رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

سيجرها عليهم هجوم إبراهيم باشا ، ولكن تفكيرهم بذلك يعني أنهم يجهلون طبائع الأتراك. لم يعد عبد الله يستطيع الاعتماد إلّا على حرسه الخاص المكوّن من أربع مئة عبد أسود كانوا مستعدين للموت حتى آخر رجل منهم دفاعا عنه. ولّما فقد كل الآمال كان باستطاعته الفرار والالتجاء إلى قلب الصحراء بانتظار أيام أفضل ؛ ولكنه كان يفضل الاستسلام لأعدائه ، والاعتماد على أريحية المنتصر ، كما لو أن التركي يتمتع بأي قدر من الأريحية! وبعد بضعة أيام من الاستعدادات والتردد سلم نفسه بإرادته لإبراهيم باشا الذي كان لا يزال في ريعان الشباب ، واستقبل عبد الله بن سعود في خيمته باحترام كبير / ٢٠٢ /: " وقال له مواسيا : إن الرجال العظام يعانون صروف الدهر ، وإن باستطاعته الاعتماد على عفو السلطان".

لقد كانت النهاية التي آل إليها هذا المشهد فظيعة. أرسل عبد الله إلى القاهرة ، ومعه حاشية كبيرة ، ومن القاهرة إلى إستانبول ، وقد عرف عبد الله هناك عفو محمود الذي كان حينئذ السلطان. لقد طيف بعبد الله إبّان يومين في كل شوارع المدينة ، وفي اليوم الثالث تم قطع رأسه في ساحة القديسة ـ صوفيا ، وتركت جثته للدهماء لكي تروي غليل تطرفها ، وتبلغ ثأرها من جثمانه الذي يبعث على الحزن.

لقد حدث هذا الحدث الفاحش والمقيت في نهاية عام ١٨١٨ م. أما أسرة عبد الله فقد بقيت في مصر ، ونشأ أولاده ، كما ذكرت سابقا ، في رعاية محمد علي. ولم ينهض الوهابيون أبدا من كبوتهم التي أدت إلى خراب عاصمتهم ، وأسقطت

٢٦١

حكومتهم. ولكن ، وإن لم يعد لهم نفوذ سياسي ، ولم يعودوا قوة مستقلة ، فإن عددهم ظل كثيرا في الجزيرة العربية ، وخصوصا في الجنوب حتى حدود مسقط ؛ ويكادون يسيطرون وحدهم على صحراء نعمان الشاسعة الواقعة على مسيرة خمسين يوما من مكة المكرمة / ٢٠٣ / وقد كانوا يدفعون ، أو ينبغي عليهم أن يدفعوا ، ضريبة سنوية قدرها عشرة آلاف تلري Talaris. لقد كانوا على الدوام يدينون بالطاعة لزعيم هو أحد أفراد الأسرة السعودية ، وآخر من علمت به من زعمائهم هو فيصل (١) ، قريب خالد بك ، ابن أو حفيد لفيصل (٢) الذي كان يقود الوهابيين في يوم بسل المشؤوم. وهاجرت بعض الأسر الوهابية إلى سواحل بلاد البربر ، ما زالوا حتى اليوم ، وخصوصا في ناحية طرابلس ، يشكلون تجمعات محترمة لصرامة طباعها (٣) ، التي تذكر بأخلاق المرابطين في أوروبا الشمالية.

ونستطيع بعد ذلك القول : إن الحكومتين الحقيقيتين المستقلتين في الجزيرة العربية ، زالتا الواحدة تلو الأخرى ، بل الواحدة بيد الأخرى ، الوهابيون والأشراف : فالأولى لم

__________________

(١) فيصل بن تركي الذي امتدت فترة حكمة الأولى من سنة ١٨٣٤ م إلى سنة ١٨٣٨ م / ١٢٥٠ ـ ١٢٥٤ ه‍ ، والثانية من ١٨٤٣ م ـ ١٨٦٥ م / ١٢٥٩ ه‍ ـ ١٢٨٢ ه‍.

(٢) فيصل هذا الذي يشير إليه المؤلف هو فيصل بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود أخو عبد الله بن سعود آخر أئمة الدولة السعودية الأولى ، وهو ابن عم لفيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود الذي أشار إليه المؤلف بأنه آخر من عرفه من زعماء آل سعود.

(٣) ليس في المصادر أي إشارة إلى هجرة تلك الأسر النجدية إلى نواحي طرابلس الغرب.

٢٦٢

تعد إلّا دعوة ، والثانية لم تعد إلّا سرابا. ولم يكن صعبا على الباب العالي أن يستغل تنافسهما ، وأن يبسط سلطته على أنقاضهما. فلو أن أميري مكة المكرمة والدرعية تحالفا بصدق وصراحة ضد عدوهما المشترك ، واتفقا على تسوية مصالحهما الخاصة بعد ذلك ، ولم يكونا متفرقين ، كما فعلا ، في بداية الحرب ، لما استطاع الأتراك أبدا أن يطؤوا أرض الحجاز ، بل لو أنهما بادرا بالقيام ببعض الخطوات ، لما خرج أحد من الأتراك من الحجاز حيا. لو حصل ذلك لكانت الجزيرة العربية مستقلة اليوم ، / ٢٠٤ / ولتخلصت ، وإلى الأبد ، من الطاعون التركي ؛ إن إضاعتهم تلك الفرصة المناسبة يقتضي أن تبدأ من جديد عملية تخليص الجزيرة العربية من الأتراك ، بما يتطلبه ذلك من تضحيات جديدة. وإن الخطأ الرئيسي كان ما قام به غالب الذي لم يكن عليه ، حرصا على مصلحته الخاصة ، أن يتواطأ مع الأجانب ، ولا أن يساعدهم في تنفيذ مخططاتهم. لقد أخل في ذلك الظرف بالحنكة التي كانت أعماله حتى ذلك الوقت تدل على تمتعه بها ، ويحق لنا أن نعجب من ذلك ، لأنه في الحق لم يكن الإنسان بحاجة إلى كثير من الحكمة النافذة ليتوقع النتائج النهائية لتصرفه الغامض ، وغير الحكيم. لقد خسر كل شيء في سعيه لإنقاذ كل شيء ، لقد أسقط بسقوطه العقبة الوحيدة (١) التي كانت تستطيع بمساعدته وقف عدو وطنه ، والحفاظ على وطنيته.

__________________

(١) يقصد الدولة السعودية الأولى.

٢٦٣
٢٦٤

الفصل التاسع

من جدة إلى الطائف

في يوم ٢٢ فبراير (شباط) جاء مصطفى أفندي ، وكيل الشريف الأكبر ليقول لنا إن الهجن والرجال الذين أرسلهم الأمير لمرافقتنا إلى الطائف قد وصلوا. لقد تلقى الأمر بمرافقتنا ، وبألّا يتركنا إلّا عند عودتنا إلى جدة ، رجل ذو اعتبار في البلاد ، وشريف ، وحاكم مدني أو وال لمكة المكرمة / ٢٠٥ / لقد كان ذلك أكثر من مجرد اهتمام ، إنه شرف استثنائي بسبب أهمية الشخصية. كان اسم ذلك الرجل هو الشريف حامد الذي زارنا بعد بضع ساعات من وصوله ، يرافقه خمسة أو ستة من العرب ، يرتدون ثيابا جميلة ، وهم مدججون بالسلاح. كان يلبس وشاحا كبيرا أبيض ، وجبّة أرجوانية ، ويلتمع في حزامه يطقان مزخرف. كان هو وحراسه حفاة ، ولم أره أبدا يلبس حذاء. كان عمره سبعة وعشرين عاما ، ولون بشرته أسمر داكنا ، وكان له عينان واسعتان سوداوان تشعان حيوية ورقة. وكان لأسنانه بياض ساطع ، وفي صوته رنة الشباب ، ونداوة الفتوة ، وكان له ابتسامة ظريفة. استقبلناه بما يليق بمقامه ، وبمنصب الأمير الذي أرسله ؛ ولكنه طوال الزيارة لم ينبس ببنت شفة ، وليس ذلك مستغربا في الشرق حيث لا نتكلم عندما لا يكون لدينا شيء لنقوله.

مع ذلك ، استغربت صمته ، بل إنه ، أكثر من ذلك ، أغاظني. هل كان ذلك خجلا أو عجرفة؟ ولست أدري إلى أي من السببين (الخجل أو العجرفة) أرجع ذلك

٢٦٥

الصمت المتمكن. وكان حكمي عليه في إطار الشك قاسيا ، وأعترف أن الانطباع الأول كان بعيدا كل البعد عن أن يكون إيجابيا.

زرناه في اليوم التالي في بيت مصطفى أفندي حيث كان يقيم ، ووجدنا المنزل يعج بالعرب الذين سارعوا للتسليم على شريفهم. واستقبلنا بأدب جم / ٢٠٦ / ودون أن يصل به الأمر إلى الانفتاح ، فإنه كان أقل صمتا مما كان عليه في اليوم السابق.

جاءت الشيشة والقهوة وتلاها الشراب الذي تمّ تقديمه في كووس كبيرة مذهبة ، وقام بعد ذلك بعض خدم المنزل بصبّ ماء الورد على أيدينا وعلى ثيابنا ، وهم يفعلون ذلك لمن يريدون إكرامهم ، وفي نهاية الزيارة فقط. وحدد يوم المغادرة بعد صلاة العصر من اليوم نفسه.

لقد سمح القنصل الفرنسي بناء على طلبي للسيد دوكيه ، موثق العقود والمترجم في القنصلية بمرافقتي ، وقد كنت مسرورا بذلك. وجدت في دوكيه مرافقا يسارع لأداء الخدمات ، مرهفا ، ومترجما متمكنا من لغة البلد المستخدمة والرسمية. كان عليّ ، لو أنه لم يكن موجودا ، الاعتماد على رفيق رحلتي ، وكنت أفضل ألا أفعل ذلك. ولّما كان هذا الأخير يتكلم العربية لأنه كان دائم السفر إلى الشرق منذ عدد من السنوات ، وكان يزعم لنفسه خبرة عميقة بالناس والأشياء. تركت له منذ انطلاقنا من القاهرة الإدارة المادية لقافلتنا الصغيرة ، ومع أنه كان سيء الإدارة ، وأبدى من التكبر أكثر مما هو منتظر ، فإنه في هذا اليوم استنفد صبري وصبر الشريف حامد ، ناهيك عن السيد كول ، قنصل بلاده الذي عيل صبره.

٢٦٦

كان علينا أن ننطلق عند العصر / ٢٠٧ / ، وعندما حلّ العصر لم يكن شيء جاهزا ؛ مع أنه لم يكن علينا أن نحمل إلّا أمتعتنا الضرورية لاستعمالنا الشخصي ، ولو فعلنا غير ذلك لعدّ ذلك إهانة للأمير المضيف الذي كان يعاملنا معاملة في غاية النبل ، ويود أن يوفر لنا كل ما نحتاجه. باختصار ، لم ننطلق إلّا عند المغرب بعد أن تبدى لي أننا لن ننطلق أبدا. ولو حصل ذلك لكان الأمر خطيرا : لأنه كان من المهم أن ننطلق في يومنا هذا ، الذي لم يكن اختياره عشوائيا ؛ فقد كان يوم خميس ؛ وهو أكثر أيام الأسبوع مناسبة لبدء الأسفار في نظر المسلمين. فالثلاثاء يوم مشؤوم ، والعرب لا تحب السبت لأنه يوم اليهود الذين يحتقرونهم كل الاحتقار. أما الأحد والاثنين فمن الشائع أنهما يومان مباركان ، والأربعاء تستوي الأمور فيه. وأما يوم الجمعة فهو يومهم المقدس ، وهم يسافرون راضين بعد صلاة العصر (١).

كانت القافلة تتكون كما يلي : كاتب هذه السطور ، إن كان من المناسب أن يبدأ الإنسان بنفسه ، ثم رفيق رحلتي ، والسيد دوكيه ، وستة من الخدم ، بينهم أوروبيان ؛ بلجيكي وطباخنا غاسبارو ؛ ثم الشريف حامد مع أحد أقربائه ، وبعدهما أحمد حمودي رئيس جمّالة الشريف الأكبر ، ناهيك عن اثني عشر عبدا أو خادما من خدم الشريف ، يلبسون ثيابا جديدة ، وهم جميعا مسلحون بالرماح / ٢٠٨ / وبالخناجر ،

__________________

(١) ليس ما ذهب إليه المؤلف في هذا التقسيم بصحيح ؛ بل الصحيح الذي لا مراء فيه عند أهل العلم أن السفر مستحب في يومي الاثنين والخميس ، مع جواز السفر عند الضرورة في أي يوم حتى يوم الجمعة نفسه.

٢٦٧

ولم يكن معهم أسلحة نارية. ورأينا من المناسب ألا نحمل أسلحتنا معنا لكي لا يبدو أن مثقال ذرة من الحذر قد خطر ببالنا : لأن المرافقة التي أرسلها الشريف كانت في نظرنا تكفي لحمايتنا ، ولّما كنا ضيوفه ، فإنه لم يكن مسموحا لنا أن نتوقع حدوث أي حدث سييء. لقد أرسل ثلاثة عشر جملا وهجانا كانت كافية لحمل كل من أشرت إليهم ، لأن المرافقين يمشون على الأقدام ، ويستطيعون عند الحاجة أن يصعدوا خلف جماعتنا.

إن الهجان الذي خصّص لركوبي كان الركوب المفضل لدى الشريف الأكبر ، وكان يستحق هذا التفضيل لرقة مظهره ، وحسن طبعه ؛ كان اسمه : سحابة. أمّا هجان رفيقي فكان اسمه : أم القصب ، وكان لا يقل في شيء عن ركوبي ، وكان يمتاز منه بأنه ثاقب النظر في الظلام ؛ لذلك كان الأمير يمتطيه في الليل عادة. كانت أرحلنا رائعة ، مزينة بأنواع من الزينة من كل الألوان ، طرزتها بالحرير والصوف المزين بالفضة يد صناع ، وكانت الأرحل تغطي الحيوان تماما على الرغم من ضخامته. وكان قربوسا الرحل من الفضة أيضا ، أما الزمام فكان من الجلد المضفور بمهارة. كان لنا ، ونحن على ظهور الهجن تحفّ بنا المرافقة ، والشريف يقودنا ، / ٢٠٩ / هيئة مؤمنين حقيقيين يتجهون إلى الحج. وعندما رآنا أحد الأطفال الذين كانوا على قارعة الطريق الذي كنا نمر به أخطأ وقال لرفاقه : " انظروا ، إنهم ذاهبون إلى مكة المكرمة ـ فأجابه أحد الصبية ممن هم أكثر بصيرة ، كيف ذلك؟ إنهم نصارى".

٢٦٨

ولّما كان خروجنا من باب مكة المكرمة فإننا عبرنا معسكر النوبيين ، وأرض المعرض المقام خارج الأسوار ، ثم يأتي بعد ذلك صفين من الحوانيت والمقاهي المشبوهة المنتشرة على جانبي الطريق لمسافة كيلومتر. لقد رافقنا عدد من معارفنا منهم : السيد كول على حصان ، ومصطفى أفندي على بغلته ، والإخوة ساوة ، وآخرون أيضا ، ظلوا برفقتنا حتى الرغامة المقهى الأول من اثني عشر مقهى منتشرة على الطريق من جدة إلى مكة المكرمة. شربنا في الرغامة قهوة الوداع ، وكان الليل قد هبط عندما تفرقنا. كنا في قلب الصحراء ، وكانت الرمال تجعل القافلة تتقدم بخطوات بطيئة ، حتى إن شيئا لم يكن يعكر سكون الليل. وقابلنا في الظلمات قافلة طويلة من الجمال كان الصمت يخيم عليها ، ولم يكن هناك ما يشير إلى مرورها.

بدأنا بعد بضعة أميال نرتقي أحد الشعاب المحصورة بين جبلين منخفضين ، وكانت النجوم تلتمع على قمتيهما كأنها النيران. وكان هناك في أسفل السفح المقابل مقهى البياضة ، وهو ثاني مقاهي الطريق. وكنا ننوي الاستمرار في المسير حتى المقهى الثالث ، بل أبعد من ذلك ، / ٢١٠ / ولكنني أصبت بنوبة من الحمى مفاجئة وعنيفة ؛ مما جعل من المستحيل المضي أبعد من ذلك ، واضطرت القافلة إلى التوقف في المقهى الثاني لقضاء الليل ، ولكن ليس من دون أن يقوم الشريف بنشر حراس من حولنا لتأمين الحماية. لم نحمل معنا خيامنا ، وكان لي بدلا عنها حصيرة نصبت على أربعة أعمدة ، واستلقيت فيها على سجادتي ينتابني القلق من الظرف الطارئ ، ويتملكني الخوف من أن يكون للوعكة التي أصابتني عواقب غير محمودة. ويظن العرب أن سبب

٢٦٩

مرضي يعود إلى شرب فنجان من القهوة مباشرة بعد تناول قطعة من البطيخ الأحمر ، وهذا في رأيهم أمر إن فعلناه فلا نتجاوزه بسلام. ولئن كان ذلك السبب الحقيقي لما أصابني أم لا ، لقد شفيت خلال الليل ، وفي الصباح لم يعد لمظاهر الحمى أي وجود.

ولّما لم تكن الهجن تحمل إلّا راكبيها فإنها سرعان ما أصبحت جاهزة للانطلاق ، ولّما أشرقت الشمس وجدتنا منطلقين. كان منظر القافلة في غاية الروعة. كان أحمد رئيس الجمّالة على رأس القافلة ، وهو يركب هجانا رائعا. ثم يأتي بعده الشريف حامد الذي كان يتسلح بالمترك ؛ وهو عبارة عن قضيب قصير معقوف يستخدمه العرب لتوجيه الجمل من على الرحل. وكان الأشراف وحدهم الذين يباح لهم في الماضي حمله. كنت إلى جانب الشريف أتجاذب معه أطراف الحديث بوساطة السيد دوكيه الذي كان ينقل إليه تساؤلاتي ويترجم لي أجوبته. وكان أصحابنا يتبعوننا على جمالهم ، وكان رجال المرافقة يسيرون على أقدامهم سواء كانوا مستطلعين أم مناوشين ، / ٢١١ / مرة في هذا الجانب وأخرى في ذاك.

تابعنا على تلك الحال طريقنا خلال عدد من الساعات ، نسير في سهل رائع تحيط به الجبال من كل الجوانب ، وليس فيه من الزرع إلّا العوسج وبعض أجمات الأشواك. كان يعسكر في هذا السهل خيّالة كرد عثمان أغا. رأينا من بعيد الخيام البيضاء ، والخيول ترعى بحرية تلك الأشواك.

كانت القافلة تتقدم بهدوء ، تحت شمس لطيفة ، وفجأة ، وبناء على إشارة من الشريف حثت الخطا ، واستمر الجري المصحوب برنين الأجراس نصف ساعة قطعنا

٢٧٠

خلالها بلدات كثيرة. ولم يكن المشاة أقل سرعة في الجري من الهجن ، ولم يتأخروا عنها خطوة واحدة. ولم يخبرنا الشريف أبدا سبب تلك المناورة السريعة ، ولكنني أحاول تخمينه : إنه حالة العداء التي تسود بين العرب والأتراك ، ولما كان الشريف حامد لا يجهل الحقد الذي يكنه السنجق (١) (عثمان أغا) للشريف الأكبر ، فقد كان حامد يخشى أن يتعرض هو نفسه أو نحن لبعض الشتائم من الباشي بوزوق. ولكن الحركة التي فرضها الحذر عليه تمّ تنفيذها فجاءة وكادت تكون قاضية بالنسبة إليّ ؛ لأنني لو لم تتوافر لي الفرصة لاعتياد ركوب الهجان إبّان رحلة سيناء لكنت انطرحت على الأرض. وصلنا نخبّ إلى مقهى حدّة أكبر المقاهي الأحد عشر كلها ، وتقع تقريبا في منتصف الطريق بين جدة ومكة المكرمة. ويتألف مقهى حدّة من / ٢١٢ / سقيفة من أغصان الأشجار يحيط بها عدد من السقائف الصغيرة ، وكل ذلك يتشرف بوجود مسجد في الجوار. نجد في هذه المقاهي حليبا وأرزا ، بل إننا وجدنا خروفا قدمناه هدية للرجال الذين يرافقوننا فأتوا عليه بسرعة كبيرة. كان الحر شديدا ، فجلسنا في ظل السقائف نستريح بضع ساعات ، ولم ننطلق إلّا بعد العصر. كنا حتى الآن نسير بخط مستقيم نحو الشرق باتجاه مكة المكرمة التي كنا نسير على طريقها ، ثم غادرنا الطريق فجأة ، وانحرفنا نحو الجنوب لنتفادى المرور في المدينة المقدسة ، لأنه محظور على غير المسلمين ليس دخولها فقط ، وإنما رؤيتها ولو من بعيد. إذا ، كان

__________________

(١) عن كلمة سنجق انظر : المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية ، موثق سابقا ، ص ١٣٦.

٢٧١

ينبغي الالتفاف بمهارة حتى لا نسترق النظر إليها ، ونحن نعلم أن الحظر يشمل المدينة المنورة أيضا ، بل هو في المدينة المنورة أشد صرامة لأن أهلها أكثر تعصبا وشدة. ولا زال الناس يتحدثون بسخط عن ذلك الطبيب الإيطالي الذي قضى فيها أيام حرب محمد علي والوهابيين أربعة أشهر كاملة بحماية خاصة من محمد علي. لقد أقيمت حول مكة المكرمة أعلام بين كل مسافة وأخرى لتحديد حدود الأرض المقدسة والمحرمة على غير المسلمين ، وحيث لا يجوز أيضا إراقة دم الإنسان أو الحيوان ؛ فالصيد محرم فيها ، ولا يمكن أن نذبح ديكا. إن التعاليم بهذا الخصوص صارمة ، ولم / ٢١٣ / يتركونا نلمح تلك الأعلام الخطرة خوفا من أن تمتد النظرة العابرة إلى أبعد من ذلك. إلّا أنه لم يكن بالإمكان أن يخفى عنا جبل النور (١) ، وهو مخروط ضخم تقبع مكة المكرمة في أسفله ، كان أمامنا ، وكان جديرا بالاسم الذي يحمله ، لأنه كان يلتمع تحت حزم ضوء الغروب. أمّا السهل الواسع والرائع سهل معبرة (٢) (؟) Moebarreh فقد كان يحول بيننا وبين جبل النور ؛ وكانت تعبر ذلك السهل نسور أكثر حظا منا ،

__________________

(١) يقع إلى الشمال الشرقي من مكة المكرمة وفيه غار حراء الذي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعبد فيه ، وفيه أوحي إليه ، وكان قبل الإسلام يسمى جبل حراء. انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٦٣ ـ ١٦٤. وانظر : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٥٦٥.

(٢) كتبت في الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ١١٠Plain of Mubarrah ـ سهل المبرح. ولعل الصواب في ذلك أنه سهل المعابدة الذي أصبح اليوم حيا من أحياء مكة المكرمة بعد أن امتد إليه العمران.

٢٧٢

كانت تمرّ من فوق رؤوسنا لتذهب إلى مكة المكرمة حيث كانت هناك بدون شك أوكارها ، لم نكن إلا على بعد ساعة على الأكثر من مكة المكرمة ، ولكن أحدا لم ينطق باسمها ولو مرة واحدة. وعند الغسق دخلنا في سهل آخر هو سهل العكيشيّة (١) وفيه أدركنا الليل. ثم سرنا ساعتين في ظلام دامس ، وبصمت مطبق. لم يكن أحد يغني ، ولا أحد يتكلم ، وكان يبدو أن لا أحد يتنفس ؛ ولم نكن نسمع إلا صوت تكسر الأعشاب اليابسة تحت خفاف الهجن. وفجأة توقفت القافلة. لقد ضللنا الطريق.

يمر الطريق العادي بين جدة والطائف عبر مكة المكرمة ، ولم يكن العرب الذين يرافقونا بدءا من الشريف حتى العبيد ، قد سلكوا من قبل طريقا غيرها ، لأنه لم يكن عليهم أن يرافقوا قبلنا مسيحيين ، ولم يكن عليهم بالتالي أن يتجنبوا المرور بمكة المكرمة /// ، ولّما كانوا يحرصون على إخفائها عن عيوننا ، فإنهم ضلوا الطريق الصحيحة ، وإن التفافهم على الطريق بدافع التقوى / ٢١٤ / جعلهم يخطئونه ، وبذلوا جهودا لم تنفع

__________________

(١) جاء في معجم معالم الحجاز ، للبلادي ، ج ١ ، ص ١٥٣ ـ ١٥٤ العكيشيّة : بلاد أسفل مكة المكرمة ، كانت لآل السبحي ، بات بها جيش الحسين بن علي أمير مكة المكرمة عند حملته على عسير سنة ١٣٢٩ ه‍. وهي اليوم مزارع عثرية إلى الجنوب الغربي من مكة المكرمة ، يصب سيلها على حد الحرم الجنوبي وتصب فيها شعاب الوتائر ـ جمع وتير ـ من الغرب ، وهذا هو ما كان يسمى الوتير ، أما اسم العكيشية فحادث ، وفيها بئر تسمى بئر السبحي ... وأرضها عبارة عن نهي بين الجبال وكتبها ديدييه Okech.

٢٧٣

للاهتداء إليه ، وأصبح من المستحيل عليهم أن يسلكوا الوجهة الصحيحة. حينئذ تشاور الشريف ورئيس الجمالة بصوت منخفض ، انصرف الأخير مباشرة بعد ذلك مسرعا لاستكشاف الطريق. كنا في تلك اللحظة قريبين كل القرب من مكة المكرمة التي ذهب إليها رئيس الجمالة على الأرجح. وألقينا عصا الترحال بانتظار عودته.

قلت في بداية هذا الفصل إن انطباعي الأول لم يكن إيجابيا عن الشريف حامد ، وإنني فسرت صمته تفسيرا خاطئا ؛ ولم أتأخر في العودة عن حكمي المتعجل ، وفي مؤاخذة نفسي على ظني الذي لم يكن عادلا. إن ما ظننته عجرفة كان خجلا. ولا يمكن تصور الرعاية التي أحاطني بها خلال الرحلة ، والعناية المؤثرة التي خصني بها عندما ألمت بي الوعكة القصيرة في الأمسية السابقة ، والاهتمام الذي أولانيه في مساء ذلك اليوم الذي ضللنا فيه الطريق. كان يخشى أن يكون ركوب الهجان خلال اثنتي عشرة ساعة قد أرهقني ، ولم ينفع التأكيد المتكرر بأنني لست مرهقا في إقناعه بذلك. وكان لايني يعبّر لي بأروع الكلمات وأفصحها عن قلقه وأسفه. لقد أخذ زمام هجاني ، وجعله يسير إلى جانب هجانه ، خوفا من أن / ٢١٥ / ينحرف عن طريقه في الظلام ؛ كان يقوم بكل ذلك على أحسن وجه ، وأتم آيات الأدب.

كان بين المرافقين عبد ضخم ووسيم ، يسمّى : أبو سلاسي Abou ـ Slace ، وكان موضع ثقة الشريف الأكبر ، وكان يبدو أن له نوعا من السلطة على الآخرين ، لم يعرنا منذ الانطلاق أي اهتمام ، ولم يكن لطيفا ، وكان يقوم بما يكلفه به سيده من مهمات باستياء ظاهر. وعندما ضللنا الطريق كان يردد شكوى محزنة ، ويحتج بسفاهة قائلا :

٢٧٤

إن سيده يبالغ فيما يقوم به من أجلنا ، وإننا لسنا في نهاية الأمر إلّا نصارى ، لا نستحق كل هذه التشريفات ، وإن في معاملة الكفار مثل تلك المعاملة في مهد الإسلام إغضابا لله تعالى الذي جزانا بجعلنا نضل الطريق في قلب الظلام.

لقد نبهه الشريف بلطف ، وأظهر له أن كلامه غير لائق ، وقال له : إننا ضيوف الشريف الأكبر ، وهذه الصفة تفرض عليه احترامنا ، وإنه يسيء كل الإساءة إلى سيده بتصرفه الذي لا يتناسب أبدا مع نواياه. وأضاف أن حسن الضيافة هو الواجب الأول الذي يقوم به العرب إزاء الأجانب ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصى بذلك حتى تجاه الكفار أنفسهم ، وأننا نأتي من بعيد جدا لزيارة بلادهم ، وعندما نعود إلى أوطاننا ، ما ذا سنقول / ٢١٦ / عنهم لمواطنينا إن لم نجد في الجزيرة العربية ما نستحقه من تقدير واحترام؟ ولم يفت السيد دوكيه كلمة واحدة من ذلك الحوار ، وأعاده على مسامعي كلمة كلمة في اللحظة نفسها. ولكن" أبو سلاسي" لم يرعو بعدها ، إلّا أنه بدا أكثر تحفظا في كلامه ، ولم يكن ليجرؤ في المستقبل على القيام بمثل تلك التجاوزات.

ظهر أحمد (رئيس الجمّالة) من جديد أخيرا ، وحمل معه كما يبدو معلومات محددة ، لأن القافلة عادت إلى مسيرتها دون أي تردد ، كان عليها أن تعود القهقرى بعض الوقت ، ثم تنحرف فجأة نحو الجنوب ، وترتقي هضبة وعرة لم أتبين في الظلام ملامحها. وعندما وصلنا إلى القمة لمحنا أضواء على البعد ، وسمعنا نباح الكلاب ، ومررنا بعد لحظات قليلة قرب قطيع من الأغنام ؛ أما رعاته الذين لم أتبين إلا أشباحهم السوداء فقد برزوا أمامنا ، وحيوا الشريف باحترام ، وقادونا إلى ملكّية مسورة ،

٢٧٥

واسعة ، مكونة من أفنان متداخلة ، واستقبلنا هناك طاهر أفندي ، أحد خدم الشريف الأكبر ؛ وأستعمل هنا كلمة خادم بالمعنى الذي كانت تحمله في القرن السابع عشر ، للإشارة إلى شخص حر يعمل في قصر أحد الأمراء. كان طاهر أفندي قد جاء من مكة المكرمة في اليوم نفسه لاستقبالنا ، وقد خلصه وصولنا المتأخر من / ٢١٧ / قلق كبير : كان الوقت قريبا من منتصف الليل ، وكان يرتعد خوفا من أن يكون أصابنا أي مكروه. ويالعظم دهشتي عندما رأيت موظف أمير مكة المكرمة هذا يرتدي بزّة أوروبية.

لقد رافقني مصطفى أفندي للقيام بجولة في البستان المسور المسمى الحسينيه ، وهو ملكية زراعية أو رعوية للشريف الأكبر ، اطلعت خلال الجولة على مشهد حقيقي من مشاهد الحياة العربية : كانت الملكية مسورة بإحكام من كل الجهات ، وكانت المساحة الداخلية غير مسقوفة ، وكان الموقد يتأجج في الوسط ، وقد وضع عليه قدر ضخم من النحاس. وكان هناك عدد من الخدم يذرعون البيت جيئة وذهابا ، يقومون على العناية بالطبخ ، أما خدمنا فقد استلقوا حول النار متعبين من يوم شاق.

كان البستان فسيحا يتسع للجميع ، وظلت الهجن وحدها في الخارج ، وكانت قطع من الخشب الصمغي قد أشعلت بمثابة مشاعل ، وتنشر في المكان رائحة قوية طيبة ، وانعكاسات حمراء لها مظهر رائع. ولم يتأخر طعام العشاء : كان عبارة عن خروف ضخم مسلوق كاملا ، إنه خروف الضيافة الأصيلة ، استخرجوه من قعر ذلك

٢٧٦

القدر ، ووضعوه أمامنا في جفنة (١). ثم قام أحد العبيد السود بشقه إلى قسمين بضربة يطقان ، وقامت أصابعنا بعد ذلك مقام شوكات الطعام ، ونال الجميع أسيادا وتبعا نصيبهم من الوليمة. وعندما انتهينا من الطعام قام الخدم بمد السجاد على الأرض الجرداء / ٢١٨ / ، واستلقينا عليه دون أن نخلع ثيابنا ، ونمنا مختلطين ، نلتحف السماء. لم يكن النهوض أقل روعة من النوم ، ولكنه لم يكن مبكرا ، ومع أن الجميع انتهوا بعد فترة وجيزة من الاغتسال ، وكانت الشمس قد بدأت بالسطوع منذ زمن طويل عندما كنا جاهزين للانطلاق. وكان عدد من عبيد المنزل أو بعبارة أدق : البستان ، قد حيونا عند الاستيقاظ بالضرب على طبول صغيرة يحملونها معهم على الدوام. وكان ينتصب أمام الحسينية جبل ثور (٢) حيث اختبأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع صاحبه المخلص أبي بكر رضى الله عنه في الغار للإفلات من مشركي مكة المكرمة الذين كانوا يلاحقونهما. وتذكر إحدى الحكايات المحلية أن النبي داود (٣) عليه‌السلام مدفون في هذا الجبل ، وهناك عدد من الروايات المعروفة بهذا الخصوص. وإن لضريحه ، أو ما يسمى بذلك ، مدخلا

__________________

(١) Madrier ـ جفنة وجمعها جفان وجفنات ؛ وهي ما كانت العرب تضع الطعام به ؛ وقد وصفها ديدييه بقوله : إنها محفورة على شكل صحن.

(٢) يقع إلى الجنوب من مكة المكرمة بحوالي ساعة ونصف الساعة ، إلى الشمال من الطريق المؤدية إلى قرية الحسينية ، وهو جبل شامخ يقال : إنه أعلى من جبل النور. وقد أشار القرآن الكريم في سورة التوبة ، الآية ٤٠ إلى اختباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر في الغار. انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٦٤.

(٣) لم أجد هذا في مكان آخر.

٢٧٧

ضيقا ، لا يدخل منه الرجل المتوسط القامة إلّا بصعوبة : وإن أولئك الذين يستطيعون تجاوز المدخل يصبحون واثقين من خلاصهم ، أمّا الآخرون فإنهم لن يدخلوا الجنة أبدا. ويحكى في مصر مثل هذه الحكاية بخصوص عمودين في مسجد عمرو بن العاص في القاهرة القديمة ؛ إذ يحكي المصريون بخبث أن عباس باشا ، عندما حاول تجاوز اختبار المرور بين العمودين علق بين دعامات الاتهام ، وكانت محاولة إخراجه من بينها من الصعوبة بمكان ؛ ويستنتجون من ذلك بالطبع أنه سيعاقب في الآخرة على الجرائم التي ارتكبها في الحياة الدنيا. / ٢١٩ / انضم طاهر أفندي إلى القافلة ، وكان يمتطي بغلة كما يليق بأفندي مثله ، ورافقنا حتى الطائف. سرنا في البداية في واد عريض جدا ، محاط بعدد من الهضاب كثيرة الحجارة ، وتغطيه رمال شديدة النعومة ، وشديدة البياض ، وكانت بضع أجمات من العشب ذات اللون الأخضر الجميل تخفف من التماع الرمال ، وكانت بعض الأشجار المنتشرة في المكان تنشر ظلالا لا تقدر بثمن ، لأن الحر كان قد بدأ يشتد.

كان هناك عدد من القنوات المائية تشق الأرض ، وتذهب لتصبّ في حوض محفور في الرمال لجمع الماء. وكان هناك بعض قطعان المواشي التي ترعى في الجوار ، ثم تأتي إلى الحوض لتروي عطشها : كانت قطعان من الماعز الأسود ذي الشعر الطويل ، ومن الأغنام الجميلة البيضاء ذوات الآذان المسترخية ، ومن العجول والأبقار من ذوات الحدبات ، وهي أصغر من مثيلتها في أوروبا.

٢٧٨

وكان هناك أطفال شبه سود ، عراة تماما ، يجرون على الرمل بين المواشي ، ورعاة يقاربونهم في السواد ، وهم مثلهم في قلة الثياب التي يرتدونها ، يكملون ، والرماح في أيديهم ، تلك القصيدة الرعوية العربية. كان لون خيامهم داكنا ، وكانت مثل خيام البدو كلهم مبعثرة بأعداد قليلة في سفح الهضاب. قدم لنا أولئك الرعاة المتجولون ، القادمون من الشرق ، والذين يمرون من هنا ، الحليب ، فقبلناه وشكرنا لهم ذلك. إن أكبر إهانة يمكن أن توجهها للبدو هي أن تعاملهم معاملة تجار الحليب : إنهم يعطون حليب حيواناتهم ، ولا يبيعونه أبدا. / ٢٢٠ / تصبح البلاد بعد بضعة أميال أكثر انفتاحا ، وتتجلى في الأفق البعيد الواسع سلسلة من الجبال.

كان الوقت ظهرا ، عندما وصلنا إلى سفح جبل عرفات الذي يقع على بعد ثمانية أو عشرة فراسخ إلى الشرق من مكة المكرمة ، وهو المكان الذي تجري فيه كما ذكرت سابقا المناسك التي تختم الحج. وكان ينتصب في قمة الجبل عمودان يحددان المكان الذي يقف فيه خطيب مكة المكرمة ، ممتطيا ناقة بيضاء ، مزينة بزينة نفيسة ، ليلقي الخطبة التي تعلن نهاية الحج ، والتي ينبغي على الحاج سماعها ليحمل هذا اللقب.

إن هذا المكان المقدس في الإسلام ، القاحل والصحراوي ، يكون في ذلك اليوم مكانا لمشهد رائع ؛ إذ يتزاحم فيه جمع هائل من المؤمنين الذين يجتمعون فيه في زمن واحد ، ويوجد هناك معسكر خاص بكل جنسية من المسلمين ؛ فالعرب ، والأتراك ، والسوريون ، والفرس ، والهنود ، والمصريون ، والمغاربة ، حتى السودانيون ، لكل منهم ،

٢٧٩

معسكره الخاص. وإن الأوروبيين الذين استطاعوا تأمل هذا المشهد العظيم أكدوا جميعا أنه ليس هناك ما يمكن أن يعطي فكرة عنه. يوجد هذا الجبل المقدس على أرض قبيلة قريش التي اكتسبت بذلك شرفا كبيرا ، وتعد واحدة من أكثر قبائل الجزيرة العربية نبلا ، ومع أنها اليوم قد تقلص عدد أفرادها إلى ثلاث مئة (١) شخص. يا للغرابة! إن المسلمين الذين لا يتركون غير المسلم يرى رأس منارة من منارات مكة المكرمة ، ولو لمحا فقط ، يسمحون له بالصعود بحرية إلى جبل عرفات ، وباستكشافه على هواه. ولما ذكرت / ٢٢١ / ذلك التناقض للشريف حامد اصطنع أنه لا يفهمني ، وكان جوابه الوحيد أنه رفع صوته قائلا : " الله أكبر ، ومحمد رسول الله! " ولكن ذلك لم يكن يكفي للإجابة عن سؤالي.

لقد كان يجري في تلك الأنحاء نبع ماء بارد ونمير ؛ وذلك كنز لا يقدر بثمن في تلك الصحراء ، كان النبع يجري من أسفل الجبل ويذهب إلى مكة المكرمة عبر قناة مغطاة ، مبنية ، ومطوية. وينسب الناس شرف هذا العمل إلى السيدة زبيدة إحدى نساء الخليفة هارون الرشيد. وعندما تجاوزنا المدينة المقدسة أدرنا لها ظهورنا.

__________________

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٦٨. ويبدو أن ديدييه استقى هذه المعلومة من رحلة تاميزييه ، انظر : اكتشاف ... ، موثق سابقا ، ص ٢٥٧ إذ تقول المؤلفة : " ... وأخيرا سار الجيش (جيش محمد علي) نحو الطائف في السابع عشر من شهر أيار (مايو) من سنة ١٨٣٤ م وراء عدد من الأدلاء القريشيين الذي حيّر جومار فقرهم البادي. وقد قيل له إن هذه العشيرة التي ينتمي إليها النبي محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يبق منهم إلا ثلاثمائة رجل ...".

٢٨٠