رحلة الشام

إبراهيم عبد القادر المازني

رحلة الشام

المؤلف:

إبراهيم عبد القادر المازني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٠
ISBN: 978-977-420-228-3
الصفحات: ٢٤١

(٤)

وقد اقتصرت رحلات المسلمين إلى الديار الإسلامية. ولم تخرج خارج حدودها ، سواء أكانت الرحلة من المغرب والأندلس إلى المشرق الإسلامى ، أم كانت بالعكس ومن ثم كانت الرحلة الأوربية فى المشرق خارج حدودها. وكانت أولى المحاولات لاكتشاف" منابع الثراء" كما كانت الحركة الصليبية التى امتدت خلال الفترة نفسها وسيلة أخرى للوصول إلى منابع الثراء ، ولكن هذه المرة لم يكن الشرق كله يواجه فقد بعدت بلاد الصين والهند وما جاورهما أما العالم العربى فقد كان الطرف الذى وجهت إليه أوروبا الكاثوليكية عدوانها تحت راية الصليب ، وعلى مدى الفترة ما بين أواخر سنة وكانت الحرب الصليبية أو حروب الفرنج كما سماها العرب الذين عاصروها سببا رئيسا من أسباب تعطل قوى الإبداع والنمو فى الحضارة العربية الإسلامية وبعد نهاية النضال ضد الصليبيين دخلت المنطقة العربية فى منحى التدهور والأفول ، الذى أدى بدوره

٤١

إلى سقوط العالم العربى تحت السيادة العثمانية (٥) وبالتالى توقفت المشروعات الإسلامية والعربية وليس مصادفة أن تتوقف أنواع أدبية وكتابية كثيرة منها أدب الرحلة ومنها أن النموذج الإفرنجى / الأوروبى تحول إلى نموذج جديد للتقدم ، فى حين وقفت الثقافة العربية تجتر الماضى المجيد وتتحسر عليه ، وتقوم بجمع وكتابة الموسوعات لتعويض الخسائر الفادحة فى كتبها ومخطوطاتها التى احترقت أو أغرقت أو سرقت أو طمرت بسبب الحروب الموجهة ضدها. وبسبب تحول النموذج الثقافى إلى نقيض الذات العربية والإسلامية خلقت مشكلة العلاقة بين ما أنتجناه فى فترات غفلة أوروبا ، وما يجب أن تأخذه منها بعد فترات غفلتنا وهى مشكلة صيغت فيما بعد وفى معادلة الأصالة والمعاصرة أو فى شكل صيغة الأصيل والوافد. لقد خبت شعلة الإبداع والرحلة بالنسبة لما كان خلال العصرين الأموى والعثمانى. إذ يتباطأ تطور الآداب والعلوم العربية منذ بداية القرن الحادى عشر مع نمو حجمها واتساع انتشارها ويضعف نشاط الترجمة ثم لا يلبث أن يخمد نهائيا. ويمكن اعتبار ترجمة المؤلف التاريخى لأرسيوس من اللاتينية فى إسبانيا وتراجم (البيرونى) من السنسكريتية فى" غزنة" التماعات أخيرة لهذا النشاط ، على أنها لم تؤثر تأثيرا يذكر على تطور الثقافة العربية ...... وتلاشى الاهتمام بما هو مكتوب باللغات الأخرى وما وصلت إليه الشعوب والحضارات الأخرى فى مجال الثقافة الروحية وتوقف تدفق المعلومات من خارج حدود العالم العربى الإسلامى. ما عدا أخبار الرحالة عن مختلف الغرائب (٦).

٤٢

فقد بقيت الرحلة رغم شحوبها ـ تتجه نحو ثقافة الشعوب الأخرى من زاوية العجيب والغريب كما يظهر فى عناوين كتب هذه الفترة المهمة من تاريخ ثقافتنا ومجتمعنا العربى الإسلامى وسوف تتكرر المشاهد السابقة ـ مرة جديدة ـ عند ما يحول العرب والمسلمون دفة التوجه من المحيط الهندى والبحر الأحمر والخليج العربى إلى (البحر المتوسط) بفعل عوامل سياسية وثقافية وعلمية جديدة وملحة منها محاولة النهوض الحديث بعد الكبوة العثمانية ومنها ما رآه العرب بخاصة من نهوض حديث فى الحملة الفرنسية والمتمثل فى ظهور فرنسا كنموذج حضارى جديد ومؤثر على ما حوله وما تحته من البلدان والعواصم.

* * *

٤٣
٤٤

(٥)

تمثل الرحلة البرية والبحرية ـ إذن ـ الرحلة العربية الإسلامية. فقد انتقل العربى من التنقل البرى عبر الصحراء" إلى التنقل عبر البحار والمحيطات ولكنه شارك فى التراث الإنسانى برحلات أخرى روحية وفكرية وخيالية كما رأينا رحلة (الإسراء والمعراج) التى استوحى منها الكتاب الكثير من الأفكار ، ومصدرها الوحيد ، حديث النبى علية الصلاة والسلام كذلك رحلة (حى بن يقظان) من المولد بلا فكر إلى التعرف على الذات والوصول إلى وجود الله. ثم رحلة أبى العلاء المعرى إلى العالم الآخر فى" رسالة الغفران" وكلها رحلات خاصة بالمسلمين وعقيدتهم.

ويعنى ذلك أن المسلمين كانوا تواقين إلى الرحلة فى كل اتجاه. وكانت الرحلة البرية ثم البحرية مظهرا للرحلة الفاعلة فى نفوسهم وتكوينهم وخيالهم وروحهم يضاف إلى ذلك أن النظر إلى الآخرين فى الفكر العربى على أنهم" الأعاجم" الذين لا يبينون تحولت فيما

٤٥

بعد الإسلام إلى النظر لغير العرب على أنهم" الموالى" ثم إنهم بعد ذلك" المولدون" وبذلك اختزن الرحالة هذه النظرية التى تفرق بين العرب وغير العربى ، والتى تشعر بالسيادة والغلبة على الآخرين وإذ كانت هذه السيادة أخذت شرعيتها من اللغة قبل الإسلام فإنها أخذت شرعيتها بعد الإسلام من مقولات قرآنية مشروطة مثل قوله تعالى" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" ومثل قوله تعالى" إن الدين عند الله الإسلام".

وصبت هذه الأفكار العربية والإسلامية فى نفوس الرحالة كتراكم تراثى مقدس ـ حكم نظرتهم إلى الذات وإلى الآخر.

" لهذا فنحن نرى أن ذهنية الرحالة المسلمين إبان هذه الفترة الأولى قد تشكلت ـ ولو بدرجات متفاوتة ـ فى إطار الشعور بالغلبة السياسية والحضارية لأن الانتماء إلى ثقافة الفاتح والحكم قد جعل ـ فى أغلب ظننا ـ الأساس الدينى / العرقى / الحضارى معيارا لوصف أغلب الأشياء ـ فى إطار مقولة التزيين أو التصحيح وفى الحكم على السلوكيات بما فيها من معتقدات وتقاليد وعادات فى ضوء أفضلية ثقافية" للذات" على ثقافة الآخر" أو" الغير"(٧) وهذا ما جعلهم يتنقلون فى الديار الإسلامية بخاصة.

لأن دوافع الرحلة عند المسلمين تختلف عنها عند غيرهم. فهناك جذر تراثى عربى يمتد من الرحلة العربية الأولى وراء الكلأ والماء ، ووراء الحج ووراء الغزو أحيانا والشعر العربى حفى بهذه الرحلة وقد اتخذت هذه الرحلة شكل مقدمة ثابتة لوصف رحلات الخروج إلى البلدان المجاورة.

٤٦

واتخذت الرحلة سندا إسلاميا مهما فى القرآن والسنة للعظة أو للعلم فهناك آيات قرآنية كثيرة تربط الرحلة بعظة التاريخ والتعرف على آثار الأمم السابقة ، وعلى ما آلت إليهم دولتهم كقوله تعالى" فسيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين" وكقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم" اطلبوا العلم ولو فى الصين" ودلالة السياحة والتعرف على الجديد مشتركة بين المعنيين القرآنى والنبوى.

ولقد كانت الفتوحات الإسلامية تتطلب معرفة بالبلدان خارج شبه الجزيرة العربية. مما استدعى خروج الطلائع لتمهيد الطرق والتعرف على أحوال البلدان قبل فتحها" على أن دولة المسلمين قد فاقت إمبراطورية الرومان فى فتوحها وأملاكها وقد استلزم ذلك ـ عما كان هناك من قبل ـ كثيرا من طرق البريد وموظفيه ، مما توجد تفاصيله فى الكتب العربية التى ألفت لإرشاد العاملين ـ فى تلك الناحية ـ من الإدارة الإسلامية وهذه الكتب هى أول ما كتب المسلمون فى وصف البلاد التى خضعت لحكمهم (٨).

وتعددت أسباب الرحلة فى هذا السياق فقد" اقتضت أحوال البلاد الإسلامية أن تكثر الرحلات حين اتسعت رقعة الإسلام ، وانشعبت سلطة الخلافة بين الملوك والأمراء حتى استقل بعضهم بحكم ما ولى من البلاد إذ كانت عناية الخلفاء حينئذ منصرفة إلى توثيق عرى المودة بين أولئك الأمراء ، ليقوموا بغارات على من يناوئهم من الأعداء ، وقمع ما يحدث من الفتن فى داخل البلاد فجابوا البلاد لدراسة أحوالها ومعرفة سهلها ووعرها ، وجبالها وأوديتها وطرقها البرية والبحرية وما تنتجه أرضها من أنواع الغلات حتى يجبى الخراج بنسبة ذلك ونظموا البريد وقاسوا الأبعاد (٩).

٤٧

ولا تقف الرحلة عند المسلمين عند هذا الحد ، فقد تحولت الرحلة إلى علم تؤلف فيه المؤلفات المتخصصة وهناك رحالون قبل الرحلتين الشهيرتين لابن جبير وابن بطوطة وهناك مؤلفات كثيرة قبلهما وبعدهما إذ تتعدد أسماء هؤلاء الرحالة أمثال :

ابن خردذابة (٩١٢ م) اليعقوبى (٩٢٢ م) البلخى (٤٣٢ ه‍) ابن حوقل (٩٨١ م) ابن جبير الأندلسى (١٣٥٦ م) ابن بطوطة (١١٧٠ م) ابن سعيد المغربى ت (١٢٧٤ م) وغيرهم.

وكتب ومعاجم البلدان التى كتبت بعد رحلات كثيرة أمثال : معجم البلدان (١١٧٩ م) لياقوت الحموى الرومى وقبله أبو دلف بن المهلهل بكتابه (عجائب البلدان) والمسعودى بكتابه (مروج الذهب) ٩١٥ م. وأبو الريحان محمد البيرونى بكتابه (تاريخ الهند) وأبو عبيد البكرى (المسالك والمماليك) وغيرهم.

وتمتد جذور الرحلة من هذين الجذرين العربى ، الإسلامى إلى رحلات فتح الأسواق للتجار المسلمين وإلى دراسة أحوال الشعوب وأخلاقها.

* * *

٤٨

دلالات المصطلح

٤٩
٥٠

يفرق الفكر العربى بين مفاهيم كثيرة للرحلة : كالسفر ، والزيارة ، والجولة. ولكن لم تنفصل هذه الرحلة عن علوم عربية قديمة وعلوم إسلامية جديدة فللرحلة صلة بعلوم البحار وعلوم الجغرافيا والفلك والنجوم وهى علوم البيئة ، إلى جانب الخبرات التى اكتسبها العرب ثم المسلمون من الأمم المجاورة لهم عبر البر والبحر ، يعنى دراسة المكان وما فيه من خصائص وما يستجد عليه من عوامل طبيعية تؤثر على الرحلة وعلى الرحالة.

وقد بدأ الاهتمام (بالمكان) بكتب الأنواء فقد كان" عرب الجاهلية على معرفة بمبادئ علم الفلك وكانوا على علم أولى أيضا بالأنواء إذ كانت لديهم القدرة على التعرف على الأمكنة وأحوالها من غير دلالة عليها بالأمارات المحسوسة الدالة دلالة ظاهرة أو خفية ... فيستدلون على البقاع وهم فى بطون الفلوات (١٠).

ومن ثم كان العرب أدلاء فى مجاهل الصحراء وفى الطرق البرية والبحرية ، وكانت المصنفات الجغرافية الإسلامية فيما بعد امتدادا لهذه الخبرات العربية مضافا إليها ما عرفه العرب عن

٥١

الأماكن والأجواء من الكتب العلمية المترجمة وبدأت هذه المصنفات بكتب الجغرافية الوصفية وهى معلومات تشكل جزءا من المؤلفات اللغوية تحت عنوان الصفات تبدأ من عصر المأمون بن هارون الرشيد بدأها (السدودسى المتوفى ١٩٥ ه‍) ثم (النضر بن شميل المتوفى ٢٠٣ ه‍) والكندى من الأوائل الذين كتبوا فى الجغرافيا وكان من رؤساء حكمه العلم اليونانى بين العرب (١١).

ولهذا كانت الرحلة حلقة متسلسلة تراكمت فيها المعارف وتداخلت فيها العلوم حتى وصلت إلينا مكتوبة بطريقة يرضى عنها الذوق العام وترضى ـ فى الوقت نفسه ـ ذوق صاحبها ويعنى ذلك أنها استقلت تدريجيا وخلصت مادتها من مختلف ذوق صاحبها. أى أنها استقلت تدريجيا كجنس كتابى أو أدبى متميز إذا أطلقناه ، فهمنا منه شيئا محددا برغم اقتراب الدلالات من بعضها فيما تسمى بها الحركة الإنسانية عبر الزمان أو المكان. ولذلك حمل المصطلح فى ذاته تداخلات دلالية حتى أنه أطلق على أشياء ، وموضوعات وحالات وصفات متعددة ومن حقول دلالية ومعرفية متعددة ومختلفة.

والرحلة مصطلح يفيد الانتقال من نقطة إلى أخرى أى مغادرة مركز إلى مركز آخر وقد يفيد العودة إلى المركز الأول أو عدم العودة.

ولا يستخدم مصطلح الرحلة بمعنى السفر الجغرافى عبر المكان فقط ، بل يشتمل على دلالات مجازية ورمزية أتاحت للمؤلفين ـ على سبيل المثال ـ استخدام المصطلح للدلالة على الرحلة الزمانية عبر الزمن مع ثبات المكان والرحلة الروحية كما

٥٢

يستخدمها المتصوفة والرحلة الفكرية بين المذاهب والأفكار أو بين مجموعة من الكتب أو مجموعة من الناس كذلك نجد الرحلة النفسية داخل الذات الإنسانية وكلها تخرج من مصطلح الرحلة فى دلالاته المباشرة والمجاوزة والرمزية.

ويرتبط مصطلح الرحلة بالكشف ، والاكتشاف ويحمل دلالة المغامرة والشقة حتى أصبحت كل حركة صغيرة أو كبيرة يمكن أن نطلق عليها رحلة ، فتصبح الحياة رحلة ويصبح الموت (رحلة) والتاريخ رحلة والاغتراب رحلة.

وقد تحمل دلالة الرحلة معنى السياحة والنزهة والاستمتاع ولكنها بحسب الهدف المنشود منها ، والطرق والوسائل التى تستعين بها يمكن أن تعطى دالات لا حصر لها حتى أنه يمكن تسمية الرحلة ووصفها بصفات وأسماء خاصة إذا عرفنا هدفها وظروفها ووسائل تحقيقها.

فقد تعنى الشجاعة والإقدام كرحلة الجيش أو الاكتشاف الجغرافى. وقد تعنى الهروب إذا كانت تبعد صاحبها عن تحمل المسئولية مثلا. وهكذا يمكن أن تتعدد الدلالات والمعانى لهذا المصطلح الفضفاض.

وهذا ما دعا الكتاب إلى تسمية مؤلفاتهم باستخدام مصطلح الرحلة بظلاله وهوامشه الدلالية. فنجد رحلة السندباد ، رحلة ابن فطومة ، رحلة إلى الغد ، رحلة المستقبل الرحلة إلى الآخرين رحلة إلى الإنسان من الحنين إلى الجنان رحلة العمر ، رحلة الأدب ، رحلة النفس ، رحلة الروح ، الخ. وكلها تعنى الانتقال بين نقطتين عبر

٥٣

الزمان أو المكان أو النفس والنفس أو شىء آخر إنها تعنى (الحركة) فى النهاية أو التحول (بلا نهاية) أيضا ونجد فى لسان العرب أن (الرحل) مسكن الإنسان وما به من أثاث و (الراحلة) ما تصلح للرحلة والترحل ـ والارتحال : (الانتقال) وهو (الرحلة ، والرحلة) (والرحلة) اسم الارتحال وهو عكس الحلول والترحل ارتحال فى مهلة (١٢) حيث أن مادة رحل وتقلباتها تدل على المسير والانتقال مشروط بعده أو غير مشروط وأنها باستمرار (الرحلة) ضد الحل والحلول والاستقرار ونجد فيها أيضا (مادة رحل) دلالات التمكن والقدرة على الرحلة ولهذا نستشف من هذه المادة أن الرحلة مرتبطة بالمشقة والتعب لدى العرب الذين اشتقوا تقلبات هذه المادة. ونجد أصداء متعددة لهذه الرحلة فى الشعر العربى الجاهلى وما بعده فنسمع امرأ القيس قد طوف الآفاق ورحل فى كل واد يقول : ـ

فقد طوفت فى الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

 ـ ولكن شاعرا آخر يعد كل الدنيا بلاده ، بل البر والبحر ملك له ولقومه وإن زدنا ـ ومن عليها ـ يقول عمرو بن كلثوم فى قصيدته النونية الشهيرة :

وأنا المانعون لما أردنا وأنا

النازلون بحيث شينا

ملأنا البر حتى ضاق عنا

وظهر البحر نملؤه سفينا

لنا الدنيا ومن أضحى عليها

ونبطش حين نبطش قادرينا

ويعنى ذلك أن العرب لم يخافوا السفر أو الرحلة إنما عمدوا إليها فى جاهليتهم وإسلامهم بل قلدوا الطبيعة فى تقلبها وكانت الشمس نموذجهم فى هذا السبيل لأنها تمثل حركة الزمان وما

٥٤

يحدث على المكان من آثار بل ما يحدث للبر والبحر والسماء والجو والإنسان من جراء ذلك. ونرى (أبا تمام) وقد لخص هذا الأمر فى حكمته الشهيرة عن (التجدد) بالرحلة كما تجدد الشمس بقوله :

ولم تعطنى الأيام نوما مسكنا

ألذ به إلا بنوم مشرد

وطول مقام المرء فى الحى مخلق

لديباجتيه فاغترب تتجدد

فإنى رأيت الشمس زيدت محبة

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

(ديوان أبى تمام ج ٢ ، ص ٢٣) (١٣)

وكأن الحل والحلول ضد طبيعة البشر. وكأن الرحلة هى جوهر الحياة البشرية حتى أن الثبات يخلق وجه الإنسان بين قومه يجعله قديما باليا. وهنا تأتى مقولة أبى تمام والتى تحمل تناقضا بين نصفيها (فاغترب تتجدد) حيث يكون التجدد بمعاناة البعد والاغتراب عن أنس الأهل والأحباب كالتجدد الناشىء للشمس من غروبها ، وكالتجدد الناشىء من احتراق طائر العنقاء وتجدد حياته بعد الموت بل بالموت والتناسخ وهذا معناه أن لذة الرحلة لا تقل بل تزيد عن لذة الحلول والاستقرار لأن العربى (ثم المسلم) يعتقد ـ بمنطق التمايز والسيادة والفصاحة ـ أن الأرض ـ له ـ يطوف آفاقها حتى أن رضى (من الغنيمة بالإياب) كما عبر ـ (امرؤ القيس) وحتى أن نزل حيث يشاء من البر والبحر بمنطق البشر كما صور (عمرو بن كلثوم) ولكنهم ـ جميعا ـ يعتقدون أن كل رحل سيعود إلى داره وأهله لأنهم يعون الزمان فى شكل دائرى والرحلة فى شكل دائرى كالعجلة لابد ـ إن دارت ـ أن يعود أولها من أخرها.

٥٥

ويرتبط مفهوم الرحلة هنا بالمكان والزمان على السواء. فإذا كان كل شىء يعود لأصله وبدايته فتصور الرحلة زمنيا يرتبط بها مكانيا أى أنها هى الأخرى مستديرة كدورة الأرض ودورة الشمس ودورة الفلك ، وكان التجدد من ثم سمة أصيلة فى الرحلة والراحل وأن الاغتراب نفسه علاج لسكونية الحياة المملة وقد تصور الفكر العربى والإسلامى أن الزمان والمكان غير منفصلين وأن الزمان رغم أنه لا يعود إن مضى ، فإنه يعيد نفسه فى ظواهر يومية وفصلية وسنوية تعيد للذهن الزمان والمكان وكذلك نلاحظ ارتباط الرحلة بتوقيت زمنى يعطيه الإنسان الأمل فى العودة وقد امتد هذا المفهوم لدلالة الرحلة الروحية والنفسية والذهنية ـ حتى أن رحلة الموت لا تقف عند ـ مجرد الموت فإن البعث يعيد الحياة مرة ثانية وهذا ما جعل علوم الرحلة تفيد دراسة الزمان والمكان فى اتصالهما الكونى ابتداء من الجغرافيا ونهاية بالتاريخ.

* * *

٥٦

هوامش الفصل الأول

(١) ـ يعرف حسين محمد فهيم فى كتابه" أدب الرحلات" هذين المصطلحين بقوله" نبدأ بمصطلح الإثنوجرفيا ذاته لنجد أنه كلمة معربة تعنى الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد والعادات والقيم والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة أو مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة وفى مقابل هذا المصطلح نجد مصطلحا آخر وهو الأثنولوجيا الذى يهتم بالدراسة التحليلية والمقارنة للمادة الاجتماعية الإنسانية من حيث أصولها وتنوعها ، انظر :

حسين محمد فهيم أدب الرحلات ، سلسلة عالم المعرفة رقم (١٣٨) الكويت ، يونيو ١٩٨٩. ص ٤٩ وانظر أيضا ص ٧١ ، ص ٦٨.

(٢) ـ شوقى عبد القوى عثمان ، تجارة المحيط الهندى فى عصر السيادة الإسلامية (٩٠٤ ه‍) ـ (٦٦١ ـ ١٤٩٨ م) سلسلة عالم المعرفة. (١٥١) الكويت يوليو ١٩٩٠ ص ٧.

(٣) ـ المرجع نفسه ، ص ٩ ، ١٠.

(٤) ـ بونداريفسكى الغرب ضد العالم الإسلامى من الحملات الصليبية حتى أيامنا ، ترجمة إلياس شاهين دار التقدم الاتحاد السوفيتى موسكو الطبعة الأولى ١٩٨٥ م ص ١١ وانظر تفصيلات هذا الموضوع فى مقاله :

شوموفسكى الإبحار العربى بين صفحات ٣٦٤ ـ ٤٠٧ وصفحة ٣٩٨ بخاصة وهى التى يتناول فيها موضوعات كتاب أحمد بن ماجد وهذه المقالة ضمن كتاب : دراسات فى تاريخ الثقافة العربية ، القرون (٥ ـ ١٥ ه‍) ترجمة أيمن أبو

٥٧

شعر ، دار التقدم موسكو ١٩٨٩ وهو مجموعة دراسات صادرة عن معهد الاستشراق بأكاديمية العلوم فى الاتحاد السوفيتى.

(٥) ـ قاسم عبده قاسم ، ماهية الحروب الصليبية سلسلة عالم المعرفة الكويت رقم (١٤٩) مايو ١٩٩٠ ، ص ١٠ ، ١١ وانظر ص ٢١٩ من الكتاب نفسه.

(٦) ـ مقالة خالدوف ، الثقافة الكتبية ضمن كتاب دراسات فى تاريخ الثقافة العربية السابق ص ٢٣٨.

(٧) ـ حسين محمد فهيم ، أدب الرحلات ص ١٩٢.

(٨) ـ رحلة ابن جبير دار الكتاب اللبنانى مقدمة محمد مصطفى زيادة ص ٥.

(٩) ـ رحلة ابن بطوطة دار الكتاب اللبنانى ، مقدمه مهذب رحلة ابن بطوطة للمرحومين أحمد العوامرى ومحمد أحمد جاد المولى ص ٩.

(١٠) ـ ياسين إبراهيم على الجعفرى اليعقوبى المؤرخ والجغرافى فى سلسلة دراسات رقم (٢١٣) منشورات وزارة الثقافة والإعلام بغداد ١٩٨٠ ـ ص ١٨٤.

(١١) ـ المرجع السابق ص ١٨٧.

(١٢) ـ لسان العرب مادة رحل ج ٢ ، ص ٢٠٨ ـ ١١٦١١

(١٣) ـ ديوان أبى تمام ج ٢ ، دار المعارف القاهرة ١٩٨٣ ، ص ٢٣.

* * *

٥٨

الفصل الثانى

الخصائص الفنية لأدب الرحلة

السرد ، التقنية ، اللغة

ـ متعة الحكى.

ـ متعة المشاهدة.

ـ متعة التعرف.

ـ الوظيفة التوثيقية.

ـ المقارنة.

ـ الرحلة تمثل صيغة الوعى.

ـ الرحلة الذاكرة / الاختيار (التشكيل والصياغة).

ـ الرحلة القناع.

ـ الرحلة الرمز.

ـ الرحلة.

ـ الطبيعية والواقع فى الرحلة.

٥٩
٦٠