يتعلق بهن من عبيد وخدم ، الخ. ويعلو البيت سقف محاط بجدار على شكل درابزين ، نشرف منه على المدينة كلها ؛ وهي ليست ضخمة ، ينتشر فيها عدة مئات من البيوت ، كثير منها نصف مهدمة ، وقد أقيمت دون نظام حول ساحة تأخذ شكل مربع طويل ؛ وهناك عدد من الدروب الضيقة المغبّرة ، يطلق عليها اسم شوارع ، وتخترق تلك المتاهات غير المنظمة.

كان هناك منزل واحد ؛ هو منزل الشريف السابق ابن عون (١) الذي كان حينها يعيش في إستانبول ، أقيم حسب مخطط معماري بسيط ، وهو ، مقارنة

__________________

(١) محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد المعين بن عون ، تولى الشرافة (١٨٢٧ ـ ١٨٥١ م / ١٢٤٣ ـ ١٢٦ ه‍) خلفا لعبد المطلب في شرافته الأولى ، وينسب إلى جده الأعلى فيقال محمد بن عون ، لأن جده هو مؤسس الأسرة الجديدة لذوي عون ، وفي عهده ١٨٣١ م / ١٢٤٦ ه‍ أصابت الكوليرا سكان مكة المكرمة لأول مرة ، وخرج في عام ١٨٤٦ م / ١٢٦٣ ه‍ لقتال الأمير فيصل بن تركي في الرياض (الدولة السعودية الثانية) الذي توفي عام ١٨٦٥ م / ١٢٨٢ ه‍. وقد تخلى محمد بن عون عن الشرافة طوعا عام ١٨٥١ م ليتولاها عبد المطلب بن غالب الذي أجبر على التخلي عنها في عام ١٨٥٦ م / ١٢٧٣ ه‍ وتولاها محمد بن عون من جديد حتى عام ١٨٥٨ م / ١٢٧٤ ه‍ ، وتوفي في مارس (آذار) ١٨٥٨ م / شعبان ١٢٧٤ ه‍. انظر : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ٢٧٨ ـ ٢٨٨.

٢٥٠

بالمنازل التي تحيط به ، يستحق اسم القصر. وفي أحد الأطراف القصية للساحة ، ينتصب قصر مربع ، له أبراج تحصينية في جوانبه الأربعة ، وقد أقامه قبل بضع سنوات الشريف غالب لتعزيز أمنه الخاص (١) ، أصبح بعد ذلك ، وبعد بضع سنوات ، سكنا لمحمد علي الذي أزال سطوة غالب (٢).

إن بساتين الطائف التي تجعلها مشهورة في الحجاز كله منتشرة حول المدينة ، وتبدو كأنها واحات في وسط الرمل. إن البساتين صغيرة على العموم ، وفيها قليل من النباتات ، ولا تدين بشهرتها إلا للقحط الشامل الذي يسود الجزيرة العربية. وتسد الأفق من كل الجهات سلسلة من الجبال ، مسننة ، كثيرة التشققات ، تتخذ أشكالا متنوعة ؛ من شكل السهم المدبب للنواقيس المسيحية ، إلى شكل القبة المدورة لمساجد المسلمين. وإليكم أسماء أكثرها ظهورا كما أملاها عليّ مستضيفي / ٢٥١ / : في الغرب وفي الشمال الغربي من جهة مكة المكرمة والمدينة المنورة ، جبل برد ، وجبل الهدا ، وجبل السكارى ؛ وفي الجهة المقابلة مجرّ الشاش (٣) ، والثمامي ،

__________________

(١) انظر حديث الدكتور آل كمال عن القلعة وبنائها في مقاله الموثق سابقا.

(٢) انظر رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٨٢.

(٣) مجر الشاش : جبل في قبلة محلة شهار ، به كانت دكة الملك سعود رحمه‌الله. وكتب ديدييه الثمامي EL ـ Tomane ? ، وفي معجم معالم الحجاز للبلادي ، ج ٣ ، ص ١٢٩ في حديثه عن خشيرمة يقول : جبل ضخم ذو خشارم ووهاد يشرف على المسيجيد من الشمال ، يسمى شقه الشرقي الثمامي ؛ أما ريع (روع) الشهداء الذي كتبه ديدييه Rou ـ el ـ Chohada ، وترجمه إلى الفرنسيةCol des Martyrs ، فلم أجد إلا أنه مكان في الطائف شرق مسجد ابن عباس سمي بشهداء حصار الطائف عند ما غزاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم امتد الحي إلى الضفة الشرقية من وج حتى أقبل على وادي نخب ، معجم معالم الحجاز ، ج ٥ ، ص ١١١. وذكر الدكتور آل كمال في تعقبه د. آل زلفة أنهما جبلا الشهداء وعرفا أيضا بالبازمين : أحدهما يقع بمحلة الشهداء الشمالية شرق وادي وج ، والآخر غرب الواي بمحلة الشرقية. وذكر أن جبل السكارى هو جبل أم السكارى غرب الطائف ويفصل بين قريتي السلامة والآبار التي تعرف اليوم محلة (قروى) وقد أطلق عليها الأتراك اسم إستانبول الصغيرة.

٢٥١

وأخيرا ريع (١) الشهداء. إن الطبيعة قاسية هنا على الرغم من انتشار البساتين ، وإن ميزتها العامة هي القحط ؛ إذ لا نجد فيها قطرة ماء واحدة. إذا احتكمنا إلى الصعود الصعب الذي واجهنا في جبل كرا ، والذي يتلوه نزول قصير وسهل ، فإن الطائف مرتفعة جدا عن سطح البحر (٢). وكان عليّ فيها أن أحترس من البرد ، بعد أن عانيت من الحر الشديد في جدة قبل ثلاثة أسابيع.

اشتق اسم الطائف في العربية من «الطواف» ، وهناك بخصوص هذا الاشتقاق حكاية محلية فيها بعض الاختلاط ، وقد رويت لي في الساحة ، وأعترف أنني نسيتها (٣). ويروى أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا لم يلق آذانا صاغية في مكة المكرمة جاء إلى الطائف يدعو أهلها للإيمان به ، ولكنه لم يجد فيها من يصغي إليه أيضا ؛ بل قام أهلها بطرده وسخروا منه ، وهددوه ، ووجد نفسه مضطرا للعودة مسرعا إلى مسقط رأسه (٤). يسكن الطائف بدو قبيلة

__________________

(١) الرّيع : الممر المرتفع بين جبلين ، وأسهل منه الثنية ، وأسهل من ذلك كله الفج ، ولم يذكر جغرافيونا القدماء ريعا وجعلوا كل الريعة ثنايا ، رغم أن الريع من الفصحى وقد نص عليه القرآن الكريم ، «أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون الشعراء (١٢٨)» ، معجم معالم الحجاز ، ج ٤ ، ص ١١٥.

(٢) ترتفع الطائف عن سطح البحر ١٥٥٠ مترا.

(٣) قال العجيمي في كتابه : إهداء اللطائف من أخبار الطائف ، ط ٢ ، دار ثقيف للنشر والتأليف ، ١٤٠٠ ه‍ / ١٩٨٠ م تحقيق يحيى محمود ساعاتي (بن جنيد) ، ص ٣٥ ـ ٣٦ : «... سميت به لأنها طافت على الماء في الطوفان ، أو لأن جبريل عليه‌السلام ، طاف بها على البيت ، أو لأنها كانت بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه‌السلام ، أو لأن رجلا من الصدف أصاب دما بحضرموت ففر إلى وج وخالف مسعود بن متعب بن مالك بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف ، وكان له مال عظيم فقال : هل لكم في أن أبني طوفا عليكم يكون لك ردءا من العرب؟ فقالوا : نعم. فبناه ، وهو الحائط المطاف به». وانظر المحقق رقم (١٤) في ص ٣٦. وانظر ما قاله الدكتور آل كمال في تعقبه د. آل زلفة.

(٤) انظر : إهداء اللطائف من أخبار الطائف ، موثق سابقا ، ص ٤٩ ، وانظر سيرة ابن هشام ١ / ٤٢٠.

٢٥٢

ثقيف (١) باستثناء بعض الأسر القليلة الغريبة ، هندية أو غيرها (٢). لقد أصبح بدو ثقيف حضريين ، بل صناعا وتجارا. إنهم يصنعون (٣) بأنفسهم غالبية الأشياء الضرورية للحياة العامة ، كما يصنعون أسلحتهم ، وأحزمتهم وحمالات سيوفهم الجلدية ، وسجاد غير متقن الصنع / ٢٥٢ / مصنوع من وبر الجمال ، والمجوهرات المصمّتة التي تتزين بها نساؤهم. ولا يحتاج كل ذلك إلى عبقرية صناعية كبيرة ، ولا إلى عمليات فنية معقدة. أما المحال التجارية فهي بائسة ، ويديرها الرجال كما هو الحال في الشرق كله. ولا أذكر أنني لمحت امرأة واحدة خلال إقامتي في الطائف ، مع أن الفرصة سنحت لي لرؤية عدد كبير من الناس عند ما صادف وجودي فيها أحد أيام السوق ، وقد كان كل شيء هناك تقريبا يباع بالمزاد ، واشتريت بنفسي ، أو طلبت أن يشترى لي ، بهذه الطريقة ،

__________________

(١) ثقيف : قبيلة كبيرة ، ذات ماض شريف ، اختلف أهل العلم بالأنساب فيهم على أقوال. انظر : الطائف ، جغرافيته ـ تاريخه ـ أنساب قبائله ، موثق سابقا ، ص ٥٢ ـ ٨٤. وكتاب : تاريخ الطائف قديما وحديثا ، مناحي ضاوي حمود القتامي ، مطبوعات نادي الطائف الأدبي ، ط ٢ ، ١٤٠٧ ه‍ ، ص ٤٤ ـ ٤٥. وانظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٨٣. وسكنت الطائف قبائل أخرى قبل الإسلام وبعده منها : بنو مهلائيل ، وثمود ، وإياد ، وعدوان وإليهم ينتسب عثمان المضايفي وهم أصهار ثقيف ، وبنو عامر بن صعصعة ، وقريش سكان الطائف المحالفون لثقيف ، وعتيبة وهي من أكبر القبائل في الجزيرة العربية وأكثرها انتشارا وامتدادا. انظر تفصيلات أكثر عن هذه القبائل في كتاب : الطائف : جغرافيته ـ تاريخه ـ أنساب قبائله ، مذكور أعلاه.

(٢) نقل محمد سعيد بن حسن آل كمال في كتابه الموثق سابقا ، ص ٣٨ ، أنه في القرن الثاني عشر ... كثرت هجرة الأفغان والأكراد إلى الطائف ثم هجرة الهنود ، وفي سنة ١٠٩٨ ه‍ نفى الشريف أحمد بن زيد بعض التكرور إلى قرية الطائف على ما ذكره العصامي في سمط النجوم ، ج ٤ ، ص ٢٢٢. وانظر : كتاب الثقامي الموثق سابقا ، ص.

(٣) انظر عن الصناعة في الطائف ، كتاب : تاريخ الطائف قديما وحديثا ، موثق سابقا ، ص ٤٢ ـ ٤٣ ، وعن التجارة فيها ، ص ٣٩ ـ ٤١.

٢٥٣

على سبيل الذكرى ، بعض المنتجات البسيطة كل البساطة من الصناعات المحلية.

رافقني إلى السوق أسودان وسيمان من خدم بيت الشريف ، مسلحين بالرماح والخناجر ، ولم يكونا يسمحان لأحد بالاقتراب مني. ولم يكن السكان على أية حال مزعجين. ولست أدري كيف كانوا سيعاملون مسيحيا منفردا (لا يتمتع بحماية الشريف الأكبر) ؛ ولكنهم كانوا يحترمون كوني ضيف أميرهم ، ويظهرون لي احتراما كبيرا ، واعتبارا واضحا.

كان التجار يدعونني إلى الجلوس في حوانيتهم ، ويسرعون في الإجابة عن أسئلتي. كان الجميع يحيونني بأدب جم ، ولما خرج أحد الشباب في السوق (البازار) عن حدود اللياقة معي ، ردّه إلى الصواب أحد العبدين اللذين كانا يرافقانني بطريقة لن يعود معها في المستقبل إلى مثل ذلك. ولمّا امتدت بي النزهة إلى / ٢٥٣ / الريف ، لاحظت مسجدا جميلا جدا يكاد يلتصق بالأسوار ، وفيه ضريح عبد الله بن عباس ؛ ابن عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إن هذا المسجد (١) الذي يسمّى باسمه باب المدينة القريب منه ، هو الصرح الديني الوحيد في الطائف الذي يستحق أن يولى بعض الاهتمام ، وقد هدمه الوهابيون (٢) ، كما فعلوا بكل هذا النوع من المعالم المقامة على أضرحة

__________________

(١) انظر حول وصف مسجد عبد الله بن عباس : إهداء اللطائف ... ، موثق سابقا ، ص ٧٣ ـ ٧٨ ؛ الزركلي ، ما رأيت وما سمعت ، ص ٥٤ ـ ٥٥ ؛ تاريخ الطائف قديما وحديثا ، موثق سابقا ، ص ٦٧ ؛ ومعجم معالم الحجاز ، ج ٨ ، ص ١٤٨ ـ ١٤٩. ويرجح أن بانيه هو الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيىء بأمر الله وكانت خلافة الناصر من ٥٧٥ ه‍ إلى ٦٢٢ ه‍ ، وذلك سنة ٥٩٢ ه‍. ثم جدد بناؤه عددا من المرات. انظر : إهداء اللطائف ... ، موثق سابقا ، وتعليقات المحقق.

(٢) قال بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٨٢ : «... وكان على قبر ابن عباس قبة حسنة ، وكان يزوره كثير من الحجاج ، إلا أن السلفيين قدموه تماما». وقال العجيمي في إهداء اللطائف ... ، موثق سابقا ، ص ٧٣ : «... وعليه قبة صغيرة من خشب. يضا ، ليس بينها وبين سقف المسجد إلّا نحو شبرين ...». واستولى ـ

٢٥٤

الأولياء إجلالا لهم ، وحتى تلك التي أقيمت على ضريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه ؛ لأن صرامة عقيدتهم ، كما رأينا سابقا ، لا تبيح مثل ذلك ؛ فهم ينكرون كل البدع ، ويحظرون تقديس الأولياء. فالله وحده أهل للعبادة ، وينبغي أن تكون عبادته روحية وليس لها أي جانب مادي. وقد أعيد بناء مسجد عبد الله بن عباس مرة أخرى بعد انسحاب الوهابيين من الطائف ؛ ولكنه طلي بالكلس الأبيض من أعاليه إلى أسافله ، فأصبح له مظهر حديث لا يتناسب تاريخيا مع زمن بنائه المتقدم. وغير بعيد عن المسجد هناك معلم من عصر مختلف تماما ، ومن طبيعة مختلفة أيضا : إنه حجر طبيعي ، ولكنه مدوّر ، أبفعل الزمن أم بيد الإنسان؟ إنه صنم من عصور الوثنية ، ويسمونه : اللات. وهناك في منطقة غير بعيدة عن الطائف صنم آخر اسمه : العزى (١). وقد أشار هيرودوت (٢) He ? rodote إلى أن سكان هذه البلاد كانوا يعبدون حجارة الصحراء (٣) ، وقد

__________________

ـ الوهابيون على الطائف في عام ١٨٠٢ م / ١٢١٧ ه‍ بقيادة عثمان المضايفي.

(١) هو سمرة كانت لغطفان يعبدونها ، وكانوا بنوا عليها بيتا ، وأقاموا لها سدنة ، فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد إليها فهدم البيت وأحرق السمرة. وهو صنم أنثى ، وقد عبدته قبائل أخرى مثل : قريش ، وباهلة ، وخزاعة ، ومضر ، وكنانة ، والمناذرة في العراق. انظر : معجم معالم الحجاز للبلادي ، ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨١ م ، ج ٦ ، ص ٩٠ ـ ٩٤ ؛ ومعجم مصطلحات ... ، موثق سابقا ، ص ٣٢١ ؛ وقال البلادي في : أودية مكة المكرمة ، ط. ١ ، دار مكة ، ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ م ، ص ٥ : «... ويرفد حراضا هذا شعيب يقال له : (سقام) بضم السين ، يقع في فرعته مكان (العزى) الصنم المشهور. وقفت عليه برفقة الشريف محمد بن فوزان سنة ١٣٨٩ ه‍». وذكر الدكتور آل كمال في تعقبه الدكتور آل زلفة أن العزى لقريش ، وكان موقعه بواد من نخلة الشامية يقال له حراض بإزاء الغمير يمين المصعد إلى نجد من مكة ، ويبعد عن الطائف ٨٠ كم تقريبا.

(٢) هيرودوت He ? rodote ـ Herodotus (٤٨٥؟ ـ ٤٢٥؟ ق. م) : مؤرخ يوناني. يعرف ب «أبي التاريخ».

(٣) كان صنم اللات المركز الديني الثاني بعد مكة المكرمة في العصر الجاهلي. وذكر القثامي في : تاريخ الطائف قديما وحديثا ، ص ٢٦ ، أنه كان قرب حصن الطائف من ـ

٢٥٥

كانوا ما يزالون في جهلهم يعمهون / ٢٥٤ / عند ما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لينقل إليهم المفاهيم الصحيحة عن المعبود. إذا ، يعد القرآن الكريم نقطة تحول جذرية في تاريخ الشعب الذي دوّنه ، وكان أول من اتبع تعاليمه.

أرسل لنا الشريف الأكبر في اليوم التالي الخيول والمرافقين لزيارة المناطق المحيطة بالمدينة. لم يكن عدد أفراد حاشيتنا كبيرا إلّا عند ما كنا نذهب إلى القصر ؛ ولكن سائس الشريف الأكبر والعبدين المكلفين بحمايتي

__________________

ـ الناحية الجنوبية الشرقية ، وقد هدمه المغيرة بن شعبة عند فتح الطائف على يد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة ٩ للهجرة. وذكر القثامي في ص ٢٧ من كتابه المذكور أعلاه أنه يقال : إن صنم اللات كان في السابق مكانا ليهودي يلت على حجر السويق (أي يصنع السويق للقادمين للحج ، والسويق طعام يتخذ من الحنطة أو الشعير بعد قليه بالسمن) ، فمسخ حجرا ، وكان اللات عبارة عن صخرة مربعة بيضاء بنت عليها قبيلة ثقيف بيتا صاروا يعبدونه ، له ستار وفناء للطواف ، وسدنة اللات بنو عتاب بن مالك قوم من ثقيف ، وقبلهم آل العاص بن يسار بن مالك ، وكان لها حمى مخصص دخله للصنم ، ويكسونه كل عام ، وله خدم مع السدنة ، وفي وسطه حفرة اسمها : غبغب ، تحفظ بها الهدايا والنذور ، وعند ما هدمه المغيرة بن شعبة أخذ أموال الغبغب وسلمها إلى أبي سفيان امتثالا لأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد ذكر هيرودوت في تاريخه صنم اللات ، قال الرحالة الإنجليزي جيمس هاملتون : إنه شاهد صخرة اللات عام ١٨٥٧ م ، فوصفها بأنها صخرة من الجرانيت ذات شكل خماسي ، وطولها حوالي اثني عشر قدما. انظر أيضا : كتاب الأصنام ، ص ١٦ ؛ والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، لجواد علي ، ج ٦ ، ص ٢٥ ؛ وكتاب القثامي المذكور أعلاه ، ص ٢٤ ـ ٢٥ ، و ٥٢ ـ ٥٣ ، وص ٢٦ ـ ٢٧ حيث يقول : وقد بنى مسجد الطائف الجامع في مكان اللات. ولا أجزم بموقع اللات الجزم المؤكد إنما حسب ما ورد هنا. ويذكر في ص ٥٢ أن هيرودوت «أبو التاريخ» ذكر في تاريخه صنمي اللات ومناة وأهمية كل منهما وانظر : معجم مصطلحات ... ، موثق سابقا ، ص ٣٧٧. وقد وربد في القرآن الكريم ذكر للأصنام الثلاثة : اللات والعزى ومناة في قوله تعالى في سورة النجم ، الآيتان ١٩ ـ ٢٠ ، ٢٣ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) ... إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢٣).

٢٥٦

كانوا على الدوام ضمن الحاشية. ناهيك عن أننا اصطحبنا معنا عددا من خدمنا الخاص ، ولم نر الشريف حامد كثيرا مدة إقامتنا في الطائف ؛ إذ لمّا وصلناها ، وانتهت مهمته ، أو علّقت على الأقل ، ولم يكن عليه أن يعود للسفر مرة أخرى إلّا عند مغادرتنا إلى جدة ، فقد كان لديه أصدقاء يزورهم ، وأعمال يصرّفها ، ولم يكن معنا إبّان الجولة. وقد حل محله الشريف سليم الذي أرسل لملاقاتنا عند جبل كرا ، ثم كلّف أن يرينا مدينة الطائف. ليس لدي ما أقوله بخصوص هذا الشريف إلّا القليل ؛ إذ لم أقض معه إلّا فترة بسيطة : لقد بدا متحضرا ، ولكنه قليل التواصل ، مما جعلني أسف على صداقة الشريف حامد ولطفه ومودته. كان الشريف سليم يركب فرسه البيضاء ، وكان وجودها يثير أحصنتنا ، ويجعلها صعبة المراس. كنت لحسن الحظ أمتطي حصاني «عسير» ، وكان علي الاغتباط لذلك ؛ لأن قوة شكيمته أنقذتني من حادث مؤلم ؛ كنا على مسافة من المدينة ، نسير في منطقة ضيقة / ٢٥٥ / تحيط بها من كل جهة هوة عمقها من ٦ إلى ٧ أقدام ، ولا حظت متأخرا أن شجرة ضخمة ذات أشواك تعترض طريقي ، كانت على مسافة قريبة جدا مني ، ولمّا حاولت تلافيها كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار : إذ قمت بحركة خاطئة جعلتني أسقط مع الحصان في قعر الهوة ؛ ولحسن الطالع ، سقط الحصان على قدميه ، ولم أسقط عن صهوته ، ولكن كيف السبيل إلى الخروج من الهوة؟ لقد تكفل عسير بذلك وحده ، ونهض من الكبوة بجهده ، دون مساعدة أحد ، ودون أن أحثه بالمهماز على ذلك ؛ لقد تسلق الهوة عموديا بقائمتيه الأماميتين ، ثم حرك عرقوبي الخلفيتين حركة قوية ، وبقفزة واحدة كنا معا على الطريق.

كان فرح السائس بلا حدود ، ومتناسبا مع الخوف الذي اعتراه : لقد ظنني ميتا ، أو على الأقل مهشما ؛ لأنه ، بحكم مهامّه ، مسؤول عن أمني ، ولو أصابني مكروه لكان أول الملومين ؛ ولمّا كان سيده مهتما بنا فإنه كان سيدفع غاليا ثمن أي حادث يصيبني ، ولو كان بسيطا. كنا حتى الآن نسير على الرمال ، وسط سهل مجدب ، دون أن نجد ماء ولا خضرة. لقد وجدناهما أخيرا عند ما ولجنا وادي المثناة الذي ترتفع على جانبيه تلال ، قممها جرداء،

٢٥٧

وأسافلها مغطاة بالبساتين المسورة التي تنساب منها جداول الماء بعد أن تسقيها وتخصبها / ٢٥٦ / ، وتتجاوز الأشجار التي تظللها حدود الأسوار.

لقد كان هناك مسجد (١) جميل يمنح مدخل هذا الوادي الزاهي تميزا وجلالا ، ثم ينفتح الوادي على ريف تكسوه أشجار النبق والأكاسيا (٢) ، وتحيط به عن قرب جبال جرداء ، أمّا الأرض فإنها غير مستوية ، تتخللها وهاد عميقة ، وتنتشر فيها المنحدرات الوعرة. وتقبع في هذه الأرض الجبلية الحجرية قرية بدوية هي الوهط (٣) ؛ ولكنني لم أر فيها ساكنا واحدا. قطعنا نزهتنا هنا ، وعدنا على أعقابنا حتى حديقة الباطنة التي يملكها الشريف الأكبر حيث كان ينتظرنا هناك غداء ريفي.

ليس لهذا المكان ما يميزه إلّا ماؤه الصافي الذي يجري في قناة من الحجارة ، وأشجاره المثمرة المعطاء ، وخصوصا أشجار التين التي تكتسب هنا أهمية كبيرة ، وتنتج ثمارا فاخرة. وليس أشجار السفرجل والرمان بأقل جودة من أشجار التين ، ولكن الزهور نادرة ، باستثناء الورد الجوري (٤) المشهور في

__________________

(١) قال الدكتور آل كمال في تعقبه الدكتور آل زلفة : ... لعل هذا المسجد هو مسجد عدّاس الذي لا زال في موقعه ببساتين الأشراف آل غالب ، وقد وجدت له ذكرا منذ القرن التاسع.

(٢) في الأصل De nebeks ,D\'acacias وورد في رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٦٥ ... شجر السنط والسدر (النبق) وأورد المترجمان في الحاشية (٢) Acacias ,nebek ، والأكاسيا هي الاسم العلمي لشجر السنط أو السلم وهو أنواع كثيرة منها شجر الصمغ. انظر : معجم مصطلحات العلوم الزراعية للشهابي ، مادة : Accacia.

(٣) قال الدكتور آل كمال في تعقبه الدكتور آل زلفة : ... الوهط ليست في المثناة بل في قبلتها بجوار سد عكرمة الحالي. وكانت بستانا أو مالا لعمرو بن العاص القرشي رضي‌الله‌عنه ، ولا زالت لأبناء قريش وبعض الأشراف ، وبها عين الوهط الشهيرة.

(٤) انظر تحقيقا مصورا عن ورد الطائف لميشيل ر. هيوورد ، ترجمه بتصرف محمد عبد القادر الفقي في مجلة القافلة ، مج ٤٩ ، ع ٣ ، ص ١٠ ، ربيع الأول ١٤٢١ ه‍ / يوليو (تموز) ٢٠٠٠ م ؛ والحياة ، العدد ١٣٦٣٢ ، السبت ٨ تموز (يوليو) / ٦ ربيع الثاني ١٤٢١ / ٢٠٠٠ م ، ص ١٥.

٢٥٨

الحجاز كله. وقد كان في البستان سرادق يتكوّن من عدد من الغرف يقصده المالك في أوقات فراغه بحثا عن الهدوء والبرودة.

ويوجد أمام هذا البستان بستان آخر يشبهه تماما واسمه : الشريعة. وهو للشريف الأكبر أيضا ، وقد كان قبل عدة شهور مسرحا لشجار دام ، وإليكم السبب. لمّا جاء باشا جدة لزيارة الطائف رافقته حاشية / ٢٥٧ / تتكوّن من مفرزة من الباشي بوزوق الذين يتصرفون بصلفهم المعتاد ، وقد وصلت عصبة من أولئك اللصوص ، الذين كان أغلبهم من الأرناؤوط ، إلى بستان الشريف ، وكانوا يستولون على كل ما يقع تحت أيديهم ، وخصوصا الفاكهة التي يحبها الأتراك بشراهة (١) ، وأرادوا الدخول عنوة إلى بستان الشريعة. وكانت نساء الشريف الأكبر موجودات في البستان ، يحرسهن عدد من الخدم ، ولم يكن الأرناؤوط ليأخذوا في الحسبان ، لا وجود النساء ، ولا منزلة المالك ، واضطر الخدم الذين فاض بهم الكيل إلى مواجهة القوة بالقوة ؛ ودارت إثر ذلك معركة سالت فيها دماء الجانبين ؛ ولمّا علم بدو الجوار بالإهانة التي لحقت بأميرهم سارعوا إلى المكان مسلحين ، ولو لا أن الأرناؤوط ولوا الأدبار مسرعين قبل وصول البدو لما نجا أحد منهم.

ولمّا وصل خبر الحادثة إلى أسماع الباشا الرعديد ، كما يبدو ، حل به الخوف والاضطراب ، وهرب من الطائف إلى جدة على وجه السرعة ، معتقدا أو مدعيا وجود ثورة عامة وسط البدو. ولم يفلح أي شيء في إقناعه بالعودة إلى الطائف ، حتى إلحاح الشريف الأكبر نفسه الذي لم يجد نفعا. ولم يكن وقوع هذا الحادث إلّا ليفاقم العداوة المعلنة من قبل بين العدوين (٢).

__________________

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨.

(٢) يذكر هورخرونيه في صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ٢٨٥ أن الصداقة بين باشا مكة المكرمة والشريف عبد المطلب لم تدم طويلا ... فعندما أطلقت بعض العيارات النارية التي اخترقت طربوش الباشا في أثناء وجوده في المثناة بالطائف ـ التي كان يقضي الشريف فيها فترة الصيف ـ لم يستطع الباشا أن يتصور أن حدوث ذلك كان صدفة ، بل إنه أمر وقع بتدبير من الشريف نفسه. ومرة أخرى تمّ ـ

٢٥٩

عدنا إلى المدينة عبر طريق أخرى ، ليتاح لنا رؤية أكبر قدر من البلد. / ٢٥٨ / إن أول ما أثار فضولي ، ونحن في طريق العودة ، بستان كبير ، وجميل ، محاط بسور من الطين. ولكننا للأسف لم نستطع إلّا السير بحذائه ؛ ولكن مجرد رؤيته كانت تبعث في النفس شعورا بالبرودة ؛ فقد كانت أشجاره شديدة الخضرة ، والظل كثيفا ، والأعشاب وافرة. ثم تأتي بعد ذلك حقول الشعير التي تكتسب أهمية كبيرة ، ولكنها لا تثير الإعجاب. تبدأ بعد ذلك بحور الرمال التي تمتد حتى أبواب المدينة. لقد التقينا في جولتنا عددا من البدو والجمال.

هناك منطقتان أخريان من أراضي الطائف فيها بساتين تماثل بساتين وادي المثناة وهما : وادي شمال ، ووادي السلامة ؛ والحق أنه لا هذه البساتين ، ولا تلك ، تستحق الشهرة التي نالتها ؛ وإن التباين وحده (مع البيئة المحيطة) هو الذي يمنح هذه الأمكنة قيمة مبالغا فيها. وإنه لمن الطبيعي أن يبالغ العرب المعتادون قحط الصحراء ووحشتها ، في الحديث عن كل ما يمنحهم السكينة : فقليل من الماء يرونه بحرا ، وقليل من العشب يرونه مروجا ، ودوحة من الأشجار يرونها غابة. إذا ، احترسوا من أوصافهم (التي يطلقونها على الأماكن) ، وأسقطوا بجرأة النصف الأكبر من مبالغاتهم الإعجابية (١).

__________________

ـ تغيير الباشا ، والسبب هو شك الشريف أن الباشا كان يريد اعتقاله. لقد تم إخطار الشريف بوساطة أصدقائه بأن هناك حملة قد نظمت لإلقاء القبض عليه من قبل الوالي في أثناء تمرين على السلاح ، كان من المفروض أن يحضره مع الباشا نفسه.

لهذا ابتعد الشريف دون أن يلحظه أحد ، وتوجه نحو الطائف حيث جهز نفسه لمقاومة الهجمات المتوقعة من الدوائر التركية. وبناء على تقرير سريع من الوالي الذي غادر إلى جدة ، قدم في أكتوبر من عام ١٨٥٥ م (١٢٧١ ه‍) مبعوث غير عادي من قبل الباب العالي لإعادة تعيين الشريف محمد بن عون الأمير السابق المطرود.

وانظر ص ٢٨٦ ـ ٢٨٧ من الجزء نفسه حيث يتحدث هورخرونيه عن رفض عبد المطلب قرار التعيين. ويبدو أن هذه الأحداث جرت بعد رحيل ديدييه عن الطائف ، ويوضح نص ديدييه حقيقة ما جرى في وادي المثناة ؛ وانظر : خلاصة الكلام ... ، موثق سابقا ، ص ٣١٦.

(١) قال عرام بن الأصبغ السلمي في كتاب : أسماء جبال تهامة وسكانها وما فيها من ـ

٢٦٠