رحلة الشام

إبراهيم عبد القادر المازني

رحلة الشام

المؤلف:

إبراهيم عبد القادر المازني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٠
ISBN: 978-977-420-228-3
الصفحات: ٢٤١

مبارز؟ وأن العقاد لقدوة صالحة وأن المعرى لقدوة أخرى فما بارح بيته أربعين سنة وزيادة وردث على أهل العلم أسألهم عن" التعازيم" التى تزهد الناس فيما يراد تزهيدهم فيه ، لعلى أستطيع أن أصرف طه وشركاه عن السفر فاستأثر بالحلبة كلها وخطر لى أن أحاول أن أبعث إليهم بموجة نفسية تنميهم على البعد فأوحى إليهم أن يقعدوا عن السفر وعلمت أنهم ذاهبون بالقطار فقلت أذهب أنا بالطائرة وعسى الله أن يعطل قطارهم أليس الله يفعل ما يريد؟ ألم تمت أمى وهى عنى راضية ولى داعية؟ بل لقد تمنيت أن تسقط الطائرة فلا تقتلنى ولكن تكسر لى ذراعى فيكون لى هذا عذرا كافيا ومخرجا وسعيا من هذا المأزق ويتسنى لى أن أدعى إنى كنت أعددت بحثا أى بحث ولكن مشيئة ربى قضت أن أتخلف ولما كان قلمى عويصا وخطى رديئا وآلتى الكاتبة قد سطا عليها من سطا ولا بارك الله له فيها فإن من العسير أن أنيب عنى أحدا فى تلاوته.

وكان لابد أن أبلغ المجمع العلمى العربى بدمشق عنوان بحثى والعنوان آخر ما أكتب وأنا لم أكتب شيئا. فقلت : إن الله لم يخلق لى هذا الرأس الذى بين كتفى ـ عبثا ـ أبعث إليهم بأى عنوان يخطر لى الآن ـ وأحتاط فأقول فى كتابى إليهم إنى مندوب نقابة الصحافة المصرية وأنه يجب من أجل هذا أن يكون لى مكان ملحوظ بين ممثلى الهيئات فى هذا المهرجان ، ثم أسافر على بركة الله وأعترض على كل مكان أوضع فيه ، بين الباحثين أو الآكلين أو القاعدين أو الواقفين وأغضب وأثور واحتج باسم الصحافة المصرية على ما لحقها من هوان وأقاطع المهرجان وأذهب أتنزه على هواى وكفى الله المؤمنين شر القتال ولا بحث ولا يحزنون ولا وجع دماغ.

٨١

ومن العجيب أن هذا الخاطر استولى على نفسى واستبد بها ، فما تناولت القلم إلا قبيل السفر بيومين اثنين وكنت قد شبعت من القراءة والمراجعة وأشبعت المعرى وأوسعته ذما ونقمة أليس هو الذى جر على هذا العناء الذى كان بى عنه غنى؟ ولماذا عدت السنون التى انقضت على وفاته بالحساب القمرى؟ ولو عدت بالحساب الشمسى لبقى على تمام الألف ثلاث وثلاثون سنة ، والله إنها لفكرة أذهب إلى القوم وأقول لهم أن إقامة المهرجان فى هذا الأوان غلط فى غلط وأن الشيخ عفا الله عنه يستقل عقلنا ويسخر منا فى قبره إذا كانت عظامه ما زالت باقية فيه ، أو فى الجنة أو فى جهنم فما أدرى ماذا صنع الله به ، وإنه لقادر على مثل هذه السخرية فإنه فى كتبه يعابث الملكين اللذين يحاسبان الميت ويسألهما أسئلة نحوية ولغوية.

وكان هذا كله منى عبثا لا خير فيه ولا طائل تحته فتركت الطائرة فلم تسقط وركب إخوانى القطار فلم يتعطل وكان أول ما أصابنى مما يسميه الأستاذ الجليل إسعاف بك النشاشيبى (٨)" العناء فى سبيل أبى العلاء" إنى فقدت" قداحتى" قبل أن أركب السيارة إلى المطار وقد يستخف الناس بهذه الخسارة وإنها لخسارة هينة أهون بما ثمنه قروش ولكنى أستحيى أن أتقدم إلى من لا أعرف وأسأله أن يعيرنى عود ثقاب أو أن أبدأ بأى كلام فما العمل؟ كان العمل إنى ظللت إلى أن بلغت الفندق فى" دمشق" أضرب يدى فى جيبى لأخذ (١) سيجارة ثم أخرجها فارغة وإنى حرمت التدخين أربع ساعات ونصف ساعة فتأمل هذه الفاتحة.

٨٢

الطائرة والمطار والركاب

(٢)

وكان المطار يعج بالخلق ونظرت فإذا الطائرات المصرية شتى فتقدمت إلى الميزان فتبسم الضابط ـ ومعذرة إذا كنت مخطئا فإنهم هناك جميعا يلوحون ضباطا ولا علم لى بدلالات هذه الأشرطة التى على الأكتاف ـ ولكن هذا لم يكن دورى ، وعلى كثرة الناس والطائرات وبعضها يذهب إلى" فلسطين" والبعض إلى" بيروت" أو" تونس" أو" دمشق" لم يكن ثم ضجة أو زحام وكان كل شىء يجرى بنظام وفى سكون يوزن المسافر وتوزن حقائبه فيحملها الخادم إلى (الجمرك) ويذهب المرء إلى مكتب الجوازات ومنه إلى (الجمرك) ثم يخرج إلى حديقة صغيرة على هامش المطار حتى يدعى إلى طائرته.

٨٣

وكانت طائرتنا (الفسطاط) ضخمة ذات محركات أربعة ولم أر أظرف ولا أرق حاشية ، ولا أصبح وجها من الطيارين اللذين يقودانها وقد أسفت لأن الحياء منعنى أن أتحدث إليهما وأعرف اسميهما وكان حذقهما كفاء ظرفهما فكانت الطائرة تهبط فى كل مطار على الطريق فى موعدها لا تتقدم عنه ثانية ولا تتأخر ولم أشعر إلا بالراحة والطمأنينة فاضطجعت ونمت فلما نزلنا فى (اللد) أو على الأصح فى مهبط قريب من مطار اللد قلت فى سرى" آه ... ماذا سيصنع بى هذا الرجل المنتفخ الأوداج القاعد فى خيمته؟ لقد عودتنى" فلسطين" فى السنوات الأخيرة أن تردنى عنها وأن تتلقانى متهجمة ولا تأذن لى فى الدخول إلا وهى كارهة متوجسة كأنى كتلة من الديناميت لا إنسان من اللحم والدم.

* * *

٨٤

محطة القدس

بين" اللد" و" الرملة"

وقد حدث مرة أن دعتنى قبيل الحرب محطة" القدس" اللاسلكية ـ وهى مصلحة حكومية ـ إلى إذاعة حديث منها عن" النبوية" فقبلت مغتبطا وسافرت بالطائرة فلما وقفت أمام الموظف المختص بالجوازات رأيته يتردد وهو يختم الجواز ويراجع اسمى ثم يتناول كتابا أسود ضخما فينظر فيه ثم يدعونى أن انتظر فى المقصف أو حيث شئت وبعد ساعة أو أكثر يدعونى إليه ويعرب لى عن أسفه لأنه مضطر أن يأبى على الدخول وأن يعيدنى إلى مصر ، ثم تفضل ، فأنبأنى أن الطائرة القادمة من" بغداد" ستصل بعد ثلث ساعة ففى وسعى أن أستقلها إلى مصر.

فتعجبت لأن حكومته هى التى دعتنى فكيف تصدنى عن بلادها وأريته عقد الإذاعة ، فهز رأسه وقال إن هذا ليس من شأنه وإنما تلقى أمرا فهو يمضيه.

٨٥

قلت" أليس هنا تليفون" لأتحدث مع محطة الإذاعة وأبلغها الخبر فلست أحب أن تظن بى إنى أخلفت الوعد.

قال" بلى" فى الرملة تليفون وتستطيع أن تتحدث منه وتخاطبها و" الرملة" ـ فاعلم ـ على مسافة عشر كيلو مترات.

وكان إلى جانب غرفته ، غرفة أخرى فيها مكتب لشركة مصر للطيران وبها تليفون ، ولكنه آثر أن يبعث بى إلى الرملة على مسافة عشرة كيلو مترات. واتصلت بمحطة القدس بعد لأى اتصلت هذه بإرادة" الأمن العام" فى" فلسطين" فعدلت عن المنع وأذنت لى فى الدخول فأقبل موظف الجوازات مهر ولا طافح البشر والسرور ولسانه يجرى بعبارات التهنئة لى.

قلت يا أخى؟ إنما التهنئة لكم دونى فما يعنينى أن أدخل أو أخرج وأن الأمرين عندى سيان وقد كان الطيران إلى هنا نزهة جميلة وأرى حفاوتك بى الآن عظيمة وكنت قبل ذلك تنسى أن على ذراعين من غرفتك تليفونا غير حكومى ولا تذكر إلا التليفون الذى فى الرملة فإذا كان لابد من الرد أفلا يمكن أن يكون بالتى هى أحسن دون التى هى أخشى؟ وذكرت هذا الذى اتفق لى منذ ست سنوات أو أكثر فاشتقت أن يتكرر وضاعف هواجسى ووساوسى أن موظف الجوازات الذى فى الخيمة صرفنى على أن يبعث إلى بالجواز فى الطائرة ولم يكن وجهه وهو يتأملنى يبشر بخير فانصرفت وأنا قلق ولم أستطع أن أذوق عصير الليمون الذى قدمته لنا شركة مصر بالمجان ولكن الله سلمّ. وعادت الطائرة إلى التحليق ، وكنت راكبها الوحيد بعد أن غادرها الآخرون فى" بور سعيد" واللد" فانتفخت ووضعت رجلا على رجل ولكننى شعرت

٨٦

بالبرد وكنت أرتدى أخف ما يرتدى فى الصيف فتجمعت ونظر إلى الطيار الثانى وهو يبتسم وهز رأسه كأنما يريد أن يقول إنى مسافر بطائرة خاصة فأشرت إليه إنى مقرور ، فخف إلى جزاه الله خيرا وحجب منافذ الهواء وجاءتنى ببطانية فشكرت ونمت.

وهبطنا فى مطار" المزة" على مسيرة دقائق بالسيارة من دمشق فإذا بأربعة حول منضدة يدور عليهم الجواز ويفحصه كل منهم ولكنى كنت مطمئنا فإن هذه دمشق لا اللد وسورية لا فلسطين والأمر هنا لأهل البلاد لا لدعاة الوطن القومى ولم يخب ظنى فلقيت من رجال الجوازات وموظفى الجمرك التيسير والحفاوة ولم يكن معى شىء إلا ثيابى وإلا الكلمة التى أعددتها لمهرجان المعرى ، وقد أظهرتها لهم وأطلعتهم عليها فتبسموا وتركوها لى فى الحقيبة وليتهم أخذوها. إذا لوسعنى أن أعتذر بأنها معهم وأنى لا أستطيع من أجل ذلك أن ألقيها ، فأتقى سواد الوجه ولكن كل شىء كان لمكيدتى فلا مفر من الفضيحة على ما يظهر بين هذا الحشد من أعلام الأدب والبيان والأمر لله. وليست هذه أول مرة أزور فيها" دمشق" فقد زرتها قبل عشر سنوات لا أراها قد غيرت منها كثيرا فما زالت كما عهدتها وما انفك من عرفت من أبنائها كما كانوا كأن السن لم ترتفع بهم أو كأن شبابهم عليهم سرمد حتى من كانوا شيوخا يوم لقيتهم قديما ، ظلوا ملء بهاء وإشواق ديباجة فلابد أن تكون دمشق هذه قطعة من الجنة ، أليست الأنهار تجرى من تحتها؟ أليس أهلها منها فى جنات وعيون" لهم فيها فاكهة ولهم فيها ما يدعون" يطاف عليهم بكأس من معين" بيضاء لذة للشاربين" وعندهم قاصرات الطرف عين" كأنهن بيض مكنون؟ آمنت بالله.

٨٧

وكان أول من رأيت على باب الفندق صاحب مجلة الأحد ـ إيليا شاغورى (٩) ـ وهو صديق قديم أثير لولا أن يكره أن أصفه بالقدم وله العذر فإنه ناعم رفاف الشباب والله وحده أعلم لما طوى من سنن ولعل قلبه الكبير المعطوف هو الذى يرقرق فى محياة هذا الرونق العجيب ولكن ألم أقل أن القوم فى دمشق لا يهرمون؟ ولمحت خلفه وعلى قيد أمتار منه أستاذ العربية الجليل" إسعاف بك النشاشيبى" أعلم من عرفت بلغة القرآن وأدبها وتاريخها وأغير من لقيت على دين محمد والإسلام الصحيح.

فقال وهو يعانقنى" سل إيليا" ماذا تنوى الآن؟ .. قلت .." استوثق من الفوز بغرفة فى هذا الفندق الفخم ثم آكل فإنى أتضور". قال هنا؟ قلت" ولم لا" قال : أعرفك تحب الأكال الشامية ولن تجدها هنا فتعال معى" وألححنا معا على الأستاذ إسعاف حتى أسلم أمره إلى الله ففزنا به.

* * *

٨٨

وصف الحياة فى دمشق

ومقارنتها بالحياة الاقتصادية فى مصر

رأيت عصر ذلك اليوم الأول أن أزور المجمع العلمى ، فإنه هو الذى يقيم المهرجان وهو الداعى إليه ، ثم لأن لى معه قصة فقد بعث إلى رئيسه الجليل الأستاذ" محمد كرد على"(١٠) قبل عام ونصف بكتاب تلو كتاب ينبئنى بأن المجمع اختارنى عضوا فيه فقصرت فى واجب القبول والشكر أو هذا ما ظن القوم بى ، فقد حمل إلى غير واحد من القادمين من دمشق عتب صديقى الأستاذ كرد على ، أما الحقيقة فهى إنى ما قصرت ولا أهملت فقط كتبت الجواب ودسسته فى جيبى لأضعه فى صندوق البريد فنسيته وما أظن به إلا أنه فى بعض جيوبى إلى الآن فإنى أغير ثيابى فيحرص أهل بيتى على أن يدعوا أوراقى حيث أتركها فإذا كان لابد من نقلها وضعوها لى تحت المخدات ، أو فى حيث يسهل أن أراها واكتفوا بتنبيهى فأقول لهم : طيب ، طيب" وأعود إلى ما أنا مشغول به

٨٩

وأنسى كل ما عداه كالعادة وتمضى الأيام ويعلو الكوم الذى تحت المخدة حتى يتعذر النوم المريح فاضجر وأتذمر وأروح أنفخ وأسخط وأقول" ألا يمكن أن أجد فى هذا البيت الطويل العريض وسادة لينة. فيقولون لى" إن الذنب للأوراق التى نحشرها تحت الوسادة لا للوسادة" فأصيح أنا الذى يحشرها أم أنتم الحاشرون؟ خذوها فأحرقوها واصنعوا بها ما شئتم فما يعنينى إلا أن أريح هذا الرأس المكدود. لكأنى والله عبد رق اشتريتموه أتعب لتنعموا بالخفض والدعة ونضرة العيش وكل حظى بعد الجهد والمشقة دكه ووسادة كالحجر ، فإذا شكوت قلتم هى الأوراق سبحان الله العظيم كأنما كان يمكن أن تعيشوا طاعمين كاسين مكفين لو لا هذه الأوراق. وهكذا نسيت الجواب فضاع أو أكلته النار أو لا أدرى ماذا صنع الله به ، فلابد من زيارة المجمع والاعتذار إليه. وقال أحد الأخوان" ولكنك" لا تعرف الطريق إلى المجمع قلت" بل" أعرفه فإنه من المسجد الأموى قريب. وقال آخر" يحسن أن نطلب لك مركبة تحملك إليه وتتفق لك مع سائقها على الأجر سلفا" قلت" لا بأس" وجاءت المركبة وقيل للسائق احمله إلى المجمع لعلمى وزاد أحد الواقفين فقال للحوذى إنه عند مسجد دجنس ـ أو نجس فقد نسيت ـ فهز الحوذى رأسه وقال" : تكرم" ورضى أن يكون أجره" ليرة" سورية أى مائة قرش سورى وهى تساوى أحد عشر قرشا مصريا.

واضطجعت فى المركبة فسارت بى عشر خطوات ونصف خطوة ووقفت فسألت" ماذا جرى؟ " قال" هذا جامع دجنس وهذا هو المعهد" فخطر لى أن لعل المجمع انتقل إلى دار أخرى فترجلت وأنا أتعجب

٩٠

لماذا أبى إخوانى إلا أن أحمل فى مركبة لأقطع خطوات أتراهم ظنونى كسيح؟ ونظرت فرأيت مسجدا فيه" معهد شرعى" فقلت يا أخا إن هذا غير ما أبغى هذا معهد شرعى وأنا طلبى المجمع العلمى قال" إنما قالوا لى جامع دجنس وهذا هو الجامع وفيه المعهد" فأنقدته الليرة وأنا أحدث نفسى أن" روكفلر"(١١) كان خلقا أن يتناهى به سوء الحال فى القفز إذا كانت كل عشر خطوات تكلفه ليرة واستغنيت عن المركبة وسرت على قدمى إلى" سوق الحميدية" ودخلت فيه حيث أعلم أن المجمع قائم فإذا به ما زال هناك ولكن لا أحد به غير بضعة حجارين ينحتون حجارة ويرصفون بعضها إلى بعض فى أرض الفناء. وخفت أن أستقل سيارة أو مركبة وأنا عائد فيتقاضى السائق أو الحوذى فوق ما حصلت معى من مصر من مال. والحقيقة إنى لا أدرى كيف يطيق الناس هذا العيش فى الشام ولا من أين يجيئون بالمال حتى للكفية بمجردها؟

مسحت حذائى فطلب الرجل نصف ليرة أو خمسين قرشا ـ أو ما يعادل خمسة قروش مصرية ونصف قرش ، فصحت به" تظننى؟ ولكنه أصر فلم يسعنى إلا التسليم وعلمت فيما بعد أنه غلا وإشترطوا أنه كان ينبغى أن يكتفى بنصف هذا القدر أى بنحو ثلاثة قروش وحتى هذا لى بالزهيد. واحتجت إلى مناديل يباع الواحد من أمثالها فى مصر بعشرة قروش ، أو نحو ذلك ، فإذا الثمن هنا أربعون قرشا مصريا.

وسألت بعضهم : " ما أقل مبلغ تقدمه إلى خادم كلفته عملا؟ " قال : قد يرضى بربع ليرة ولكن يحسن أن تجعلها نصف ليرة قلت

٩١

" بل سأعمل بقول القائل : ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك" ـ على الأقل كما تيسر ذلك وبخل فى الطرق. وصرت أحس كلما أخرجت محفظة إنى مليونير ، فإن كل حساب لا يكون إلا بمئات القروش ، وقد حاولت مساء يوم أن أحصى ما أنفقت فى نهارى فدار رأسى فقد أبلغ الرقم الآلاف. وأنا ما ألفت فى مصر إلا الآحاد وكان يخيل إلى كلما أنفقت ليرة وسورة إنى أنفقت جنيها مصريا فأقول فى سرى" يا خبر أسود" سأتسول هنا بعد ساعات فما العمل؟ ومتى ينتهى هذا المهرجان فنعود مستورين بل متى يبدأ فيذهلنى عما أنا مسوق إليه لا محالة من العدم والصعلكة؟.

وقد سألنى بعضهم عن الحالة المعاشية فى مصر فما وسعنى إلا أن أقول له من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته.

غير إنى بعد أيام ألفت ذلك فزايلنى الفزع والجزع وأصبحت أغتبط بأن أدفع يدى فى جيبى فأخرج حزمة ضخمة من أوراق النقد وارمى بالعشرات منها غير عابئ بها أو أسف عليها أو مشفق من عواقب الإسراف فتا لله ما أسرع ما يتكيف المرء ـ كما يقولون ـ ويألف كل ما كان يستهوله أو يستنكره.

وخرجنا فى المساء ، بعد العشاء نتمشى فكانت ليلة لكن هذه حكاية تستحق أن أفرد لها فصلا قائما بذاته.

* * *

٩٢

حكاية سامى الشوا

(٤)

أى نعم كانت ليلة ولا كالليالى وخير ما فيها أنها جاءت عفوا على حد قول الشاعر وأحسبه ابن الرومى : ـ

لم يكن ما كان شيئا يعتمد

بل أمورا وافقت يوم الأحد

سوى أن يومنا كان الخميس ـ أول أيامى فى دمشق ـ وكنا ثلاثة أو أربعة وكان رفقائى يتغيرون كلما مضى من الليل هزيع فيذهب قوم ويجىء قوم ، حتى يخيل إلى إنى كالزمن أو الدنيا يتبدل الناس وتتعاقب الأجيال وهى كما هى.

وما كدنا نخرج من الفندق ـ فندق" أوريان بالاس" أو" خوام الجديد" على الأصح ـ ونسير خطوات حتى وقفت أمام بناء شامخ فسألت الإخوان" البنك السورى"؟ فقالوا" نعم" قلت هنا إذن يكون" سامى الشوا (١٢) قد وقف وبكى وعزف وجمع عليه الخلق.

٩٣

قالوا : وكيف كان ذلك؟ فرويت له الخبر كما حدثنى به سامى نفسه قال إنه قدم دمشق مرة فاستوقفه هذا البنك الضخم وهو من الحجر الأبيض ولم يكن يعرفه فأنه البنك السورى فظنه سجنا وإن كان قد استغرب أن السجن فى قلب المدينة وأحدث أحيائها ولكنه حدث نفسه أن لعل المقصود العبرة وصوب عينه إلى البدروم ـ أو السرداب كما يسمونه فى العراق ـ وإلى نوافذه وعليها قضبان من الحديد فرأى فتيات كثيرات حسبهن السجينات فرق لهم قلب الكبير واغرورقت عيناه بالدمع وأقبل عليه ـ أو على النافذة يعرب لهن عن أسفه وعطفه وهو يشهق والدموع على خديه وكانت الفتيات ذكيات خبيثات فأبدين الحزن وتظاهرن بالبكاء فما كان منه إلا أن ارتد يعود إلى الفندق فحمل" كمانة" وعاد بها إلى النافذة واقعى على أطراف قدميه وراح يعزف لهم ليرفه عنهن فاجتمع عليه خلق كثير وهو ساه لا يرى إلا هؤلاء المسكينات ولا يعنيه إلا ما هو فيه أروع ما يكون عزف" سامى" حين تذهله عاطفة جياشة عمن حوله وتكاثر الناس حتى سدوا الطريق وعطلوا المرور واحتاج الأمر إلى تدخل الشرطة.

وقد ظل لا يعرف إلا أن هذا سجن للنساء حتى اجتمع بعض من رآهن وعزف لهن من الفتيات فى ناد من الأندية فأقبل عليها يسألها متى أفرجوا عنها فاستغرب الذين كانوا معها فضحكت الفتاة وقصت القصة واعتذرت إليه.

* * *

٩٤

حكاية نزهة العراقية

واستأنفنا السير ـ أو السرى على رأى المتحذلقين ـ فمررنا بمرقص أو دار له فيها غناء ورقص وما أعرفنى قط عبأت شيئا بمثل ذلك ـ ولكنى قرأت على لوح كبير يعترض الطريق ـ فوق الرؤوس ـ اسم" نزهة العراقية (١٣). وهى فتاة رأيتها مرة فى بغداد فى أولى زياراتى للعراق فأعجبت بها ، وتوسمت فيها الخير وآنست من حديثها ذكاء القلب ومروءة النفس والإخلاص. ولم تخنى فراستى فقد سمعت عنها بعد ذلك ما زادنى إكبارا لها. وقد أخرجت من العراق. وإن كانت تنسب إليه لأسباب سياسية فلما صارت فى الشام لاحقها سوء الحظ وسوء الظن بنزعتها السياسية فاعتقلت عاما ونيفا. وكان من عجيب تصريف الأقدار لأمور دنينا ، أن ينجو رجال سياسيون من الاعتقال وتقع فنانة لا ينسيها الفن إخلاصها له وتخيلها لمطالبه وإن لها وطنا ، وإن كانت لا تنزل إلى ميدان العمل.

٩٥

وقلت لإخوانى" ما رأيكم؟ إنى اشتهى أن أدخل وأنظر إلى نزهة ، فإن لها فى قلبى لنوطة ليست من العشق والعياذ بالله منه بل من الإعجاب ما أظنها تذكرنى أو تعرفنى حيث ترانى وما يدرينى؟ لعلى أنا أيضا لا أعرفها إذا رأيتها. فدخلنا وكانت مقبلة من وراء المسرح فغمرونى وأشاروا إلى ناحيتها بلحظ العين وإذا بها تقف وتحملق ثم تعدو إلينا وتتناول كفى وتحيينى أجمل تحية وطالت الوقفة فدعوتها إلى الجلوس فقالت :

" نحن هنا فى مكة فلا يؤذن لنا فى الجلوس مع الإخوان" وتجهم محياها فسألتها ولكن؟ لماذا؟

قالت : " لأن الفن على ما يظهر شىء زرى محتقر" فغيرت الموضوع وقلت" إنى مغتبط برؤيتك" وأتمنى لك كل خير والآن إلى اللقاء أن شاء الله. وانصرفنا ولم نتلبث وسأعود إليها مرات أخرى فقد غمرتنى بكرمها ومرؤتها وطوقتنى بما لا يفى به شكر.

* * *

٩٦

حكاية فخرى البارودى

وقال بعضهم" ما قولك فى زيارة فخرى البارودى (١٤).

وفخرى البارودى هذا أحد نواب دمشق وصديق قديم لى وأديب واسع الإطلاع وله شعر يتفكه به ، ويعبث وهو فوق ذلك وقبله من أظرف خلق الله. ولو لا أن أظلم غيره لقلت إنه أظرف الناس قاطبة. وكنت قد سمعت قبل سفرى إلى دمشق أنه يكتب بحثا يثبت فيه أن المعرى كان عالما بالموسيقى فاشتقت أن أطلع عليه ، وإن كنت أعرف أن أبا العلاء المعرى أحاط بكل ما كان فى زمانه من علوم وفنون وآداب.

وأقلتنا سيارة إلى مكتب اتخذه فى زقاق قديم فدخلنا فإذا بستان صغير وإذا هو متربع فى حجرة كبيرة على مقعد عظيم رفيع كأنه العرش وأمامه منضدة طويلة عليها طوائف شتى من الكتب والدفاتر والأوراق المبعثرة وحوله عدد من رجال الموسيقى يضربون على العود والكمان إلى جانبيه طبلة ورق ينفر على هذا تارة وتلك

٩٧

تارة أخرى فسألته ما هذا؟ قال" يا سيدى" هذا لحن صيغ فى أبيات للمعرى. ونحن نضبطه الآن ، والعزم أن يعزف فى مهرجانه ـ لبحث الذى سمعت به؟ قال فرغت منه ولكنى لن ألقيه فى المهرجان لأنه لا يلقى من الأفراد ـ دون ممثلى الهيئات إلا من كانوا أعضاء فى المجمع العلمى" قلت" خسارة" وأى خسارة ولكن شو بدك منى؟."

وانطلق يسح بما لا يروى. ويقينا فى سماع وسمر ليس أحلى منهما ولا أحلى للصدر أو أطفى للهم إلى ثانية صباحا فانصرفنا وتركناه لألحانه يسهر فيها الليل كله حتى يتنفس الصبح.

وقولت له وهو يودعنا بالعناق والقبلات ألا تزل فى ضلالك القديم؟

قال" شو بدك تقول؟ قلت" تحيى كل من تلقى بالعناق والقبلة عسى أن يكون أحد الوجوه صابحا بضا."

قال يا" مازنا اتق الله" قلت" اتق الله أنت يا أخى ألا تحلق على الأقل تخزنا بهذا الشوك الذى فى وجهك؟

فكر علينا يقول" يا عينى على الخدود الغضة مثل الحصيرة فانهزمنا.

٩٨

مصايف سوريا

(٥)

كان همى ـ وقد بت فى دمشق أن أرى كل ما تسنى رؤيته فى أربعة أيام فى دمشق ذاتها ، وحولها وعلى كثب منها قبل أن يبدأ المهرجان فأشغل به عما عداه فزرت من مصايف الشام" الزيدانى" و" بلودان" ويبلغ علوها عن سطح البحر نحو (١٦٥٠) مترا" وبقين" وفيها عين ماء من أحلى وأطيب وأنفع ما ذقت و" شتورة" من مصايف لبنان على الحدود السورية ، وزحلة المشهورة بمائها" وعرقها".

وكنت أخرج فى الصباح فلا أعود إلا ليلا" ومن أجل هذا سمانى إخوانى" الزواغ" فإذا سأل عنى سائل قالوا" زاغ" كالعادة حتى لقد أشيع فى اليوم الثانى من أيام المهرجان إنى سافرت إلى" اللاذقية" فى أقصى الشمال من وسورية فلما رأونى أعود إلى الفندق فى

٩٩

مساء اليوم ذاته تعجبوا لى كيف استطعت أن أقطع كل هذه المئات ـ تقرب من الألف ـ من الكيلو مترات ذهابا وإيابا فى نهار واحد. فقلت لهم مازحا ألا تعلمون أن عمكم المازنى قد أصبح من أهل الخطوة؟ "

على أن للإشاعة أصلا تحور إليه ، ذلك إنى بعد العشاء ـ فى أول أيام المهرجان ـ آثرت الجلوس مع الصديق الكريم العالم الجليل ـ الأمير مصطفى الشهابى (١٥) محافظ اللاذقية ـ فقال لى فيما قال إنه عائد من غد إلى اللاذقية ليعد لاستقبال أعضاء المهرجان فيها ، واقترح على أن أصاحبه وأبقى معه حتى يلحق بى إخوانى فأعود معهم وكانت التكاليف الرسمية قد ثقلت على بعد نهار واحد وليس أبغض إلى منها فنازعتنى نفسى أن أقبل.

فقلت له" وليس أحب من ذلك ولكن سألقى كلمتى فى" حلب" فما العمل" قال" نغير الترتيب فتلقيها فى اللاذقية"

قال" إذن يحسن أن نستشير" خليل بك مردم (١٦) (أمين سر المجمع العلمى) ففعلنا فلم يوافق خليل بك وقال أن حلب خليقة أن تثور إذا نحن فعلنا ذلك وقد كانت تسأله عنى وتستوثق قبل ذلك بدقائق واستشهد بالدكتور" أسعد طلس"(١٧) فأمن على قوله.

فعدلت مرغما وكان المقرر أن يزور أعضاء المهرجان فى صباح اليوم التالى آثار دمشق وقد زرتها من قبل فتخلفت عن مشاركة الإخوان فى هذا الطوف وقصدت إلى" بلودان" فكان أن شاع وذاع إنى سافرت إلى اللاذقية.

١٠٠