رحلة الشام

إبراهيم عبد القادر المازني

رحلة الشام

المؤلف:

إبراهيم عبد القادر المازني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٠
ISBN: 978-977-420-228-3
الصفحات: ٢٤١

ـ متعة الحكى .....

" متعة الحكى" هى الخصيصة الأولى فى أدب الرحلة وهى متعة متشابكة يشتبك فيها ما هو ذاتى ونفسى بما هو موضوعى واجتماعى بما هو فنى وجمالى وتبدأ متعة الحكى من الرغبة فى الحكى وسرد الذكريات والمواقف والحوادث التى عايشها الرحالة ، حتى يرتاح من عبء هذه المخزونات النفسية التى تعرت فيها نفسه أمام الطبيعة فى قوتها من ناحية وأمام الآخرين عند الإحساس بالاحتياج إليهم ، من ناحية أخرى ، فالحكى وسيلة التخلص من أى مأزق أو شدة يقع فيها الرحالة.

وتزداد المتعة كما توغل الرحالة فى الحكى والسرد والتذكر وعقد الحكاية وفرعها ، لأنه فى كل مرة يكشف عن جانب بطولى أو إنسانى فيها. ولهذا كان المتلقى عاملا مهما جدا فى إذكاء روح الحكاية وشهوة السرد لدى الرحلة أو كاتب الرحلة ، إذ كما خاطب

٦١

وجدان المتلقى وأشركه معه وضمن تعاطفه أو اشتراكه فى المصير ، كلما يزيد الراوى من التفصيلات.

ـ متعة المشاهدة :

" متعة المشاهدة" تعود إليه عند إعادة سرد الحكايات والتفصيلات كما يفترض فيه" المتلقى" تحديد زمان الحكى والنقل الشفاهى وصدق الوصف وحسن الاختيار فهم (المتلقون) لم يشاهدوا ولم يسمعوا ، ولم يغامروا ، ومن ثم لا يقف سرد الرحلة عند مجرد المتعة السمعية بل هناك المتعة الوصفية متعة قلب السمع إلى بصر ، أى أن يصف لك الرحالة الشىء بلغته كأنك قد رأيت وقد سمعت. فأنت تسمع لتشاهد فكل الحوادث (بصرية) والسمعى فيها يتحول إلى" بصرى" مرة أخرى لحظة أن يختزن فى الذاكرة ليدخل ضمن منظومة الخيال الواصف أو المصور يسترجعه الراوى فى كل مرة بنظام خاص ولكنه عندما يقيده" كتابة" يثبت عند شكل واضح ومتميز الخصائص.

ـ متعة التعرف :

كل ما يحكيه صاحب الرحلة يحدث له لأول مرة ـ وهو الرحالة المكتشف ـ لهذا يسمعه المتلقى لأول مرة وبالتالى يقوى الجانب المعرفى ، والتعريفى ليصبح من خصائص أدب الرحلة ، وهى متعه معرفية تضيف خبرات ومعارف" إثنية" عن جغرافيا الأماكن وأخلاق الناس ، وعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم.

٦٢

ـ الوظيفة التوثيقية :

من أهم الجوانب الموضوعية فى أدب الرحلة أنه وثيقة تاريخية على مرحلة محددة من الزمان والمكان والإنسان ، فالرحلة حين يسجلها يعرف أنها ستقرأ فى كل زمان آت لهذا يتحرى جانب الصدق والأمانة فى الوصف والحكى لأن هذا الجانب يعرضه لنقد الناس أو نقمة الحال أو يتعرض ـ عند الكذب ـ إلى هذه الحالات جميعا ثم إن أصحاب البلاد التى زارها سيصفونه بالكذب والخداع لأنه لم يكن أمينا على ما رأى.

وهنا ـ أيضا ـ يتعرض الرحالة لموقف صعب حين يصف وصفا سيئا لعيوب الجماعات الأخرى ، المختلفة معه فى الدين أو الثقافة لأنه يصبح ذا منظور قاصر وذاتى واليوم ونحن نقرأ بعض رحلات الرحالة المسلمين تحسن جانب التعالى واحتقار من ليس من دينى ولغتى وهو أمر غير محمود ، وهذا ما يبتعد عنه الرحالة العرب المتحدثون ويظهر هذا الحرص فى وصف الرحلات التى قام بها الأدباء العرب فى القرن العشرين فى البحر أو فى النيل فى أوروبا أو آسيا أو أفريقيا أو أمريكا فهم يصفون الجوانب المشرقة الجميلة التى تصلح كمتعة ومعرفة وتوثيق فى آن واحد ، وكأن الكتاب المحدثين يشوقونا ويحببوننا فى هذه الرحلات وإن جاءت الصفات السلبية لديهم ـ بالقياس بما نحن عليه ـ ألحقت بقولهم أن لكل جماعة حياة وثقافة ودينا.

أما حكايات الغرائب والعجائب والعفاريت والجنيات والشياطين فالمقصود بها جانب التشويق والإبهار إلى جانب التوثيق ، وهنا يختلف مصطلح التوثيق عن مصطلح التسجيل فعلى الرغم من

٦٣

ضرورة توفر الصدق والأمانة فى التسجيل إلا أنه لا يرقى إلى دقة وموضوعية التوثيق الذى بعد أن يسجل ويصف ويحلل ويناقش ويحاور هذه الأشياء المسجلة حتى يصل إلى حقيقتها وهنا تصبح التسجيلية التوثيقية إحدى خصائص أدب الرحلة فى القديم والحديث على السواء تضاف إلى معارف المتلقين فيزدادون معرفة وخبرة وثقافة لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس ، وبكبد الرحلة والعشرة وتضيع السنين الطوال من العمر فبعض الرحالة قضى خمسة وثلاثين عاما من الرحلة وهذا ما لم يستطعه أحد فهناك جانب التضحية بالنفس والإحساس بالشهادة وهذا الإحساس يزيد من نفس المتلقى ، إكبارا واندهاشا من شجاعة هذا المغامر المضحى ، فتزيد أهمية المعلومة التى يتلقاها ومن ثم يحس (الراوى الرحالة الكاتب) بميزة نفسية وفكرية ثقافية على المتلقى لأنه رأى وسمع ما لم يروه أو يسمعوه ولا يتيسر لأى أحد.

ـ المقارنة :

ويقارن الرحالة والمتلقون فى الوقت نفسه ما يستمعون إليه بما هو حاضر لديهم فى نفوسهم وبلادهم وهى مقارنة يقصد منها معالجة القصور المعرفى الذاتى ـ الفردى والجماعى لهذا تقوم هذه الرحلات بواجب أخلاقى هو تهذيب النفس والتواضع أمام اتساع الكون أمام نظر الرحالة وامتلاء الدنيا بالعجيب فى البر والبحر فى الناس وفى المخلوقات والطبيعة يحس المتلقى ساعتها ضآلة نفسه وضآلة موقعه الجغرافى أمام هذه البلاد التى لا تنتهى ويحس أنه قطرة فى محيط الخلق ، وكم قامت مشاريع إصلاحية من جراء هذه

٦٤

المقارنات فى عقول المتلقين لإضافة ما يفتقده الفرد وما تفقده الجماعة من الجماعات الأخرى وهذا ما دفع إلى الاكتشاف المتجدد وتبادل المنافع ونشر الأديان.

ولا ننسى فى هذا السياق كم الغزوات والحروب التى نشأت نتيجة هذه الرحلة أيضا فقد يطمع الحاكم أو القائد العسكرى فى هذه البلاد فيجهز الغزوة ليسيطر على قطعة جديدة ذات ثروة بعيدة وكما تثير الرحلة شهوة الاكتشاف والمغامرة تثير حس الطمع والطموح فى الوقت نفسه ، وكم سمع ملك عن ملك آخر من هؤلاء الرحالة فطمع فى ملكه بسبب ضعفه أو سمع ببلاده الجميلة أو خرج إلى هذه البلاد البعيدة ليأتى بمهر محبوبته أو رأس عدوه أو استرد ما أخذ منه أو أدب ملكا وراء البحار أو وراء المفاوز.

ـ الرحلة تمثل صيغة الوعى :

الرحلة مرحلة ومستوى من الوعى يتصل بما استطاع أن يصل إليه الإنسان من أدوات تختصر له الزمان وتقرب له المكان وتمكنه من إخضاع ما هو خارج الإنسان لما فى داخله وكلما اكتشف الإنسان أداة يزداد وعيه وكلما أحسن توظيفها ارتقى وعيه أكثر ، وهكذا فالفترة التى اعتمد فيها الإنسان على الشمس والنجوم فى تحديد الجهات كان الطريق البرى والبحرى أنسب الطرق فى الرحلة وهنا خلعت صفات مناسبة على الرحالة تتخلص فى : القوة والشجاعة والمروءة ، ولما اكتشف الإنسان البوصلة واستطاع أن يتقدم فى علوم الرياضة والفلك كان البحر أنسب الطرق لهذه الرحلة وأقصرها.

٦٥

وبعد التقدم العلمى عقب عصر النهضة وما آلت إليه فى القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين أصبحت الرحلة تتم برا وبحرا وجوا داخل إطار الكرة الأرضية لكنه (الإنسان) بعد أن اخترع سفن الفضاء ومكوك الفضاء ، أصبحت الرحلة تتم عبر الكون وليس حول الكرة الأرضية فقط.

وبهذا تنمو صيغة الوعى البشرى والإنسانى ويصبح الإنسان سيد هذا الكون حقيقة وليس أملا أو بشارة تبشر بها الكتب أن الوعى الإنسانى يرتقى باكتشاف الأدوات وطرق استعمالها يزيد من رقعة الوعى فى عقل وبصيرة الإنسان ولهذا تنحو الرحلة الآن مناحى كثيرة مختلفة عما كانت عليه من المحدودية بقدرات الإنسان الطبيعية فقد استمد الإنسان قوى إضافية من المخترعات والمكتشفات.

الآن يستطيع الإنسان أن يقوم برحلة فى أى مكان من الكون بواسطة الإنسان الآلى والتلفزة والميكروتلفويون الخ. ويستطيع أن يشاهد الأرض والنجوم والكواكب السيارة وهى تقوم برحلتها الزمنية الآلية على شاشات التليفزيون بالتلسكوب الألكترونى ومن ثم تحولت الرحلة عبر الوعى إلى رحلة كونية بعد أن كانت تتم بالقدم والدابة والمركب.

ـ الرحلة الذاكرة والاختبار :

(التشكيل والصياغة)

تكتب الرحلة عادة بعد العودة منها أى بعد أن تتم وتكتمل ويعود صاحبها إلى أهله ووطنه. ثم يقعد لإملائها أو كتابتها ويعنى هذا

٦٦

أنها مختزنة فى الذاكرة طوال الرحلة والعودة ويعنى ذلك أن عمل الاسترجاع والتداعى جوهر هذه الرحلة المحكية أو المكتوبة ومن ثم فهى عرضة" للاختيار" والنسيان ، والتناسى وهو ما يسمى عنصر الترتيب والاختيار. ونظم الرحلة فى سلك لغوى متزن.

وهناك تصور عام يبقى فى ذهن كاتب الرحلة ، فقد حدد أولها وخاتمتها وألم بمشكلاتها ودون ملاحظاته واستوعبها بروية وتمعن ولهذا يقوم بترصد ما رأى مازجا إياه بما أحسه وما فهمه وهنا تتداخل أساليب" الوصف" المباشرة التقريرية والوصفية والتصويرية لأنه يضع المعلومة بجوار وصف تقريرى دقيق للمكان والزمان والإنسان وفى الوقت نفسه تتداخل مشاعره كما يتدخل تراثه وثقافته الخاصة فى عملية الفهم والتحليل والتعليق وكان لابد ـ إذن ـ أن تتعدد طرق وأساليب الوصف والتصوير.

ومن ثم يكون إهمال مشاهد ومسامع وملاحظات من عمل العقل فى جانب الاختيار بالسلب بينهما يكون استحضار مشاهد ومسامع وملاحظات من عمل العقل فى جانب الاختيار بالإيجاب لكن كتابة الرحلة هنا تستبعد التوهمات والأمانى وإن كانت الرحلة تستوعب من الكاتب أن يدلى برأيه وأن يسقط من نفسه على النص وأن يزيح عن نفسه أيضا بعض الأمور دون أن يجور على موضوعية وتوثيقية وحقيقة الرحلة فما التعليق والمناقشة والاختيار والمقارنة والموازنة إلا تدخلات الذات فى الموضوع للوصول إلى هدف موضوعى وليس هدفا ذاتيا آخذين فى الاعتبار علاقة (الأنا) الحاكية (بالآخر) موضوع الحكاية أو بالآخر غرض الحكاية (المتلقى) كعناصر موجهة للكتابة فى الوقت نفسه.

٦٧

ـ الرحلة قناع :

قد تتخذ الرحلة قناعا لبث فكرة خاصة كما نجدها فى الرحلة العقلية فى" رسالة الغفران" لأبى العلاء المعرى" أو" حى بن يقظان" لابن طفيل ، فهى رحلة قناع من أجل الوصول إلى أهداف أخرى غير الرحلة وغير القص ، منها التعرف على الذات ونقدها عبر معرفة الآخر من أجل إغناء الذات وتطوير قدراتها وملكاتها وتحقيق مصالحها ولهذا تمتلئ بالرموز والموثقات وتتخذ مما هو جزئى ومحدود ما هو عام ومطلق وتجريدى ويدخل هذا النوع رحلتا علم الدين لعلى مبارك وتخليص الإبريز لرفاعة الطهطاوى.

ـ الرحلة الرمز :

كذلك تتخذ الرحلة رمزا على أشياء كثيرة حسية وروحية مثل" رحلة الإسراء"" ورحلة المعراج" وما دار فيها من معجزات وخوارق ومشاهد وحوادث وأفعال تصب كلها فى أهداف أخلاقية تعليمية دينية.

وهنا لابد أن نشير إلى أن : ـ

كل الرحلات لها أهداف تعليمية ونقدية وأخلاقية وتثقيفية تتركز كلها حول ذات الكاتب وهنا تمتزج الرحلة بالسيرة الذاتية وبكتابة المذكرات والتأريخ الأدبى فى الوقت نفسه.

وتتداخل بذلك متعة (الكاتب الراوى والمتلقى) كوظيفة نفسية مع بقية الوظائف والخصائص كاعتمادها على (القص / الحكى /

٦٨

الرواية / السرد) وخصيصة وظيفة) التعرف والتوثيق والمقارنة وتمثيل صيغة الوعى الإنسانى والاختيار والتداعى (التذكر الواعى) ثم يمتزج هذا كله بكون الرحلة قناعا ورمزا وفنا من منظور كاتب الرحلة.

(الطبيعة والواقع فى الرحلة):

لقد كانت الرحلة المكتوبة عن رحلة قام بها صاحبها مناسبة مهمة لانشداد الفكر العربى تجاه الواقع والاعتماد على (التجريب الحسى) و (الخبرة الفردية) التى تثبت لاسكونية الأشياء ولا محدودية الطبيعة أو كما يقول" إيان واط" عن ظروف نشأة الرواية الأوروبية وهو كلام يمكن أن نفسر به أهمية كتب الرحلة كبداية لنشوء فن الرواية العربية حين يقول : " لقد دأب الكتاب على تجسيد وجهة النظر هذه حتى القرن التاسع عشر إذ استخدامها خصوم" بلزاك" مثلا للهزء بانهماكه فى الواقع المعاصر ـ والواقع يتنافى التبدل حسب رأيهم ـ ولكن فى الوقت نفسه ـ كان هنالك اتجاه يتنافى بدءا من عصر النهضة فلا حقا لإحلال الخبرة الفردية محل الموروث الجماعى فى إصدار القول الفصل حيال مسألة الواقع فهذا التحول يشكل كما يبدو قسطا هاما من الخلفية الثقافية العامة التى أدت إلى نشوء الرواية (١) فى أوروبا وعندنا نحن العرب فى الوقت نفسه إلا أن الفكر الأوروبى قد استطاع هذا التحول ووقفنا نحن مطمئنين إلى شعرنا ومقاماتنا التعليمية ثم سيرنا.

ولأنها رحلة تمثل جزءا من حياة صاحبها ومن الزمن العام والمكان العام فهى رحلة تقوم على إعادة ما كان بأسلوب خاص يبدأ

٦٩

من طريقة الكتابة إلى الحوار مع الآخرين ابتداء من حاكم المكان إلى سكان هذا المكان مرورا بالعلماء والفقهاء والمحدثين والمفسرين والتجار وصاحب الرحلة يعيش مع هؤلاء فترات طويلة نفس حياتهم حتى يتأقلم مع حياة الآخرين وهنا تظهر الرحلة على أنها حوار وتقمص وجدانى فى أن واحد وهذه الخصائص كلها كانت كفيلة بكتابة الرحلة على أنها حكاية واقعية بالضبط كما حدث مع طبيعة بلزاك.

ويدعو هذا السياق إلى قول بعض الدارسين فى كون" أدب الرحلات أب الآداب جميعا" مثلها مثل السيرة والمسرح على سبيل المثال" لأنه يمكن أن يحوى كل فنون الأدب" إلى جانب العلوم الإنسانية الأخرى كعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجى. ففى نظرهم أن القارئ يجد فيه المقالة الموضوعية والنقدية والوصفية كما يظفر بالترجمة الشخصية ... وفيه يجد القارئ متعة عند قراءة الحكايات التاريخية أو الأساطير أو تاريخ البلدان (٢) ومن ثم كان تطور هذا الفن الكتابى نحو تخليص القص من مباشرة الوصف والغوص فى تفاصيل لا يربطها إلا المكان.

٧٠

هوامش الفصل الثانى

(١) ـ إيان واط نشرة الرواية ، ترجمة عبد الكريم محفوظ ، منشورات وزارة الثقافة سوريا ، ١٩٩١ ، ص ١٢.

(٢) ـ سيد حامد النساج ، مشوار كتب الرحلة ، مكتبة غريب ، ١٩٩٢ ، ص ١٠٠.

وانظر خصائص أخرى فى الكتاب نفسه ص ٧١ ، ص ٨١ ، ص ٨٤ ، ص ٨٥.

٧١
٧٢

الدراسة التحليلية

لرحلة الشام

لإبراهيم عبد القادر المازنى

نص كتاب رحلة الشام

مزود بالعناوين والتراجم

ـ رحلتا الشتاء والصيف.

ـ عدم التدخل فى الشئون الداخلية لأى بلد.

ـ التمسك بالمصرية والمحافظة على سمعة مصر.

ـ درس فى القومية العربية.

٧٣
٧٤

مقدمة

الرحلة كما وضعها المازنى

أتيح لى فى الشهور الستة الأخيرة أن أقوم برحلتين طويلتين واحدة إلى الشام للاشتراك فى مهرجان المعرى أو عيده الألفى ، بدعوة المجمع العلمى بدمشق وبالنيابة عن نقابة الصحفيين ، والثانية إلى العراق بدعوة من حكومته الموقرة لإلقاء طائفة من المحاضرات الأدبية. وكانت الرحلة الأولى فى الصيف وقد نشر" البلاغ" البحث الذى كنت أعددته لمهرجان المعرى ووصف ما كان فيه فلا حاجة بى إلى العود إلى ذلك ، وكانت الثانية فى الشتاء وهى أطول وأحفل ولست أكتب اليوم لأصف شيئا مما كان فى هذه الرحلة الشتوية فإنى أهيئ لهذا كتابين أرجو أن يوفقنى الله فأخرجهما قريبا بعد أن أتلقى ما تركت فى العراق من أوراقى وإنما أكتب هذا الفصل لأعالج مسألة قومية.

٧٥

ويحسن قبل أن أتناولها بكلام أن أقول إنى حرصت فى كل رحلاتى ، وهى كثيرة على مبدأين : لم أحد عنهما قط ، وإن كانت صلات المودة والصداقة بينى وبين كثيرين من أبناء البلاد العربية الشقيقة تغرى بالتبسط وترك التحرر والتحفظ ، فأما المبدأ الأول : فأنا لا أدخل فى أمر داخلى للبلاد التى أزورها أو أتطفل عليها بالخوض فى شئونها أو التعرض بخير أو شر لأحد من رجالها ، وأما المبدأ الثانى : فأن أكون مصريا قحا لا يعرف غير مصر ولا يجعل باله إلا إلى سمعتها ولا يذكرها أو يسمح بذكرها أو ذكر أحد من رجالها بغير الخير وقد كلفنى هذا شططا وحمل أعصابى فى بعض الأحيان فوق طاقتها فما كانت أحوالنا فى كل حال بالمرضية. وأنا رجل أوثر الصراحة والحق على المداورة والمكابرة ولكن الواجب هو الواجب ومن فضل الله أنى تعلمت وتعودت أن أقدم الواجب على الهوى.

ولعل أكثر المصريين لا يدرون أن مصر كتاب مفتوح تقرأه البلاد العربية صفحة ، صفحة ، وسطرا سطرا ، وحرفا حرفا ، وقد لا يدركون أن لبلادهم مقاما ممتازا ومنزلة ملحوظة وأن صحفها تدرس ـ ولا أقول تقرأ ـ وتغربل وتنخل ولا يهمل منها حتى الإعلانات وأن القوم يعرفون أعلامنا واحدا واحدا وفى وسعهم أن يكتبوا لهم تراجم دقيقة مستفيضة وأنهم واقفون على أحوالنا وسير الرجال عندنا ومجرى الحوادث فى أرضنا وقوفا يدهش ويروع ويربك.

فى سنة (١٩٣٦) كنت عائدا من العراق مع صديقى الأستاذ أسعد داغر (١) إلى شرقى الأردن من صحراء جرداء لا ماء فيها ولا

٧٦

شجرة وأنا لنتلمس طريقنا فيها على حذر وإذا بسيارة مقبلة فلما لمح راكبها الطرابيش على رؤوسنا استوقفنا وأقبل علينا يسألنا عن المفاوضات المصرية الإنجليزية وما يحتمل أن تفضى إليه ، وهل يرجى لها نجاح؟ ولم نكن نعرف شيئا يجيز لنا أن نعرب عن أكثر من الأمل ، فدعى لمصر بخير ومضى فجعلنا نتعجب لهذا الشيخ ـ فقد كان من شيوخ العشائر ـ وعنايته بأخبار مصر ودقة تتبعه لها.

مصر كتاب مفتوح

وفى هذا الشتاء كانت صحف مصر تتخطف فى بغداد وغيرها من مدائن العراق. وكان فى بعضها أسماء المرشحين فى الانتخاب لمجلس النواب ، فكان أغرب ما فى الأمر إنى أنا المصرى لا أعرف شيئا عن معظم المرشحين على حين كان العراقيون لا تخفى عليهم من أمرهم خافية وقد جاء تقديرهم لاحتمال النجاح والتفوق والإخفاق أقرب إلى الصحة من تقديرى فيما بينى وبين نفس ـ كنت فى هذا وما إليه أتوخى أن أصغى إليهم دون أن أقول شيئا.

ـ وما من كتاب ينشر فى مصر إلا وهو يلتهم التهاما فى البلاد العربية وهم لا يكفيهم أن يقرءوا ويدرسوا ولا يقنعوا إلا بأن يقفوا على بواعث التأليف أيضا ولماذا طبع فى هذه المطبعة دون تلك ...... الخ.

وفى سنة (١٩٣٠) برز لى شاب فى صحراء الحجاز ـ عند وادى فاطمة ـ وسألنى" ألست المازنى"؟ قلت" نعم" فكيف عرفتنى؟ قال" عرفتك من صورة لك نشرتها مجلة الاثنين".

٧٧

وليست هذه سوى أمثلة قليلة من مئات يسهل سردها بلا عناء والذى أريد أن أقوله هو أن على كل مصرى أن يذكر أن البلاد العربية مفتوحة العيون والآذان وأن يحرص على أن لا يجرى لسانه أو قلمه بما يسىء إلى سمعة مصر أو يغض من مقامها فى الشرق العربى.

وأنا كما يعرف القراء رجل لا أنتمى إلى حزب وقد نأيت بنفسى عن المعترك السياسى الحزبى منذ سنوات عديدة وليس فى نيتى أن أعود إليه ولو أفضى ذلك إلى ترك الصحافة وإذا كنت قد ظللت متشرفا بالعمل فى" البلاغ" فذلك لأن صاحبه تفضل فترك لى رأيى واستقلالى لثقته أنه لا مآرب لى ، وأن المصريين جميعا سواء عندى وإنى لا أغمط أحدا فضله ولا أضن بالتأييد والمناصرة على من يحسن. وقد قال لى : عراقى حكيم" يا أخى إن الله قد خلق لنا عيوننا فى وجوهنا لنرى بهما ما هو أملنا لا لنظل نردها إلى ما هو وراءنا أفليس خيرا للبلاد العربية أن تنظر إلى المستقبل وتنصرف عن الماضى بخيره وشره؟ "

وما أرى إلا أن كلمتى هذه ستغضب الناس جميعا ولكنها كلمة الحق ولست أبالى من رضى ممن غضب فليس هى أن يرضى الناس ولا أنا أخشى غضبهم فما لى عندهم مآرب فأحاسنهم أو أصانعهم ، فإذا استجابوا لدعوة الحق فيها ولله لحمد والمنة وإلا فقد بلغت وبرئت ذمتى والله الموفق.

٧٨

تكليف المازنى بالسفر

كيف اختار موضوع البحث!

(١)

كنت أحلم بأيام أقضيها على ساحل" بحر الروم" فى سكون ودعة وإذا بمجلس النقابة يفاجئنى ونحن مجتمعون فى دار البصير بالإسكندرية بند بى لتمثيله فى مهرجان المعرى. فقلت : " جاءك الموت يا تارك الصلاة فقد كنت أعود إلى المعرى من حين إلى حين ، فأتناول من آثاره أقربها إلى يدى وأقرأ أبياتا من اللزوميات أو سقط الزند أو سطورا من الفصول والغايات أو" رسالة الغفران" ثم أطوى الكتاب وأنتقل إلى سواه أو أروح أفكر فيما يشغلنى من أمور دنياى أو أترك له المكتبة كلها ، وأجلس إلى نافذتى أطل منها على خلق الله فالآن صار على أن أحشد آثاره كلها وكل ما كتب فيه الأقدمون والمحدثون وأعكف عليها عكوف الدارس لا المتصفح

٧٩

المتلهى ، وسيستغرق ذلك وقتى كله فما بقى على السفر إلا شهر أو نحوه وسيصرفنى عن السعى وكسب الرزق بعرق الجبين ، فإنى أعمل لأطعم وعلى قدر العمل يكون الرزق وليس من العمل أن يجىء المعرى بعد أن شبع موتا وفناء واستراح ـ وإن كان لم يرح ـ فيشق الأرض ويخرج لى منها ليقطع رزقى ورزق عيالى.

واستخرت الله وتوكلت عليه وقلت لابد مما ليس منه بد فما كان ثم سبيل إلى الاعتذار مخافة أن يحمل على غير محمله أو يؤول بالعجز والقصور وإنى لعاجز ولكنه لم يبلغ من عجزى أن يعيينى أن أكتب كلمة فى هذا المعرى تقبل على التسامح.

وصارت المسألة هى" ماذا أكتب؟ وأى موضوع أتناول؟ " وكنت أعلم أن أعلام الأدب فى البلدان العربية مدعوون إلى هذا المهرجان وكنت على يقين حازم أنهم لن يدعوا لى سم خياط أنفذ منه وقد دعيت من مصر وحدها جمهرة من أعيان البيان وأمراء النثر والشعر ، وأساطين البحث العلمى (أوف) وأساتذة الفلسفة والتاريخ (يا حفيظ) مثل العقاد (٢) وطه حسين (٣) وأحمد أمين (٤) وعبد الوهاب عزام (٥) وعبد الحميد العبادى (٦) وأحمد الشايب (٧) وماذا يصنع صعلوك مثلى بين كل هؤلاء الملوك؟ ألا حيلة لى أردهم بها عن هذا المهرجان فيخلوا لى الميدان؟

وأصبحت يوما على أحب وجه لى وإذا بالتليفون يدق والعقاد يطلبنى وينبئنى أنه ينوى الاعتذار وأنه مشغول بما يؤلف فلا وقت عنده للسفر فقلت لنفسى" يا فرج الله يا ما أكرمك يا رب" هذا وأحد بألف قد آثر القعود فخلت لى رقعة فسيحة يسعنى فيها ـ والقليل يكفينى ـ أن أجول وأصول وأصيح هل من منازل؟ هل من

٨٠