رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

كان هذا الجحر الغامض والمنيع ، في أثناء حياة الخديوي عباس ، مسرحا لمفاسد لا تصدق ، ولجرائم لا تغتفر. وإن آخر جرائمه التي عاقبه الله عليها لأنه أهلك شابين من المماليك كانا يسهران على ملذاته ؛ فاشتراك الشابان اللذان خلفاهما ، / ٥ / خوفا من أن يلقيا المصير نفسه ، بخنق سيدهما في ظروف شنيعة لا يستطيع تصويرها إلا قلم بيترون (١) Petrone أو مارسيال (٢) Martial ؛ هذه المأساة الفظيعة التي لا نجد مثيلا لها إلا في سدوم (٣) وقعت في بلدة بنها ـ العسل في وجه مصر البحري ، وقد اختفى القاتلان فترة من الزمن ، ثم عادا للظهور ، ويعلم الناس كلهم أنهما اليوم موظفان في القلعة ؛ باعتبار أن الأطباء الشرعيين أفادوا في تقاريرهم الرائعة أن سمّوه

__________________

(١) بيترون ، (بيترونيوس ، الحكم) Petronius Arbiter كاتب وشاعر لاتيني من القرن الميلادي الأول (٢٠؟ ـ ٦٦ م) كان بارعا في وصف المشاهد المأساوية وأشهر أعماله : رواية ساتيريكون Satyricon. انظر الحاشية رقم (١٩١).

(٢) مارسيال أو ماركوس فالوريوس مارسياليس Marcus Valerius Martialis شاعر لاتيني ولد في بيلبيليس Bilbilis في شمال إسبانيا حوالي سنة (٤٠ م) ومات حوالي سنة (١٠٤ م) ، سكن روما بين عامي (٦٤ ـ ٩٨ م).

(٣) سدوم : مدينة في سهل الأردن تذكر عادة مقرونة بأخرى هي عمورة ورد ذكرهما في الكتاب المقدس (العهد القديم) دمرهما يهوه إله اليهود بالنار والحجارة الكبريتية بسبب اللواط. انظر : معجم ديانات وأساطير العالم ، د. إمام عبد الفتاح إمام ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، د. ت ، مج ٣ ، ص ٢٦٤ ـ ٢٦٦ وسنشير إليه ب" معجم الديانات ...". وقد تحدث القرآن الكريم عما أصاب قوم لوط فقال تعالى في سورة هود الآيات ٨٢ ـ ٨٣ : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)).

٤١

قضى بنزيف دماغي (١) (سكتة دماغية). وقد كان من آخر ما قام به في حياته ، بل ربما كان آخر أعماله ، أنه أخاط شفتي خادم مسكين من خدم حريمه ارتكب خطأ بسيطا ، ولم ينقذ موت ذلك الحاكم الفظ الخادم المسكين الذي قضى نحبه هو الآخر جوعا بعد ساعات من موت سيده ، وقد كان قبل ذلك بفترة وجيزة قد أمر خدمه بذبح أحد المساكين أمام عينيه ؛ لأنه كان يجري قرب سيارته ليسلمه عريضة ؛ لأن عباسا كان يخاف من كل شيء ، ويشك في كل الناس. لقد شاهدنا على طريقنا قبل مغادرة الأراضي المصرية أثرا آخر من آثار ذلك الأمير الإفريقي الذي لم يترك وراءه إلّا أسوأ الذكريات ؛ إذ أقيم قرب القصر مسجد كان يحتفل فيه بعيد أحد الأولياء المسلمين / ٦ / ، وكان ينطلق منه الصراخ والأغاني ، وضرب من الموسيقى البشعة.

إن الشعب المصري ، وأهل القاهرة على وجه الخصوص ، يعشقون الاحتفالات بكل أنواعها : دينية أم دنيوية ، عامة أم خاصة ، ويسمونها جميعا دون تمييز باسم" فنتازيا (٢) " وهي كلمة لاتني تتردد على الأفواه ، وهم يطلقونها على كل شيء.

وهناك عدد من السواقي التي تنقل من النيل الماء البارد والصافي الذي لم أر مثله ، منذ زمن طويل ، إلى هذا المكان ، ويصب ذلك الماء في خزانات من الحجارة.

__________________

(١) انظر : مصر في كتابات ... ، موثق سابقا ، ص ١٥٩ ـ ١٦١.

(٢) Fantasia ، وتنطقها العامة في مصر بالطاء : الفنطظة أو الفنطظية بالمعنى الذي أشار إليه ديدييه ، وسبقه إليه بيرتون في رحلته ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٠٤ ، وانظر تعليق المترجم.

٤٢

ارتوت الحمير والجمال من ذلك الماء ما يكفي لثلاثة أيام ، ثم ولجنا الصحراء أخيرا. سرنا مدة ساعات دون حوادث ودون معوقات ، على أرض صلبة متعرجة.

ولمّا كان انطلاقنا قد تأخر ، فقد ضربنا الخيام في نهاية النهار قرب المحطة رقم ٣ على ست مراحل فقط من القاهرة ، وبالتحديد تحت برج اللاسلكي الذي أنشئ في هذه المنطقة بالإضافة إلى عربات النقل ، وورديات النقل ، والفنادق ووسائل أخرى من وسائل الحضارة الغربية التي تجعلك تحس بالغربة ، والتي تزيل بهاء صحراء السويس.

إلّا أنه ، وعلى الرغم من هذه المظاهر المزعجة ، ومن وجود المحطة ؛ لم يكن هناك أحد لتعكير صفو العزلة ، وكان الصمت مطبقا. أما سلسلة المقطم الحجرية التي تسير الطريق على امتداده بمحاذاتها ، والتي تمتد على يمينه من النيل إلى البحر الأحمر ، فإنها كانت بلونها الأسود متباينة كل التباين مع الخلفية المضيئة لغروب متلألئ.

كان / ٧ / رمل الصحراء زهري اللون ، وكان هدوء المساء يعلن بجلال نهاية يوم هادئ ، ويرهص بليلة لن تكون أقل هدوءا ، إلا أن الهواء كان باردا ، باردا حتى إنني وجدت نفسي مدفوعا إلى ارتداء البرنس الصوفي الفضفاض الذي كنت اشتريته صباح ذلك اليوم من سوق القاهرة ، وليس ذلك بغريب فقد كنّا في يوم ١٦ يناير (كانون الثاني).

نصبت الخيام بعد قليل ، وقدّم طعام العشاء ، دون أن ننسى تقديم العشاء للحيوانات ؛ إذ تلقت الجمال المناخة حول المعسكر ، والحمير الواقفة على عراقيبها الفولاذية حصتها البسيطة من الفول أو الذرة ، دون أن يقدم لها قطرة واحدة من الماء.

٤٣

ثم نام المكارون والجمّالة بعد ذلك مختلطين بحيواناتهم ، يلتحفون السماء المزدانة بالنجوم ، ومرت ليلتي الأولى تحت الخيمة دون أحداث تذكر ، يحرسني رجال الصحراء المهرة ، الذين اعتادوا الأسفار.

نهضت في اليوم الثاني مبكرا ، وكان أول ما وقع تحت ناظري بعد خروجي من الخيمة برج التلغراف : الذي نصب على أكمة كثيرة الحصى ، كان ينتصب أمامي كأنه شبح مخيف في لون الغسق الشاحب. لقد سررت بوجوده في هذه اللحظة ، وبالمصير الذي حمله إلى هذا المكان بفضل الأثر الرائع الذي كان يضفيه على المنظر الطبيعي.

بزغت الشمس بعد أن أرهص بها فجر / ٨ / بهي ، بزغت ، وهي لامعة كما كانت عند الغروب ، تعد بيوم أكثر جمالا من سابقه ، وقد وفت بما وعدت.

بدأنا برفع الأحمال على الجمال ، وذلك عمل يقوم به الجمّالة برشاقة وخفة عندما يوافق ذلك هواهم ، ولكنهم اعتادوا أن يقوموا به متثاقلين لأنهم يكرهون الرحيل في الصباح الباكر. إذا كان الوقت متأخرا عندما أصبحت القافلة جاهزة للمسير.

لقد لفت نظري في المحطة التالية بيوت منخفضة ، نصفها غائر في الأرض ، يسكنها بعض الفلاحين الفقراء ، القابعين بهذه الجحور كأنهم ثعالب مع إناثهم وصغارهم ، يمارسون مهنة لست أدري ما كنهها؟ ولست أدري كيف يعيشون؟ وأترك حل هذه المسألة لمن هم أكثر تبصرا. كانت إحدى نسائهم المحجبات ، كما هي حال كل النساء ، تجلس القرفصاء على قارعة الطريق كأنها طائر العنقاء ، وأمامها

٤٤

سلة مملوءة بالبرتقال الذي تبيعه للمارة بقليل من البارات (١) ، وإنه لمن المشكوك فيه أن تجني تلك البائعة البائسة ثروة من ذلك ، لأن المارة قلة نادرة ، ولأنه ينبغي العلم أن ثمانية من تلك البارات الهزيلة التي تتلهف للحصول عليها ، لا تكاد تساوي فلسا من العملة الفرنسية.

إن أي حدث يعدّ في الصحراء ظاهرة ، أقل حدث في السماء أو الأرض يخطف الأبصار ويأسر النظر ، / ٩ / انطلاقا من الجنبةArbuste المنفردة التي تأخذ على البعد حجم شجرة عملاقة ، حتى السحب التي تمر فوق الشمس ، والتي ينساب ظلها الخفيف كأنه كائن حي على صفحة الرمال المستوية والمتوهجة. ما زالت أذكر ذلك الأثر الآسر الذي أحدثته في ذلك اليوم رؤية بدوي يمتطي جمله بجلال ، ويتدلى من رحله العالي المغطى بسجادة وجرابان لهما حشفات طويلة وكبيرة من الحرير الأحمر ، وكانت تتأرجح بانتظام حسب خطوات الحيوان المنتظمة وكأنها رقاص ساعة

__________________

(١) جمع بارة وهي جزء من الريال العثماني ومن النحاس ، وعرفت بين الناس بالبارات المجيدية نسبة إلى السلطان عبد المجيد خان الذي عاش في الفترة ما بين ١٨٢٣ ـ ١٨٦١ م ، وولي الحكم منذ عام ١٨٣٩ حتى وفاته وكانت تحمل غالبا في الوجه الطغرى باسم السلطان العثماني عبد المجيد ، وسنة الجلوس على العرش ، أما الظهر فكان يحوي تاريخ السك ومكانه وتاريخ تولي السلطان. انظر : تطور النقود في المملكة العربية السعودية ، موثق سابقا ، ص ٢١. وتشكل الجزء الأربعين من القرش التركي ، وقال بوركهارت إنها أصغر عملة معدنية تركية (تسمى هنا ديواني) ، متداولة في كل أنحاء الحجاز ، ويطلبها الناس بكثرة بسبب أن سعرها الحقيقي أكثر من القرش المصري. انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٤٩.

٤٥

الحائط. وقد رأيت في اللحظة التي تليها منظرا مناقضا وكأنه رسم كاريكاتوري (ساخر) للوحة الرائعة الأولى : رأيت جملا هزيلا يجر متثاقلا عربة قديمة ؛ لكأنني كنت أرى علائم الدهشة بادية على ذلك الجمل المسكين بسبب عمله الذي لم يعتده! لم تكن عجلتا العربة ذواتي شكل دائري بل كانتا بيضاويتين ، وتصدران جلبة وصريرا تحت الجازع. لقد كانت تلك الآلة البشعة ، وهي تقليد غير متقن لعربات النقل ، تحتك بقائمتي ذلك الحيوان المسكين ، وتعيق حرية الحركة لديه حتى إنه لم يكن يتمكن من السير إلا بصعوبة وبارتباك يبعث على الضحك. ما أوسع الشقة بين هذا التجديد البربري والغبي ، وبين المظهر الرائع الذي يبدو عليه الجمل وقد علاه الأعرابي حسب وظيفته المعتادة في الطبيعة. / ١٠ /

كان هناك أيضا منظر أكثر إثارة للاشمئزاز ، إنه منظر جيف الجمال المنتشرة على الطريق ، بعضها أكلت الحيوانات اللاحمة نصفها ، وبعضها الآخر أفسدته الشمس. عندما يصل الجمل إلى مرحلة الإرهاق يسقط بما يحمله ، ولا تستطيع قوة إنسانية أن تجعله يقف على قدميه ثانية ؛ عندئذ يوزّع حمله على الجمال الأخرى التي ما زالت تحتفظ بقوتها ، ويترك الجمل لمصيره المحتوم : يموت من الجوع في المكان الذي سقط فيه ، ويصبح بعد موته بقليل طعاما للضباع والنسور.

تلك هي النهاية الحتمية لذلك الحيوان الأثير الذي يصلح كل الصلاحية للمكان الذي ولد فيه. وبعد أن رأيت هدوءه وشجاعته وخضوعه فإنني أسميه بكل طيبة خاطر : شهيد الصحراء وليس سفينة الصحراء.

٤٦

لقد صادفنا في ذلك اليوم ، وفي الأيام التي تلته عددا من القوافل القادمة من الحجاز وهي تحمل الصمغ والتمر الهندي والرقيق الذي يؤتى به ليباع في سوق القاهرة ؛ وكان هؤلاء المساكين مربوطين مثنى مثنى على الرحال ، وكانوا في ميعة الصبا ، ولونهم أسود يتفاوت في شدة السواد ؛ وقد جيء بهم من حدود دارفور ، ومن الحبشة ، وكان التجار الذين يسمون (جلاب) يأتون بهم أولا إلى جدة عبر سواكن والبحر الأحمر ، ولا يحملون إلى مصر إلا أولئك الذين لم يستطيعوا بيعهم بسعر رابح في الجزيرة العربية. وكان في إحدى تلك القوافل / ١١ / امرأة من سكان مكة المكرمة كانت ترتدي ثيابها الفاخرة التقليدية ؛ كانت على ظهر جملها تعلو عن الأرض سبعة أقدام ، وتحميها من الشمس مظلة بيضاء كبيرة ، وكانت محجبة بإحكام كما ينبغي على أية مسلمة ملتزمة. ومع أنها جاءت من مكة المكرمة ، وولدت فيها ، فإنها لم تجد حرجا من الكشف بإدلال عن وجهها عندما مرت بنا ، لقد كانت جميلة وشابة. لقد كان فيما فعلته مخالفة دينية ، ولكن ما يغفر لها ذلك هو أننا من (الجاورين Giaours) الكفار.

ولا بد من الإشارة ، لكي تكتمل لائحة المقابلات في ذلك اليوم ، إلى عمّال البريد الذين كانوا ينهبون الطرق تاركين العنان لخيولهم التي كانوا يستبدلونها بسرعة في كل محطة ، وكانوا يقطعون المسافات بينها بسرعة ، كانوا يسبقوننا أو يمرون بقربنا بسرعة البرق فلا نكاد نراهم حتى يختفوا عن الأبصار. تسير الجمال بسرعة أقل ولكن إلى مسافات أطول.

٤٧

كانت أعيارنا القوية تسبق الجمال التي لا تقطع إلا ميلين أو ميلين ونصفا في الساعة ؛ لذلك توقفنا في منتصف النهار لمدة ساعتين للاستراحة وانتظار القافلة ، لقد بدأنا ونحن مستلقون على الرمال على قارعة الطريق الرئيسي بالإعداد لتناول غداء تقشفي ، كان يعتمد أساسا على البرتقال الذي اشتريناه من البائعة المسكينة في المحطة رقم (٤). / ١٢ / وكانت أسراب الغربان والصقور الآتية من المقطم تحوم فوق رؤوسنا ، مستعدة كل الاستعداد وقد نفد صبرها ، لكي تنقض على فضلات طعامنا ، مع أنها قليلة ، وكانت في هذه الأثناء بعض القبرات التي لا تكاد ترى تغني بنغمة فرحة في طبقات الهواء العليا ، وكان القطا ، عصفور الصحراء الذي سمي بذلك محاكاة لصوته الرتيب الذي يشبه النواح ، وهو خاص به ، ويكرره آلاف المرات وهو يتطاير من حولنا.

كان الجو جميلا ، والهواء عليلا حتى إننا لم نستطع أنا وأحد رفاق الرحلة مقاومة الرغبة في السير ؛ وقد كان ذلك رغبة في التسلية ، ولإعطاء حميرنا استراحة هي بالتأكيد مستحقة كل الاستحقاق لها. لقد تمكنا من السير لأن الطريق كانت صلبة ، وكان بالإمكان أن تنقلب تلك التسلية إلى تعب لا يحتمل ، لو أننا كنا نسير على الرمال المتحركة. لقد سرنا لأميال عدة دون أن نلحظ ذلك ، ونحن نتجاذب أطراف الحديث. لقد كان رفيقي يحب المشي شأنه شأني ، وكان رحالة مجربا ، إنجليزيا وضابطا في جيش بومباي ، واشتهر في بريطانيا بكتبه عن الشرق ؛ أحدها عن الصيد بالصقور في سورية. وكان عائدا إلى فرقته العسكرية بعد عطلة عدة أشهر

٤٨

خصصها لأداء الحج إلى مكة المكرمة شأنه شأن أي مؤمن حقيقي ، كان يتكلم العربية بإتقان ، ويحفظ القرآن ، / ١٣ / وكان يرتدي بسهولة عجيبة الزي التقليدي ، ولا يخلعه أبدا ، إنه باختصار تمثّل أخلاق هذه البلاد وعاداتها حتى إنه أصبح ذا سحنة شرقية ، وأصبح من المستحيل على أيّ كان أن يقول : إنه أوروبي ، وكان العلماء والأئمة في مكة المكرمة يظنون من هيئته أنه أحد الهنود المسلمين.

لقد استطاع بفضل تنكره المتقن أن يتمّ دون خطر مشروعه المحفوف بالمخاطر ؛ لأننا نعلم أن مكة المكرمة والمدينة المنورة لا يدخلهما ـ حتى اليوم ـ غير المسلمين ، وإن دخلوها فهم يعرضون أنفسهم لعقوبة الموت أو التخلي عن دينهم ، واتباع الإسلام.

نشر السيد بيرتون (١) Burton رحلته بالإنجليزية ، ولم أقرأها ، ولكن ما حدثني به عنها يجعل منها مصدرا في غاية الأهمية ، وإنني على صحة ما ورد فيها

__________________

(١) Richard Francis Burton ـ رتشار فرانسيس بيرتون (١٨٢١ م ـ ١٨٩٠ م). ولد بيرتون عام ١٨٢١ م وادعت أمه أنها منحدرة من سلالة أحد الأولاد غير الشرعيين للملك لويس الرابع عشر ، ومع أن أباه كان ضابطا في الجيش ، لكنه كثيرا ما قيل : إنه من أصل غجري ، وتعلم عددا من اللغات المحلية ، والتحق بالجيش البريطاني في بومباي (الهند) برتبة نقيب في القوات المسلحة لشركة الهند الشرقية ، وقد برع كل البراعة في إتقان اللغات الأجنبية حتى إنه كان في أواخر حياته يستطيع أن يتكلم تسعا وعشرين لغة ، وما لا يقل عن اثنتي عشرة لهجة مختلفة. قام بأسفار عديدة. وزار الجزيرة العربية متنكرا بزي حاج مسلم عام ١٢٦٩ ه‍ / ١٨٥٣ م وألف كتابا بعنوان : مناجم الذهب في مدين والمدن الأثرية وذلك بعد رحلته الثانية إلى مدين عام ١٨٧٧ م ، وإن قائمة مؤلفاته لتغطي أكثر من ٣٠٠ صفحة. ترجم إلى الإنجليزية : ألف ليلة وليلة ، ـ

٤٩

لشهيد (١). لقد قام بيرتون بعد فترة من زمن رحلته ولقائي به بزيارة القبائل المتعصبة التي تقطن حول مدينة عدن ، وقد كان منذ وقت قريب يفكر في محاولة العبور من شاطئ زنجبار إلى النيل الأبيض عبر خط الاستواء. وهو مشروع كان يشغل حيزا كبيرا من تفكيره منذ أن لقيته.

كنا ذات مساء نخيم قرب المحطة رقم (٨) بعد يوم من السير قطعنا فيه عشر مراحل ، وكانت مشاهد الغروب تتكرر متطابقة في التفاصيل ؛ فالشرق ، / ١٤ / كما نعلم ليس بلد التنوع ، ما فعلناه البارحة سنفعله غدا وبعد غد ، وهكذا دواليك في كل

__________________

ـ والروض العاطر ووضع شروحات لها تضمنت عصارة أفكاره وتجاربه ، ومنح لقب" فارس" في عام ١٨٨٦ م قبل أن يتوفى في عام ١٨٩٠ م. وقد طبعت رحلة بيرتون في مجلدين في لندن ١٨٩٣ ، وأعيد طبعها جزئيا في نيويورك Dover Publication ، عام ١٩٦٤. وقد ترجمت رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز ، ترجمة وتحقيق د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ج ١ ، ١٩٩٤ م ، ج ٢ ، ١٩٩٥ م. وانظر في حياة بيرتون كتاب : الرحالة الغربيون في الجزيرة العربية ، لروبن بدول ترجمة د.

عبد الله نصيف ، الرياض ١٤٠٩ ه‍ / ١٩٨٩ م ، ص ٥٤ ـ ٦٦ ، وكتاب التراث الشعبي في أدب الرحلات ، مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون لدول الخليج العربي ، الدوحة ١٩٩٥ م ، ص ٣١ ـ ٦٠. وانظر حديث ناصر الدين دينيه عن رحلة بيرتون في كتابه : الحج إلى بيت الله الحرام ، وقد ترجمنا الفصل المخصص للحديث عن رحلات الغربيين في كتاب دينيه وسيظهر مضمنا في مقالنا : ناصر الدين دينيه وكتابه" الحج إلى بيت الله الحرام" الذي سينشر في مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية.

(١) نشرت المجلة البريطانية ، كما علمت ، بذلك قطعا من هذه الرحلة (المؤلف).

٥٠

يوم حتى آخر الزمن. كان الليل صافيا صفاء لا نجده إلا في سماء مصر ، كانت النجوم تلتمع كأنها جواهر مرصعة باللازورد ، وكأنها رمز شعار بيزنطة القديم قبل أن يؤول إلى العثمانيين في إستانبول. كان القمر هلالا يتطاول بجلال إلى قبة السماء. وكان عواء الكلاب في وسط الظلمات يدل على وجود مضارب بدو في الجوار ، وإن مثل ذلك الجوار كان يثير قلقا وخوفا مسوغين في الماضي ، وهو اليوم بلا أدنى خطورة ؛ مما جعلني أنام في خيمتي دون أي قلق ، ولم يزعجني إبان نومي أي عارض مقلق.

ولم تكن القافلة في اليوم التالي جاهزة للمسير إلا في وقت متأخر عن اليوم السابق ، وكانت الشمس قد ارتفعت عندما لاحظت إلى يساري قصر دار البيضاء كان محاطا بالأبراج ولا يختلف بقليل أو كثير عن القصير الصغير الذي كان يبنيه الإقطاعيون في القرون الوسطى (في أوروبا). إن قصر العزلة هذا ، هو أيضا أحد أمكنة إقامة عباس باشا ؛ ذلك التركي المتوحش ، والمتعصب الذي كان يمقت المدن وخصوصا تلك التي يقيم بها القناصل الذين كانوا في رأيه أناسا مزعجين ، وكان يهرب منهم بقدر ما كان جده محمد علي يتقرب منهم ، ومع ذلك فإنه كان يظن أنه ليس بعيدا عنهم بقدر كاف. ولذلك كان يمقت الإسكندرية مقتا كبيرا ، ولا أظن / ١٥ / أنه زارها مرة واحدة خلال فترة حكمه : وكان يقول لكي يسوغ غيابه عنها : إنه" يرى فيها كثيرا من القبعات".

وكانت القاهرة نفسها تبدو له موبوءة بالطاعون الأوروبي ، ولكي يتلافى العدوى قام بإنشاء قصر العباسية على حدود الصحراء ، وكنا قد رأيناه ، خلال مرورنا ،

٥١

ولكن ذلك القصر المنعزل سيبدو له بعد قليل شديد الاقتراب من القاهرة ، وانتهى به الأمر إلى الالتجاء إلى حضن الصحراء. كان يعيش هنا مع أكثر المقربين إليه ، ويا للمقربين! كان على الدوام يؤجل أكثر الأعمال المستعجلة ، ولا يسمح للقناصل بمقابلته إلا عندما لا يجد دفعا لذلك ؛ ويكون مجبرا على ذلك بسبب الخوف.

كان مفرطا في الريبة ، تلاحقه الشكوك الدائمة حتى هنا ، وكان لا يثق بأحد حتى إنه لم يكن يشرب إلا الماء الذي كانت ترسله من القاهرة أمه في زجاجات مختومة. وكانت تسليته المفضلة هي أن يملأ حظائره بالحيوانات ذات الأسعار المرتفعة ، كان بالطبع بخيلا ، ولكن أعظم التضحيات لم تكن تعني له شيئا عندما يتعلق الأمر بتحقيق رغباته التي تسيطر عليه. كان له في كل مكان ، وفي أمكنة بعيدة في بعض الأحيان ، عملاء مكلفون بأن يشتروا له أجمل الخيول والجمال وأغلاها ، وقد وصل سعر عدد منها إلى عشرة آلاف فرنك ، ولكنه لم يكن يسمح لأحد برؤيتها / ١٦ / خوفا عليها من العين ، لقد كان تطيره يوازي حذره.

كان الموضع الذي أقيم عليه قصره يسمى قديما الدار الحمراء ؛ وهو اسم يطلقه العرب على جهنم بسبب ألسنة اللهب التي يعتقدون أنها أبدية الاشتعال. وقد سمي هذا المكان بهذا الاسم المخيف لكآبته.

وقد وافق المقام كل الموافقة ظهور بعض النكت الماكرة ، ولم يعدم الشعب أبدا أن يخلط عبر جناس مناسب وجيد بين القصر وجهنم ، وبين جهنم والقصر. وقد بلغت تلك الطرفة أسماع عباس فأسرع إلى تغيير ذلك الاسم المزعج : فتحول اسم

٥٢

الدار الحمراء بأمر عباس إلى الدار البيضاء ، ولكنه لم يزدد في أذهان العامة إلا سوادا وشيطانية.

تقع المحطة رقم (٨) قرب الدار البيضاء ، وتكتسب من هذا الجوار بعض الأهمية ، فقد كان الأشخاص الذين لهم علاقة بنائب الملك المتوفى ، أو بأحد ضباطه يسكنون في المحطة ، ويقضون هناك أسابيع وأشهرا كاملة ، لأن أقل الأشياء تحتاج كثيرا من الوقت. إن المسافرين الذين يمرون بالمحطة يفضلون ، كما فعلنا نحن ، وسائل النقل القديمة على عربات السفر السريعة (الترانزيت) لأنهم مع الأولى يستطيعون التمتع بهذه المحطات على الأقل ، ولكن يشرط عليهم في القاهرة الحصول على بطاقة دخول تباع بسعر غال ، ودون هذا الإجراء / ١٧ / تظل المحطات مغلقة في وجوههم ، ويمكن أن يموتوا عطشا على الباب دون أن يفتح لهم. توجد غير بعيد عن المحطة رقم (٨) في نصف الطريق بين القاهرة والسويس شجرة الحجاج.

يكنّ العرب للأشجار احتراما كبيرا ، ولما كانوا لا يرون إلّا قليلا منها في صحرائهم فإنها بالنسبة إليهم شيء نادر وجديد. وقد وعدهم القرآن بجنان رائعة في الحياة الآخرة [...].

وناهيك عن حب العرب للأشجار ، فإن هناك بعض الأشجار المباركة التي تلقى معاملة خاصة : إنها الأشجار التي تنبت قرب ضريح أحد الأولياء ، أو في أي مكان آخر يكرسه الدين أو التطير. فهم يحرصون في أثناء مرورهم بهذه الأشجار ،

٥٣

على تعليق شيء يملكونه عليها لكي يدفعوا عنهم مصائب الدهر ؛ وهذا الشيء هو عادة قطعة من قماش ثيابهم. تلك هي حالة الشجرة التي تحدثت عنها ، وقد اكتسبت اسمها من الحجاج المتوجهين إلى الحج ، والذين لا يفوّت أحد منهم أن يقوم بهذه الممارسة الطقوسية : لذلك تبدو هذه الشجرة مملوءة بالخرق الوسخة من كل الأشكال ، ومن كل الألوان ، بدلا من أن تحمل أزهارا وثمارا ، بل أوراقا (١). إنه ضرب من النذور غريب!

__________________

(١) تحدث سنوك هورخرونيه في كتابه : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، ترجمة د. علي عودة الشيخ وأعاد صياغته وعلّق عليه د. محمد محمود السرياني ، ود. معراج نواب مرزا ، ط. دارة الملك عبد العزيز ، الرياض ١٤١٩ ه‍ / ١٩٩٩ م ، ج ٢ ، ص ٣٧٦ ـ ٣٧٧ عن شجرة مماثلة فقال : " وعلى الطريق المؤدي من جدة إلى مكة المكرمة ، توجد هناك شجرة يقدسها أهالي المنطقة المجاورة ، التي تحوي كل أنواع الخرق الملونة.

ومن المعلوم أن عبادة الأشجار وتقديسها عادة جاهلية قديمة في الجزيرة العربية. والسؤال هو : لماذا كل هذه الخرق البالية على هذه الشجرة؟ والجواب عن ذلك يأخذ صورا عديدة ، فبعض الناس يقولون : إن هناك شيخا مدفونا تحت هذه الشجرة ، وإن ذلك من قبيل تبجيله. وفي رواية أخرى : أن هذه الشجرة هي شجرة الرضوان التي تمت تحتها بيعة الرضوان سنة ٦٢٨ م (ذي القعدة ٦ ه‍). وهناك تفسير ثالث : هو أن الرسول الكريم قد نشبت عمامته في الشجرة ، فتمزق بعضها وعلق في الشجرة ، ولهذا فإن الناس يعلقون هذه الخرق كذكرى لما حدث مع الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم" وعلق مخرجا الكتاب بالقول في ص (٣٧٧) الحاشية : من المستحيل أن تكون الشجرة المذكورة هي شجرة الرضوان ؛ لأن الثابت تاريخيا أن هذه الشجرة قد قطعها عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ؛ دفعا لهذه البدع. غير أن الناس لم يتورعوا عن ذلك فيما بعد فاتخذوا لهم شجرة ربما كانت في المنطقة المجاورة للشجرة القديمة. ولكن الشجرة التي يتحدث عنها ديدييه تقع على الطريق بين القاهرة والسويس ولعلها عند مقام ضريح أحد الأولياء الذين يكثرون في تلك المناطق.

٥٤

ولما كانت حميرنا قد سبقت الجمال بقدر / ١٨ / ما سبقتها في اليوم السابق فقد كان علينا أن نتوقف عند الظهيرة لانتظار القافلة ، وتناولنا غداءنا على الرمل كما فعلنا في اليوم السابق. وبينما كنا نزيل قشور البيض المسلوق والبرتقال أدركنا مسافر يمشي على قدميه ، ويسير وراءه مرافق يسوق أمامه حمارا تعتليقه امرأة : كان المسافر هنديا ، وكانت المرأة زوجته ، وكان عائدا من مكة المكرمة بعد الحج ، وقد أراد مع زوجته ومرافقه أن يمروا بالقاهرة قبل العودة إلى بلادهم ؛ بأية طريقة؟ الله أعلم! وعندما شاهد الهندي السيد بيرتون عرفه من النظرة الأولى لأنه سبق أن رآه في جبل عرفات قبل بضعة أشهر ، وهو يؤدي بورع شأنه شأن الهندي مناسك الحج الأخير ؛ وقد حيّاه مناديا إياه باسم الشيخ عبد الله ؛ وهو الاسم الذي يحمله بيرتون في الشرق. لقد عرف كل منهما الآخر ، وأخذ الحاجان يتجاذبان أطراف الحديث باللغة الهندية العالية ، وهي لغة كان بيرتون يتقنها كل الإتقان شأنه مع اللغة العربية ، وربما كان يتحدثها أفضل من الهندي نفسه باعتبار أنه ألف كتابا في قواعد واحدة من أكثر اللغات الهندية صعوبة وهي الهندوستانية. لقد كانت مرافقة اثنين من غير المسلمين مثلنا محرجة لبيرتون ؛ ولكنها على أي حال لم تزعزع الثقة التي كان الهندي العجوز يضعها في عقيدة مواطنه المزعوم الذي استطاع أن يخرج منتصرا من هذا الموقف الحرج. / ١٩ / كانت تبدو في الأفق غزالة مسرعة ، سرعان ما اختفت في عمق الصحراء. وكانت أولى الغزلان التي رأيتها طليقة في الطبيعة ، ثم رأيت بعد ذلك مئات منها في السودان وفي النوبة.

٥٥

وعندما حل المساء اكتسى جبل المقطم لونا بنفسجيا لا يضاهى في جماله ، كان صفاء الجو يسمح برؤية أصغر الأشياء بوضوح من مسافة بعيدة كل البعد.

ولكن فجأة لم نعد نرى شيئا ، لأن الشمس غربت ، وفترة الغروب قصيرة في هذه المناطق حتى إنه بمجرد غياب الشمس يهبط الليل دفعة واحدة ودون تدرج.

نصبنا خيامنا قرب المحطة رقم (١٣) ، على أرض حجرية تنتشر عليها نباتات الداتورة (١) Daturas. لقد كتب بعض الرحالة أن شجرة الحجاج هي الشجرة الوحيدة التي نراها على طريق القاهرة ـ السويس ؛ وليس ذلك بصحيح ، فقد كان هناك حول خيامنا ما يقرب من عشر أشجار ميموزا (السنط). وتوقف قرب مضاربنا لقضاء الليل أحد الألمان ، وكان يعبر الصحراء مع جمل واحد وجمّال واحد. وكنا ننوي استقباله استقبالا لائقا بدعوته إلى مشاركتنا طعام العشاء ؛ ولكن طبعه الكئيب ، وصمته ، بدد رغبتنا في استضافته ؛ لقد انزوى ، وتركناه كذلك ، وكأنه دب في غابته التي ولد فيها. أما جمّاله ، وكان لين العريكة أكثر من الألماني ، فإنه سرعان ما استأنس بجمّالتنا ، وعلى الرغم من أنهم كانوا قد ساروا / ٢٠ / على أقدامهم عشر ساعات ، فإنهم ظلوا يتسامرون جميعا حتى وقت متأخر من الليل.

انطلقنا في اليوم الرابع ، في وقت أكثر تأخرا من اليومين السابقين ؛ لأننا لم نكن إلا على بعد ستة فراسخ من السويس. سرنا على الطريق ما يقارب مئة خطوة ، ثم تركناها متجهين يسارا نحو بئر عجرود ، المحاطة بالأسوار ، وتقع في قلب قصر مهدم ، واستبدل بالحامية التي كانت تقيم فيها عائلة بدوية أوكل إليها أمر حماية البئر ، وكانت

__________________

(١) نبات ذو خصائص تخديرية. انظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٣٠.

٥٦

تأخذ رسوما من كل من يأتي للتزود بالماء. شربت حميرنا هنا لأول مرة ، ولعلنا نتخيل بأي شراهة فعلت ذلك ، بعد أن ظلت تسعا وستين ساعة محرومة من الماء ؛ قطعت خلالها مسافة ثمانية وعشرين فرسخا. لقد كان للموقع ، على الرغم من جفافه ، مظهر مدهش ؛ فهذه البئر التي تردها الجمال ، وذلك القصر المتداعي ، والبدو الذين يسكنونه ، كل ذلك يوحي إلى الفنان بفكرة لوحة أصيلة.

كان هناك على بعد عدة فراسخ بئر أخرى ، تسمى بئر السويس ، بسبب قربها من المدينة التي منحتها اسمها ، ولكن ماءها أجاج ولا يصلح إلا للمواشي ؛ وهي محاطة بالأسوار أيضا ، وكانت في تلك الأثناء قافلة تحمل الرقيق قد توقفت عندها. كان العبيد السود عراة تماما ، ويجلسون على الرمل وقد اختلطوا بالجمال ، وهم يتناولون طعام الغداء المتواضع المكوّن من قبضة من التمر وقطعة / ٢١ / من الخبز العربي المدور والمرقوق كأنه الصحن ، والطري كالإسفنج ، عجينته لم تختمر ، ولم ينضج كما ينبغي له ، وقد وجدت له في كل مكان أكلته فيه طعما غير مستحب هو طعم النحاس. لم يكن يبدو أن أولئك الأحداث الذين أخذوا من أسرهم صغارا يشعرون بما هم فيه من أسى ، بل كانوا تحت مراقبة الجلاب وسوطه يترنمون فرحين بصوت خافت وكأنهم جماعة نحل. إن الرق في الشرق أقل صعوبة مما هو عليه في الغرب ، وستسنح لي الفرصة بلا شك كي أعود إلى الحديث عن تطور تجارة الرقيق ووضع العبيد عند المسلمين (١).

__________________

(١) سيتحدث ديدييه عن رفيق رحلته هذا ببعض التفصيل في ص ١٣٧ ـ ١٤٢ من أصل الرحلة الفرنسي الذي وضعنا أرقامه في النص العربي بين / / وسنذكر بعض المصادر الأخرى في المكان المشار إليه.

٥٧

لقد تغير مدى الرؤية ، وبدأنا نلمح البحر الأحمر الذي تعجز الأوصاف عن نعت لونه الأزرق الصافي. وكانت جبال الجزيرة العربية تنتصب في الجنوب الشرقي ، ويعلو كل ذلك القمم الجرانيتية لسلسلة جبال سيناء الممتدة على شكل مدرج حتى أبعد نقطة في الأفق. كان منظرها رائعا ، وكانت الذكريات الجليلة التي تستدعيها تلك الجبال تطبعها بطابع هو أكثر مهابة وجلالا. وصلنا في ظهيرة اليوم الرابع من الرحلة إلى أبواب السويس ، وقبل أن نتجاوز باب المدينة ، وندلف إلى الأماكن المأهولة وجدتني مدفوعا إلى الاعتراف بأن الرحلة في كل مراحلها ، وساعاتها ، لم تحدث في نفسي أيا من تلك المشاعر المثيرة / ٢٢ / والاحتفالية التي شعرت بها بعد ذلك في صحراء النوبة الكبرى وفي صحراء السودان التي كانت تغريني بجدتها المثيرة على الدوام ، ولكنها لم تشعرني بالبرود وعدم الاهتمام.

إن لخيبة الأمل هذه أسبابا عدة : أولها أن جبل المقطم يقطع صحراء السويس طوليا ، فيحجب أفق الرؤية من هذا الجانب ، ولا يتنوع إلا من الجانب الآخر تنوعا محدودا بسبب الهضاب التي تنتشر فيه.

إن مثل هذه المناظر ، ليست مصدر لذة تأملية ، ولا مصدر شعور باللامنتهي ، الذي يمكن لمنظر الرمال الممتدة بلا حدود ، كما هي الحال مع البحر بلا شاطئ أن يبث الروح فيها وحده. وإذا كان المكان ضيقا ، فإن الشعور بالوحدة هو الآخر كان غائبا ، وقد قلت في البداية : إن بعض المخترعات التي أصبحت قديمة بالنسبة إلينا ، وإن بعض وسائل الترفيه الشائعة في الحياة الغربية التي لا نأتي إلى هنا بحثا عنها ، كل

٥٨

ذلك ، غزا هذه الصحراء وأفسدها ، وغيّر حياتها البدائية : نشم رائحة الإنسان فيها ونراه كثيرا ، ليس إنسان الخيمة والحرية ، ولكن إنسان الوكالات الأجنبية والمصانع. وليس في ذلك أي جوانب مغرية ، وليس بالمستغرب أن تفسد عليّ تلك الصورة غير المناسبة أولى خطواتي في هذه الطبيعة الموحشة. أرجع مع ذلك إلى الحديث عن السويس. / ٢٣ /

٥٩
٦٠