رحلة الشام

إبراهيم عبد القادر المازني

رحلة الشام

المؤلف:

إبراهيم عبد القادر المازني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٠
ISBN: 978-977-420-228-3
الصفحات: ٢٤١

الأمن العام فى فلسطين ضد المازنى

تحت الحكم العسكرى الإنجليزى

(٨)

وفى صباح اليوم التالى ـ الخميس ـ علمت أن المشكل أعقد مما كنت أظن ، فقد كنت واثقا إنى أستطيع العودة إلى مصر بالطائرة وكل ما أحتاج إليه هو الانتظار حتى أجد مكانا فى طائرة عائدة ولكن الدكتور طلس زار القنصلية ومعه جوازى ليسأل هل به حاجة إلى" تأشيرة" جديدة؟ فكان الجواب المزعج إنى ممنوع من اجتياز فلسطين برا وجوا لأن الأمن العام فى فلسطين هو الذى منع دخولى .. فكيف أعود؟ أأقطع البحر الأبيض سباحة؟ وخطر لى أن الحل الوحيد ـ إذا أخفقت المساعى الكثيرة التى بذلتها الحكومة السورية ـ هو أن أذهب إلى العراق ومن ثم إلى نجد فالحجاز فمصر فأعود على الأرجح مع الحجاج.

١٢١

وقد كان القنصل الإنجليزى كريما غاية الكرم فأرسل برقية إلى القدس ورد فيها برسالة مستعجلة ولكنه لم يتلق جوابا قط ، وكان كل امرئ فى دمشق معنيا بى ، وبتهوين الأمر على ، وسرنى على الخصوص قول فخامة الرئيس حفظه الله أنه سيكلف الحكومة أن تكتب رسميا إلى حكومة فلسطين تشكر لها أنها ردت المازنى إلى الشام.

وهمت صحافة دمشق بحملة على حكومة فلسطين فرجوت منها أن تتريث حتى نتيجة المساعى المبذولة من جانب الحكومة السورية وجانب القنصل البريطانى.

وحاولت الاتصال بمصر مرارا فلم أفلح وبعثت ببرقيات شتى إلى البلاغ وإلى بيتى بتوقيع الدكتور أسعد طلس وغيره من السوريين فلم يصل منها شىء إلى اليوم ولم أبعثها باسمى لأن جوازى كان فى القنصلية البريطانية والبرقيات لا تقبل من الغريب إلا إذا أبرز مرسلها جوازه كما تقضى بذلك الأوامر العسكرية.

وكنت قد مرضت فلزمت غرفتى فتفضل الكولونيل مارساك وزارنى وأنبأنى انه مسافر إلى مصر صباح السبت على طائرة إنجليزية لا تنزل فى فلسطين وتمنى أن تسمح لى صحتى بالسفر وسألنى عما يستطيع أن يفعله لى فى مصر فأكدت له إنى أستطيع السفر الآن على الرغم من المرض ورجوت منه إذا تعذر سفرى أن يتصل بجريدة البلاغ ويخبرها بالخبر.

١٢٢

ـ عودة إلى مصر :

وكان يجس يدى كل بضع دقائق فأحسست أنه يفعل ذلك لأمر يكتمه ولم يكذب ظنى ففى صباح اليوم التالى زالت عنى الحمى فارتديت ثيابى وإذا بى أدعى إلى مكتب شركة الطيران البريطانية وهناك علمت أن مكانا حجز لى بفضل القنصل البريطانى والكولونيل مارساك على طائرة إنجليزية قادمة من طهران وذاهبة إلى مصر دون توقف فى فلسطين ، وهكذا عدت فجأة وعلى غير انتظار بعد أن كاد عزمى يستقر على السفر إلى بغداد فنجد فالحجاز.

١٢٣
١٢٤

(٩)

نوينا بعد انفضاض المهرجان أن نقضى نهارا فى شتورة وليلة فى زحلة وكان" الدكتور بشر فارس (٣٠) لا يزال يلح على أن أزوره فى شتورة وأقضى معه بضعة أيام ، فما استطعت أن أختلس أكثر من بضع ساعات من نهار قبل أن يبدأ المهرجان فلما انتهى قلنا نلبى دعوته وننعم بكرمه وأريحيته النهار كله ، والمثل يقول" العبد فى التفكير والرب فى التدبير" وهو مثل أنقله عما أريد به لأقول إننا ركبنا السيارات فى الصباح وانطلقنا على طريق شتورة ـ وهى من أعمال لبنان ـ فلما قطعنا نحو ثلاثين كيلو مترا انعطفت السيارات فدخلت بنا فى طريق الجبل فسألت صاحب السيارة عن الداعى إلى هذا الميل فقال إنه مدعو للغذاء عند السيد" عبد الحميد دياب (٣١) من التجار وأعيان بقين ، وما كنت رأيت فلانا هذا إلا مرة واحدة فألح أن نتغذى معه فاعتذرنا بأننا على موعد ولم يخل سبيلنا إلا بمشقة ثم أبى له كرمه إلا أن يولم لنا فكان أن حملونى إليه وأنا لا أدرى وإنما ذكرت هذا ليقف القراء على مثل من كرم

١٢٥

القوم ولا بأس من مثل آخر أسوقه فقد خرجت مرة أتعشى وحدى فى مطعم سورى فلما دعوت الخادم لأحاسبه قال" مدفوع يا سيدى" وأعيانى أن أعرف من الذى تفضل فأدى عنى الحساب. وفى شتورة وجدنا الدكتور بشر قد أعد لنا" الشاى ودعا إليه معنا طائفة متميزة من كرام اللبنانيين وهو ليس" ككل شاى ، فلا حاجة إلى كلام فيه غير أن الدكتور بشر يأبى إلا أن يبتكر أو ليس من الجديد فى حفلات الشاى أن يكون فيها" فول مدمس" وقد أنضجه الدكتور بشر بيديه الكريمتين زيادة فى العناية والتحفى.

وخرجنا إلى" زحلة" وهى اشهر بلاد لبنان" بالعرق المشهور" فجلسنا فى مقهى فسيح على نهر" البردون" وكان كضيفنا هناك الشاعر المشهور الأستاذ" عمر أبو ريشة"(٣٢) وكانت قصيدته فى مهرجان المعرى من خير ما سمعت من الشعر وقد أنست من قصيدته نزعة صوفية فسألته عن ذلك وكنا فى حلب على ما أذكر فقال : إن ظنى فى محله.

وكان من خير ما أكلنا فى ليلتنا تلك على النهر" العصافير" وهى سمينة يقلونها أو يصنعون بها ما لا أدرى ويدسونها فى قلب الرغيف حتى لا تبرد ثم تؤكل بعظمها.

ـ حدود سوريا ولبنان :

وكان معظم من معنا لبنانيين وكنا نستطرد فى الحديث من موضوع إلى موضوع فتناولنا كل شىء جادين وهازلين فأحسست بعد هذه الجلسة وأمثالها مع إخواننا اللبنانيين أنهم قلقون يرغبون فى إيجاد رابطة بين بلادهم والبلاد العربية الأخرى ، ولكنهم يحبون

١٢٦

أن يحتفظوا باستقلالهم وحدودهم الحالية أدق احتفاظ ويخشون أن تؤدى المشاورات العربية إلى ما يمكن أن يتحيف من استقلالهم أو يرد حدودهم عما دخل فيها ومن اجل هذا أضارهم وسرهم أن الذين اشتركوا فى مباحثات اللجنة التحضيرية آثروا أن يسمعوا ما اتفقوا عليه" جماعة" من" الدول العربية" لأن كلمة" الدول" تفيد الاستقلال ، وكلمة" الجماعة : تقضى على فكرة" الوحدة" التى يخشون أن يكون المقصود بها ـ آخر الأمر ـ إدماج بعض البلاد فى بعض وما أظن بهم إلا أنهم قد سرهم على الخصوص النص الذى انفرد به لبنان تأكيدا لاحترام استقلاله وحدوده.

وقد يحب القارىء أن يقف على السر فى كل هذا الحرص على النص على احترام الحدود الحالية والسر فيما أعلم هو أن لبنان ألحقت به فى عهد الانتداب الفرنسى بلدان كانت فى الأصل داخله فى سوريا مثل بعلبك وطرابلس وصيدا الخ. فلبنان يجب أن يبقى له ما أضيف إليه وألحق به. ولم تر سورية بأسا من هذا فاعترفت بالحدود القائمة.

أما فيما عدا فالأمر بين سوريا ولبنان يجرى كأنهما بلد واحد فلا جوازات سفر بين القطرين ولا عملة منفصلة وأمر الجمارك مشترك والتعاون قائم على خير وجه ولا فرق بين لبنانى وسورى ، فمعظم موظفى البنك السورى اللبنانى وموظفاته فى دمشق وغيرها من بلاد سوريه من اللبنانيين واللبنانيات وكثير من البنى التى فى بيروت يملكها سوريون ، وأهل سورية يصطافون فى جبال لبنان الجميلة وإن كانوا قد بدءوا يعنون بمصايفهم الخاصة وقمح سورية وسمنها تمد بهما لبنان ، كما يمد لبنان سوريا بما فيه من

١٢٧

فاكهة وزيت وعرقى إلى آخر ذلك وقد كنت وأنا فى الشام أتوقع أن تنتهى المشاورات بما يزيل مخاوف إخواننا وكنت أؤكد لهم أن الأمر لا يمكن أن يكون إلا على ما يحبون وأبين لهم أم مصر نفسها حريصة كحرصهم على كيانها الخاص واستقلالها بأمورها واحترام حدودها وكذلك الدولة السعودية والعراق وليس ثم طمع من دولة فى أخرى. وإنما المراد إيجاد وسيلة أو أداة يتسنى بها التعاون والتكافل وحسبنا جميعا ذلك وقد صدق ظنى ولله الحمد.

١٢٨

الصحافة والأحزاب

(١٠)

ليس أعجب من أن يطالب صحفى بالإدلاء بحديث إلى صحفى آخر غير أن هذا الذى أراه عجيبا كان يبدو غير عجيب لبعض الصحفيين الشبان فى دمشق ، وقد ألح فى المسألة وأنا أحاول أن أصرفه بلطف ، فلما أعيانى أمره قلت : سل ما بدا لك ، فرمانى بطائفة من الأسئلة تتطلب بحثا طويلا نظرا ومراجعة. مثل كيف تركت الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فى مصر؟ وما رأيك فى حل قضية فلسطين. إلى نظائر كثيرة لهذه الأسئلة المحرجة وقد هربت من كل جواب بكلام يضحك حمله هو على محمل الجد فذهب به فرحا إلى مدير شركة الأنباء التى عمل فيها ، ثم عاد إلى من غده يعاتبنى ويقول إنى جعلته غرض استهزاء. فقلت له يا أخى وما ذنبى إذا كنت تأبى إلا إحراجى بأسئلة لا أستطيع الجواب عنها هنا ، وصرنا بعد ذلك صديقين وغفر لى إساءتى ، وزاد فتفضل تعريفى بزعيم الحزب الشيوعى هناك

١٢٩

وزعيم الشيوعية هذا شاب مديد القامة عريض الألواح واسع العينين براقهما حديد الفؤاد فصيح وقد سألنى عن الشيوعية ما رأيى فيها فقلت له" منك نستفيد" فما أعرف عنها شيئا فشرع يعرفنى بها فقلت له اسمع" إن كنت تطمع فى إلحاقى بحزبك فخير لك أن تقصر فقد جريت فى حياتى على قاعدة لم أتحول عنها قط هى أن لا أتقيد بحزب أو مذهب وإنما آخذ من كل مذهب أطيبه وأنفعه .. فكف.

وصرت بعد ذلك كلما دخلت غرفتى وجدت فيها كوما من النشرات والمطبوعات والرسائل عن (روسيا والشيوعية) وقد احتفظت ـ منها ـ برسالة واحدة رأيتها نافعة لما فيها من البيان وأهملت ما عداها.

ـ حديث عن التشاؤم :

ومما يستحق الذكر إنى لما عدت إلى الفندق تلك الليلة المنحوسة من فلسطين قال لى أحدهم بعد أن أظهر السرور برجوعى : والله إنى ما توقعت خيرا مذ رأيت السيارة التى ركبتها إلى فلسطين فسألته عن السبب فقال رأيت كلمة" يا ساتر" مكتوبة على زجاجها فانقبض صدرى وقلت فى سرى" يا ساتر استر". ومن الغريب أن هذه هو الذى شعرت به حين رأيت هذه الكلمة ، وقد حدثت بهذا الدكتور أسعد طلس ، فضحك ، ولكن أنظر ما حدث.

على مسافة عشرين كيلو مترا من دمشق ـ فى الطريق إلى القنيطرة ـ انكسرت حوامل السيارة ويسمونها" السوستة" فوقفت

١٣٠

السيارتان طويلا حتى ربطت بالحبال واضطررنا بعد ذلك إلى السير على مهل مخافة أن تتعطل السيارة.

سقطت منى ورقة بخمسة جنيهات مصرية فى القنيطرة على الأرجح وكنا وقفنا بها قليلا لنشترى بها طعاما فلم نجد خيرا أو أنظف من" الطعمية" والعنب ويظهر أنى أردت أن أعيدها إلى جيبى ـ أعيانى صرفها ـ فوضعتها خارجه وأنا أظن أنى دسستها فيه ، ولما رددت عن فلسطين طلب السائق الذى كان مع إخوانى ، خمسة جنيهات من زميله يستعين بها حتى يقبض أجرته ، فاعتذر له زميله بأن ما معه لا يبلغ هذا القدر ، فقلت له أنا أعطيه ما يطلب على الحساب وبحثت عن الورق وأصبت ببرد من طول الوقفة والتعرض عند" جسر بنات يعقوب" وكانت ثيابى أخف ما يلبس وأهملت التوقى.

ولما عادت بنا السيارة ضل السائق الطريق فظل يحملنا ـ أنا وصديقى الدكتور طلس ـ هنا وهناك ثم يرتد وهو لا يهتدى نصف ساعة حتى خفنا أن يدركنا الليل قبل أن نصل إلى نقطة الحدود السورية. ولست ممن يتطيرون ولكنى أعترف بأن كلمة" يا ساتر" حين رأيتها مخطوطة بالدهان الأحمر على زجاج السيارة أمام السائق لم تقع من نفسى موقعا حسنا ، وكانت عينى تتجه إليها كلما حدث شىء. وشبيه بهذا ما وقع لى مرة منذ ربع قرن تقريبا وكنت يومئذ أسكن بيتا (على تخوم العالمين) وإنى لعائد إليه عصر يوم وإذا بفقيرة عمياء مستندة إلى جدار تتنهد وتقول" استرحنا والحمد لله" وليس فى هذه العبارة ما يسوء ولكن صدرى انقبض لها ، وسمعت نفسى أقول" أعوذ بالله". وفى منتصف تلك الليلة

١٣١

توفيت زوجتى جاءها المخاض فجاءها الطبيب فنزفت وماتت ، وقد سمع منى غير واحد وصف مصرعها ـ فقد كنت مشاهدا للأمر كله ـ فدهشوا. وما شمت بإنسان قط ولا شماتة بميت على الخصوص فإن الموت يدركنا جميعا ، ولكن هذا الطبيب مرض فمات بعد ذلك بعامين وأشهد الله العالم بالسرائر أننى شمت وفرحت وأحسست أن الله الرحيم قد مسح من قلبى القروح.

١٣٢

(١١)

كان الأمير مصطفى الشهابى محافظ" اللاذقية" قد أنبأنا قبل أن يغادر دمشق بعد أن حضر افتتاح المهرجان وأكل هنيئا من الغذاء العلائى الذى اكتويناه وأبيناه ـ أنه سيعد لنا الغداء فى حرش جميل قريب من اللاذقية.

والأمير مصطفى أديب عالم وعضو فى المجمع العلمى بدمشق وكان فى طليعة المرشحين لعضوية مجمعنا اللغوى ، ولكن لأمر ما عدل عنه ومن تواليفه العلمية (الرسالة النباتية) وقد نشرنا مجمع دمشق و (معجم الألفاظ الزراعية) بالفرنسية والعربية فى مصطلحات العلوم الزراعية الحديثة من عامة وخاصة وزراعة البساتين وعلم الخراج وتربية الخيل والأنعام والنحل والأسماك والطيور الأهلية وما له صلة بالزراعة من نبات وحيوان وحشرات وآلات وصناعات ...... الخ. وقد أخرجته مطبعة الجمهورية السورية.

١٣٣

وقد تولى من مناصب الدولة ووزارة المعارف ومحافظة حلب ثم محافظة اللاذقية وله فى كل ما تولى آثار باقية فإنه قوى حازم وعالم مصلح.

وكانت منطقة اللاذقية تسمى فى عهد الانتداب" جبل العلويين" وكانت ذات استقلال ادارى ومالى ولكن الأمير" مصطفى" غير الاسم وتبلغ مساحتها ستة آلاف كيلو متر مربع وسكانها قرابة نصف مليون نسمة ومنها اثنان وستون فى المائة من المسلمين العلويين ، وعشرون فى المائة من المسلمين السنين وثمانية عشر فى المائة من المسيحيين وأسرة درزية واحدة وكانت فيها أسرة يهودية واحدة نزحت فأصبحت المحافظة خلوا من اليهود.

ومما يستحق الذكر عن اللاذقية أنه كانت بها مدينة عربية شامية منذ ألفى سنة إلى ألف وخمسمائة سنة قبل المسيح عليه‌السلام ، وكانت فى العهد الذى انتهى وجاء الاستقلال الحالى على أثره" فتنة" فقلبها الأمير مصطفى بحكمته وعقله ألفة صافية ، وكان العلويين يشجعون على اعتقاد أنهم" نصيريون" فتغير كل هذا بل لقد شجع بعض المشايخ على أن يكون" ربا" أى إلها فى الأرض ولا يزال هذا" الرب على قيد الحياة ولكنه فى حكم المعتقل وما زال فيما يرى ربا ولكنه بغير عباد فتأمل كيف كان القوم يخلقون حتى الأرباب.

ومما يشهد للأمير مصطفى بالسرعة فى الإصلاح أن فى محافظة اللاذقية الآن أربع مدارس ثانوية وعدد كبير من المدارس الابتدائية وما يسمى المدارس (الإكمالية" ودار كتب جديدة وردهة للمحاضرات لم يكمل بناؤها وكان فيها خمسون كشافا فصاروا ألفا

١٣٤

وخمسمائة يهتفون بالعروبة والوحدة ، وهذا يريك من أى معدن صيغ الأمير مصطفى ، خرجنا من حلب إلى اللاذقية ضحى ، فى طريق تلتوى التواء شديدا ثم ذهبنا نصعد فى طرق ممهدة (مزفتة) على قولهم على رؤوس الجبال والآكام والربى ، أكثرها مراقى غاية الوعورة فلما كدنا نخرج إلى طريق الساحل وجدنا من ينتظرنا ليميل بنا إلى الطريق المفضى إلى الحرش وفيه المأدبة الموعودة وكان الأمير قد حدثنا أنه غير مرصوف ولكنه أمر بتسويته وأنه أقل من خمسة عشر كيلو مترا فإذا به يطول حتى يجاوز الثلاثين وقد سرت فى طرق شتى فى الجبال ـ فى فلسطين ولبنان وسورية ـ ولكنى لم أر أوعر وأكثر ترابا من هذا الجبل الشاهق ولا أجمل منظرا لكن لصعوبة المرتقى وضيق الشعاب وحدة الانعطاف وكثرة التراب كنا نغمض أعيننا فلا نكاد نرى ما حولنا أو تحتنا على الأصح وكان أكبر إشفاقنا أننا سنعود من هذا الطريق بعد الغذاء وقد احترقت فى بعض الطريق السيارة التى جاءت لتقودنا فوقفنا قليلا نتنفس ونسخط على هذه الرحلة ونعرب عن زهدنا فى أكلة تكلفنا هذه المشقة ونلوم الأمير مصطفى ونستعيذ بالله من هول الإياب.

وأخيرا وصلنا إلى البقعة التى تخيرها الأمير فإذا هو على حق وإذا هى صعيد فسيح فيه منبع ماء تحيط به وتظلله أشجار عظيمة التفت أفنانها والتبس بعضها ببعض ، وورف ظلها وكأنما نسقتها وصفتها يد الإنسان وقد مدت الرقعة البديعة ولكن الأمير حدثنا أن إحدى سيارات النقل التى حملت الطعام من اللاذقية انقلبت وتبعثر

١٣٥

ما فيها واختلط بتراب الأرض ، قلت (يا أمير وبعد هذا التعب الذى تجشمناه!) قال : " لا تخف فقد بقى ما يكفى" وقد صدق ، فقد كان الباقى من الخراف وغير ذلك فوق الكفاية وسألته : (ومن أى طريق أقبلتم؟) قال (من طريق البحر) فقلت (ولماذا لم تجيئوا بنا من حيث جئتم؟) قال) لتروا الأحراش الطبيعية) قلت (يا أخى! والله لقد كدنا لا نرى شيئا ولقد كنا كالأطفال الخائفين نغطى وجوهنا وأعيننا وننظر أحيانا من بين أصابعنا هات الأكل والسلام).

وجاءونا براقصين من البدو يدق أحدهم طبلته دقا عنيفا ويرقص الآخر رقصة الدبكة المشهورة فى لبنان ثم انضم إليه آخرون فصاروا حلقة كبيرة وأسر إلىّ أحد أعوان الأمير أنه كان ينبغى أن يجيئنا براقصات ولكنهم لا يجدوا ولا واحدة.

وقبل أن يبدأ الرقص كان أحد الرجلين يصيح بكلام لا أتبينه ثم يذكر اسما يهمس بعضهم فى أذنه فذكر أسماء طه حسين وأحمد أمين وعزام الشايب والعبادى (وسماه العبدى) والمازنى (ونطقه المزنى) ثم أبى العلاء المعرى فقال (أبو على أية؟) فأسروا إليه أنه المعرى فلم أسمع كيف نطقه بين أصوات الضحك.

ثم خرجنا على طريق بديع فسيح إلى اللاذقية فبلغناها قرب المغرب وذهبوا بنا إلى فندق كبير علمنا أن الحكومة هى التى بنته ودعانى الأمير إلى بيته لأستريح حتى يحين موعد الحفلة العلائية ، فقلت إنى أريد أن أطمئن أولا وأعرف غرفتى بين هذه الغرف ، فإنى أخشى أن لا أكون فى إحداها وحدى ، فطمأننى وحملنى معه ، فلما عدت وجدت حقيبتى حيث تركتها ، ولا غرفة أوى إليها فجعلت أصيح بكل ما أراه ولم أكف عن الصياح وإظهار الغضب حتى دلونى على غرفة رضيت بها.

١٣٦

حديث عن النفس

(١٢)

ذاكرتى ضعيفة ومع ذلك أعتمد عليها وأركن إليها ، وليس بعد ذلك فساد رأى ، وقلة عقل وأحسب أن الذى يحملنى على هذا التعويل عليها إنى أعرفها تحفظ الصور وإن كانت تنسى ما عداها فكل ما أراه يبقى وكل ما اسمعه أو اقرأه يذهب وما أكثر من ألقاهم فى الطريق وأكون قد رأيتهم من قبل فأتوهم أن لى بهم معرفة فألقى إليهم السلام على سبيل الاحتياط وأقرأ الكتاب وأرى نسخة منه فى مكتبة فأشتريها وقد صار عندى من بعض الكتب عدة نسخ ، وبدا لى أن خير ما أصنع إذا خايلنى كتاب فى إحدى المكتبات أن أدون اسمه حتى أرجع إلى البيت فأنظر لعله عندى فأنسى الرقعة وما سطرت فيها ، ويتفق بعد أيام أو أسابيع أو شهور أن تقع عينى على هذه الرقعة فأتعجب ، وأتساءل لماذا كتب اسم هذه الكتاب؟ لأراجعه أو لأشتريه؟ وأفعل ما يغلب على الظن.

١٣٧
١٣٨

ظاهرة النسيان

وقد سرنى أن وجدت فى دمشق ندا لى فى هذا الباب وهو الدكتور" الجابرى"(٣٣) مدير الرقابة هناك وكنا عند الدكتور أسعد طلس فذهبنا نتبارى ، وهو يقول : إنه أسرع منى نسيانا وأنا أزعم إنى السباق فى هذا المضمار فراح يروى قصصا عجيبة ولكنه كان يذكر تفاصيلها بدقة فلاحظت ذلك وأنكرت أن يكون هذا حال من تخونه الذاكرة فطالبنى بأمثلة لما يقع لى فقلت : وكيف يسمنى هذا وأنا أمسى عاشقا وأصبح ساليا؟ وأرتدى ثيابى لأخرج حتى إذا هبطت بضع درجات من السلم وقفت أتساءل : إلى أين؟ وفيم الخروج؟ ويعجبنى ألّا أهتدى فأعود أدراجى وأقعد وتحدثنى زوجتى فى أمر ثم أنصرف ، فإذا عدت لقيتنى بالسؤال عما صنعت فأستغرب وأسألها" صنعت ماذا؟ فتقول محتجة" ألم نتفق على كيت وكات؟ فأقول" والله نسيت" وكانت فى بداية الأمر تظن إنى أدعى النسيان ثم اقتنعت على الأيام وكفت عن الاعتماد على أو

١٣٩

تكليفى شيئا أو عقد أطراف المناديل أو دس رقع فى جيبى فما وجدت لشىء من هذه جدوى وأسلمت أمرها لله ولسوء حظها معى.

وقد اعترف شهود تلك الجلسة ـ كما اعترف الدكتور الجابرى ـ بأنى أنا محرز قصب السبق ولا جدال وكان هذا فوزا لى ولكنه فوز مقلوب أو كما يقول ابن الرومى (يرفعه الله إلى أسفل" على أن للنسيان مزايا فإنى أنسى المساءات والأحقاد والهجوم والمتاعب وأنام ملء جفونى وكفى بهذا ربحا.

أسلفت كل هذا لأقول : إن الأمير مصطفى الشهابى دعانا فى اللاذقية إلى العشاء فى داره ، أو فى حديقتها على الأصح ولما كدنا نفرغ من الطعام أقبلت فرق الكشافة بالمشاعل وازدحم فى الباب منها جماعة ثم تقدم غلام صغير فغنى وطرب ورجع بصوت لم اسمع أحلى منه وكان واقفا أمام شجرة وراءها من لا أرى هو يشيع فى يراع معه ، وتكرر هذا وكان صاحب اليراع يضرب معازف شتى أيضا ، وسمعنا غير ذلك أناشيد شتى ، أعجبت بالعزف وحذقه فاقترحت على الأستاذ" عزمى النشاشيبى"(٣٤) مدير محطة الإذاعة بالقدس ـ وكان قريبا منى ـ أن يدعوه إلى الإذاعة ، فقبل فقمت إلى حديث كان هؤلاء الفتيان واقفين وقلت لنفسى إنه يحسن أن أقيد أسماءهم لأذكرهم بما هم أهله بعد أوبتى إلى مصر ففعلت وأوصيت العازف أن يقابل الأستاذ" عزمى النشاشيبى" بذلك وقد كان موافقا معه عزمى على السفر إلى فلسطين للإذاعة وقد علمت أن هذا العازف أستاذ الموسيقى فى مدرسة خيرية هناك وكنت أود أن يتفق عزمى مع الغلام المغنى أيضا ولكنه قال : إن هذا عسير لأنه قاصر فتأسفت.

١٤٠