رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

الفصل الثاني

السويس

إن موقع السويس الهام ، في قلب خليج على البحر الأحمر ، جعل منها منذ أمد بعيد مركزا تجاريا مهما. وكان بطليموس فيلادلف (١) Ptolme Philadelphe الذي شق بين النيل والبحر الأحمر قناة ما زلنا حتى اليوم نجد بعض آثارها مدفونة تحت الرمال ؛ وهو ابن وريث الإسكندر الأكبر ، قد أطلق على هذه المدينة اسم أخته أرزينوي (٢) Arsino التي كان مشغوفا بها ، وتزوجها حسب تقاليد سلالة البطالمة (٣) Des Lagides. أما اسمها الحديث" السويس" فإن بعض علماء الاشتقاق الجريئين

__________________

(١) بطليموس الثاني Ptolme II (٣٠٤ ـ ٢٤٦ ق. م) : ملك مصر الملقب فيلادولفوس ، لقب بذلك لأنه تزوج أخته أرزينوي (٢٨٥ ـ ٢٤٦ ق. م) : بنى منارة الإسكندرية ، وجعل منها مركزا للثقافة الهيلينية ، وقيل : إنه في عهده ترجم العهد القديم العبري إلى اليونانية. انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٧٠٦.

(٢) Arsino II أرزينوي الثانية ، أميرة مصرية ابنة بطليموس سوتير (المنقذ) المسمى لاغوس Lagos ، وأخت بطليموس الثاني فيلادولفوس ، ولدت حوالي عام ٣١٦ ق. م. ، وتزوجت أخاها بطليموس الثاني بعد أن تزوجت مرتين قبل ذلك ، ولما تزوجها حسب التقاليد الفرعونية أطلق اسمها على عدد من المدن.

(٣) اسم السلالة التي أرسى دعائمها في حكم مصر أحد أفضل مساعدي الإسكندر الأكبر بطليموس سوتير الذي كان يعرف بالأول ، وحكم مصر من (٣٢٣ ـ ٢٨٥ ق. م.) ، واستمر البطالمة في الحكم حتى سنة (٣٠ ق. م.) ، وقد استطاع بطليموس الأول أن يقيم حكمه الغريب حسب العادات والتقاليد المصرية القديمة. وآخر من حكم من هذه السلالة هي كليوباترة التي سقطت مصر في عهدها بأيدي الرومان.

٦١

يرون فيه تحريفا لكلمة : Oasis التي تعني بالعربيّة : الواحة. فإن كان الأمر كذلك ، فإن هناك تباعدا بين الاسم والمسمّى : لأن السويس بعيدة عن أن تكون واحة ؛ إذ ليس فيها شجرة واحدة ، ولا خيط ماء رفيع ، وليس هناك ما هو أكثر قحطا منها ، ولا ما هو أكثر كآبة منها. إنها أرض ضيقة محصورة بين البحر والصحراء ؛ وهما محيطان يغزوان الأرض ويحطمانها ، وهي تكافح بصعوبة ضد هذين العدوين المخيفين. فالبحر يشق ويقضم بلا كلل ولا ملل ، الرأس الترابيّ الذي تقع عليه ، أما الرمل فيزحف إليها في كل يوم ، ولم تعد تتسع / ٢٤ / إلا بصعوبة للأربعة أو الخمسة آلاف نسمة الذين لم يغادروها (١). إن من يقرأ عدد السلع التجارية التي تفخر السويس بأنها مركز تجمعها : كالمعادن ، والنسيج من أوروبا ، والحرير والتوابل من الهند ، منتجات مصر والجزيرة العربية ، والرز والصوف ، والعطور والجواهر والبن اليمني ـ يتوقع أن يجد مدينة مزدهرة في إمبراطورية الخلفاء التي تحدثنا عن روعتها ألف ليلة وليلة.

ليس هناك شيء من ذلك. فكل تلك السلع الثمينة تعبرها ليس إلا ، دون أن تتوقف إلا في محطات الصحراء ، وإن تجارتها البائسة ، تسيطر عليها جماعة من الوسطاء اليونانيين الذين لا يعملون لحسابهم. أما السويس نفسها فهي لا تبيع شيئا ، لأنها لا تنتج أبسط الحاجات الضرورية الأولية ، ماذا أقول؟ لا ينمو فيها أي نوع من

__________________

(١) انظر حول الوصف الذي قدمه الرحالة لمدينة السويس وغيرها من مدن البحر الأحمر في كتاب : مصر في كتابات ... ، موثق سابقا ، ص ٣٦٠ ـ ٣٦٣. وفصّل بيرتون في الحديث عن السويس في رحلته ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٣٥ ـ ١٥١.

٦٢

الخضار ، وليس هناك قطعة واحدة من العشب الأخضر على أديمها ، ولا يهديها البحر إلا بعض الأسماك القليلة والصغيرة. يأتيها كل شيء من القاهرة ، وليس فيها الماء الذي تشربه الحيوانات ، والذي ينبغي أن يذهب الناس إلى مكان يبعد أكثر من مرحلة للبحث عنه ، أما الماء الذي يشربه البشر فهو أكثر بعدا أيضا ؛ إذ يذهب الناس بحثا عنه إلى بركة موسى ، الواقعة على الشاطئ الآخر لخليج السويس ، وإن هذا الماء الذي لا يقل ثمنه عن قرشين للقربة غير صالح للشرب دائما : وإن الأشخاص الحريصين على ما يشربون ، لا يشربون إلا ماء النيل الذي يستقدم على ظهور الإبل عبر الصحراء ، وذلك مبالغ فيه للحصول على كأس من الماء. / ٢٥ / أما المدينة نفسها فلا تكاد تستحق الوصف ، شوارعها وأزقتها ضيقة وملتوية ، وتعج بالغبار ، وهي وسخة غالبا. أما البيوت فسيئة العمارة ، لا يهتم أصحابها بترميمها ، وأغلبها من الخشب أو من اللّبن ، وفيها بعض المساجد البسيطة ، ومناراتها أشد بساطة منها أيضا ؛ فيها فنادق واسعة ، ولكنها وسخة جدا ، مخصصة للبضائع والتجار ، وفيها سوق واحد يفتقر في ثلاثة أرباع السنة إلى الحاجات الضرورية جدا : تلك هي اليوم حال تلك المدينة ، التي كانت في سالف الدهر مزدهرة بلا شك ، ويمكن أن تعود إلى ما كانت عليه من ازدهار بل أكثر ، عندما يتم فتح القناة التي ستجعل منها واحدا من أهم الموانئ التجارية ، بل السياسية في العالم كله. وإن لمينائها ، مع ذلك ، وعلى حالته الراهنة ، مكانة متوسطة ، تحيط به بيوت صالحة للسكن ، وله رصيف على البحر

٦٣

تجده بعض الأحيان يعج بالناس. إن هناك عددا كبيرا من المراكب المصنوعة محليا ، والمخصصة لتمخر عباب البحر الأحمر ، ولكن عدد المراكب التي تقضي الليل في المرفأ يدل على أن حركة الملاحة ليست بالنشاط المطلوب. وقد كان أحد تلك المراكب المشحونة بالرقيق يفرغ حمولته البشرية لحظة وصولنا. يقيم قليل من الأوروبيين في هذا المكان الكئيب ، ومع ذلك عرفت سيدة فرنسية يعمل زوجها بالتجارة في هذه الأنحاء ، وكانت / ٢٦ / تعيش في انتظاره مع ابنتها الجميلة البالغة من العمر ثمانية عشر عاما ـ في عزلة تكاد تكون مطلقة. ورأيت أيضا القنصل أو نائب القنصل البريطاني الذي تجدر الإشارة إلى أنه يسكن المنزل الذي كان ينزل به الجنرال نابليون في عام ١٧٩٩ م. وكان ذلك القنصل يجمع بين وظيفة القنصل ووظيفة الوكيل التجاري لشركة الهند الشرقية ، وإن هذه الازدواجية السياسية التجارية صفة مشتركة للقناصل البريطانيين جميعهم ؛ ولكنني أفضل القانون الفرنسي الذي يحظر التجارة على قناصلها ؛ حفاظا على كرامتهم ، وإن كانوا يخسرون ماديا.

لقد اكتسب موقع السويس بعض الأهمية لدى القنصل البريطاني منذ أن أصبحت شركة بريد الهندLa malle des Indes تمرّ بهذا الطريق مرتين في الشهر ؛ إذ أصبحت سفن بومباي وكلكتا تنزل في السويس الركاب الذين يذهبون إلى الإسكندرية ليركبوا السفينة إلى بريطانيا وبالعكس. ويحدث هذا في كل خمسة عشر يوما نشاطا ينتج عن توفير الخدمات لمئتين أو ثلاث مئة شخص يزيدون أو ينقصون عن

٦٤

ذلك بقليل ؛ مما يعني أن هناك متوسطا سنويا يبلغ ستة إلى سبعة آلاف راكب. ينزل هذا الجمع الموسمي من مسافري العبور في مصر ، وكأنهم يريدون ابتلاعها ، شأنهم شأن جراد موسى (١) ؛ فأولئك الذين يصلون من بريطانيا يكادون يكونون جميعا من الشباب المشاغبين ، ومن الفتيات البيض المتوردات اللواتي يأتين إلى المستعمرات الهندية للبحث عن أولئك الذين لهم مكانة إدارية أو تجارية ليتخذن منهم أزواجا / ٢٧ /. أمّا في العودة فالمشهد يتغير ، فالشباب أصبحوا رجالا سمرا ، وقد شاخوا قبل سن الشيخوخة ، والفتيات أصبحن أمهات أو جدات.

لقد أقيم في السويس على شاطئ البحر ، فندق بريطاني واسع مخصص لإسكان القادمين وإطعامهم وسقايتهم ، وليس ذلك بيسير ، بسبب نهم القادمين الجدد ، وفقر السوق بالبضائع. حينئذ تصبح المدينة ضحية غزو أوروبي حقيقي. أما بقية العام فهي كئيبة ساكنة. أمّا في هذه الأيام ، ففيها حركة مفتعلة ، تكاد تكون محمومة ، وليس لها من نتائج إلّا أنها تجعل السكون عندما يعود أكثر عمقا ، ثم تعود إلى حالة الخمود في اليوم التالي. ولما رفضنا النزول في محطة الطريق ، ولم نرض بالنزول في الفندق البريطاني المريح فقد عسكرنا في المدينة ، وكأننا في الصحراء ، لقد نصبنا خيامنا على الشاطئ ، وسط عدد من المدافع المنصوبة في هذا المكان للدفاع عن

__________________

(١) الجراد الذي أرسله الله على آل فرعون ، كما في قوله تعالى (الأعراف ، ١٣٣) : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ).

٦٥

الساحل ـ زعموا ـ ، وهي لم تستخدم ولن تستخدم أبدا ، لقد كانت متروكة هنا دون أن يكون قربها ظل حارس يسهر عليها ، ولا تستخدم إلّا لعبا للأطفال يلهون بها ، ويعتلونها دون خوف وكأنها أحصنة خشبية. يمتد هذا الشاطئ الواسع والجميل كل الجمال بعيدا حتى سفح الجبل الذي يبدو منحدرا انحدارا عموديا في البحر. أما الميناء فيمتد إلى الجنوب وكأنه سماط أزرق ، و/ ٢٨ / تسد الأفق قمم سلسلة جبال سيناء الوعرة.

لقد كانت السويس قبل وصولنا بفترة وجيزة ، مسرحا لاضطرابات شعبية ضد الأوروبيين الذين يسكنونها ، فقد تجمع الناس أمام منازلهم ، وبدؤوا يكيلون لهم الشتائم ويهددونهم ، ويرمون نوافذ بيوتهم بالحجارة ، وكان يمكن لسلطات المدينة أن تعيد الهدوء إليها ببساطة ، لأن الشعب المصري لين العريكة ، ولا يحب الشراسة ، ولكن حاكم المدينة لم يأبه للأمر ، أو أنه تهاون في اتخاذ الإجراءات ، معتقدا ـ دون شك ـ أن مثل هذا التصرف لا يعدم أن يعجب الباشا الحاكم ، ويشجع الحقد المتطرف ، ولم يكن بالتالي من الحكمة أن يبدي الحاكم حماسة بالغة لضبط الأمور في مثل هذه الأحوال. ولكن العاصفة مرت بسلام ، ولم تخلّف أي أضرار ، وهدأت وحدها ، ولكن ليس دون أن تترك آثارها في الجالية الأوروبية في القاهرة.

وصلنا والمعمعة محتدمة ، وتلقيت من يد مجهولة حجرا وأنا أتجول في أحد الأزقة الضيقة. وأقر أنه كان عليّ التزام الحذر الواجب في مثل هذه الظروف ، وعدم التخييم

٦٦

في العراء دون أن يكون لنا ما يحمي رؤوسنا إلّا سقوف خيامنا ، ولكننا مع ذلك لم نكن نستطيع التراجع عن خطوتنا الجريئة ؛ ولم يتعرض مخيمنا لأية مضايقة. ولكننا تعرضنا لحادثتين / ٢٩ / من نوع آخر ، ويحسن أن أسجلهما لتكونا عظة للرحالة الذين يسيرون على خطانا في المعاناة من حياة الرحيل ومشكلاتها البسيطة التي لا تخلو منها الحياة الإنسانية عموما ، وحياة كل فرد على وجه الخصوص. كان يقوم على خدمتي شاب أسود ، كان من قبل في خدمة كلوت بيك (١) Clot ـ Bey الذي اصطحبه إلى باريس ، حيث تعلم الفرنسية هناك ، وكان اسمه عبد الله ، وكان يحب الموسيقى ، ويحب أن ينفخ بالمزمار ، وهي بلا شك تسلية بريئة ، إلّا أنها كانت مع ذلك وبالا عليّ. كان عبد الله في إحدى الأمسيات يمتطي أحد المدافع التي تحدثت عنها ، وكأنه على ظهر حصان ، وكان ينفخ في آلته الموسيقية المفضلة ، وقد نسي شمعة مضاءة في خيمتي مما تسبب في إشعال النار فيها ، وأكلت النار الخيمة تماما ، وحولتها إلى كومة من الرماد ، وقد عانينا صعوبات جمة في إنقاذ أمتعتي الخاصة من ألسنة اللهب. ولست بحاجة إلى القول : إن أحدا من السكان الأصليين لم يفكر بمديد العون

__________________

(١) كلوت بك Clot ـ Bey ضابط وطبيب فرنسي عضو الأكاديمية الملكية الطبية في باريس ، زار مصر ثم استقر فيها ، ويعد مؤسس الخدمات الطبية فيها. وضع كتابا بعنوان : لمحة عامة عن مصر نشر في عام ١٨٤٠ م. اتهمه عدد من الرحالة بأنه كان من المدافعين عن سياسة محمد علي. انظر : مصر في كتابات ... موثق سابقا ، ص ١٠٠.

٦٧

لنا ؛ وأشير هنا إلى جزئية تدل على التخلق بأخلاق الشرقيين ؛ وهي أن أحد السكان من أصول بريطانية ، كان يعمل موظفا في النقل ، وكانت خيمتي منصوبة أمام البيت الذي يسكنه ، وكان ينظر ببرود من نافذته إلى الخيمة تحترق ، ولم يكلف نفسه عبء السؤال عن حاجتنا للمساعدة في هذه اللحظة الحرجة ، مع أنني كنت أحمل إليه رسائل توصية.

أمّا الحادثة الثانية فتتمثل في أنه كان لدينا طباخ من القاهرة ؛ وإن من ولدوا في هذه / ٣٠ / المدينة العاصمة يحبونها حبا لا يستطيعون معه الابتعاد عنها إلّا على مضض. ومع ذلك فإن طباخنا العربي وافق على مرافقتنا ، وهو يظن أننا لن نذهب إلى أبعد من جبل سيناء. ومنذ أن علم أننا سنمضي في رحلتنا حتى جدة ، بل أبعد من ذلك ، تراجع عن مرافقتنا ، ولم يكن هناك ما يمكن أن يغريه بالسير خطوة واحدة ، حتى النقود. لقد كنا في حيرة من أمرنا ، لأننا كنا بحاجة ماسة إلى أي طباخ بسبب طبيعة الرحلة التي ننوي القيام بها. وكانت الوسيلة الوحيدة أن نحاول إيجاد طباخ في السويس ، ويبدو أن أقدار الله ساعدتنا فساقت إلينا غاسبارو مازانتي Gasparo Mazzanti وهو من سكان فلورنسة الأصليين ، وكان يتحدث اللغة التوسكانيةToscan بلهجة واضحة ، خاصة بأهل فلورنسة ، ولم يكن يعرف أي كلمة عربية ، على الرغم من أنه أقام في مصر خمسة عشر عاما ، بعد أن ساقته إليها خلافات أسرية. وكان يمتلك مطعما في الإسكندرية ، وكان في هذه الأثناء موجودا بالمصادفة في

٦٨

السويس ، وعرض علينا خدماته ، فقبلنا ، وقد كان على استعداد للذهاب معنا إلى آخر الدنيا من أجل عشر تلرات (١) Talari في الشهر. لقد قضى هذا الرجل الشجاع في خدمتي ثمانية أشهر كان خلالها مثالا في التفاني والاستقامة. وإن مثل هذا الخلق أصبح نادرا كل الندرة لدى الأوروبيين الذين يقيمون في الشرق ، حتى إنه ينبغي الوقوف عنده وتسجيله.

ترسل فرنسا إلى السويس قنصلا ، ولكنه بالطبع يفضل الإقامة / ٣١ / في القاهرة أو الإسكندرية على الإقامة في هذا المنفى. ويدير أعمال القنصلية التي لا تكاد تذكر في غيابه تاجر من السكان الأصليين اسمه كوستاCosta ؛ وهو يوناني الأصل كما أظن. وهو لا يتقن لغة البلد التي يمثلها ، ولكنه في مقابل ذلك يتقن الحديث بالعربية ، ويحفظ عددا من الحكايات والقصص الممتعة التي يوشّي بها أحاديثه. وقد كان أحد أبنائه يتكلم الفرنسية ، فأفدنا منه فوائد جمة ، ولا يسعني إلّا الإشادة بما قدمه لي من خدمات جيدة إبّان إقامتي.

__________________

(١) ريال ماريا تيريزا ـ ثالر (النمساوي) ، وقد اشتهر في الجزيرة العربية باسم (الريال الفرنسي) وقد طغى هذا على الاسم الحقيقي للريال ... ويعد من أشهر العملات الأجنبية التي استخدمت على نطاق واسع في الجزيرة العربية ، وقد سكت من معدن الفضة في عام ١٧٨٠ م ووزنها يوازي الأوقية الواحدة ، وظل التعامل بها قائما في أقطار الجزيرة العربية حتى وقت قريب بسبب ثبات وزنها وعيارها اللذين لم يتغيرا ، وقد أطلق العامة عليه اسم (أبو طاقة) بسبب الرسم الموجود على ظهره. انظر كتاب : تطور النقود في المملكة العربية السعودية ، الصادر عن مؤسسة النقد العربي السعودي ، ١٤١٩ ه‍ ، ص ١٩.

٦٩

كنا بحاجة إلى مركب يحملنا إلى جدة ، ولم يكن الحصول على مركب يناسبنا بالسهولة التي نعتقدها ، لأن مراكب السويس كلها مرقمة ، ومسجلة ، ليبحر كل واحد بدوره ، دون أن يكون بالإمكان تغيير الدور أبدا. إذا ، لا نستطيع اختيار المركب الذي نريد ، ونحن مجبرون على ركوب المركب الذي جاء دوره في الإبحار سواء كان مناسبا أم لا. لم يكن هذا الأمر ليناسبنا. ولم يكن بوسعنا تجاوز ذلك إلّا بموافقة الحاكم ، وقد كان بلا شك سيوافق على استثنائنا من الدور ، ولكن كان ينبغي طلب ذلك ، وهو إجراء شكلي ممل.

وجدنا أنفسنا بفضل المصادفة وكوستا في غير حاجة لطلب مساعدة أحد ، أو لدفع شيء ؛ وهما أمران متطابقان في الشرق. لقد كان يرسو في المرفأ / ٣٢ / مركب من جدة ، ولم يكن ينتظر للعودة إليها إلّا أن يجد أي حمولة كانت ، لقد استأجرناه كاملا لنا ولمرافقينا ولأمتعتنا مقابل مبلغ بسيط بلغ ألف قرش (١) ؛ وهو بالتأكيد مبلغ تافه إذا علمنا أن المسافة تبلغ ستة آلاف كيلومتر بحرية ، ناهيك عن أنه كان على المركب أن ينتظرنا في الطور الزمن اللازم لزيارة جبل سيناء. وقد وقع كوستا نفسه عقدا بالعربية ، وختمه بالخاتم القنصلي زيادة في الاحتراز.

ولم يكن بيرتون ليسافر معنا لأنه كان ، كما قلت سابقا ، ذاهبا للالتحاق بوحدته العسكرية في بومباي. وإن الباخرة التي ستحمله إلى هناك مع الركاب البريطانيين الآخرين ، التي كان وصولها إلى السويس منتظرا بين لحظة وأخرى ، رست على بعد

__________________

(١) ذكر بيرتون ذلك في كتابه : قصة رحلة شخصية إلى الحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة ، مج ١ ، ص ١٧٨ ـ ١٧٩ ، من النص الإنجليزي ، ط ١٩٦٤ م.

٧٠

خمسة أو ستة أميال عن الشاطئ ؛ لأن ضحالة البحر لا تسمح للقطع البحرية الكبيرة بالاقتراب أكثر ، دون أن تتعرض للخطر. وكان أحد الزوارق التابعة للباخرة يؤمن الاتصال بينها وبين المدينة ، ويقوم بعدد من الرحلات بينهما يوميا ؛ وكان على متنه ثمانية أو عشرة من الشجعان الذين يرتدون سترا بيضاء وأحزمة حمراء ، وكان يسير على وجه الماء المستوي كأنه طائر النّوء (١) Petrel.

وقدم لي الشيخ عبد الله ، أعني بيرتون ، عند الفراق تذكارا منه نسخة من القرآن الكريم كان يحملها معه إبّان / ٣٣ / الوقوف على عرفات ؛ وهي الشعيرة التي يتوج بها الحج إلى مكة المكرمة ، والتي تكفل للمؤمن أن يحمل اللقب الأثير (الحاج) ، وكان على المصحف إهداء بالعربية كتبه بيرتون بخطه ، يسجل الذكرى ، ويحدد تاريخ تلك الأيام التي لا تنسى في حياة المسلم ، ولعلها أكثر رسوخا في حياة مسيحي.

إذا ، غادرت السويس مع رفيق رحلة واحد ، وهو إنجليزي أيضا ، يتحدث العربية جيدا ، ويكتبها عند الحاجة ، وكان يتجول مسافرا في الشرق منذ عدد من السنين ، وإن حياة المغامرة التي كان يعيشها تستحق أن أشير إليها ، وربما سأخصها فيما سيأتي بإشارة تكاد تكون غير مشرفة (٢).

__________________

(١) طائر بحري صغير الجناحين يمعن في الطيران بعيدا عن اليابسة.

(٢) علمنا من حاشية خصصها بيرتون للإشارة إلى لقائه بدييه أن هذا اسم المرافق الذي لم يذكره ديدييه أبدا هوAbbe Hamilton ـ القس هاملتون البريطاني وأشار بيرتون إلى أنهما دفعا ١٠٠٠ قرش (ما يعادل ١٠ جنيهات استرلينية) أجرة السنبوك من السويس إلى جدة. انظر نص رحلة بيرتون الموثق أعلاه ، ص ١٧٨ ـ ١٧٩ ، الحاشية (٤). وانظر مقالنا : قراءة في رحلة إلى الحجاز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عنوانها : " إقامة في رحاب الشريف الأكبر ـ شريف مكة المكرمة" تأليف : شارل ديدييه ، مجلة الدرعية ، العدد ٨ ، ١٤٢٠ ه‍ / ٢٠٠٠ م ، ص ٨٥ ـ ١١٠.

٧١
٧٢

الفصل الثالث الطور (١)

أبحرنا يوم الحادي والعشرين من يناير (كانون الثاني) في الساعة الثانية ، ونشرت الأشرعة بعد ذلك بقليل ، ولكن إبحارنا لم يدم إلا فترة بسيطة ، لأننا ألقينا المراسي في الساعة الرابعة عند سفح جبل أبو دراج (٢) لقضاء الليلة هناك ، مع أن البحر كان هادئا ، والريح مؤاتية ، ولم يكن هناك ما يمنع مواصلة الإبحار. ولكن مراكب البحر الأحمر لا تمخر عباب البحر إلّا في النهار (٣) ، ناهيك عن أننا كنا على مسافة قريبة من بركة فرعون (٤) ، وهو اسم يطلقه العرب / ٣٤ / على مكان هلاكه ، ويظنون أنه ، منذ ذلك ، مسكون بجان أشرار : لذلك لا يخاطر البحارة بقطع تلك اللجة الضحلة ليلا ، إنهم يفعلون ذلك بصعوبة في وضح النهار ، ولا يفعلونه إلّا بعد أن يصالحوا الأرواح الشريرة بأن يقوموا بممارسات خرافية.

__________________

(١) وسميت بالطور نسبة إلى طور سيناء الذي هو أشهر جبالها ... ، وكانت تسمى قديما" ريثو" وبقيت معروفة بهذا الاسم إلى القرن الخامس الميلادي. انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ١٣٣. وتحدث عنها بيرتون في رحلته ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٦٥ ـ ١٦٧.

(٢) كتبها ديدييه : Mont Abou d Anadj ، ولعل الصواب ما أثبتناه في الأصل ، انظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٣٢. وكتبت في الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ١٨ ، Abu Anaj ولعل ما ذكرناه هو الصواب.

(٣) انظر : رحلات في شبه جزيرة العرب ، بوركهارت ، ترجمة د. عبد العزيز الهلابي ود. عبد الرحمن عبد الله الشيخ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ١٤١٣ ه‍ / ١٩٩٢ م ، ص ٣٩٠ ـ ٣٩١. وسنشير إليها ب" رحلات بور كهارت ...". وانظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٦٠.

(٤) انظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٦٣ ، ١٦٥.

٧٣

إننا هنا في قلب الذكريات الموسوية. فهناك غير بعيد على الأرض حمام طبيعي يحمل اسم نبي بني إسرائيل ؛ حمام سيدنا موسى (١) ، وقد تركنا وراءنا عينا مشهورة تحمل اسمه أيضا. عيون موسى (٢) ، وتبدو بيضاء اللون على الشاطئ في وسط أشجار النخيل. ومن هذه العيون تتزود مدينة السويس بماء الشرب كما ذكرنا سابقا. وهو مكان يقصده المسافرون. لقد زارها نابليون بونابرت نفسه إبّان إقامته في مصر ، دون أن يمضي في التقصي أبعد من ذلك. ويروى أنه فوجئ خلال عودته بالمدّ ، وتعرّض لخطر حقيقي عندما غمر الماء حصانه حتى بطنه ، ولم ينج من هذه العثرة إلّا بمساعدة البدو الذين سارعوا إلى مساعدته. لنفترض أن إمبراطور المستقبل هلك هنا ، ولنتصور التغيير الذي كان سيحدث في مصير العالم! يا له من مجال مفتوح لتخمينات (٣)! وينتصب في مقابل عين موسى تقريبا ، على الجانب المواجه جبل

__________________

(١) ويقع في جبل صغير على خليج السويس على أربعة أميال من مدينة الطور فيه سبعة ينابيع كبريتية ... وبقرب هذا الجبل ميناء" أبو صويرة" ، انظر : تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها ، نعوم بك شقير ، دار الجيل ، بيروت ١٤١١ ه‍ / ١٩٩١ م ، ص ٣٤. وسنشير إليه ب" تاريخ سيناء ...".

(٢) عيون موسى : وهناك ميناء على ثمانية أميال من السويس ، فيه محجر صحي قديم ، انظر : تاريخ سيناء ... ص ١٥. وانظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٣) جاء في كتاب : الحملة الفرنسية في مصر ، بونابرت والإسلام ، هنري لورنس وآخرون ، ترجمة بشير السباعي ، سينا للنشر ، القاهرة ١٩٩٥ ، ص ٣٠٨ : " وفي السويس ، يتحدث بونابرت مع قباطنة سفن البحر الأحمر ، وهو يبشر آنذاك باستئناف ـ

٧٤

عتاقة (١) ، كأنه عملاق من الحجارة شهد منذ أكثر من أربعين قرنا مرور رهط من المصريين على سفوحه ، وعلى رأسهم فرعون / ٣٥ / يطاردون بني إسرائيل.

كانت الليلة جميلة صافية ، ولم يعكر صفو الهدوء إلا أصوات الأمواج التي تتكسر على جانب المركب الراسي. وكان القمر يلقي على جبال الشاطئين ضوءا خافتا. كنت أرى تلك الجبال يكسوها الضباب ، ولكنها بادية للعيان ، وخلفيتها السماء المزينة بالنجوم ، منها ما ينتمي إلى آسيا ، ومنها ما ينتمي إلى إفريقيا ، وقد جال بخاطري بانفعال ، وأنا أراها ، أنني هنا معلق ، إن صح القول ، بين عالمين ؛ إفريقيا التي أبتعد عنها ، لأعود إليها قريبا ، وآسيا الشاعرية التي تطؤها قدماي أول مرة.

يفصل بين العالمين خليج ضيق ، يبدوان كأن كلا منهما يحدق بالآخر ، كعدوين جاهزين ، لأن يلقي أحدهما بنفسه على الآخر. ولكن قوة التوسع وروح الغزو التي

__________________

ـ العلاقات التجارية خاصة مع الحجاز. والحادث المهم الوحيد هو أن القائد وعددا من رفاقه الذين يضلون طريقهم خلال ليلة ٢٨ ديسمبر ، يفلتون بصعوبة من الغرق ، حيث يصعد مد البحر بسرعة بالغة في تلك المنطقة. وهو يشير بنفسه إلى أن ذلك كان من شأنه أن يمثل موضوعا جد رائع لموعظة تدور حول فكرة فرعون جديد ...".

(١) قال بيرتون في رحلته (الترجمة العربية) ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٦١ : " ... وعند غروب الشمس رسونا ـ ولا زالت السويس على مرأى منا ـ تحت جبل عتاقة متخذين منه ملاذا يحجب الريح عنا ، وعلى الساحل الشرقي كانت توجد قلة من بساتين النخيل متجمعة حول (عيون موسى) أما في الغرب فيقع بين ـ حيدين برجيين ـ مصب وادي (مسيل) الطوارق أو وادي موسى أو وادي البادية الذي خرج منه بنو إسرائيل إلى البحر البردي Sedge The Sea of وفقا لما يقوله الأب سيكاردSicard.

٧٥

تنتج عنها ينتميان إلى آسيا ، وقد دفعاها إلى مد سلطتها خارج حدودها في عصور التاريخ المختلفة ، وجعلاها في الماضي تؤدي دورا رائعا.

أما إفريقيا فهي على العكس عنصر المقاومة والثبات : مع بعض الاستثناءات المعدودة ، القرطاجيون على سبيل المثال الذين امتدت سلطتهم بعيدا ، وحدثتهم أنفسهم في لحظة بالاستيلاء على ثروة روما ، علما بأنهم من أصل فينيقي ؛ أي آسيوي ، ولم تواجه إفريقيا / ٣٦ / الغزاة الخارجيين إلا بمقاومة سلبية ، تحولت بعد ذلك إلى مقاومة يخشاها الأعداء ، ولا يمكن في الغالب قهرها بسبب الظروف الطبيعية للأرض والطقس. كانت هاتان القارتان الغامضتان تقبعان هنا أمامي ، وكأنهما أكبر مشكلتين تعترضان دراسات الباحثين ، وتأملات المفكرين. إحدى المشكلتين ، أعني آسيا ، كاد العلماء من زمن يصلون إلى حل نصف أسرارها ، ويمكن أن نتوقع حلّ مشكلتها كليا في المستقبل القريب جدا. في حين أننا لا نكاد نلمح التخوم الأولية للمشكلة الثانية ، إفريقيا التي استعصت حتى اليوم على الجهود المتعاضدة للعلم والحرب والتجارة. وإن أكثر الرحلات الاستكشافية تخطيطا ، التي نفذت بشجاعة فائقة لم تشتهر إلّا بالمصائب التي آلت إليها! فكل عام يشهد هلاك واحد من أولئك الباحثين الشجعان ، أما أولئك الذين يعودون ؛ فإنهم يعودون بخفي حنين ، وإن القضية ، التي يذهبون من أجلها تظل بعد عودتهم بكرا كما كانت عليه عند انطلاقهم. وليس علينا إلّا أن نلقي نظرة على أحدث الخرائط وأكملها لهذه

٧٦

المنطقة من العالم ، ليغلبنا الحزن ، ونجد أنفسنا معنيين بالفراغ المريع المنتشر على تلك الخرائط: عدا محيط صغير ، ما زال يفتقر هو أيضا إلى الأسماء الصحيحة ، أما الباقي فهو بياض واسع نجهد أنفسنا بلا طائل لملئه ، وربما لن نستطيع أبدا ملأه. إن تلك المساحات الواسعة من الأراضي المجهولة تشعر رؤيتها بالخوف / ٣٧ / وتحبط ، بقدر ما ترعب. هل يعقل أن الجنس البشري بعد ستة آلاف سنة من الوجود ، لا يمتلك إلّا معلومات قليلة ومضطربة عن الكون الضيق الذي يسكنه؟ كان القمر ما يزال مضيئا عندما نشرنا أشرعتنا عند طلوع الشمس ، وعبرنا بركة فرعون المخيفة ، وأبحرنا حتى المساء في ظروف مؤاتية ، وكنا لا نزال نرى الشاطئ الإفريقي ، وخصوصا جبل غريب الضخم ، وإن كان الشاطئ الأفريقي قد بدأ يضيق شيئا فشيئا بالنسبة إلى الشاطئ الأسيوي. وإن أقرب الجبال من هذا الشاطئ هما جبلا (١) جقم (؟) Djkem ودعد (؟) Da \' ad ، وكلاهما أجرد. لقد انقضى اليوم دون أي حادث.

ورسا مركبنا عند الغسق في خليج صغير ، آمن كل الأمان ، يتشكل من انحناء بسيط من جبال عنيزة (٢) (؟) Nayazat ، الذي ينتمي شأنه شأن الجبلين السابقين إلى السلسة الجرانيتية لسيناء. ومرت الليلة الثانية كما مرت الأولى. وفي اليوم التالي ، كنا عند

__________________

(١) كتب اسم الجبلين في الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ١٩ ، Jakam and Da\'ad ـ جقم ودعد.

(٢) كتبت في الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٢٠ كما هي في الأصل الفرنسي.

٧٧

طلوع الفجر قد أبحرنا ، تساعدنا في ذلك ريح منعشة ومؤاتية ، ولم نلبث أن تجاوزنا رأس صويرة ، وعند الظهيرة كنا في الطور (١) Tor وليس Thor كما تكتب على الخرائط. هأنا ذا في آسيا ، ولكن هذه الأم القديمة للجنس البشري ، بدت لي للوهلة الأولى بملامح مغرية. اشتهرت الطور في غابر الأزمان بلؤلئها وفيروزها (٢) ، ولكنها منذ زمن طويل نسيت صيد / ٣٨ / اللؤلؤ ، وفقدت مناجم الفيروز ، وأجهل ما ستكون عليه في الأيام القادمة. ولكنني أعلم اليوم أنها بلدة صغيرة كريهة ، تسكنها جالية يونانية غير مضياف وجشعة ، تجعل المرء يحن إلى العرب ، بل إلى الأتراك ، وشيخ البلد يوناني من سكان المدينة يسمى كوستاندي Costandi ، كنت أحمل له رسالة من كوستا ، ولكنه لم يكلف نفسه عناء تقديم القهوة أو الشيشة ، وهما علامتان أساسيتان من علامات اللياقة الشرقية في مجال التمدن. تقدم القهوة لكل الناس دون تمييز ، وتقدم الشيشة إلى من هم على منزلة باعتبارها علامة من علامات الاحترام ، وإلى الأقران باعتبارها من علامات الشهامة. ويقيم في الطور أحد العرفاء البسطاء (إنباشي) (٣) مع حامية مؤلفة من عشرة جنود إقامة سيئة ، وقد كان أكثر كرما من اليوناني : إذ

__________________

(١) انظر حديثا مفصلا عن مدينة الطور وتاريخها في كتاب : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ١٣٢ ـ ١٣٨.

(٢) انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٧٩.

(٣) إنباشي : رتبة عسكرية من رتب الجيش المصري العثماني في مصر ، استحدثت في عهد ولاتها من أسرة محمد علي باشا ، يقابلها اليوم وفق المصطلحات العسكرية رتبة عريف ... وعلامتها شريط واحد مصنوع من القماش معلق على صدر حامله. انظر : معجم المصطلحات ... ، موثق سابقا ، ص ٤٧.

٧٨

على الرغم من أنه كان فقيرا حتى إنه لا يستطيع تقديم القهوة كما تقتضي عادات الضيافة ، إلّا أنه أجبرني على استخدام شيشته الخاصة لأنه لا يملك أخرى ، وقد فرش لي على المقعد الحجري الذي كان يتخذه مقعدا ، أجمل سجادة يملكها. إن في الطور مسجدا يقع في موقع جذاب على شاطئ البحر ، وفيها أيضا كنيسة إغريقية وسخة ومظلمة ، بيد أنني وجدت فيها عددا من الكتب واللوحات الغريبة ، واستقبلني فيها راهب عجوز يضع نظارتين. أما من الناحية الروحية فإن المدينة ، إن كان هناك مدينة ، تابعة لرئيس الأساقفة الإغريقي لجبل سيناء ، وسياسيا لباشا مصر الذي تمتد سلطته حتى هذا المكان. ونشاهد فيها أيضا بقايا سور كان يحيط بالمكان ، وبقايا حصن صغير / ٣٩ / أنشأه السلطان سليم الأول (١) ، الذي حصّن كل المواقع المتقدمة في إمبراطوريته. لقد بني الحائط والحصن ، وكذلك بيوت المدينة من الحجارة المزينة بالأصداف التي تكثر على شواطئ البحر الأحمر. إن أفضل ما في الطور ماؤها : وإن المراكب التي تمر في هذه المنطقة لا تعدم التزود بالماء وتخزينه ؛ مما يمنح ميناء الطور (٢)

__________________

(١) انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ١٣٨ ، وسليم الأول (١٤٧٠ ـ ١٥٢٠ م) سلطان عثماني من (١٥١٢ ـ ١٥٢٠) فتح فارس ، وسورية ، ومصر ، ويعد أول الخلفاء العثمانيين (عام ١٥١٧ م).

(٢) جاء في كتاب : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ١٣٣ : " ... ولهذه المدينة ميناء حسن له جرف مرجاني يمتد عشرات من الأمتار تحت الماء حتى أنه يمكن للسفن البخارية الاقتراب من البر بسببه. وهو ضيق جدا لا يسع إلا السفن الصغيرة ...".

٧٩

بعض الحيوية والحركة. يحيط بالمدينة سهل رملي ، لا نجد فيه من النبات إلّا طاقات متفرقة من نبات قصير ومعمّر يكثر في كل الصحاري ، وله ثمر صغير أحمر له طعم لذيذ. وتغمر مياه المد القسم الأدنى من السهل ، ويترك المد بعد انحساره في ذلك القسم ملحا ، ويمتد ذلك السهل من جهة الشرق حتى يتصل بسلسلة طويلة من الجبال لها هيئة سوداء قاتمة ، وتشكل قمة سربال الجليلة نقطة الذروة فيها ، وتبعد بعض الأميال عن المدينة صعودا نحو الشمال غيضة أشجار تكاد تكوّن غابة من النخيل ، أشجارها شديدة الكثافة ، يلتصق بعضها ببعض فلا نستطيع المرور عبرها إلا بصعوبة بالغة. وتعود ملكية هذا البستان في معظمها إلى دير جبل سيناء ، ولكنها ملكية تكاد تكون شكلية لأن المالك لا يستطيع أبدا أن يجني ثمارها ؛ لأن بدو الجوار يسارعون إلى جنيها / ٤٠ / ويستولون في كل سنة على بواكر المحصول ، بل على المحصول كله ، وقد فكر الرهبان في وضع أحدهم للحراسة ، ولكن الناطور المتنسك أغلق على نفسه في حصن ما زلنا نرى بقاياه ، ولا يمكن الوصول إليه إلّا بارتقاء السلم ، وكان ينتابه ذعر شديد من السارقين حتى إنه لم يكن يغادر مكان سكنه ، ولا يسمح لأحد بالدخول إليه باستثناء خادم مكلف بأن يحمل إليه في كل أسبوع الماء والطعام. وكان البدو في أثناء ذلك يجنون غصبا التمور التي ينبغي أن يحرسوها ويأكلوها. إنهم يعيشون على الأرض التي يملكها الدير ، وكأنهم في بلد من بلاد الفتوح.

٨٠