رحلة الشام

إبراهيم عبد القادر المازني

رحلة الشام

المؤلف:

إبراهيم عبد القادر المازني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٠
ISBN: 978-977-420-228-3
الصفحات: ٢٤١

وقد أعيانى أن أجد الرقعة التى دونت فيها أسماء هؤلاء فجعلت أرجى ذكرهم والقول فيهم ، لعلى أهتدى إلى مكان الرقعة حتى يئست وكففت وقد كانوا ينتظرون كلمتى فيهم ، فقد وعدتهم أن أبعث إليهم بما أكتب فالآن سيخيب ظنهم ويتهموننى بإخلاف ظنهم ويتهموننى بإخلاف الوعد ولست أرى لى حيلة فإن آفتى هذا النسيان وإنى لأخشى أن أنسى أسمى يوما ما ، ومما قوى هذا الوهم أو الخوف أنى قرأت قصة منذ سنوات كل ما أذكره منها أن بطلها أصيب بصدمة فلما برىء كان قد نسى نفسه ولم يعد يدرى من هو ومسح اللوح كله فلم يبق فيه سطر واحد من الماضى فلما قابل خطيبته بعد ذلك لم يعرفها وقد عشقها مرة أخرى وخطبها من جديد ولكنها هى كانت ضنينة بحبها القديم فظلت تطاوله وتحاول أن تنشر ما انطوى وتبعث ما مات حتى عادت إليه ذاكرته ولا أدرى كيف ......؟.

وإنما بقيت هذه الخلاصة ولم تغب كما تغيب غيرها مما اقرأ لأنها أعجبتنى وخوفتنى وزادت أعصابى تلفا على تلف فأنا لهذا أحرص على وضع بطاقة باسمى وعنوانى فى جيبى وإنى لأعلم أن هذه سخافة فلن يبلغ النسيان بى هذا المبلغ فيما أرجو على الأقل وإذا كتب على أن يصيبنى ما أصاب بطل تلك القصة فما أظن أن البطاقة تجدينى والأخلق بى أن أتساءل : اسم من هذا؟ ولماذا احتفظ ببطاقته؟ أترانى أعرفه؟.

ولست أبالى هذا النسيان فإنه يريحنى وإن كان يتعب غيرى ويشق على أهلى خاصة ، ثم إنه لا ضير من نسيان ما اقرأ ، لأن الفائدة من القراءة تحصل سواء أنسيت ما قرأت أم ذكرته وشبيه

١٤١

بذلك أن تأكل ثم تنسى أى طعام أكلته فلا يمنع ذلك أن الفائدة من الطعام قد حصلت ولكن النسيان يتعب إذا وجبت المراجعة ، وليس البلاء إنى أنسى وإنما هو إنى لا أضع علامة على كتاب اقرؤوه ولا أدون شيئا فى مذكرة فإذا أردت الرجوع إلى شىء مما قرأت حرت أين أطلبه وقد حاول بعض إخوانى المشفقين أن يعودنى النظام وتدوين المذكرات فقلت أفعل كما أشاروا وشرعت فى ذلك ولكنى مللت بسرعة ورأيت فى هذا تعطيلا لى وتضييعا للوقت والحقيقة إنى اعتدت هذه الفوضى طول عمرى فمن العسير بعد هذا الزمن المديد أن يجىء أحد فيحاول تعويدى خلاف ذلك والجرى على العادة أسهل وأنا سريع الملل وكلما ثقل على أمر قلت لنفسى : ومما هذا العناء؟ كل شىء باطل وقبض الريح فليكن كما يكون.

١٤٢

مدينة حلب

(١٣)

" حلب مدينة الموسيقى ، وقد قال لى بعضهم : إن فى كل بيت كمانا أو عودا أو غير ذلك من المعازف حتى بيوت النصارى واليهود والأرمن فأضحكنى هذا ، وقلت له : ما كنت أعرف قبل اليوم أن كون المرء نصرانيا أو يهوديا أو أرمانيا يمنع أن يكون موسيقيا.

وكانت شهرة حلب أنها تحافظ على القديم وتحرص عليه وتأبى أن تخرج بفنها إلى الذى يسمونه تجديدا ولست أهل هذا الفن ولا دراية لى به وإن كنت فى صدر حياتى قد أضعت عاما ونصف عام وأنا أحاول أن أتعلم العزف على الكمان ، وكان أستاذى هو" الخواجة تلماك"(٣٥) وكان دكانه على مقربة من سراى البارودى التى كانت فيها (الجريدة) وليس ذنبى إنى أخفقت أو انقطعت عن الطلب ، فقد كنت قليل الصبر وشق على أن لا أبلغ مبلغ" سامى الشوا" فى أسبوع

١٤٣

وكنت استحى أن يسمع أحد ما كنت أخرجه من الأصوات المنكرة التى تشبه الحشرجة فكنت أضع على (الفرس) ما يكتم أنفاس الأوتار ويحيلها خافتة ـ أخفقت والسلام ولا داعى لنشر هذه الذكرى المطوية التى لا يعلم من أمرها شيئا سوى القدامى من إخوان ذلك الزمان وكان الذى أغرانى بالموسيقى إنى شكوت إلى طبيب حاذق ما أتوهمه من اصطلاح العلل والأمراض على فأراد أن يصرفنى قليلا عن القراءة ويشغلنى عن هذه الأوهام فأشار على أن أدرس الموسيقى.

ـ عودة لحكاية عن فخرى البارودى :

ولم أسمع فى حلب شيئا من الموسيقى على شدة حب أهلها لها وكثرة المعازف فيها ، ولكنى التقيت بحلبى عند الصديق فخرى البارودى ، بعد ارتدادى عن فلسطين وهو ضخم جدا وعرضه كطوله (تقريبا) وثيابه أكسية عجيبة من نسج القفاطين ، اتخذ منها سراويل ودراعة وفوق هاتيك معطف من صوف يصل إلى القدمين ، وعلى رأسه عمامة أو ما يشبهها ولم اشك حين رأيته فى أنه أهل العلم بالموسيقى والتبحر فيها فما يختلف إلى فخرى إلا الراسخون فى هذا العلم ، وتربع فخرى على عرشه ونقر نقرتين ثم أمر بتوشيح قديم لا أعرفه ولم اسمع به ، ففض الرجل معطفه وبدا فى ثيابه المخططة الزاهية وأنشأ يغنى بصوت لا حلو ولا مطرب ولكن الإيقاع فيه جيد ، وكان يضرب بجمع إحدى يديه فى كف الأخرى ليضبط التوقيت أو (الوحدة) كما يسمونها ثم حمس وأخذته فانتفض واقفا وجعل يرقص رقصا توقيعيا على نغمات الصوت الذى يغنيه فكدنا من فرط الطرب ننهض مثله ونفعل كما يفعل.

١٤٤

وهذا" توشيح" أو موشح عتيق جدا على ما قالوا لى. وقل من يحفظه ولكنه هزنى فتمشى مفاصلى مثل نشوة الخمر ، وقلما يحدث لى ذلك فإنى رزين ولا فخر وما أكثر ما اسمع من الغناء الذى يقولون : إن فيه تجديدا فلا أطرب ولا تتحرك ـ كما يقول العامة ـ شعرة واحدة فى رأسى وأنا أحب الموسيقى الغربية وأفهم بعضها وأطرب له ، ولكن هذا التلفيق يزعمونه تجديدا يسلب موسيقانا لونها وطعمها وصبغتها ويفقدها خير ما كان لها من مزية ـ أى موافقة طباعنا وفطرتنا.

وأذكر أنّا سهرنا ليلة عند" سليمى باشا"(٣٦) فى بغداد فاستمعنا غناء مصريا حديثا فقلت لها (ياستى ، هذا شىء شبعنا ، فهاتى غناء عراقيا أصيلا. والأفضل أن يكون بدويا) فاستمعنا أصواتا قوية لم تستطع معها أن نحتفظ بوقارنا واستحال علينا الجلوس أو السكون.

ولست لى كما أسلفت دراية بالموسيقى وإنما الذى أدريه أن نفسى تستجيب للضرب القديم ولا تستجيب لهذا الضرب الذى يقولون إنه جديد.

ـ أغانى العمال وجمالها :

وقد يكون غيرى مثلى أو لا يكون ولكنى أنا كنت هكذا طول عمرى وكنت وأنا طالب فى مدرسة المعلمين ، أسكن بيتا فى حارة" أزبك" بحى" الصليبية" وكان رهط من العمال يمرون به فى بكرة الصباح المطلولة أو المقرورة ولا سيما فى الشتاء ، ومعهم غلام يغنى بأحلى صوت سمعته فى حياتى ـ أو هذا ما يخيل إلى ـ والكبار خلفه يرددون كلمة أو كلمتين فى نهاية كل مقطع فكنت أرمى

١٤٥

اللحاف وأثب من السرير أو عنه وأفتح مصراعى النافذة ولا أبالى أن أتعرض للبرد بعد الدفء وأطل لأسمع حتى يغيب الصوت ، وصارت هذه عادة حتى كنت أستيقظ وحدى قبل أن يقبل العمال ولا أكاد أفتح النافذة حتى يبدأ ذلك الصوت الحلو يهفو إلىّ من بعيد.

ـ قلعة حلب :

ولابد من كلمة عن" قلعة حلب" لا علاقة لها بالموسيقى بل لأنها كانت أشفى لنفسى من كل دواء وأجدى على من ألف طبيب ، ذلك أن أعصابى فى منتهى التلف فأنا لا أزال أتوهم أن قلبى ضعيف لا يتحمل أيسر جهد وقد أتعبت الأطباء وأعياهم أن يقنعونى أنى سليم القلب ، إن لم يكن قلب مصارع وإنه فوق الكفاية لجسمى الضئيل فلما كنت فى" حلب" دعونى إلى زيارة القلعة. فذهبت معهم ، وأردت الاكتفاء بالنظر إليها من الطريق فإنها شىء عظيم شامخ جدا. وقد بنيت فوق تل أو ربوة ، وحولها خندق واسع ، فألحوا أن أصعد فلم أشأ أن أقول لهم إنى أخشى أن أجهد هذا القلب المظلوم. وزعمت أن ركبتى ستخذلاننى ولا شك. فأبوا إلا مصاحبتهم ، وهونوا فخجلت ، ومضيت معهم وذهبنا نصعد ونصعد حتى خلت أننا قد بلغنا السماء وما ظنك بأكثر من مائتى درجة؟ زد على ذلك ظلمة هذه المنقبة وضيقها وعدم استواء الدرجات الملساء التى يسهل جدا أن تزل عنها القدم. ولك شىء آخر حتى الصعود فى هذه القلعة فتشهدت ، ورحت أتفرج مع القوم ثم انحدرنا ومضينا إلى أثر آخر ثم زرنا السوق المشهورة ، وخرجنا منها إلى دار

١٤٦

المحافظ ، فأقبل علىّ يكلمنى ويحدثنى عن حلب ، وأخيرا تذكرت أنى نسيت هذا القلب طول الوقت ، وأنى لم أشعر من جانبه بشىء ، لا خفقان ولا سرعة ، ولا اضطراب ولا شىء على الإطلاق كأنما كنت نائما ولم أكابد كل هذه المئات من الدرجات فكدت أرقص. وسمعنى بعض إخوانى أقول بلا مناسبة (بارك الله فى قلعة حلب) فسألونى عن السبب فغمزت بعينى ولم أجب وتركتهم يظنون ما شاءوا. وماذا أبالى وقد اطمأنت نفسى وسكن روعى؟ نعم بارك الله فى قلعة حلب.

١٤٧
١٤٨

تواضع الساسة السوريين

(١٤)

كانت مأدبة العشاء التى أقامها فخامة السيد شكرى القوتلى ، رئيس الجمهورية فى ختام ليالى المهرجان ، مظهرا لروح سورية الحقيق ، وهو جمهورى صميم ، وإن كانت سورية قد عرفت ـ وعانت ـ الملك العضود ـ فى تاريخها الطويل الحافل وقد حملنا إلى قصر الرياضة فى سيارات لا ندرى من أين جئ بها ولا من هو الذى كان يتولى أمر إعدادها ، ولقد فاتنى أن أكون فى السيارة التى أقلتنى إلى القصر وعادت بى منه. زملائى فى الرحلة الطويلة إلى شمال سورية ـ ساطع الحصرى بك ، الشيخ المغربى والأستاذ عز الدين التنوخى وكنت ضنينا بهم ، حريصا على صحبتهم ، معتزا برفقتهم ـ ولكن الرضا كان جزيلا ، فرافقت فى الذهاب والإياب الأستاذ إسعاف النشاشيبى والأستاذ أحمد الشايب.

١٤٩

والقصر الجمهورى دار صغيرة فيها من السلطة أكثر مما فيها من الأبهة وعلى أبوابها وفى مداخلها حرس وشرط. ولكنك تحس وأنت داخل أن هؤلاء إنما يقفون لتحيتك والترحيب بك لا لحراسة أحد ، فكأنهم بعض ما تزان به المآدب الحفلات مبالغة فى التخفى ومن يحرسون؟! وممن يتحرزون! إن رئيس الجمهورية من الشعب والشعب منه ، وما كان راغبا فى هذا المنصب ولا طالبا أو ساعيا ، وإنما كانت رغبته وسعيه أن يكون الرئيس الأسبق" هاشم بك الأتاسى"(٣٧) على رأس الجمهورية ، ولكن هاشم بك أبى كل الإباء على أن هذا الأمر ليس له سوى شكرى بك ، ولو بقى الأمر لاختيار شكرى بك لما تولى شيئا لا من الرياسة ولا من الوزارة.

والواقع أن مناصب الحكم لا تعد شيئا فى سورية ، فليس عليها تنافس. ولا فى سبيلها أو من أجلها تثور الخصومة وتضطرم العداوة وتنشق الصفوف وتفترق الكلمة. وقد زرنا" حمص" فى أوبنا من رحلة الشمال ، وقصدنا إلى دار السيد" هاشم الأتاسى" الرئيس الأسبق لتحيته ، ثم تغذينا فى بستان البلدية فعرفت أتاسيا آخر هو آخو الأول ، تقلد منصب الوزارة مرة من قبل ، ولو شاء لتقلد رياستها الآن ، فإن منزلته وأسرته وثقافته وهمته تؤهله لما يحب ، ولكنه يشيح عن ذلك كله إشاحة المستخف ويؤثر أن يكون رئيس بلدية حمص.

وعلى هذا فقس ،

واستقبلنا فخامة الرئيس فى القاعة الكبرى ـ وإنما توصف بالكبرى للقياس إلى غيرها ـ كان ينتقل بين هذا الرهط العظيم المحشود ويقف مع كل فريق لحظات يتحدث ويلاطف ويجامل ثم قيل اهبطوا فهبطنا إلى الحديقة ـ وهى واسعة ـ حيث صفت

١٥٠

الموائد فقعدنا حيث طاب لنا أن نقعد ، لكن الرئيس أبى إلا أن يحف به المصريون فأدنانا منه وجعلنا على جانبيه وأمامه ، فى غير كلفة ، واختص الأستاذ إسعاف بك النشاشيبى بتكريمه فألح عليه أن يكون أمامه ، ويجعل يقول إن إسعاف بك أستاذه ، وأنه قضى فى" القدس" عام كذا نحو عامين فكان يزور الأستاذ إسعاف كل ليله فى داره فيستفيد منه أدبا وعلما.

تواضع العلماء :

وخيل إلى ، وأنا أراعى الأستاذ إسعاف ، أنه يقول فى سره" يا أرض ابلعينى" من فرط الحياء ، فقد اضطرم وجهه فصار كالطماطم الناضج ، وراح رأسه يهتز يمنة ويسرة ، فضحكت فى سرى ـ أنا أيضا ـ إذا تذكرت واحدا من أصدقائنا القدماء ، عليه‌السلام ، كان لا ينفك كلما تعجب أو أنكر شيئا يهز رأسه على النحو ، وكان المرحوم" السباعى"(٣٨) يشبه رأسه فى اهتزازه هذه برأس الأرنب المصنوع من" الجبس".

وأكبرت لفخامة السيد شكرى هذا التواضع ، وذلك الإقرار العلنى بفضل لا يلزمه شكره ، وأكبرت من إسعاف بك تطامنه واستحياءه ، على فضله وغزارة علمه فما فيمن لا يستحى خير.

ولكن الأستاذ إسعاف ذرب اللسان حاضر البديهة ، سريع الخاطر يتكلم فكأنه يقرأ فى كتاب فما لبث أن تغلب على حيائه فانطلق يسح سحا بوصف فضائل الرئيس ومزاياه والرئيس يستوقفه ويستغفر الله ، لكن من ذا يصد السيل المنهمر؟ وانقلب الوضع ، وانعكست الآية وصار الرئيس هو المطرق حياء ، وهو الذى

١٥١

يحاول أن يبدو للناظرين كأنه ـ غيره هو ـ المعنى بهذا المديح ، فيعبث بالشوكة تارة ، وفرك لباب الخبز طورا ويلتفت وراءه حينا ، ويتناول سيجارة ليشعلها ثم يردها.

وما كدنا نفرغ من الطعام ونتهيأ للقيام ـ فقد كان المقرر أن نعفى من الخطبة حتى رأينا شيخا يغادر مكانه ويقبل فيقف قبل الرئيس كأنه ينتظر الإذن ، فينظر إليه الرئيس مليا ثم يأبى له الأدب أن يرده ، فيقول" تفضل".

وقد استغربت ما سمعت ، فما كان هذا مقامه ، ورأيت الرئيس يلتفت إلى الأستاذ أحمد أمين بك وسمعته يقول" ما رأيك" فلم يجب الأستاذ ولكنه نهض بعد فرغ صاحبنا ، فيقول كلاما حسنا يعد ردا على ما سمعنا وتعجبنا له ، فأنقذ الموقف.

وصار الواجب بعد ذلك أن يقول أحدنا كلمة شكر ، فقالها الدكتور طه ، جزاه الله خيرا ، وأحسن كل الإحسان ، واثنى أطيب الثناء على وزير المعارف نصوح بك البخارى (٣٩) الذى لم يفارقنا لحظة واحدة فى أسبوع المهرجان ، وأن لا يفتر فى رعايته لنا ، ولا يقتصر فى تعهدنا وبرنا.

وقد جاءنى معاليه بعد أن نهضنا عن الموائد وتفرقنا فى الحديقة وشكا إلى أن الدكتور طه بالغ وأسرف ، فقلت له يا سيدى : إن الدكتور طه إنما عبر عما نطوى جميعا لك من الحب والإجلال والشكران ، ولو لم يشكرك طه ، لشكرتك أنا ولكنت أشد منه إسرافا ، وما أراه قصر فى حقك ، فقال أنت شر منه ، ومضى ، وهو أشد عما يكون استحياء.

١٥٢

وكان الأستاذ" نجيب الريس"(٤٠) ـ الأديب الشاعر وصاحب جريدة القبس ـ وقد كتب مقالا عنيفا ينتقد فيه محافظ دمشق واتفق أن جلس المحافظ فى مأدبة الريس وبجانبه الأستاذ" نصوح هابيل"(٤١) نقيب الصحفيين وصاحب جريدة" الأيام" فشكا إليه المحافظ ما قال فيه نجيب ، فما كان من نصوح إلا أنه قال إنه يوافق زميله على كل حرف خطه ، فسرنى هذا التضامن بين الزملاء ، تمنيت أن يكون هذا حالنا فى" مصر" وسمعت أعجب حوار وأمتعه ونحن نعود إلى الفندق ، وكان السائق ينهب الأرض والأستاذ إسعاف يكره السرعة فاستمهل السائق ، فقال هذا (أولسنا على الأرض؟ فماذا تخاف؟) فقال الأستاذ إسعاف ولكن الله يأمرنا أن لا نلقى بأنفسنا فى التهلكة ، فرد عليه السائق بأن" المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين" فصاح به الأستاذ (ويحك أقول لك القرآن ينهى عن هذا فتحتج على بعبد الوهاب).

فأصر السائق على الاحتجاج بمواويل" عبد الوهاب (٤٢). ولج الأستاذ فى الاحتجاج عليه بالقرآن والحديث ، ثم رأى السائق يزيد على السرعة أنه يلتفت يمنة ويسرة. فخاف العاقبة ، ولكنه أثر المزح فارتجل حكمة تقول ـ أو يقول هو فيها ـ إذا ركبتم الخيل فلا تلفتوا ذات اليمن وذات الشمال. فكان جواب السائق أن العرب لم يعرفوا السيارة ، وظللنا نستمع إلى هذا الحوار اللذيذ حتى بلغنا الفندق بسلام ، فكان الختام مسكا.

١٥٣
١٥٤

حديث عن بدوى الجبل

(١٥)

عرفت فى الشام (بدوى الجبل) (٤٣) وهو شاعر وأديب ونائب من اللاذقية ، وكان الترتيب أن ينشد قصيدة فى احتفال اللاذقية ، ولكنه دعى إلى الإلقاء فى حفلة دمشق الأولى.

و (بدوى الجبل) ليس اسمه ، بل وصفه ، وقد غلب عليه الوصف حتى لا يكاد يعرفه بغيره أحد ، وحتى صار ينادى به فى مجلس النواب ، وقد سمعت رئيس المجلس ـ وكان يومئذ" فارس بك الخورى"(٤٤) ـ فى الجلسة التى شهدتها بعد ارتدادى عن فلسطين ، يقول (سيتلو عليكم بدوى الجبل المراسم ... الخ) فقلت لنفسى ، هى بساطة القوم تسهل عليهم الأمر ، ولو لا ذلك لعانوا ما عانيت من الحيرة والارتباك ، إذ كيف أناديه من بعيد مثلا ، وكيف أدعوه حين أخاطبه؟ أأقول له (سيدى بدوى؟) أو (يا حضرة البدوى؟) أم أهمل

١٥٥

ألفاظ المجاملة كلها وأمرى إلى الله؟! وكيف يليق ذلك ، وما سبقت لى به معرفة ، وإن كنا قد ائتلفنا بسرعة؟! وأنا رجل أحرص فى صداقاتى على إبقاء بعض الحدود ، ولا أرفع الكلفة كل الرفع وإن كنت أرسل نفسى على السجية ، لأنى وجدت ذلك أبقى للصداقة وأدوم لعودة. حتى زوجتى وأخى وأبنائى أتوخى معهم الاحترام والأدب رغبة فى طيب المعاشرة وحسن المخالطة ، واجتنابا لتغير النفوس من جراء سوء الأدب والتطاول.

وقد وجدت فى (يا أستاذ) مخرجا غير مريح ، فقد شاع هذا اللفظ حتى فقد قيمته ، فكل امرئ يقول لكل امرئ أخر (يا أستاذ) وقد سمعت (كمساريا) يقول لصبى حافى القدمين عارى الرأس وعليه مرقعة تبدى من بدنه أكثر ما تستر (تذكرة يا أستاذ) ولعله يتهكم أو يتفكه ، ولكنى امتعضت ، واستثقلت هذا الابتذال ، وعزيت بأن (أستاذيتى) أنا ، خاصة لم يمتد إليها الامتهان ، وإن كنت أرى خصوصها قد صار كالعموم.

وسألت غير واحد عن اسم (بدوى الجبل) فكان يطول تفكيرهم ويترددون ويتلعثمون فقلت أسأله هو نفسه. مهدت لذلك قولى له : (إنى أرى الناس كلهم يسميهم آباؤهم ، فلا خيار لهم فى الأمر وإن كان الاسم بغيضا ، ولا أعرف سواك رجلا أوتى الشجاعة اللازمة لإطراح ما سماه به أبوه والاعتياض عنه بالاسم الذى يروه ، فماذا كان الاسم الذى تلقيه من أبويك؟ ولماذا آثرت تغييره؟ أعنى ماذا كرهت منه؟.

فقص علىّ هذه القصة. قال : إنه لم يغير اسمه. ولا اعتاض منه سواه ، ولكنه فى أل عهده قرض الشعرا ، وبعث بقصيدة إلى صحيفة

١٥٦

الأستاذ يوسف (٤٥) ـ ألف باء ـ وذيلها باسمه الصريح ـ محمد سليمان ـ فنشر الأستاذ العيسى القصيدة وجعل التوقيع تحتها (بدوى الجبل) فاستغرب هذا وزاره وسأله عن سبب ما صنع ، فقال له : إن القصيدة جيدة واسمك غير معروف ، فإذا رأى الناس اسمك الذى لم يسمعوا له من قبل ساء رأيهم فى القصيدة أو قرأوها وهم أميل إلى استضعاف الشعر ، سفها ، ولكنهم حين يرون كلمتى" بدوى الجبل" خليقون أن يستغربوا ويتوهموا أن هذا الشاعر مجيد مشهور يؤثر ـ لسبب خاص ـ أن يتنكر فيكون هذا باعثا لهم على إحسان الظن سلفا ، أو على الأقل وزن الشعر بغير هوى.

وقد صدق ظنه فأعجب الناس بالقصيدة وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (من ترى يكون بدوى الجبل هذا؟ ولماذا يتنكر؟) وقال قوم إنه" خليل مردم" وذهب أخرون إلى أنه" شقيق جبرى"(٤٦) وكلاهما من شعراء الأمة المعدودين واختلفا فى ذلك اختلافا عظيما.

واقتنع السيد محمد سليمان بصواب الرأى فلج فى التنكر حتى اشتهر بأنه (بدوى الجبل).

ولم استغرب هذا لأنه عين ما وقع لى فقد كان زملائى فى المدارس لا يعرفوننى باسم (عبد القادر) لأنى فى حداثتى لم أكن أحفل بلقب (المازنى) حتى ملت إلى الأدب وعكفت على كتبه القديمة أقرؤها فعرفت قيمة لقبى الذى كنت استخف به وأملّه ، فلما أردت أن انشر فى الصحف بعض ما كنت أنظم وأكتب ، عكست القضية. فكنت أذيل القصيدة أو المقال بهذا التوقيع (ع. أ. المازنى) فابرز ما كان خافيا ، واحجب ما كان ظاهرا ، أو معروفا وواظبت

١٥٧

على هذه إلى سنة (١٩١١) أو (١٩١٢) ، وكنت يومئذ أتحذلق واتقرع ، ولا سيما فيما أنشره فى مجلة (البيان) لصاحبها المرحوم الأستاذ" البرقوقى"(٤٧) فكتب" الدكتور هيكل"(٤٨) (وكان يومئذ مثلنا لا بك ولا باشا) فى صحيفة (الجريدة) مقالا فى (كتاب البيان) يقول فيه ما معناه أن لعل اسم" المازنى" هو الذى يرجع إليه السبب فى تقرعه ، فكان من أثر هذه الغمزة أن نبذت التكلف. ونزعت إلى البساطة.

واتفق يوما أن كنا بمجلس المرحوم البرقوقى ، وكان (اللواء) أو (العلم) ـ لا أدرى أيهما ـ قد نشر لى قصيدة طويلة ، وكان معنا السيد" الغاياتى"(٤٩) فجعل" يسأل من هذا المازنى؟ " ، وأنا معه فضحك ، واشتد إلحاحه فى السؤال عما نقدته فى (الجريدة) وقد عرف السر بعد ذلك وصرنا صديقين.

ثم صرحت باسمى كاملا بعد أن اطمأنت نفسى ، واستغنيت عن التستر أو اتقاء الظهور جهرة ، فقد كنت أخشى الخيبة ، واشك شكا كبيرا فى قيمة ما أكتب أو أنظم ، ولكنى وجدت من تشجيع الإخوان وعطفهم ومروءتهم ما قوى قلبى وجرأنى.

وأذكر لبدوى الجبل ـ كما أذكر الدكتور أسعد طلس ـ أنهما لم يفارقانى قط بعد أوبتى من فلسطين مطرودا عنها. وقد أبى الدكتور طلس إلا أن يعود معى وإن كان القوم قد أذنوا له فى الدخول خليقا وتلك منّة كبرى له ، ويد لا أنساها أبد الدهر ، فقد يسر لى كثيرا مما كان خليقا أن يتعسر ، وظلا كلاهما معى بعد ذلك حتى ركبت الطائرة إلى مصر ، وكانا يسعيان هنا ، وهناك ، ومحاولان تذليل كل عقبة ، وتسهيل كل صعب ، ولا ينفكان ينبآنى بكل

١٥٨

خطوة ولا يكفان عن تبشيرى وتطمينى ، ولا أدرى كيف أشكر لهما هذا ، ولا أرى العجز يصلح عذرا ولكنى مع ذلك أسمح منهما أن يغفرا لى تقصيرى ، فإنهما هما وقومهما جميعا أنبل من أن يتقاضون شكرا على مروءة.

١٥٩
١٦٠