رحلة الشام

إبراهيم عبد القادر المازني

رحلة الشام

المؤلف:

إبراهيم عبد القادر المازني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٠
ISBN: 978-977-420-228-3
الصفحات: ٢٤١

ـ حفاوة الشام بوفد مصر :

ويحسن بى أن أقول إن وفد مصر ـ حكومتها وجامعتيها ـ كان موضع التكريم والتبجيل وكان أعضاؤه جديرين بكل ما لا قوه من حفاوة وإجلال ولو أن الخيار كان لى لما اخترت غيرهم وقد كنت مزهوا بهم فخورا بأنى منهم وهم منى.

ـ زيارة المجلس النيابى :

وحدث ونحن نزور فى صباح اليوم الأول دار المجلس النيابى أن جلسنا على مقاعد النواب ، وكان المجلس فى أجازة. وكنت قريبا من الدكتور" طه حسين" وليس بيننا إلا ممر ضيق هو الفاصل بين مقاعد اليسار ومقاعد اليمين فقلت للدكتور طه" هذا حال مقلوب كان ينبغى أن تأخذ مكانى وآخذ مكانك فإنى من أهل اليسار.

ـ طه حسين يلقى كلمة شكر :

ونظرت إلى الحائط المواجه لنا فرأيت ساعتين على الجانبين فأما اليسرى فمعطلة وأما اليمنى فدائرة تعد الدقائق وتقيد الساعات فحدثت الدكتور طه بذلك وقلت يظهر أن ساعة المعارضة معطلة هنا ، وضحكنا.

وفى هذه اللحظة أقبل بعضهم على الدكتور طه وانحنى عليه وأسر إليه فقال (لا يا حبيبى عليك بالمازنى) والتفت إلى وقال (قم يا مازنى واشكرهم بكلمتين) قلت (أنا؟ يفتح الله يا سيدى إنى أولا لا أحسن هذا الضرب من الكلام وإن كان فى ذاته سهلا ثم أن صوتى خفيض لا يصلح إلا للمناجاة ، وأهم من كل ذلك أنك تمثل هنا

١٠١

حكومة بلادى فحقك التقديم ولا يجوز غير ذلك فأقتنع ونهض وقال خير ما يقال فى مثل هذا الموقف.

ـ زيارة مجلس الوزراء :

وانتقلنا من مجلس النواب إلى رياسة مجلس الوزراء فحيانا رئيس الوزراء بالنيابة ـ " لطفى الحفار بك"(١٨) أرق تحية ورحب بنا أجمل ترحيب فرد عليه الدكتور" مهدى البصير"(١٩) أحد ممثلى العراق ـ وإذا بمن عرفت فيما بعد أنه الشيخ" عبد القادر مبارك"(٢٠) من علماء الشام وأعضاء المجمع ـ يصيح من أحد الأركان مرحبا مؤهلا ويقول فى ختام كلمته : أن من دواعى سروره أنه سمى" عبد القادر المازنى"

فمال على الدكتور طه وقال (عليك به فقد وقعت وكان ما كان) قلت (بل على جدى به فإنه سمى جدى لا سميى)

فعاد الدكتور طه يقول (يظهر أن المفاجآت ستكون كثيرة فما كان هذا كله فى البرنامج فيحسن أن تعد خطيتين أو ثلاث).

قلت (أما قلت لك إنك تمثل حكومة بلادى فأنت المكلف أن ترد على كل خطيب فى كل حفل وكفى الله المؤمنين ـ مثلى ـ القتال).

التقيت بالشيخ مبارك ونحن خارجون فقلت له (يا مولانا شكرا ولكنك سمى جدى لا سميى أنا فإن اسمى إبراهيم وأحب أن أبشرك اعلم أن جدى كان من المعمرين فعاش إلى ما فوق المائة).

قال (بشرك الله بالخيرات إذن سأكون أنا أيضا من المعمرين).

وهكذا نجوت من الرد على الخطيب ولم تكن حيلة احتلتها وإنما كان هذا واجبى فما يسعنى ـ خارج مصر ـ إلا أن أحرص على أن

١٠٢

أكون على قدر المستطاع مثالا لما ينبغى أن يكون عليه المصرى وإلا أن أعرف حق كل مصرى فأؤديه له وقد كنت مغتبطا بما يلقاه إخوانى من التكريم والتوقير وكلهم أهل لهذا وزيادة وكنت فى مجالسى الخاصة أزيد القوم تعريفا بهم وبأقدارهم لا لأنهم غير معرفين بل لأنه كان يطيب لى أن أرطب لسانى بذكرهم ولم أستغرب حين علمت إنى إنما كنت أفعل مثل ما يفعلون فكان الدكتور طه يسأل عنى ويتفقدنى فى كل مكان فإذا جئته قال (خفت أن تكون زغت أو ضجرت أو ساءك أمر خلك معى فإنى لا آمن أن تزوغ) فنضحك وروى لى غير واحد من أهل الشام كيف كان يذكرنى بالخير الأستاذ الجليل أحمد أمين بك وتوثقت الصلة بينى وبين الأستاذ أحمد الشايب بسرعة ولم أكن قد رأيته من قبل وإن كنت أعرف آثار قلمه وأكبرها وأما الدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ عبد الحميد العبادى فصديقان جزاهم الله جميعا خيرا الجزاء فقد رفعوا قدر مصر وأعلوا شأنها.

وأنقذنى الدكتور طه بلباقته من ورطة فقد سألنى بعضهم عن" حلب" ماذا رأيت فيها وكيف وجدتها؟ فقلت بلا تكفير (لم يتسع الوقت لشىء وما رأيت فى حلب إلا القلعة القديمة ومسجد الفردوس الأثرى والسوق المسقوفة المشهورة ثم المحافظ) فظنوها نكتة وتناقلوها فخفت أن تبلغ المحافظ وهو رجل فاضل فيسوئه منى هذا المزح الثقيل الذى لم أقصد إليه فما كان من الدكتور طه حسين حين بلغة ذلك إلا أن صدهم عن اللغط بهذه الكلمة وأولها أحسن تأويل فاقتنعوا وأمسكوا.

وما أكثر ما أقال إخوانى المصريون من عثراتى وأصلحوا ما فسد بحماقاتى.

١٠٣
١٠٤

أربعة وأربعون عضوا فى المؤتمر

احتفال بمقبرة المعرى

(٦)

كان الاحتفال الذى أقامه المجمع العلمى العربى فى البلاد السورية بالذكرى الألفية لمولد المعرى ـ بالحساب القمرى ـ (مهرجانا) ولم يكن مؤتمرا أدبيا وكان الذى خطط له ذلك واقترحه أمين سر المجمع خليل بك مردم الشاعر المشهور ، وكان فخامة الرئيس السيد شكرى القوتلى (٢١) هو الذى يسر الأمر كله وأقنع الحكومة السورية بأن تمد المجمع بما يحتاج إليه من النفقة حتى لقد أعلن أنه مستعد أن يتحمل هو تكاليف المهرجان إذا لم تستطع الحكومة تدبير المال اللازم وكان من حسن الاتفاق أن أجمعت اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربى بالإسكندرية فى نفس اليوم الذى بدأ فيه المهرجان ، فلهجت الألسنة بذلك ، وعد هذا الاتفاق من

١٠٥

البشائر المؤذنة بالتوفيق وصار مدعاة) لمظاهرة عربية) بل لقد سمعت بعضهم يقول لصاحبه فى الطريق ونحن منصرفون من مقبرة المعرى : إن هذا من) كرامات أبى العلاء).

رحم الله الشيخ كان لا يعدم من يسلكه مع الزنادقة والملاحدة والكافرين فأصبح لا يعدم من يسلكه من أولياء الله الصالحين. وكان قبره مهملا وعظامه ليست فيه ـ بليت أو نبشت من يدرى؟ فإن ألف عام حقبة مديدة من الزمن ـ فالآن جدد قبره وسور المكان وزرعت الأرض وغرس فيه الشجر واجتمع عليه أربعة وأربعون من أدباء العالم العربى ، وشعرائه وعلمائه يقولون فيه وليبدءون ويصيرون وجعل له دفتر تدون فيه أسماء زوار الضريح وقد استكتبونى كلمة فى هذا الدفتر.

كما استكتبوا سواى ، فكتب ما معناه أن أبا العلاء لو كان داريا لما رضى عن زيارتى لقبره ولكنه لا حيلة لى فيما لعله كان خليقا أن يكره فإن يك هذا يسوءه فإنى أرجو أن يكون شفيعى أنه ـ كما يقول : ـ

ما باختيارى ميلادى ولا هرمى

ولا حياتى ، فهل لى بعد تخيير

ولو اتسع المقام لزرت إنى ما

زرت قبرا قط مذ رشدت وحدثونى

وأنا بالمعمورة ـ أن مستشرقا سأل بعض أهلها عن قبر أبى العلاء فنادى الرجل صبيا وقال له" انطلق بهذا الكافر إلى قبر الزنديق" ووجدت من عامة أهل المعرة من يسمى الشيخ" أبا على".

١٠٦

وقد تبينا من الحفلة الافتتاحية أن إلقاء ما عددنا من بحوث سيكون مشكلا عويصا فإن هذا كما أسلفت مهرجان لا مؤتمر والوقت المحدد لكل قائل ، نصف ساعة ليس إلا والجمهور يطلب الكلام المؤثر. وكنت قد شاورت إخوانى قبل ذلك فأشار الدكتور طه بأن تلقى خلاصات لما أعددنا وأن ندفع البحوث المطولة إلى المجمع للنشر فى أوانه وقد فعل هو ذلك وفعله أيضا أحمد أمين بك والأستاذ أحمد الشايب والدكتور عزام ، أما أنا فأقبلت على كلمتى أحذف منها وأختصر فما أجدانى هذا شيئا وخطر لى أن لعله كان الأوفق أن يكتفى بحفلة الافتتاح ، وحفلة الختام ، فيحضرهما الجمهور ويصفق فيهما لما يسمع على هواه ، وتعقد فيما بينهما جلسات فى الصباح والمساء لإلقاء البحوث المطولة على الراغبين فى الاستفادة من طلاب الأدب والعلم غير إنى تبينت أثناء المهرجان أن هذا مستحيل ، فإن لكل مدينة كبيرة من مدن الشام شخصيتها الخاصة وهى حريصة عليها ، ضنينة بها والتنافس بينها قائم فلا معدى عن إقامة حفلات بها كالتى تقام بدمشق وإلا غضب وقد فكرت فى هذا وعلته ، فلما قمنا برحلتنا الطويلة إلى حمص وحماة وحلب واللاذقية رأيت أن المدن متباعدة وأن الجبال والسهول تفصلها والعمران غير متصل بينهما فلا غرابة إذ أحست كل مدينة كبيرة أنها قائمة بذاتها وأن لها شخصيتها الخاصة التى تتميز بها وتنفرد على خلاف الحال فى مصر ، فإن اتصال العمران بين المدن ينفى الإحساس بالاستفراد وتميز الشخصية ويجعل حياة كل بلد ، متسربا فى حياة البلد الآخر ، أما فى الشام فحلب مثلا هى حلب ، ودمشق هى دمشق ولكل منهما خصائصها وهذا التميز ملحوظ

١٠٧

حتى فى تأليف الوزارات أحيانا مثال ذلك أن رئيس الجمهورية دمشقى ، وسعد الله الجارى بك (٢٢) الذى استقال من رياسة الوزارة منذ بضعة أيام حلبى وليس هذا بمطرد فى كل حال ولكنى أراه يراعى أحيانا كما قلت.

بساطة العلاقات بين الناس :

وقد تعجب بعض الإخوان الذين لا يعرفون الديار الشامية الديمقراطية (القوم) وأدهشهم وراعهم انتفاء التكاليف الرسمية وإيثار البساطة وقلة الاحتفال بمناصب الحكم أو الاعتذار بما يصاحبها من جاه وسلطان وأبهة ، فإنك تدخل على الوزير كما تدخل على الموظف الصغير ، ولا تحتاج إلى أكثر من الاستئذان الواجب ـ حتى ـ بين الأصدقاء ، فإذا انتهى العمل رأيت الوزير الكبير والرجل الصغير ـ موظفا كان أو غير موظف يجلسان ويتسامران كأنهما ندان.

ولا عجب فى هذا فإنه روح الشرق العربى كله ، لا فرق بين العراق والشام ولبنان وفلسطين والحجاز ونجد اليمن بل هى روح الإسلام الذى يجعل أكرم الناس عند الله أتقاهم ، وقد عجز الحكم التركى الطويل عن مسخ هذه الروح وتشويهها. وروح الشام جمهورية بحت ، فهى تسمح بالتحرر من كثير من القيود الرسمية وبإرسال النفس على السجية غير أن هذا لا يغرى بسوء الأدب أو قلة الذوق وليس أحسن أدبا ولا أرق حاشية ولا أحرص على المروءة من أبناء العربية فى هذه الديار عامة وفى الشام خاصة ، وقد يبلغ الخلاف والتنافس بينهم أشد مبلغ ، فلا يورث التقاطع والتدبر ولا

١٠٨

يمنع حسن المواطنة وجمال المعاشرة ويقسو بعضهم على بعض فى النقد ومع ذلك يأتى بعضهم بعض ويتلاقون ويتفكهون كأنما الذى بينهم هو الود الصريح والحب المحض وأحسب أن ذلك إنما كان كذلك لأنهم يدركون إدراكا صحيحا ما بين الواجب والحق من صلة فلا ينكرون الحق على صاحبه وهم يتقاضونه واجبه ، ولا يغلون فى نشدان الحقوق ويهملون الواجب ومن هنا على ما أظن اعتدل الميزان واستقام الأمر.

مزية لشباب الشام :

وسرعان ما يبين المرء أن أهل الشام أكثر توافرا على درس الأدب العربى والتاريخ العربى من غيرهم من أبناء العربية وما لقيت شابا هناك إلا وجدته واسع الإطلاع على الأدب والتاريخ ولعل إطلاعهم على الآداب العربية أقل وأضيق نطاقا ، وعسى أن يكون المصريون من أجل ذلك أرحب أفقا وأصح إدراكا لحقيقة معنى الأدب ، ولكنه لا شك فى أن شبابهم أكثر من شبابنا إحاطة بكنوز العربية وعناية بها والعربية هى لغتنا فلا مهرب من هذه العناية وتلك مزية جلية لأبناء الشام. وقد تجد شبابنا متعجلين يعالجون الشعر بغير آلة فلا يلقون تشجيعا ولا يسعهم إلا أن يقصروا ويفيقوا من حلم الشباب الذى أوهمتهم حيويته الدافقة أنهم يقدرون على كل شىء بآلة أو بغير آلة.

١٠٩
١١٠

أكلة علائية

(٧)

بدأ" العناء" فى سبيل أبى العلاء على حد قول الأستاذ الجليل إسعاف بك النشاشيبى من أول يوم من أيام المهرجان فقد دعونا فى ظهر ذلك اليوم إلى موائد مثقلة بألوان شتى من الطعام كانت تلوح لنا من بعيد شهية فنتلمظ ونتمطق قبل الأوان فلما قالوا" تفضلوا ذهبنا نعدو ، وإذا بواحد يشدنى من ذراعى ويقول : " هل تعرف أن هذه أكلة علائية؟ " قلت" ماذا تعنى؟ " قال : " كل ما تراه مطبوخ بالزيت ـ حتى الحلوى ـ ولا لحم من أى نوع" قلت"" أعوذ بالله".

فسألت والعمل؟ الزيت لا يوافقنى" قلت : " وهبه كان يوافقك فأين المعدة التى تحتمل أن تكتظ بهذه العشرات من الألوان المطبوخة بالزيت؟ لا يا سيدى يفتح الله تعال نؤلف حزب معارضة بل ثورة.

١١١

وقد كان ـ وصار حزب المعارضة قوامه الأستاذ إسعاف النشاشيبى وطه الراوى (٢٣) وأحمد الشايب والعبد لله ، واحتللنا طرف مائدة ودعونا عمال الفندق وأمرنا بلهجة حازمة أن يجيئونا بطعام آخر سائغ ولغظ القوم بثورتنا" الموافقة" وحسدونا وزعموا أنها فكاهة ظريفة وتظاهروا بأنهم لا يبالون بما يحشون به بطونهم من نار. وبعث إلى الأمير مصطفى الشهابى يقول : إن هناك إشاعة بأنى" سأرقصهم" بخطبة على هذا الطعام فكتبت إليه أقول أنهم سيحتاجون حقا إلى من يرقصهم طويلا بعد هذه الأكلة الشامية الشنيعة ، وأكبر ظنى أنهم سيعدون بعدها فى عداد الموتى ويؤسفنى أن الله لم يؤتنى القدرة على إحياء الموتى واعتزمت إذا دعيت إلى الكلام بكرهى أن أشكر طاهى الفندق الذى جاد علينا ببعض ما عنده وأنقذنا من هذا الهلاك ،

وأن أبرئ" المعرى" المسكين مما توهم هذه الوليمة التى كانت ألوانها تعد بالعشرات ولو كان يأكل كما أكلوا لمات بالتخمة غير إنى لم أحتج إلى كلام ما لأنى بعد أن أصبت الكفاية زعقت كالعادة.

ـ عناء الرحلة بين المحافظات :

وكانت هذه الأكلة بداية المتاعب فقد حملونا فى صباح اليوم الثالث فى سيارات وضعوا كل أربعة منا فى واحدة منها فانطلقنا ننهب الأرض ونقطع (١٢٥٠ كيلو مترا) فى ثلاثة أيام ، وكنا ننام بعد نصف الليل ونستيقظ فى بكرة الصباح مع العصافير ولا نستريح فى النهار لأنا لا نكون فيه إلا على سفر أو على طعام.

١١٢

وكان من حسن حظى أن كان رفقائى فى السيارة الأستاذ" ساطع بك الحصرى"(٢٤) مدير التعليم فى سورية الآن وكان على عهد المرحوم الملك فيصل فى سوريا وزيرا فلما دخل الفرنسيون بعد معركة" ميسلون" خرج هو ، وانتهى به المطاف إلى العراق فتولى أمر التعليم هناك وأشرف على الآثار ثم أخرج من العراق مع من أخرجوا من السوريين قبيل هذه الحرب فعاد إلى سوريا وعكف على التأليف فأخرج كتابة الضخم فى" ابن خلدون" وثنى بمجموعة نفسية من المقالات وهو رجل واسع الإطلاع كبير العقل مستقيم النظر ساحر الحديث.

والأستاذ العالم الجليل الشيخ" عبد القادر المغزى"(٢٥) عضو المجمع العلمى بدمشق ومجمع فؤاد الأول للغة العربية بمصر والمصريون يعرفونه لأنه أقام بمصر زمنا قبل الحرب الماضية وكان يكتب فصولا اجتماعية فى" المؤيد" ينحو فيها منحى الأستاذ الإمام الشيخ" محمد عبده"(٢٦) ومن غريب ما حدثنى به المغربى فى هذه الرحلة أنه زارنى مرة فى" البلاغ" ثم انقطع عن زيارتى لأنه قرأ لى فصلا أشكو فيه من كثرة الزوار

فحسب إنى أعرض به وأشير إليه فأقصر فاستعذت بالله من هذا الخاطر.

والأستاذ العالم الأديب" عز الدين آل علم الدين التنوخى (٢٧) من أعضاء المجمع العلمى أيضا ، وهو فوق ذلك محدث ظريف وشاعر لبق ، يستطع أن يرتجل البيت والبيتين فى المعانى القريبة يمازح بها إخوانه وقد قال بيتين مدحنى بهما ونحن نتصعد ونتصوب فى الجبال والأدوية وأوردهما على سبيل التسلية :

١١٣

فقلت له يا أخى وقاك الله السوء والمسخ والتشويه ماذا فعلت باسمى عفا الله عنك؟ أنا احذف الألف التى بعد الراء لأنى أحس أنها تفقأ عينى حين أراها فتجىء أنت فتثبتها وتحذف الألف الأولى؟ سبحان الله العظيم.

قال : " ضرورات الشعر"

قلت : " أكفنا شر هذا الشعر"

وكان ظن إخوانى إنى غير سعيد بهذه الرفقة ولكنى كنت على خلاف ما توهموا راضيا مغتبطا ولو خيرت لما اخترت غير هؤلاء السادة الأجلاء ، فإن فيهم من البساطة وخفة الروح وصدق السريرة وسماحة النفس ما يحببهم إلى كل قلب وسرعان ما صار كل منا لصاحبة مألفة فكنا إذا هممنا باستئناف السفر ، يبحث كل واحد منا عن أصحابه وينتظرهم ولا يركب حتى يركبوا وكان حديثنا ذا شجون كثيرة بعضه جد ومعظمه مزح وكان" الأستاذ عز الدين" لا يزال يستطرد من كل موضوع إلى ذكر الدروز ـ وهو منهم ـ ودينهم وعاداتهم وصفاتهم ومزاياهم وشعرهم فكنا نركبه بالفكاهة من اجل ذلك فصبر على هزلنا أحسن الصبر وأجمله حتى يخجلنا بسعة صدره وحلمه فنرتد إلى الرفق والمساناة.

ولما صرنا إلى" المعرة" دعانا" الحراكى بك"(٢٨) إلى العشاء وكانت الموائد موقرة مما نطيق حمله وبما لا يطمع أشره أكول مبطان أن يلتهم أقله ولما أديرت علينا الفاكهة رأينا تينا أخضر الواحدة منه فى حجم البرتقالة الكبيرة وطعمه أحلى من العسل فقال الأستاذ إسعاف بك النشاشيبى (آه الآن وقفنا على سر المعرى وعرفنا لماذا

١١٤

قنع بالتين فإن ثلاث تينات من هذه وجبة كاملة ولا حاجة لأحد بعدها إلى طعام آخر.

وخرجنا من" المعرة" فى نحو الساعة العاشرة مساء فبلغنا حلب عند منتصف الليل فأوينا إلى مخادعنا على الفور فأصبحنا فخرجنا للفرجة ثم دعانى إخوانى رجال الصحافة فى حلب إلى الغذاء معهم فزغت من المأدبة الرسمية وذهبت معهم وقضينا ساعات فى ناد هناك كانت من أطيب ما مر بى فى هذه الرحلة وأحلاه ، وخرجنا من هناك إلى ساحة مدرسة التجهيز كما تسمى على ما اذكر ، وكان على أن ألقى كلمتى فيها فذعرت حين رأيت سعة المساحة فطمأنونى وقالوا أنهم نصبوا مكبرا للصوت ودعونى أول ما دعوا إلى الكلام فإذا مكبر الصوت لا يكبر شيئا لأن به خللا فلما مللت الصياح وبح صوتى ، قلت لا فائدة من الاستمرار فما أظن أحدا يسمعنى ونزلت عن المنصة وبعد دقيقة أو نحوها قالوا : إن الخلل أصلح فعدت إلى الكلام وفى ظنى أنهم ما قالوا إلا الحق فلما فرغت علمت إنى إنما كنت أحدث نفسى.

ومن الغريب أن مكبر الصوت صلح حالة واستقام أمره إلى آخر الحفلة فتذكرت مثلنا العامى (اللى مالوش بخت يلاقى العظم فى الكرشة) كان العزم أن أرجئ حكاية منعى من دخول فلسطين إلى أوانها ولكن جريدة" المقطم" ـ جزاها الله خيرا ـ تفضلت بكلمة طيبة مشكورة فى الموضوع أعربت فيها عن كريم عطفها على واستنكارها لما وقع لى ، فوجب أن ابسط الأمر للقراء فإن فيه لعبرة.

كانت محطة الشرق الأدنى ممثلة فى المهرجان فخاطبنى مندوبها الفاضل فى أن أذهب إلى" يافا" وأذيع حديثا أدبيا أو

١١٥

حديثين فترددت لأنى كنت معتزما أن أعود بالطائرة فى يوم الخميس الخامس من أكتوبر ولكنه أقنعنى وقال : إن فى وسعى أن أسجل الأحاديث فى" يافا" واستقل الطائرة من" اللد" فاتفقنا على أن أسافر إلى فلسطين فى الثانى من أكتوبر واتفق على مثل ذلك مع زملائى الأساتذة الأجلاء" أحمد أمين بك ، والدكتور عبد الوهاب عزام" وعبد الحميد العبادى ، وأحمد الشايب ، والدكتور أسعد طلس" غير أن موعد السفر تأخر إلى يوم الأربعاء لرغبة الأستاذ أحمد أمين بك فى الاستراحة يومين بعد المهرجان.

وخرجنا جميعا من دمشق ضحى الأربعاء فى سيارتين إلى" القنيطرة" ومنها إلى الحدود بين الشام وفلسطين عند نقطة تسمى" جسر بنات يعقوب" وقد دفع إلينا الأستاذ : حمدى بابيل"(٢٩) قبل سفرنا كتاب توصية إلى ضباط الحدود يعرفهم بنا ، ويذكر أننا ذاهبون إلى يافا ضيوفا على محطة الشرق الأدنى لإذاعة أحاديث أدبية منها :

ـ إذاعة الشرق الأدنى بيافا :

وخرجنا من سورية وبلغنا نقطة البوليس على حدود فلسطين ، فخرج لنا ضابط إنجليزى دفعنا إليه الجوازات. وأبنت له كتاب التوصية ، فقرأه وابتسم وأعاده إلىّ. وقال (خله معك فقد ينفعكم) وختم الجواز بإذن الدخول بعد أن دعانى إليه وألقى علىّ بعض أسئله لأنى صحفى والصحفيون على ما يظهر غير مرغوب فيهم ، ولكنه لم يثقل واكتفى بالأسئلة وأجوبتها ثم ودعنا بلطف. تمنى لنا رحلة سعيدة. فانطلقنا حتى بلغنا ............ الجمارك ، وفيها مكتب

١١٦

لرجال الأمن العام ، فأبرزت كتاب التوصية مرة أخرى للضابط فأخذه مع الجوازات وارتد إلى غرفته ، وبعد دقائق أعيدت جوازات زملائى إليهم ، ودعيت أنا إلى مكتب هذا الضابط فضحكنا وقلت هذه آفة الصحافة.

وجلست أمام الضابط فسألنى عن مسقط رأسى وعن أبى وأمى فقلت له مازحا ـ إننى الآن لا أب ولا أم فقد ماتا رحمهما‌الله. ونظر فى كتاب التوصية ثم فى الجواز وقال : إن اسمك فى كتاب التوصية" عبد القادر المازنى" وفى الجواز" إبراهيم ......"

فأدركت أنه يلتمس حجة يردنى بها فقلت له" يا سيدى" إنى غير مسئول عن كتاب التوصية معظم الناس يختصرون الأمر ويهملون اسمى الأول على أنك تستطيع أن ترمى كتاب التوصية فى السلة أو تهمله وحسبك الجواز وفيه اسمى كاملا وصورتى وهذا وجهى أمامك.

فانتقل من ذلك مناقشتى فى هجاء اسم المازنى بالإنجليزية فى الجواز فأدركت أنه ليس بالإنجليزى وإن كان يجيد الإنجليزية وبينت له أنه مكتوب كما ينطقه الناس عادة.

ثم قلت له" اسمع من فضلك" أنه يستوى عندى أن تأذن لى فى الدخول أم تمنعنى منه ولكن رجائى إليك أن لا تطيل وتضيع الوقت فإن إخوانى لا يستطيعون أن يستأنفوا السفر إلا إذا عرفوا مصيرى فلا تجعلنى سببا فى إتعابهم.

فقال : إنها مسألة دقائق ليس إلا فانصرفت ولكن الدقائق صارت ساعتين وزيادة. وكنا نجلس فى السيارة تارة ونتمشى تارة

١١٧

أخرى ولا راحة فى الحالين. وقلت لإخوانى أن أكبر ظنى إنى مردود عن فلسطين فقال الأستاذ أحمد أمين بك" إذا لا إذاعة" ونسافر إلى مصر دون أن نعرج على محطة" يافا" فوافقه بقية الإخوان. وقال الدكتور طلس" وأعود أنا معك إلى الشام" فحاولت أن أثنيهم عن الإضراب عن الإذاعة ، أو أثنى الدكتور طلس عن الأوبة معى فأبوا كل الإباء واتفقنا على اقتسام السيارتين فيأخذ أخوان واحدة ، ونعود أنا مع الدكتور طلس فى الأخرى.

وأخيرا خرج علينا الضابط وقال لى إنه شديد الأسف وأن القدس أبت أن تأذن لى فى دخول فلسطين. وأنه يأسف مرة أخرى لأنه ليس عنده ما يركبنيه فى عودتى إلى الشام.

ـ العودة بلا دخول :

فطمأنته وقلت له" لا تخف على ، ولا تحزن ، فإن معى سيارة" فاطمأن وأظهر السرور ، وأراد أن يلقى على أسئلة أخرى فقلت له : وأما بعد رفض الدخول فلا سؤال ولا جواب وما شأنك بى وقد رددتنى عن البلاد؟.

وهكذا رجعت مع الصديق الكريم الدكتور أسعد طلس. ولما بلغنا الحدود الأولى استغرب الضابط الإنجليزى لأنه كان قد أذن لى فى الدخول ، وسألنى مازحا. أتراك ارتكبت جريمة؟ فقلت" ليتنى فعلت. إذن لعرفت السبب".

وصار الأمر مشكلا ، لأن تأشيرة الدخول فى سورية انتهت بخروجى منها غير أن موظفى الحدودا لسورية كانوا من أظرف خلق الله وأرقهم فأعربوا عن عطفهم وأسفهم ، وألغوا" تأشيرة"

١١٨

الخروج ، وأرادوا أن يحتفوا بنا فاعتذرنا بضيق الوقت وبعد الشقة ، واستأنفنا السير فدخلنا" دمشق" فى منتصف الساعة التاسعة ليلا ، فإذا أمامى مشكل آخر : هو أن الفنادق كلها غصت بالنواب الذين جاءوا من أرجاء الشام لحضور جلسة البرلمان فى صباح اليوم التالى فأين أبيت؟ وعلم الأستاذ الجليل إسعاف بك بهذا المشكل ، فهمس فى أذنى أن بغرفته سريرا ثانيا لا ينام عليه أحد ، وأن هذا يحل الإشكال إلى الغد ، فهممت بالاعتذار لأنى أعلم أن الأستاذ إسعاف لا يطيق أن ينام معه فى غرفته مخلوق فكيف أنغص عليه رقاده؟ وأنا مثله أوثر النوم وحدى ولكنه لم يكن لى مفر من قبول ما تفضل به مشكورا.

وتشهدت ، وقلت آكل لقمة فما طعمنا فى نهارنا شيئا يذكر ، وإذا بخادم الفندق يسألنى عن حقيبتى أين هى لحملها إلى حجرة إسعاف بك فأخبرته أنها فى السيارة ، ولكن السائق كان قد ذهب بالسيارة ـ لا أدرى إلى أين ـ ونسى أن يترك لى شيئا ، ولا أحتاج أن أقول إنا وجدناه وأنه رد الحقيبة معتذرا عن سهوه.

١١٩
١٢٠