رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

شارل ديدييه

رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة المكرّمة

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٦

أتى زمن لم يكن فيه وجود غير المسلمين في جدة مسموحا ، كما هو

__________________

ـ هنا. وانظر : النص الإنكليزي لرحلات بوركهارت ، ط. مصورة عن طبعة لندن ١٨٩٢ م ، السلسلة التي يصدرها فؤاد سزكين ، ١٩٩٥ م ، ص ١٨٣. وجاء في رحلة بيرتون ما نصه نقلا عن كتاب : التراث الشعبي في أدب الرحلات ، موثق سابقا ، ص ٤٨ «تأخذ معظم الأسر في مكة الأطفال الذكور عند ما يبلغون الأربعين يوما إلى الكعبة للدعاء لهم. ثم يحملونهم إلى البيت حيث يقوم المزين بعمل ثلاثة فصود رأسية على الجزء الملحم لكل خد بدءا من الزاوية الخارجية للعينين إلى ركني الفم تقريبا. هذه «المشالي» ، كما تسمى ، قد لا تكون عادة قديمة. فالمكيون يقولون إنها لم تكن معروفة لدى أسلافهم. وعندي أنها ترجع إلى زمن قديم جدا وأنها وثنية الأصل ، وهي ما تزال سائدة رغم نهي علماء الدين عنها. وتسمى هذه العملية «التشريط» ويفصد أيضا جسم الطفل كله بجروح صغيرة حتى يغطي الدم الجسم كله. وقد أخبر بعض المكيين علي بيك أن الغرض من التشريط طبي. وقال آخرون إنها دلالة على أن من يحملها خادم لبيت الله. وأرجعها علي بيك إلى الرغبة في التجميل تماما كرغبة المرأة التي تشم نفسها. وقد أخبرني المكيّون أن هذه العادة نشأت عن ضرورة حماية الأطفال من وقوعهم أسرى في يد الفرس. فهي دلالة على أن الأطفال من المدينة المقدسة. غير أن انتشارها الواسع يدل على قدم أصلها ... وقد نهى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتباعه صراحة عن وسم الجسم بالفصد. وعلامات التجميل هذه شائعة وسط شعوب مناطق غرب البحر الأحمر. ويزين النوبة في مصر العليا وجوههم بفصود مثل المكيين تماما. وقد رأيت خدودا مفصدة كما في المدينة المقدسة وسط القالا بالحبشة. وعلق د. أحمد نصر في ص ٥٩ من الكتاب المذكور أعلاه قائلا : «أدرك الأديب السعودي أحمد إبراهيم الغزاوي في مكة المكرمة عادة تشريط الخدود (المشالي) وشاهدها وقال إنها كانت مما يعد للرجل والمرأة زينة وجمالا وإنها كانت عامة بين البيض والسود على السواء وقد أرجعها إلى ما قبل القرنين السادس والسابع الهجري. واستدل على ذلك ببيتين من الشعر لبهاء الدين محمد بن إبراهيم النحاس النحوي المولود في ٦١٧ ه‍ والمتوفى في ٨٩٨ ه‍ يمدح مليحا شرطوه قائلا :

قلت لما شرطوه وجرى

دمه القاني على الخد النقي

ليس بدعا ما أتوا في فعلهم

هو بدر مشرق بالشفق ـ

١٤١

الحال عليه اليوم في المدينتين المقدستين ، لم يكونوا يجرؤون على الظهور بملابسهم الأوروبية ، وإن ماتوا فيها فإن رفاتهم كان يحمل إلى جزيرة صغيرة في مرسى جدة لكي لا يدنس الأراضي المقدسة (١).

لقد تغيرت الأمور اليوم : فالمسيحيون يتمتعون اليوم في جدة بكامل حريتهم ، وبأمن يوازي ما يجدونه في مصر وإستانبول. لقد تجولت في أنحاء المدينة كلها ، في كل أوقات النهار والليل ، وحدي في غالب الأحيان ، ولم يتعرض لي أحد بشتم قط ، ووجدت من الناس كلهم لطفا وفضلا (٢). ولم يزعجني إلّا المتسولون الذين ينتشرون في كل أحياء المدينة ، ويكادون جميعا يكونون من الهنود ، قدموا من أوطانهم للحج ، وتقطعت بهم سبل العودة لنقص في المال ، ولما لم يكن لهم أي موارد ، فإنهم ظلوا هنا عالة على الناس. هناك كثير من الحجاج المصريين والنوبيين ، وخصوصا من سود السودان ، وهم كالهنود في الفقر ، ولكنهم يعملون بشجاعة لكسب المبالغ البسيطة الضرورية لعودتهم إلى مسقط رأسهم ، أما الهنود الذين هم أكثر بلادة وكسلا فهم يحبون / ١٢٧ / العيش على الهبات ، ويفضلون المنفى الأبدي على

__________________

ـ انظر : أحمد بن إبراهيم الغزاوي ، شذرات الذهب ، جدة ، دار المنهل ، ١٩٨٧ م ، ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ؛ وانظر : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، سنوك هور خرونيه ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٤١٩.

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٩١ ـ ١٩٢. ونقل المترجمان في الحاشية (٢) ص (١٩١) ما جاء في كتاب محمد علي المغربي : ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز ، ص ١٧١ «وكانت في مدينة جدة مقبرة للنصارى وما تزال موجودة حتى الآن ... ويبدو أن هذه المقبرة أقيمت في العهد العثماني لدفن الأجانب الذين يموتون في جدة ... وهي قائمة حتى الآن كما ذكرنا في جنوب جدة قرب السوق الجنوبية ، ولكنها غير مستعملة إطلاقا». ويقول المترجمان : ولا نعرف إذا كانت المقبرة التي ذكرها المؤلف هي نفس المقبرة التي يصفها المغربي. وقد تحدث بوركهارت في غير موضع من رحلاته عن أوضاع المسيحيين في جدة انظر : ص ٢٦ ، ١٩٠ ، ١٩١ ، ١٩٢.

(٢) انظر تحليلات بوركهارت بهذا الخصوص في رحلاته ، ص ١٩٠.

١٤٢

العمل ، مهما كان بسيطا. إلا أن بعضهم ، وهم قلة قليلة ، يمتهنون مهنا حضرية مختلفة : فقد استخدمت خلال إقامتي خياطا كشميريا ذا مهارة وصبر نادرين. لقد أحسست الحكومة البريطانية بالتأثر لهذه الهجرات السنوية ، ولكن سياستها لم تكن تسمح لها بمضايقة مواطنيها المسلمين في ممارسة عبادتهم ، واكتفت باعتبار القباطنة التجار مسؤولين عن إعادة الحجاج الذين يحملونهم إلى جدة. ونتج عن ذلك أن هؤلاء لم يعودوا يقبلون على أي سفينة إن لم يبرهنوا على أنهم قادرون على تأمين نفقات ذهابهم وعودتهم.

إن العمل الوحيد الذي يقوم به سكان جدة ، على الرغم من أنهم قوم مكرمون ، هو التجارة ، التي توفر المال نقدا ، والتي يغتنون منها على العموم. إن أغلب سكان جدة من أصول أجنبية ، وهم نشيطون ، وخبراء ، وإن حيويتهم البدنية ، وتوقد أذهانهم يتعارض مع الخمول الواضح والغبي لدى كثرة من الشرقيين ، وخصوصا الأتراك. إن لون بشرتهم أسمر شديد الدكنة ، يفرطون في اقتناء أدوات الزينة ، شأنهم شأن أهل مكة ، ويمكن قول الكثير عن ذلك. إن ملابس أهل المدينتين متشابهة تماما ، سواء ملابس النساء أم الرجال : فملابس هؤلاء الرجال الداخلية مصنوعة من الحرير المضلع ، ذي الألوان الجذابة ، وهي مشدودة على الخصر / ١٢٨ / بحزام كشميري ؛ ويلبسون فوقها عند الخروج ثوبا طويلا مفتوحا من الصوف الناعم ، يسمى البنش أو الجبة حسب الفصل ، وهي مصنوعة عادة في بغداد. أما رؤوسهم فيغطونها بطاقية بيضاء مزركشة ، يلتف حولها عمامة من الموسلين. والعامة لا يلبسون إلا ثوبا طويلا من الكتان الخشن.

أما النساء فإنني لا أستطيع أن أقول عنهن شيئا ، لأنني لم أر أيا منهن : وكل ما أعرفه أن بشرتهن أقل سمرة من بشرات الرجال ، وأنهن يقصصن شعورهن كالرجال باختلاف بسيط هو أنهن يزيّن شعورهن بسلسال من الذهب (١). وإن أولئك اللواتي نقابلهن من عامة الشعب في الشارع منقبات ،

__________________

(١) استخدم المؤلف هنا كلمةSequins ، وجاء في معجم روبير الصغير أن للكلمة أصلا ـ

١٤٣

ويختفين تماما في ثوب قبيح من القطن الأزرق. أما الأخريات فيرتدين سراويل زرقاء فضفاضة ، مزركشة بالفضة ، ويلبسن أثوابا مزركشة ، مصنوعة من حرير الهند. عند ما يخرجن ، وهذا نادر الحدوث ، فإنهن يغطين وجوههن بخمار أبيض أو أزرق فاتح يسمى : البرقع. ويلتحفن ثوبا فضفاضا مصنوعا من نسيج حريري صقيل (تفتةTaffetas) أسود ، وهو يشبه الحبرةhabra عند المصريين ، وهن مولعات بالمجوهرات ، شأنهن شأن كل النساء في الشرق والغرب ، وهن يلبسن خواتم كثيرة ، وعقودا وأساور ، كلها من الذهب ، ويضعن في أقدامهن خلاخل من فضة. تلك هي الثياب التي يلبسنها في الحفلات. أمّا في بيوتهن فقد أخبرت أنهن يتخفّفن من الثياب / ١٢٩ / حتى يمكننا القول دون أن نتجنى عليهن : إنهن شبه عاريات ، وخصوصا الجواري. وليس بالنادر أن نلمح في الأحياء التي تقل فيها الحركة عبر نوافذ لم يحكم إغلاقها ، سهوا أو عمدا ، النصف الأعلى للمرأة مكشوفا تماما.

لم أتحدث حتى هنا إلّا عن فضائل جدة ، وإليكم الآن مساوئها : فالماء العذب نادر فيها ، وهواؤها سيىء في فصل الصيف ؛ حار ورطب في الوقت نفسه ، ترتخي له الأعصاب ، ويوهن الجسد ، وخصوصا هواء الجنوب ؛ وإن كثيرا من الأجانب ، والسكان الأصليين لا يستطيعون اعتياده. فالزحار ، والحمى المقلعة ، والعفنية تكاد تكون مستوطنة على هذا الشاطىء الذي تنتشر فيه الأوبئة أكثر من أي شاطىء آخر في الجزيرة العربية.

لقد عانيت أنا نفسي خلال بعض الأيام من هذا الجو المؤذي ، واستطعت من خلال ما عانيته خلال هذه الفترة البسيطة أن أحكم على ما يكون عليه الحال في أيام القيظ. وعلى الرغم من أننا ما نزال في منتصف شهر فبراير

__________________

ـ عربيا هو السكةSikki ، وهي في لغة فينيسياZecchino ، وتعني قطعة نقدية. وهو عملة ذهبية قديمة في فينيسيا ، شاعت في إيطاليا والمشرق. وقد وردت في رحلات بوركهارت ، الترجمة العربية ، ص ١٥ وعربها المترجمان ب «السّكوينات» وقالا في الحاشية (٢) إن السكوين نقد ذهبي إيطالي وتركي قديم. وانظر ص ٣٢٠ من رحلات بوركهارت إذ سمّي السكوين البندقي Venetian Zecchin.

١٤٤

(شباط) ، فإن ميزان الحرارة كان يصل إلى ٢٣ درجة على ميزان رومير (١) ؛ لقد كان هواء الجنوب العنيف يلفظ النار بدل أن يأتي بالنسيم ، كان الجو خانقا ، وكنت أشعر أنه يسحقني تحت وطأته ، وكنت أجد صعوبة في السير ، وكان جسدي كله مشبعا برطوبة غير محتملة. وأزيد على ذلك بالقول إن الذباب والبعوض كان مزعجا كل الإزعاج.

ويسكن جدة أيضا سكان آخرون ذوو أجنحة ؛ وهم نوع من البواشق (الباز) ، نجده في كل المدن العربية ، وأنا ، منذ رحلتي ، ما إن أسمع أصواتها الحادة ، / ١٣٠ / حتى ترتسم في اللحظة نفسها في مخيلتي منارات ، ونخيل وعمائم.

وإذا خرجنا من جدة عبر باب مكة المكرمة فإننا نجد أنفسنا مباشرة في معسكر إفريقي حقيقي : إن أكواخ القش أو النخيل المنتشرة على حدود الصحراء ، والتي تبدأ كما هو الحال في ينبع والطور والسويس على أبواب المدينة ، تلك الأكواخ ، هي مساكن النوبيين الذين يعملون في الميناء والسوق ، وتسكنها أيضا بعض الأسر الفقيرة من جدة ، والتي لا تستطيع لفقرها السكن في مكان آخر.

إن النساء الحرائر من الطبقات الفقيرة يسكنّ أيضا هذا المصبّ القذر ؛ ناهيك عما يقوم بهذا الحي من صناعات بسيطة ، فإنه ينعقد فيه سوق للخشب والخضار ، وسوق للمواشي. وإن للعجول في هذا البلد حدبة ، وهي صغيرة الحجم وغالية جدا : إذ يباع الواحد بستة تلرات ؛ وهو لا يساوي في مصوع إلا تلرا واحدا. وليس ببعيد ، وبالقرب من باب المدينة المنورة ، هناك ثكنة عسكرية أقامها محمد علي أيام حربه مع الوهابيين ، وقائد هذه الثكنة إسماعيل بيك ، وهو بنباشي (٢) تركي ، وهو أكثر أدبا من نظيره في سيناء ، وقد كان يبدي

__________________

(١) ميزان روميرRaumur : ميزان حرارة يشير فيه الصفر إلى درجة التجمد ، و ٨٠ إلى درجة الغليان.

(٢) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨٧.

١٤٥

لي آيات الاحترام ، دون أن ينسى تقديم القهوة والشيشة. وغير بعيد عن الثكنة ، هناك عدد من الطواحين الهوائية التي بناها محمد علي لاستخدام قواته ، ثم أهملت مباشرة بعد رحيله باعتبار أنها بدعة أوروبية ، وهي تستخدم اليوم مقرا للجنود غير النظاميين. ويوجد على مرمى حجر من الثكنة / ١٣١ / مقبرة محاطة بالأسوار ، ولها باب محكم الإغلاق ، وهي فريدة من نوعها لم أر في الشرق مثلها ، حيث تترك المقابر بلا سياج ولا حارس.

إذا ، توقعوا من المدفون في هذه المقبرة؟ إنها حواء ، أم الجنس البشري. وينتشر بخصوصها لدى علماء البلد أسطورة لا تليق بأبوينا الأولين. فهم يحكون أن آدم الذي ملّ من زوجته ، مع أنهما كانا سعيدين إبّان ما يقارب مائة سنة ، اتجه حبا في التغيير إلى بناته ؛ لأنه لم يكن لديه خيار آخر ، لأنه لم يكن هناك على الأرض نساء أخريات ، وعند ما علمت الزوجة المتروكة بهذه الخيانة ، أقسمت أن تنتقم ؛ فاتجهت بدورها إلى أبنائها ، لأنه لم يكن هناك على وجه الأرض رجال غيرهم ، ولكن هؤلاء أجابوها ببعض القسوة أنها عجوز ، وأنهم لا يرغبون فيها.

إن أمنا جميعا التي حكم عليها أن تظل محتشمة ، على الرغم منها ، لقيت نتائج ما قامت به عند ما امتهنت نفسها ، فكظمت غيظها. ولكن آدم عاد ، بعد خطئه ، إلى زوجته الشرعية ، وبعد المصالحة قاما معا برحلة عبر الجزيرة العربية ، فماتت حواء في هذا المكان عينه ، ودفنها زوجها ، وأجرى لها كل التشريفات التي تفرضها فضائلها الكثيرة. أما آدم الذي أصبح أرملا فقد تابع رحلته ، وذهب ليموت بدوره في جزيرة سيلان / ١٣٢ / ودفن هناك ، ولا تذكر القصة من دفنه ، ولا كيف عبر البحر. إن انتهاك المحارم المزدوج ، الذي قام به أحد الطرفين حقا ، والآخر كان ينويه ، فتح بطريقة لا أخلاقية سجل الحياة الأسرية للإنسانية (١). إن المسلمين ، وهم ممن يدافع بحزم عن الأسرة ، لا

__________________

(١) لا أدري من أين تلقط ديدييه هذه الترهات حول نبي الله وعبده أبي البشر آدم عليه‌السلام ، ولعلها تكون من موبقات العهد القديم عن الرسل والأنبياء.

١٤٦

يرون في القصة شاهدا على حظر تعدد الزوجات ، وإنما يرونها دليلا قاطعا على أنه ليس من قوانين الكون أن يكون للمرء امرأة واحدة.

لقد حافظت النساء على مستوى والدتهن ، وظللن جديرات بتراثها على كل المستويات ، ولكن قامتهن أصبحت أكثر قصرا : لأن طول قبرها ليس أقل من ٦٠ مترا (١) ؛ ويرتفع فوقه مسجد صغير تعلوه قبة بيضاء (٢). وتبدو بالطبع كل المدافن الأخرى كئيبة إزاء هذه : بيد أن مدفن عثمان باشا وأسرته يثير

__________________

(١) كذا في الأصل ولعل الصواب : ٦ أمتار.

(٢) تحدث بيرتون في رحلته عن قبر خارج مدينة جدة يعرف باسم «قبر أمنا حواء» وقدم له رسما تصويريا وقال إن المسافة بين الرأس والقدمين هي نحو ست خطوات.

انظر : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٥١ ـ ٥٢. ويورد عبد القدوس الأنصاري غير رأي عن قبر حوا عند ما يتحدث عن اسم (جدة) ، وهو يذهب إلى القول إنها بضم الجيم لا كسرها ، وهو يدفع قول ابن المجاور الدمشقي الذي يقول إن الاسم هو (جدة) بكسر الجيم ، لأن أمنا حواء جدة البشر مدفونة فيها ، ويقول إن هذه الرواية أسطورية ولا يعقل أن يكون قبرها معروفا حتى اليوم. ويورد الأنصاري ما قاله ابن جبير من أن القبة التي على القبر كانت منزلا لحواء عند ما توجهت إلى مكة ، وما قاله البتنوني من أن موضع القبر كان هيكلا عبدته قضاعة في الجاهلية. ويذكر أن عون الرفيق شريف مكة ـ كما ذكر البتنوني ـ حاول هدم القبة ، لكن قناصل الدول في جدة تفاهموا معه وديا على عدم هدمها لأن حواء ليست أم المسلمين وحدهم وإنما هي أم الناس جميعا. ثم ذكر الأنصاري أن القبة هدمت عند ما دخلت الحكومة العربية السعودية جدة. انظر : موسوعة مدينة جدة ، عبد القدوس الأنصاري ، مج ١ ، ط ٤ ، القاهرة ، ١٩٨٢ م ، ص ٤٧ ـ ٤٩. وكتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٥٩ ـ ٦٠. ويذكر سنوك هورخرونيه أن الحجاج يزورون قبر أمنا حواء ، الذي يبلغ طوله بضع ياردات ، صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٣٣٦. وذكر بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٢٥ : «... وعلى بعد ميلين شمالي جدة يمكن مشاهدة قبر حواء «أم البشر» وقد أخبرت أنه مبني من الحجارة بناء بدائيا ، وطوله حوالي أربعة أقدام ، وارتفاعه قدمان أو ثلاثة أقدام ، وعرضه مثل ذلك ، وبهذا فهو يشبه قبر نوح في وادي البقاع في الشام».

١٤٧

الإعجاب. وليس للقبور أي زينة خارجية إلّا شاهدتان مستقيمتان منتصبتان ، إحداهما عند الرأس والأخرى عند القدمين ؛ ولكن كثيرا منها تظلله أشجار النخيل ، أو أشجار الصبار (١) ، وجنبيات خضراء تسبغ على مكان الموت هذا ، هيئة زاهية. وكان هناك غير بعيد عدد من الشباب الهنود يلعبون بالراحية (ضرب من لعبة التنس) بمهارة فائقة وفرح غير عابئين بمن في جوارهم.

إن الموت لا يخيف المسلمين ؛ وهم في هذا مسيحيون ، أكثر من المسيحيين أنفسهم ، إن الطابع المأساوي الذي نسبغه ، نحن المسيحيين ، على الموت مخالفين / ١٣٣ / بذلك عقيدتنا الأصلية ، التي ترى في الموت خلاصا ، هو باب للعبور إلى الخلود الأبدي.

يذهب أقرباء الميتين وأصدقاؤهم في بعض أيام الأسبوع ، وخصوصا الجمعة ، الذي هو عند المسلمين بمثابة يوم الأحد لدى المسيحيين ، إلى المقابر ، ليس للبكاء أو الصلاة عليهم ، وإنما للتحدث مع الغائبين وكأنهم موجودون ، ولكي يتناولوا حول قبورهم وجبات خفيفة شهية بعيدا عن جو المقابر الكئيب (٢). وإن النساء على الخصوص هن الحريصات على القيام بذلك ، لأنه يسمح لهن كل أسبوع باقتناص بعض ساعات الحرية التي يستغللنها أحسن استغلال. إن مقابر إستانبول هي مكان التقاء ومواعيد ، وتحرص النساء التركيات من ذوات الغنى والنسب على زيارتها كل يوم جمعة ؛ ومع أنهن محجبات ، فإنهن يظهرن من أنوثتهن ما يسلب ألباب المارة. وإذا كان مظهر

__________________

(١) لاحظ بيرتون نمو شجيرات الصبار بين الطوب والحجارة ، وذكر أن شجر الصبار يزرع في المقبرة كتعويذة ضد الأرواح الشريرة كما تعلق جلود التماسيح المحشوة بالتبن فوق المنازل في مصر. وقد عزا بوركهارت زراعة هذه الشجيرات إلى اسمها الذي يشير إلى «الصبر» الذي ينتظر به المؤمن يوم القيامة. التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٤٨.

(٢) تحدث سنوك هورخرونيه عن زيارة القبور في صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٣٧٢ ـ ٣٧٤. وانظر كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٧ ـ ٦٩ ، و ٢١٦ ـ ٢١٧.

١٤٨

المقبرة في جدة زاهيا فإن الموضع الذي تقع فيه موحش وقليل الجاذبية : فمن جهة هناك البحر الذي ينتهي في هذا المكان ببحيرة شاطئيه تنتهي هي نفسها بسبخة ملحية ، ثم تأتي بعد ذلك الرمال ، التي تمتد حتى تخوم الأفق. وتلوح على البعد سلسلة من الجبال التي يلفها الضباب ، وتختفي ملامحها في عتمة المساء. لقد توافرت لي في هذا اليوم أيضا فرصة مراقبة قصر فترة الغسق في / ١٣٤ / هذه المنطقة الاستوائية. كانت الشمس قد غابت منذ قليل ، ولم يكن قرصها المتوهج قد غاص بعد في عرض البحر ، بينما كان الظلام قد بدأ يلف الجهة المقابلة من السماء : وكان الليل قد نزل تماما عند ما دخلت جدة عبر باب المدينة المنورة. كان سكننا قريبا من هذا الباب ، في المنطقة المرتفعة من الحي الشامي. هناك في جدة عدد من الخانات أو الوكالات لسكن المسافرين ، يجدون فيها في الوقت نفسه مستودعا لأمتعتهم أو بضائعهم ، ولأنفسهم غرفة خالية من كل شيء ، ولكن هذه الأمكنة مخصصة للتجار ، ولما لم نكن تجارا ، ولا نريد أن نظهر كذلك ، فإننا حصلنا على منزل كان فيما مضى يقيم فيه قنصل فرنسا ، وهو اليوم متروك لسكن العصافير. كان مالك المنزل يقيم في مكة المكرمة ، وكان وكيله المفوض في جدة لا يريد ، أو لا يجرؤ على تأجيرنا المنزل في غياب صاحبه ، وكان يقول إنه سيرسل إليه رسالة للحصول على موافقته ، ولكننا كنا على عجلة من أمرنا ، وبينما كان يتردد ، ويطلب وقتا للتفكير ، استقر بنا المقام في المنزل مؤقتا ، ودام هذا المقام المؤقت حتى مغادرتنا جدة ؛ أي شهرا كاملا : ولمّا كنا لم نحدد أي مبلغ فإننا دفعنا عند مغادرتنا ٥ تلرات ، وهو مبلغ مناسب للأجرة إن لم يكن كبيرا ، بسبب الحالة التي كان المكان عليها. إذ لم يكن في الحقيقة / ١٣٥ / من السهل إزالة الأنقاض التي كانت تملأ المكان. وقد استطعنا في نهاية الأمر أن نجعل غرفتين من المنزل مناسبتين للسكن ، وكانت أمتعة الرحلة من سجاد ووسائد وفرش كافية تماما لفرشها. واستولى طباخنا غاسبارو على المطبخ الذي كان يقع على السطح ؛ أما بقية الخدم فإنهم أقاموا حيث استطاعوا ، وكما استطاعوا ، وها نحن في مسكننا نعيش كبر جوازيين حضريين.

١٤٩

كانت غرفتي في الطابق الثاني ، نقبت لها نافذة ضخمة ، مغلقة ، أو من المفترض أنها كذلك ، بنظام بالغ التعقيد هو عبارة عن مصاريع للضوء تسمح بدخول الهواء والغبار والشمس والعصافير ؛ لأن الغرفة كانت مليئة بأعشاشها. هاكم ما كنت أراه وأسمعه عبر تلك النافذة في الأيام والليالي كلها. بادىء ذي بدء ، كنت أرى البحر يمتد امتدادا شاسعا ليلامس السماء في آخر حدود الأفق ؛ وكان هناك قليل من الأشرعة التي ترصع هذا الحقل الأزرق ، ولكنّ عري ذلك البحر كان يزيد من جلاله ، ويجعل الفكر مستغرقا في هواجس المطلق التي لا يمكن الحديث عن كنهها.

وإذا عدت إلى الأرض فإنني كنت أرى من عل القسم الشمالي من المدينة كله ؛ السوق الذي كانت تتناهى إليّ منه أصوات الناس والجمال ، وكنت أرى أيضا السطوح التي كنت ألمح عليها في الليل خيال النساء ، وكنت أرى أخيرا عددا من المساجد التي ترتفع مناراتها. وكان على بعد خطوات مني مسجد صغير ، وأنيق ، وله / ١٣٦ / رواقان خارجيان ، وكان له مؤذن عجوز ، يصدح بالأذان خمس مرات في اليوم : الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء ؛ وينبغي على المسلم أن يتوضأ لكل صلاة ، بغسل وجهه ، وما وراء أذنيه ، ويديه حتى المرفقين ورجليه وأماكن أخرى ، ومما يؤسف له أن صوت جاري المؤذن كان حادا ومرتعشا ، وفهمت عند سماعه ، لماذا جاء أحد سكان القاهرة القديمة بمؤذن ذي صوت جميل ، وكان يخصص له راتبا لكي يظل يؤذن من المنارة نفسها.

وكان بالقرب من المسجد منزل يتصل به ، ويسكنه العلماء ، وكان يقام فيه كل ليلة ، في وقت متأخر ، طقوس دينية صاخبة يتخللها أغان وصلوات ومواعظ ، وكان ذلك مترافقا بالموسيقى ؛ وأيّ موسيقى! وكان يرافقها الناي والطبلة. وكانت تقام بالقرب منه ، حفلات أخرى ، من طبيعة أخرى ، مختلفة كل الاختلاف : إنهم أفارقة سودانيون ، عائدون من الحج الأخير إلى مكة المكرمة ، يقضون المساء كله يغنون ويرقصون ، أغاني ورقصا متوحشين ، يذهبان بالفكر بعيدا إلى أعماق القارة الإفريقية.

١٥٠

وفي كل صباح ، وفي الساعة نفسها ، كانت تمرّ أمام نافذتي بدوية جميلة شابة من أسيوط في مصر ، تمثل نمطا أصيلا بين بنات جلدتها ، كانت تمر ، وهي تغني / ١٣٧ / بصوت ندي وناعم ، أغنية مأساوية حزينة ، كانت تكرّر على الدوام الأغنية نفسها ، وكانت رتابة الأغنية تجعلها أكثر حزنا وعويلا. كان قلبي ينفطر لسماعها في أول يوم وفي آخر يوم من إقامتي. أمّا في المساء فقد كان يحين دور أحد الهنود ؛ وهو متسول ينام على حصيرة في زاوية من زوايا الشارع ، ويغني هو أيضا على أرض أجنبية أنغام وطنه. كان يستمر في الغناء إلى ساعة متأخرة من الليل ، حتى إنه كان في غالب الأحيان يمنعني من النوم ، ولكنني كنت أغفر له ذلك لما كان يمنحني إياه من لذة وأنا أستمع إليه. وبعد هذا كله ، كنت على الدوام أسمع الصدى البعيد لصوت الدربوكة في أحياء المدينة المختلفة ، وأصوات الجوقات العسكرية ، وعيارات البنادق باستمرار ، وغالبا طلقة مدفع احتفالا بنصر ، تحقق أم لم يتحقق ، للأتراك على الروس ، آلاف الأصوات ، وبكلمة واحدة ، ضجة ضخمة مختلطة ، تشبه جلبة البحر البعيدة التي كانت في بعض الأحيان يعلو ضجيجها على كل ذلك. ورأيت في أحد الأيام من نافذتي مركبا يدخل ميناء جدة قادما من الجنوب ، وأعتقد أنني رأيت بمساعدة المنظار أن المركب كان محملا بحمولة بشرية ، وأخبرت أنه حقا يحمل من مصوّع دفعة عبيد من الجنسين ، وأنه كان بين النساء جارية تكاد تكون بيضاء ، مع أنها حبشية. ودفعني فضولي إلى رؤيتها ، ولكنها كانت قد بيعت فورا ، وبثمن غال لأحد الأتراك الذي أغراه لونها الفاتح / ١٣٨ / وهو من العاملين في الديوان ، أخو الباشا أو أحد أقربائه على الأقل.

إن العبيد البيض نادرون جدا هذه الأيام في أسواق الشرق ، ولا يكاد أحد يستطيع الحصول على ذلك إلا في إستانبول التي يوجد فيها وحدها الثروة الكافية للحصول على رقيق أبيض ، إنها نزوة تكلف ما بين ٢٠ إلى ٣٠ ألف فرنك ؛ إن مثل هذه الجواهر ليست ، كما نرى ، في قدرة أيّ كان. إن خيلاء هؤلاء النسوة لا يمكن احتماله : ولما كنّ يعرفن أن مصيرهن سيؤول إلى حمى

١٥١

أسياد من علية القوم وأقويائهم فإنهن يحتقرن بقية الرجال ؛ ويا لسوء حظ الشخص البسيط الذي يتجرأ على شراء إحداهن ، فهو لن يتأخر عن إعلان توبته ؛ ويكون عليه عندئذ أن يحمل مسرعا إلى السوق سلعته العنيدة المختالة.

عند ما كنت في مصر ، تلقى عباس باشا عددا من خيول السباق هدية من إمام مسقط ، وردّ له عباس باشا الهدية ، فأرسل له جاريتين بيضاوين ؛ جورجيّتين أو شركسيّتين ، وهي هبة غريبة ، بسبب سن المهدي إليه ، ناهيك عن المصير المزعج الذي ينتظرهما. وحدث أن وقعت السفينة التي تنقلهما خلال مرورها بمضيق باب المندب بأيدي سفينة حرب أوروبية فرنسية أو بريطانية ، لست أدري أيهما ، كانت تقوم بملاحقة تجار العبيد في المحيط الهندي. ولمّا كان المركب المصري يحمل عبيدا فقد عدّوه غنيمة قانونية ، وتمّ في الوقت نفسه / ١٣٩ / تحرير الجاريتين. وأجهل ما حلّ بهما ، ولكنني ، بحكم المعرفة التي اكتسبتها بطبائع الشرقيين ، متأكد من أن الجاريتين قامتا بلعن محرريهما ، بدلا من مباركة عملهم الإنساني الذي قاموا به ؛ لأنهن يفضلن الحياة الهانئة ، والمصير الطيب الذي وعدتا به عند ما تدخلان في حريم الأمير الحاكم ، على الحرية التي لن تدريا ما ستفعلان بها. أما بقية العبيد الذين حملوا من مصوع ، ذكورا كانوا أم إناثا ، فإنهم كانوا أطفالا لا تزيد أعمارهم عن أربع إلى سبع سنوات أو ثمان ، باستثناء حبشية يبلغ عمرها ١٣ إلى ١٤ عاما ، ولكنها ذات هيئة تكون عليها الأوروبية في الخامسة والعشرين من عمرها ، وقد كانت تلك الحبشية ، بعد مواطنتها التي يمكن القول : إنها بيضاء ، أثمن تلك الجواهر البشرية ، لأنه على الرغم من لونها الضارب إلى السمرة ، فإنّ الجلّاب علقوا عليها أملا كبيرا للحصول على ربح وفير. كانت الفتاة المسكينة معروضة في متجر مهجور في أكثر شوارع جدة سكانا ، كانت جالسة على مقعد يرتفع عن الأرض ثلاثة أقدام ، وكانت متسمرة عليه كأنها تمثال ، تنتظر من يشترونها في صمت عميق ، لقد ألقي عليها لسترها قطعة من قماش الكاليكو (١) الأبيض يلفها

__________________

(١) CAlicot ، ورد ذكره في رحلات بوركهارت ، انظر : الترجمة العربية ، موثق سابقا ، ص ١٧١ وكتبه المترجمان Calico ، وعرباه الكاليكو. وفي المنهل : عرباه كاليكوت ـ

١٥٢

من رأسها إلى قدميها ؛ ولم تكن ترتدي أي شيء تحته ، كان ذلك كل ما ترتديه ، ولم يكن الراغبون فيها ، جادين كانوا أم لا ، يتورعون عن رفع ذلك الغطاء الرقيق من كل الاتجاهات ليتفحصوا ، كما يرغبون ، السلعة المعروضة كما يحدث عند شراء حصان أو رأس من الماشية. سبق لي أن رأيت في القاهرة ، وفي عدد من المرات / ١٤٠ / عروضا مشابهة ، وتساءلت غالبا عمّا تشعر به هذه المخلوقات ، وعن التناوب الذي يعتريهم بين الخوف والأمل كلما جاء قادم جديد يرغب في شرائهن.

كان الجلّاب (تاجر الرقيق) يرغب كل الرغبة في بيعي تلك الجارية ؛ مع أنه يعلم أنه لا يمكن للفرنسيين شراء العبيد إلّا لتحريرهم ، وأن كل عبد يشترونه يصبح حرا بمجرد أن تتم عملية الشراء. كان يطلب من أبناء جلدته ١٥٠٠ فرنك ثمنا لها (١٢ صرة) ، وقد خفض السعر إلى (ثماني صرر) لكي يغريني بشرائها. وقد جال بخاطري للحظة أن أقوم بعمل صالح ، ولكنني للأسف اتبعت وصية الدبلوماسي الذي كان ينصح بالاحتراس من المبادرات الأولية لأنها مبادرات خيّرة ، وقلت في نفسي ، وأنا محق في ذلك ، إنني إن شرعت بشراء العبيد فإن الأموال المخصصة لرحلتي ستنفد عما قريب. لقد كان رفيق رحلتي من ناحيته يفكر بما كنت أفكر به ، ولكن هدفه كان أقل نبلا مما كنت أفكر فيه : إنه الإحسان النفعي! Carita ? Pelosa كما يقول الإيطاليون. وسواء كان خيرا أم شرا فإن مشروعه ومشروعي ظلا في حيز التفكير ، وبيعت الشابة الإفريقية ، لست أدري لمن. أين هي الآن ، وفي يد من وقعت؟

إن الرق بالتأكيد تعسف يبعث على الثورة ؛ إنه يحط من الطبيعة البشرية ، وينتج عنه آلاف التجاوزات. ولكنّه ينبغي الاعتراف أن مصير أولئك الحبشيات ليس محزنا كما يبدو / ١٤١ / من النظرة الأولى. ولما كنّ صائرات

__________________

ـ (قماش قطني خشن يصنع أصلا في مدينة كاليكوت على شاطىء مالابار). وفي معجم روبير الصغير أن تاءها لا تلفظ ؛ وقد كتبناها حسب ذلك.

١٥٣

إلى خدمة حريم المشتري فإنهن يصبحن من أفراد الأسرة ، وترتبط شروط عيشهن بمستوى عيش سيداتهن اللواتي يلزمن ، هن أنفسهن ، البيوت ، ويكدن هن أنفسهن يكن جواري شأن جواريهن. وأعترف أن سيدهن قد يقضي منهن وطره ، وهذا ما يحدث غالبا ، ولكنه بذلك يحظر على نفسه أن يبيعهن مرة أخرى : لأنه من العار على مسلم أن يبيع جارية عاش معها ، بل إن الأسياد يتزوجون عادة من الجواري اللواتي أنجبن منهم أولادا ، ويتم ذلك خصوصا في مدن الجزيرة العربية (١). وإن هذا النوع من الزيجات لا يؤدي ، ولو قليلا ، إلى جعل لون سحنة العرب غامقة ، ولكن التعصب ضد اختلاط الدماء غير موجود في هذه البلاد.

إن الأم مهما كان وضعها ، جارية سوداء من الطراز الأخير في السلم الاجتماعي في إفريقيا ، لا تؤثر في أصالة الولد ؛ إن الأب وحده هو أصل النسب ، وليس للأم أي حساب. ونحن نعرف أن السلطان نفسه الذي لا يعترف لأحد بالأصالة ، وليس له نظراء ، لم يتزوج ، وربما ما زال ، لا يتزوج إلا الجواري.

لقد شاهدت في مصر ، وبين الأوروبيين ، زيجات كثيرة من هذا النوع ؛ وعددا من الفرنسيين الذين أعرفهم لم يكن لهم زواج آخر إلا هذا ، وهم ليسوا في حال سيئة ، عدا أن المشهور عن الحبشيات أنهن مبذرات ، مما يدعو إلى القول : إنهن يخربن البيت. لقد عرفت منهن جميلات إذا غضضنا البصر عن لون بشراتهن ، فإنهن صالحات في أي مكان ، وحتى فيما يخص اللون / ١٤٢ / فإننا نعتاده بسرعة ، ولم أعد خلال وقت قصير أعير ذلك التفاتا.

وتعوّض الحبشيات هذا العيب البسيط ، إن كان عيبا ، بأن لهن بشرة

__________________

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٧٣ ـ ١٧٤ والمستقر في الإسلام أن الأمة بمجرد أن تلد تصبح «أم ولد» ويكون لها من الحقوق والواجبات الشرعية ما للزوجة ، وليس هناك داع لأن يكون ذلك بعقد زواج. انظر الحاشية (١) ص (١٧٤) من رحلات بوركهارت.

١٥٤

ناعمة ، وشعرا طويلا ناعم الملمس ، وبأن لهن قدودا ممشوقة ، وأشكالا أنيقة ، وقسمات متناسقة ، تليق بأكثر التماثيل الإغريقية جمالا ، ولهن أيضا عيون ساحرة ، وأسنان رائعة ، ويدان صغيرتان ، وقدمان دقيقتان. إنهن بكلمة واحدة حزن كل أسباب الجمال التي تكون في المرأة ، ولست مندهشا من رؤيتهن يثرن رغبات تستمر متأججة حتى بعد الزواج (١).

كانت نافذتي مطلّا أشرف من خلالها على الميناء كله : لا يدخله أو يخرج منه شيء دون أن أراه. لقد وصل عدد من القلعيات أو ثلاثيات الصواري المحملات بالسكر والأرز ، ناهيك عن مراكب البلد التي كانت تذهب وتجيء في كل يوم.

لقد كانت مفاجأة سعيدة لي ، عند ما رأيت في صباح أحد الأيام العلم الفرنسي يرفرف على سفينة حربيّة وصلت في الليل ؛ كانت الحرّاقة البخاريّة التي تحمل اسم لو كيمان Le Caiman ، الكابتن كورمييه Cormier من قاعدة الهند ، وصل إلى جدة في رحلة استطلاع. وتحمل السفينة على متنها ، ناهيك عن طاقمها المعتاد ، حوالي مئة من المدغشقريين المجندين مؤقتا من جزيرتهم للخدمة على متن السفينة ، مما يكاد يضفي عليها هيئة متوحشة. إننا أبناء بلد واحد جمعتهم المصادفة في جدة ، وتمّ التعارف بيننا بعد وقت قليل ، وأصبحنا أصدقاء من الساعة الأولى. / ١٤٣ / تناولت طعام الغداء على متن السفينة غير مرة ؛ وفعل مثل ذلك قائد السفينة وطبيبها في منزلي ، وأقيمت في القنصلية الفرنسية حفلة عشاء رسمية كان الواجب يفرض حضورها بسبب مرض القنصل.

__________________

(١) تحدث سنوك هورخرونيه باستفاضة عن الرقيق في كتابه : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٣١٩ ـ ٣٢٩. وانظر اكتشاف جزيرة العرب ، خمسة قرون من المغامرة والعلم ، جاكلين بيرين ، نقله إلى العربية : قدري قلعجي ، قدم له الشيخ حمد الجاسر ، دار الكاتب العربي ، بيروت ، د. ت ، ص ٣٣٢ ، وسنشير إليه من الآن فصاعدا ب «اكتشاف ...». وانظر :

Courtellemont, Gervais, Non voyage a ? la Mecque, Paris, Librairie Hachette et Cie, ٦٩٨١, pp. ٢٢١.

١٥٥

هذه المآدب المتفرقة ، التي ليست بذات دلالة في أوروبا ، تكتسب بعض الأهمية على بعد ١٢٠٠ فرسخ عن باريس : لأن المسافات تجمّل أكثر الأشياء ابتذالا. Elonginquo reverential. لقد ترسخت الصداقة بيننا عند ما قدم لي ضباط السفينة هدية لا تقدر بثمن في هذا المكان ، لقد تركوا لي عند مغادرتهم ١٢ زجاجة من نبيذ بوردوBordeaux. كانت الحراقة لو كيمان Le Caiman قد ألقت مراسيها بعيدا جدا عن المدينة ، وتمّ ذلك بناء على اقتراح السلطات المحلية ، وأظن في الحقيقة أن الباشا كان يخشى أن يكون الهدف من مجيء الحرّاقة هو الإغارة على المدينة ، وأن ضحالة الماء في الميناء ليست إلّا حجة. ولكن ذلك لم يمنعه من زيارة الحرّاقة في موكب ضخم ؛ وهي زيارة لم تكن في الواقع إلّا ردا على المجاملة بمثلها ؛ لأن قائد السفينة بادر ، كما ينبغي عليه ، إلى زيارة الباشا أولا. وأطلق الجانبان مدافع التحية بانتظام كما هي العادة في مثل هذه المناسبات ، وقد غالى الجانبان في ذلك ، ولم يختصرا. وظلت الحرّاقة أسبوعا ، وفي يوم مغادرتها رافقتها مسافة ستة أميال. وخلال عودتي إلى اليابسة مع البحار المحلي الذي رافق الحرّاقة حتى خرجت من قنوات الملاحة ، عانيت كثيرا من الحر الذي كان خانقا ، ومن انعكاس الشمس على البحر الذي كان في ذلك اليوم هادئا وشاحبا كأنه بقعة زيت. كان قائد السفينة المحبب يود بإلحاح / ١٤٤ / أن يأخذني إلى جزيرة بوربون (١) Bourbon. وكان الأمر مغريا جدا بالنسبة إلى رحالة ، ولو أنني استجبت لذلك الإغراء لما كنت مضيت بعيدا ، لأن سوء حظ الحراقة لو كيمان جعلها تغرق على سواحل زيلغ (٢) Zyla.

إن لقوتين أوروربيتين هما فرنسا وبريطانيا وحدهما قنصلين في جدة. القنصل الفرنسي هو روشيه ديريكور (٣) Rochet D\'Hricourt ، كان حينئذ على

__________________

(١) جزيرة بوربون أو جزيرة الرينيون ، جزيرة فرنسية في المحيط الهندي ، تقع شرق مدغشقر بحوالي ٧٠٠ كم.

(٢) قبالة ساحل إفريقيا الشرقي على البحر الأحمر.

(٣) Rouchet D\'Hricourt ـ روشيه ديريكور جاء في : اكتشاف ... ، موثق سابقا ، ص ـ

١٥٦

حافة الموت ، وقد مات منذ ذلك الحين ، وستتاح لي في الصفحات القادمة فرصة الحديث عنه. أما القنصل أو نائب القنصل البريطاني فهو كول.M Cole ، وهو في الوقت نفسه ، شأنه شأن زميله في السويس ، وكيل تجاري لشركة الهند الشرقية. وإن وظيفته ليست وظيفة بلا عمل بسبب العدد الكبير من الهنود الذين هم مواطنون بريطانيون ويقيمون في جدة. ولا نستطيع أن نقول : الشيء نفسه عن زميله الفرنسي الذي ليس له في الحجاز كله مواطن واحد. ولعله من المفيد أن نعلم أن الباب العالي العثماني يمتنع عن قبول اعتماد القناصل بحجة أن جدة مدينة مقدسة. كان سكننا ملاصقا لسكن السيد كول ، وكنت أقضي في منزله وقتا يساوي الوقت الذي كنت أقضيه في سكني. لقد حملت إليه رسالة من صديق مشترك هو السيد بيرتون ، وقد أسدى لي طوال مدة إقامتي في جدة خدمات جليلة.

لم نأت إلى جدة لأجل رؤية جدة نفسها ، ولكن بنيّة الذهاب إلى الطائف ؛ وهي مدينة صغيرة تبعد مسيرة خمسة أيام إلى الداخل ؛ وهي مشهورة في الجزيرة العربية بغزارة / ١٤٥ / مياهها ، وجودة ثمارها ، وخضرة بساتينها. وهي دار إقامة الشريف الأكبر ؛ أمير مكة المكرمة الذي بنى فيها

__________________

ـ ٣٣٨ : «... وقام فرنسي آخر يدعى روشيه دي هيريكور (ديريكور) برحلة على نفقته الخاصة لارتياد مملكة خوا في القسم الجنوبي من بلاد الحبشة. ولدى عودته ، قدرت الجمعية العلمية الفرنسية أنه بإمكانه القيام بعمل مثمر ، فيما إذا امتلك أدوات علمية ، فقدمت إليه أجهزة دقيقة ، وعلمته استعمالها ، وأرسلته في رحلة ثانية سنة ١٨٤٢ م فعاد منها بعدد وافر من المعلومات في مختلف نواحي المعرفة تتعلق ببلاد الحبشة بنوع خاص. ومع هذا ، لا تخلو رحلته ، ومروره بالقصير ، وجدة ، والحديدة ، والمخا من المعلومات الشائقة ، إذ كان قد طرأ تبدل عظيم في شؤون البحر الأحمر ما بين سنتي ١٨٣٩ ـ ١٨٤٢ م وذلك بتأثير الظروف السياسية الدولية».

وانظر ص ٣٤٠ ـ ٣٤١ من كتاب : اكتشاف ... ، موثق سابقا. وسيتحدث ديدييه بالتفصيل عن روشيه ديريكور في الفصل الثالث عشر المعنون ب «مغادرة جدة» ص ٣٠٦ ـ ٣٠٩ من الأصل الفرنسي ، وذكر أنه توفي في ٩ مارس (آذار) ١٨٥٤ م.

١٥٧

قصرا ، ولمّا كنا مسيحيين فإننا لا نستطيع القيام بهذه الرحلة بدون أن يأذن هو بذلك. وقد طلب السيد كول الإذن عبر مصطفى أفندي وكيل الأمير الشريف في جدة. ولم يتأخر الجواب ، وفيه أن الشريف سيستقبلنا بكل سعادة ، وأنه سيهتم برحلتي الذهاب والإياب : وسيرسل لنا هجنه ورجاله ليحملونا إلى الطائف ، ويعودوا بنا إلى جدة. وصل هذا الجواب اللطيف في ١٧ فبراير (شباط). ومهما كانت السرعة والمبادرة التي تعهد بها الشريف أن ينفذ بهما وعده ، فقد كان أمامي أسبوع انتظار كامل ؛ وكان ينبغي عليّ أن أشغله ، ولكن كيف؟ لم يبق لي ما أراه في جدّة. «لقد قال لي أحد السكان الأصليين : كيف ـ وأجبته بنعم ، ولكن هل الممكن أن يدوم الكيف ثمانية أيام؟» وقد يسألني أحد ما الكيف؟ وهأنذا أقول لكم :

عند ما ينهي العربي أعماله ، مهما كان نوعها ، ويكون يومه قد انتهى ، يعتزل الناس بين حريمه ، ويتخفف من ثيابه ، ويأخذ شيشته ، ويجلس متربعا على ديوانه ، ويستغرق عليه دون شعور ، / ١٤٦ / وهو يدخن في استرخاء بدني وروحي ؛ هو نوع من النوم والصحو ، دون أن يكون لا هذا ولا ذاك. ولا يجرؤ أحد في العالم أن يعكر عليه صفو هذه اللحظة الطقوسية حتى لو كان زوجته نفسها ، أو حتى أقرب الجواري إلى نفسه. إن حالة البين ـ بين هذه ، التي هي وسط بين الوجود واللاوجود ، والتي لا يمكن أن تعرّفها لأوروبي ، ولا يمكن له أن يفهمها ـ ليست إلا تطبيقا عمليا للممثل الشرقي القائل : خير لك أن تكون جالسا من أن تكون واقفا ، ومستلقيا من أن تكون جالسا ، ونائما من أن تكون مستلقيا ، وميتا من أن تكون حيا. ليس الموت الحقيقي هو المقصود هنا : لأننا في هذه الحالة لا نفكر ، ولا نشعر ، ولا نحلم ، ولا نعيش ، ولكننا نتنفس ، نعيش كما تعيش النباتات ، وهذا يمثل لدى العربي النعيم الأعظم ، والشعور المسبق بالنعيم الخالد. ذلك ما يسمونه الكيف.

وقد جعل الأتراك ، وخصوصا الطبقات الميسورة ، من هذه العادة الروحية ممارسة مادية ، وأفسدوا المتعة التي لا توصف للجسد والروح ، عند ما جعلوها مترافقة بشرب الكحول : إنهم يشربونه بشراهة حتى الثمالة ، وينتح عن

١٥٨

ذلك التصرف الحيواني ، عن ذلك الكيف (١) الذي لا يليق به هذا الاسم ، أن الإنسان يغط في نوم عميق. ونرى من خلال ما ذكرته أن الإنسان لا يستطيع ، مهما كانت قوة الإرادة لديه ، أن يستمر في ممارسة هذا النوع من الكيف أسبوعا كاملا. ولما كنت قد رأيت كل شيء في جدة ، فإنه لم يعد فيها ما يثير فضولي ، فتركت الاهتمام بالأشياء ، واتجهت نحو الناس ، وإليكم بعضا ممن / ١٤٧ / خالطتهم لقتل الوقت حتى يحين موعد مغادرتي إلى الطائف.

__________________

(١) أورد روبن بدول في كتابه : الرحالة الغربيون في الجزيرة العربية ، الترجمة العربية ، موثقة سابقا ، ص ٥٧ ، في الحديث عن رحلة بيرتون «... وقد استمتع بيرتون بجو الإسكندرية ، حيث وجد فيها ما يسميه العرب بالكيف ، فالرجل الشرقي يحب الخلود إلى الراحة والاستمتاع بالملذات الحيوانية ، وبناء القصور في الهواء ، وقد تجده جالسا تحت شجرة تفوح بالعطر مستمتعا باحتساء القهوة أو تدخين النارجيلة أو شرب الشربيت غير مكترث بما يدور حوله في الأمور التي تعكر صفو الحياة ، بينما الحياة الباردة في أوروبا تملي على الرجل الغربي أن يكون مفعما بالنشاط والحيوية».

١٥٩
١٦٠