رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

ووجدت هنا دليلين آخرين على ذلك : أولهما يكمن في الطريقة التي تعامل بها العرب مع الأشراف ومعنا ؛ إنها طريقة عفوية وأبية ، ولكنها على الدوام مؤدبة ، وثاني الأدلة يكمن في السمة السلوكية التي أذكرها لكم : كان الشريف حامد يأكل معنا عادة ، ولكنه كان يمتنع عن ذلك في بعض الأحيان ، وفي هذا الصباح على سبيل المثال ، تناول فطوره قبل الانطلاق مع أحمد حمودي ، رئيس الجمّالة ، وآخرين ممن ليسوا من طبقته. لم يكن يتصرف كذلك متصنعا ، ولا سعيا إلى أن يكون له شعبية لديهم ، لقد كان يقوم بذلك ببساطة فطرية ، ولأن ذلك كان يبدو له أمرا عاديا ، متأصلا في سلوك البلد.

لقد تأخر انطلاقنا بسبب حادث مؤسف : إذ أصيب الشريف العجوز عبد المطلب بنوبة حمى شديدة جعلته غير قادر على الانطلاق ، ولا على مغادرة سجادته. كان التغير الذي اعترى قسماته يدل على اضطراب عميق في أعضاء الجسد ووظائفه. وكان هو نفسه يظن أنه يعيش ساعته الأخيرة ؛ ولكنه لّما كان مستسلما لمصيره ، فلم يكن يصدر عنه أية شكوى أو أنين ، ولم يكن يرجو من الله إلّا أن يمنحه القوة كي يستطيع الوصول إلى أهله ليموت بينهم. كان يقول بصوت خافت : " خمسة وسبعون / ٢٧٧ / عاما ، وأنا على ظهر البسيطة ؛ لقد حان الوقت كي ألحق بأسلافي. وأود أن أموت في بيتي بين أهلي وعشيرتي ، وإن كان القضاء غير ذلك فلتتحقق إرادة الله! وإنني راض بما قدره من قبل. أينما يمت المسلم فإنه يذهب إلى الجنة ؛ إذا كان قد التزم خلال حياته بما شرّعه الله في القرآن الكريم ، وأنا التزمت

٣٤١

بذلك طوال حياتي بقدر ما يستطيع الإنسان الضعيف أن يفعل ذلك ، وإن حصلت مني مخالفة فذلك بسبب ضعفي ، وليس أبدا بنية عصيان الله ، وأرجو إذا أن يرحمني ، لأنه الرحمن الرحيم".

لم يقل المريض هذا الكلام متتابعا ، وبصورة خطاب كما ذكرته ، ولكنه كان في الغالب متقطعا بآلام المرض. كنا نحيط به ، والحزن يملأ نفوسنا لحاله ، ولكن لم يكن بوسعنا القيام بأي شيء لمساعدته ؛ إذ لم يكن معنا طبيب ولا صيدلي ، ولعل ذلك بالتحديد ما أنقذه. ولّما تراجعت نوبة الحمى قليلا أصبح بالإمكان وضعه على ظهر هجانه في وضعية مريحة ، ليستطيع تحمل وعثاء السفر. كان الشريف الصغير الذي أظنه من أقربائه المقربين ، يرافقه مع بعض رجال مرافقتنا. وكنت في غاية الرضا عندما علمت في اليوم التالي أنه وصل إلى منزله في حالة أفضل بكثير من حالته عندما غادرنا ، إذ لم يكن قد شفي تماما. وبذلك فشل / ٢٧٨ / مشروع زيارته في بيته خلال مرورنا بديرته.

وكان الشريف الثاني الذي جاء معنا من الطائف قد غادرنا لتنفيذ مهمة المصالحة التي كلفه إياها الشريف الأكبر ، ولم يبق معنا من الأشراف الأربعة الذين كانوا برفقتنا في مساء اليوم السابق إلّا الشريف حامد الذي ظل حتى ساعة الرحلة الأخيرة ، كما كان عليه في ساعتها الأولى ، رجلا لطيفا ، وظريفا ، وحريصا ، وأكثر الرجال كياسة.

انطلقت القافلة أخيرا ، ولكننا لم نسر وقتا طويلا لأننا بعد ساعة على الأكثر توقفنا في سولة ، وهي قرية أحسن بناء من الزيمة ، وبيوتها أكثر تجمعا من بيوت الزيمة.

٣٤٢

يبدأ هنا وادي فاطمة المشهور في الحجاز ، وهو ينتج الخضار التي تستهلكها مكة المكرمة وجدة. إنه متسع كل الاتساع ، ويدين باسمه لفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي‌الله‌عنها ؛ إذ يروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدمه لها صدقة عندما زوّجها عليا رضي‌الله‌عنه. ولّما كان الأشراف ينحدرون منها عبر ولديها الحسن والحسين رضى الله عنهم فإنهم يكنون لهذا الوادي الغني ، والخصب ، وللريف الذي يتبعه ، ويستعير منه اسمه ، اعتبارا خاصا. ويتخذ منه كثير من الأشراف دار إقامة ، ومنهم الشريف اللطيف حامد. ترجلنا من على ظهور المطايا عند باب أحد المنازل الذي كان أصحابه ينتظروننا ، ولكنني لم أدخله لأن الشريف حامدا قادني مباشرة إلى بستان مجاور ، اسمه النص El ـ Noss ، حيث هيأ لي مفاجأة.

لقد كانت مفاجأة سارة ، ومن ألطف ما يمكن أن يكون ، لأن / ٢٧٩ / المشهد لم يكن البتة منتظرا ، ولم أكن قد رأيت أجمل منه منذ زمن طويل ، وفيه بعض أوصاف الجنة كما بينها الله تعالى في القرآن الكريم. ولم يكن ينقص هذا المكان إلّا الحوريات لكي يستوفي كل أسباب الكمال. كان يتعرج عبر هذه الجنة الصغيرة جدول ماء غزير وصاف ، على أرض مملوءة بالحصى الأبيض ، وكانت تعرجات الجدول الأنيقة تختفي في كثير من الأماكن تحت العشب الطويل المتشابك. وتزدهر فيه بروعة ، وتتآلف بدقة ، أشجار البرتقال ، والنخيل ، والموز ، وغيرها من أشجار المناطق الاستوائية ، إنها تختلط ، ويقترب بعضها من بعض ، حتى إن أشعة الشمس القائظة لا تستطيع اختراق ظلالها لشدة كثافتها وعدم نفوذيتها ، وتسود فيه في قلب الظهيرة برودة لذيذة. لم يكن

٣٤٣

هناك ما يمكن أن ينتزعني من محيط الخضرة الذي أستحم فيه ، كنت مستلقيا قرب جدول الماء تحت شجرة موز (١) كانت أوراقها العريضة بمثابة مظلة فوق رأسي ، وتتدلى من حولي كما لو أنها عدد من المراوح ، كنت أود تناول طعام الغداء تحتها ، والبقاء هنا طوال النهار. ونفهم عندما نرى هذه الشجرة التي لا مثيل لها ، لماذا يجلّها الهندوس إجلالا عظيما ، ولماذا يمارسون في ظلها طقوسهم ، ويقدمون تحتها قرابينهم ، ولماذا يجعلون منها المكان الذي يضعون فيه أكثر آلهتهم تبجيلا ، جانيشا (٢) Ganesha ، إلهم الكبير / ٢٨٠ / الذي تجتمع فيه كل الصفات ، ويجمع بين وظائف أبولون (٣) Apollon وميركور (٤) Mercure في التقاليد الهيلنيستية.

__________________

(١) قال البلادي في معجم معالم الحجاز ، ج ٤ ، ص ١٥٠ ، الزيمة : عين ثرة عذبة الماء بوادي نخلة اليمانية ... وهي مشهورة بجودة الموز ، ويغرس إلى جانبه النخل والفواكه. يمر بها طريق مكة إلى الطائف المار بنخلة اليمانية على (٤٥) كيلا.

(٢) واحد من أحب الآلهة وأكثرها شعبية في الديانة الهندوسية بدأت عبادته حوالي عام ٤٠٠ ميلادية وما يزال يعبد حتى اليوم وتبدأ جميع الطقوس الدينية لدى الهندوس بالتضرع إلى جانيشا ، ويمكن أن يكون له عدد كبير من الرموز ، ولا سيما الصدفة أو المحارة والصولجان والقرص وزنبق الماء ، ويضرع إليه الناس قبل القيام بأي رحلة أو في بداية مشروع جديد ، ونجد صوره في مدخل المعابد والمنازل. انظر : معجم ديانات ... ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ١٢ ـ ١٣.

(٣) أحد آلهة الأولمب الاثني عشر في أساطير اليونان ـ وهو إله متعدد الوظائف. انظر : معجم ديانات ... ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٠١ ـ ١٠٤.

(٤) إله التجار والتجارة في الأساطير الرومانية ، وكان يقوم بمهمات عديدة. انظر : معجم ديانات ... ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٤١٢.

٣٤٤

كان يقوم على خدمتي ولد صاحب هذا البستان أو حفيده ، وعمره بين ١٤ و ١٥ عاما ، كان يفعل ذلك دون أن يزعجني ، فيحمل إلي النارنج ؛ وهو نوع البرتقال الوحيد الذي ينتج في هذه البلاد ، ويقوم بتبريد الماء في زجاجة معلقة بالأغصان ، كان باختصار ، يقدم لي ألطف ما يمكن أن يقدم من واجبات العناية بالضيف ، ويفعل ذلك بابتهاج هو من خصوصيات سن الشباب.

كنت متوترا بفعل القحط ، وحر النهار القاسي في اليوم السابق ، استرخت أعصاب جسدي كلها بالتدرج بتأثير ذلك الجو الرطب المنعش. كانت كل طاقات الحياة تستعيد فيّ لدونتها. كنت أتنفس بارتياح شديد ، وكان الدم يجري في عروقي بحرية أكبر ، وقرّت عيناي عندما وقعتا على الكساء الأخضر الفضفاض الذي كان يرفرف من حولي ، بعد أن كانتا متعبتين من التماع الرمل والصخور ، لقد شعرت بالجملة برغد العيش المادي والمعنوي الذي لم أكن عرفته ، أو أنني كنت أظن ذلك. لقد انتهى بي الأمر بفضل الراحة المطلقة ، والاستراحة الطويلة ، واستمرارية الإحساس الفريد واطراده ، الإحساس نفسه على الدوام ، بفضل ذلك كله ، انتهى بي الأمر إلى الغوص في حلم يقظة عميق ، منسلخا عن العالم الخارجي ، وناسيا له تماما ، وانتهى بي أيضا إلى فقدان الإحساس بالزمان والمكان ، وكنت لأيا / ٢٨١ / واعيا بذاتي. من أين أتيت ، وأين أنا ، وأين أمضي؟ ولم أكن أعي ذلك كله إلّا بصورة ضبابية مختلطة.

كانت تتراءى أمامي وتعود إلى الترائي أحداث الرحلة التي قمت بها ومراحلها ، والأماكن ، والصروح ، والأشخاص ، كما لو أنها أضغاث أحلام. ولم أكن ألمح العودة

٣٤٥

إلّا من خلال ضباب كثيف في مكان بعيد سديمي. وإن حدث لي في الفلتات أن أفكر بأوروبا وباريس ، وبأصدقائي وأعدائي الذين تركتهم هناك ، وبالصراع المرير الذي كان علي في الماضي أن أخوضه هناك ، وبسوء الحظ المرير الذي كان يلازمني هناك ، وبالخيانات الغادرة ، وبالمصائب المتنوعة التي حلت بي ، كل هذه الأشياء ، كانت تعبر ذاكرتي كما لو أنها ذكريات مبهمة لحياة سابقة لم تنته أبدا : كان الندم والآلام ، حتى أكثر المشاعر شرعية ، كل ذلك ، قد خبا في غمرة انغماسي فيما يفوق الوصف من سكينة وسلام.

استمرت هذه السعادة البالغة ، هذا الكيف ، بالعبارة المحلية المناسبة لوصف حالة الجسد والروح التي كنت فيها حينئذ ، سبع ساعات كاملة ، وقد مرت هذه الساعات السبع كما لو أنها ثانية واحدة. لقد أعادني إلى الواقع نفير الانطلاق ، لأنه كان ينبغي في نهاية الأمر أن ننطلق ، وبينما كنت منغمسا في الملذات الهانئة لذلك المنتجع الريفي (١) ، كان يجري على بعد خطوات أمام البيت الذي نزلنا فيه مشهد / ٢٨٢ / مختلف تماما ؛ لقد كان عمل الشريف حامد يقتضي منه أن يكون في مكة المكرمة ، إلّا أنه كان يقيم ، كما سبق لي القول ، في وادي فاطمة ، وله فيه بيته وحريمه ، وكان يقضي هناك كل الوقت الذي تتركه له أعماله. لقد كان بالتالي معروفا هناك ، ومحترما ، والناس كلهم يحبونه ، ولّما ذاع نبأ وصوله إلى سولة جاء بدو الجوار زرافات ، بعضهم للسلام عليه فقط ، والآخرون لمذاكرته في شؤونهم. وجدته هناك في وسط حلقة من

__________________

(١) في الأصل Gapoue ـ اسم منتجع ريفي في إيطاليا.

٣٤٦

البدو ، يجلسون القرفصاء حوله ، وكلهم آذان صاغية. كان يوجه للجميع كلاما لطيفا ؛ إنها محكمة في الهواء الطلق ، تثير الإعجاب حقا ، وكنت على الخصوص مأخوذا باللياقة وبالهدوء اللذين كانا يسودان هذا الجمع الغفير.

نهض كل الحاضرين لدى وصولي ، وحيّوني بلطف كبير. ولّما كنت ضيف الشريف ، فإن احترامي من احترامه ، ناهيك عن أنني ما زلت ضيف الشريف الأكبر الذي كان ، على الرغم من بعد المسافة ، يسبغ عليّ حمايته بعد أن سارت الركبان بخبر استقباله لنا. كان وجودنا يثير خيال العرب فتعددت الروايات وشاعت حول هدف رحلتنا. علمت فيما علمت ، عند عودتي إلى جدة ، أن بعض الناس حسبونا اثنين من الباشاوات أرسلهما السلطان للقبض على الشريف الأكبر ؛ كان بعض أولئك البدو (من أتباع الشريف) يرافقوننا / ٢٨٣ / في الذهاب ، وقد كان بإمكانهم إطالة الطريق لو أن الشريف حامدا أراد ذلك.

كنا نسير في واد يشبه الوادي الذي قطعناه في الصباح ، كان محاطا مثله من كلا الجانبين ببساتين ، وتغطيه في الوسط الرمال الجرداء التي تنتشر فيها بعض الجنيبات الشوكية. ولا يمكن لشيء أن يعطي فكرة عن هذا النوع من الأودية أفضل من تخيل نهر عريض يجري بين شطين تنتشر عليهما الخضرة ، ولتخيل ذلك الوادي نستبدل بالماء رملا. سيكون من التكرار الممجوج القول : إن الجبال الجانبية جرداء تماما ؛ لأنها تتشابه في هذا الجانب ، وكان في آخر الوادي جبل مميز بشكله من الجبال الأخرى كلها : فبدلا من النتوءات والقبب التي تتوج الجبال الأخرى كانت قمة جبل الحرة ، وهو اسمه ،

٣٤٧

مستوية تماما حتى إن قطعها يحتاج إلى أربعة أيام. كنا قد انطلقنا متأخرين ، وكان الليل سيدركنا قريبا ، ليل هادئ ومضاء كما هو حال كل الليالي في هذا الجو البهيج. كنا مستريحين بفضل التوقف الطويل في سولة ؛ لذلك كانت القافلة تسير بسرعة وخفة ، وكان الجميع في أحسن حال ، وخصوصا العبد مرزوق الذي كان يسلينا بحيويته وبسروره الدائمين. كان مكلفا بخدمتي حصرا ، وكان يمشي إلى جانب هجاني ، وكنت من وقت إلى آخر أردفه ورائي ، وقد بدا متأثرا كل التأثر بهذا الاهتمام / ٢٨٤ / الذي قابله بمضاعفة اهتمامه بي. ولّما اقتربنا من الريان ؛ وهي قرية في وادي فاطمة حيث يسكن الشريف حامد ، وكان علينا النوم فيها ، سمعنا من بعيد صوتا منغما ، وأجابه صوت مماثل انبعث من وسط القافلة ؛ ثم ساد الصمت ، وبعد لحظات قليلة وجدنا أنفسنا وجها لوجهه مع جماعة من الناس ؛ منهم من يمشي ، ومنهم من يمتطي الهجن ؛ لقد كانوا من أسرة الشريف حامد ومن خدمه ؛ الشريف حامد الذي تقدمنا ، ولم نتأخر في الوصول جميعا معا إلى منزله.

يقع منزل الشريف في مكان قليل الجاذبية ، محروم من أي ظل ، ويرتفع على بعد خطوات منه جبل من الجرانيت ، ليس فيه أي خضرة ، تسكنه نسور من النوع الكبير. كان المنزل مؤلفا من عدد من البيوت المربعة ، المنخفضة ، وغير المنفصلة ، ويفصل بينها أفنية وجدران : كان يسكن في أحدها الخدم من الرجال ، وفي آخر ، أكبر من الأول تسكن الحريم ، وكان بيت ثالث يستخدم ديوانا ، ويجلس فيه رب البيت خلال النهار ، ويستقبل فيه الأجانب والزوار ، ويصرّف شؤونه ؛ وقد أعدوا لنا هذا البيت. نمنا

٣٤٨

فيه ، ومكثنا الصباح كله فيه ؛ وكان يتألف من غرفة واحدة في الطابق الأول ، ومن مصطبة / ٢٨٥ / فوقها. وقد أقيم حول الغرفة ديوان للجلوس ، وكانت هناك عدة قطع من البورسلين ، والزجاجات البيضاء معروضة في طاقات محفورة في قلب الحائط. كان السجاد النفيس والعديد هو الفرش الوحيد في المنزل : لقد عددت منها ما لا يقل عن خمس عشرة سجادة ممدودا بعضها فوق الآخر. كانت تلك الغرفة الوحيدة تطل على الفناء الرملي ، والمسور بجدار من الحجر.

كان جانبا الباب مزينين من الخارج بسلسلة من الدوارق الجميلة جدا ، الموضوعة على دعامات صغيرة من الخشب المطلي بألوان زاهية. وجرت العادة أن تعطر تلك الدوارق قبل ملئها بالماء ، وليس ذلك مناسبا ، لأنها تجعل للماء طعما غريبا لا يستسيغه الذوق.

واعتمادا على ما قلته وأعدت القول فيه ، عن لطف الشريف حامد فإنه يمكن أن نتخيل الطريقة التي استقبلنا بها في بيته. إن أولى فروض الضيافة لدى العربي ، هي أن يجعل ضيوفه يأكلون كثيرا ، وينبغي على الضيوف مجاملته ، والأكل من كل أصناف الطعام التي يقدمها لهم ، ولو كان عليهم أن يرتكبوا عشر مرات في اليوم خطيئة الشره. وقد أفرط الشريف في الالتزام بتلك العادة. كان الخروف المحشو بالرز واللوز الذي قدموه لنا في العشاء هائلا ؛ ولم يكن خروفا الفطور والغداء بأقل من ذلك ، ناهيك عن عدد كبير من الأكلات المحلية ، والحلويات ، والمربيات ، ومسك ختام كل ذلك كمية

٣٤٩

ضخمة من الأرز واللحم والتوابل (البيلاف). / ٢٨٦ / كيف السبيل إلى الأكل بشهية في مثل هذه المأدبة؟ قدموا لنا الطعام على الطريقة المعتادة في هذا البلد ، أعني على الأرض ، وإلّا فعلى طاولة مستديرة ترتفع عن الأرض مقدار ست أصابع ، ويغطيها طبق من النحاس يسمّى : صينية ، يتحلّق المدعوون حولها ، ولم أجد ذلك مريحا ، وأقل منه راحة أيضا أن تجد نفسك مجبرا على الأكل باستخدام أصابعك دون صحون ولا فراش. وكان الإبريق يؤدي مهمته بانتظام ، لأن كل واحد من الحاضرين يغسل يديه بعناية قبل الطعام وبعده.

أجبرت مستضيفنا على أن يأكل معنا على الرغم من أنه كان يمتنع عن ذلك باعتباره ربّ المنزل ، كان لأتباعه وعبيده وخدمه مظهر حسن ، كانت تبدو عليهم جميعا علامات النظافة ، يلبسون ثيابا جميلة جدا ، وكان بعضهم ينتطق ، وهو يقوم بعمله ، الخناجر. كانوا يقومون بخدمتنا بلطف نادر ، مقتدين في ذلك بسيدهم.

كان صباح اليوم التالي قائظا ، قضيته في راحة تامة. كنت قريبا جدا من الحريم ، وكنت أسمع بوضوح جلبة النساء ، ولكن دون أن ألمح أيا منهن. لا ينطق الشريف بكلمة واحدة عن أسرته ، والعرب لا يتحدثون أبدا عن حياتهم الأسرية ، وإنه لمن غير المناسب أبدا أن تتحدث معهم عن ذلك. إلّا أنني في مقابل ذلك تعرفت على عدد من أشراف المنطقة جاؤوا لزيارتنا. كان بعضهم ما يزال يافعا ، وبعضهم الآخر / ٢٨٧ / في سن متقدمة. كان لأحد هؤلاء المتقدمين في السن لحية بيضاء موقرة كل الوقار ،

٣٥٠

وإذا حكمنا بما لقيه من الاحترام ، فقد كان من ذوي الاعتبار ، إلّا أنني لم أستفد منه ، ولا من أضرابه أي فائدة. إن العرب متحفّظون كل التحفظ مع الأجانب ، بل هم كذلك بينهم أيضا ، ونتج عن ذلك أن حديثنا لم يكد يخرج من إطار المجاملات والعموميات. أتعرفون ما الذي يدهشهم عندنا؟ إنها أقلامنا التي تكتب بلا مداد ، وكبريتنا الكيمائي الذي يشتعل بلا نار.

لقد ألح مستضيفنا الكريم إلحاحا كبيرا ليجعلنا نبقى في ضيافته إلى اليوم التالي على الأقل ؛ ولكن لطفه كان يقتضي الفطنة منا ، وألححت لكي ننطلق في اليوم نفسه. وانطلقنا بالفعل في الثانية ظهرا ، في أكثر أوقات النهار قيظا. لم يستطع الشريف حامد أن ينطلق في الوقت نفسه بسبب بعض الزيارات ، وبعض الظروف القاهرة ، واستقر الأمر على أن يلحق بنا في المغرب.

وما كدنا نخرج من المنزل حتى سلكنا مضيقا منحدرا وعرا ، يضيق شيئا فشيئا بين جبلين عموديين ، وهناك أرصفة صخرية ضخمة على وجه الأرض تجعل الممر شاقا وزلقا. ولجنا في آخر النهار سهلا واسعا ، سيّئ السمعة ، مما جعل أحمد حمودي الذي كان يقود القافلة في غياب الشريف ، ويظل خلفها ، يلتحق بنا / ٢٨٨ / عندما اقتربنا من قرية : أبو شعيب التي يشاع أن سكانها لصوص مهرة ؛ إنها مثل الزيمة تتألف من عدد من البيوت المتفرقة التي يشرف عليها حصن صغير متهدم ، وهناك على جانب الطريق بئر مطوية ، كانت بعض النساء يمتحن الماء منها ؛ لأنهن في

٣٥١

الصحراء المسؤولات عن هذا العمل ، ونرى في الكتاب المقدس (العهد القديم) أن الأمر كان كذلك في عهد آباء الجنس البشري ؛ فعلى البئر قابل يعقوب راحيل (١) Rachel ، وموسى صفورة. لم نر أحدا آخر في هذا المكان المشبوه ، ولم أر رجلا واحدا ، لا في القرية ولا في نواحيها. وتأتي بعد هذه القرية ، قرية أخرى اسمها بوجاري Bougari ، سيئة السمعة كسابقتها ، وهناك أدركنا الشريف حامد يسوق هجانه مسرعا. واستمر بنا السير إلى وقت متأخر في وسط الظلمة التي كان الهلال يخفف منها بضوئه السحري ، وقضينا الليلة في مقهى حدّة. كنا بذلك قد وصلنا إلى النقطة التي يلتقي بها طريقا الطائف بعد التفاف طويل لكي نتجنب الاقتراب من مكة المكرمة أو رؤيتها حسب التعاليم الإسلامية.

أغمضت عيني بعض الوقت لأننا كنا محاصرين بالجرذان وغيرها من زوار الليل التي لم تكن أقل إزعاجا منها ، لأنها كانت تختبئ في حصر المقهى ، وكنت أسمع طوال الليل أصوات مرور القوافل التي يعلق بعضها أجراسا بأعناق رواحلها ، وهي عادة وجدتها بعد ذلك / ٢٨٩ / في سمرن (٢) Smyrne ، في موسم جني العنب. كانت هذه

__________________

(١) ابنة لابان Laban الصغرى في الكتاب المقدس (العهد القديم) ، أحبها يعقوب ، وكانت إحدى زوجاته وأنجب منها يوسف وبنيامين ... وماتت راحيل في طريق إفراتةEprath " بيت لحم" بعد أن وضعت مولودها الثاني بنيامين فنصب يعقوب عمودا على قبرها وهو عمود راحيل إلى اليوم (سفر التكوين الإصحاح ٣٥ : ٢٠). انظر : معجم ديانات وأساطير العالم ، موثق سابقا ، ٣ / ١٧١.

(٢) مدينة في تركية.

٣٥٢

الطريق هي طريق جدة إلى مكة المكرمة ، وكانت القوافل كلها تتوقف ، ولو لحظة في حدة ، وقد كان فيها عندما طلع النهار عدد كبير من المسافرين ، وكان بينهم مفرزة من جنود المدفعية الأتراك ، وقد كان السيد دوكيه يعرف قائدهم : قدّمت له قهوة الصباح ، وعلمت منه أنه يتوجه إلى مكة المكرمة ليأخذ أحد المدافع الحربية ويتوجه بها إلى الشريف الأكبر ، وكان هذا الأخير قد طلبه من الباشا لاستخدامه في تأديب إحدى القبائل المتمردة.

ولمّا كان الشريف الأكبر لا يملك لا مدفعية ، ولا فرسانا ، ولا جنودا منظمين فإنه كان مجبرا ، على غير رغبته كما نظن ، أن يطلب ذلك من السلطة العثمانية كلما كان بحاجة إليه لإخضاع القبائل التي يحكمها أو من المفترض أنه يحكمها ، والتي تتمرد عليه. وينتج عن ذلك أنه لا يلجأ إلى القوة إلّا عند الحاجة الشديدة ، وبعد أن يستنفد كل وسائل الصلح.

كنت في أرض أعرفها ، ولم يحدث في اليوم التالي ما يهمني. لقد رأيت من جديد خلال مرورنا خيام الباشي بوزوق ، وقد وجدنا أنفسنا بعد مسافة قصيرة وسط زمرة منهم كانت تعود إلى معسكرها. وكان الشريف حامد لا يود لقاءهم ، ولكن تجنبهم كان مستحيلا / ٢٩٠ / ولم يكن في اللقاء على أية حال ما أزعجنا : فقد كانت علائم الذل تبدو عليهم ، وهم عادة متغطرسون ، وبدوا مؤدبين ولو قليلا. ويبدو أن سبب ذلك ما أخبرونا به من أن سنجقهم (قائدهم) كرد عثمان أغا قد عزل ؛ إذ كانت عداوته للعرب عموما وللشريف الأكبر خصوصا معروفة ، وكان عزله بالنسبة

٣٥٣

إليهم نصرا حاسما. كان الخبر صحيحا بدليل أننا قابلنا في مقهى البياضة ، وهو المكان الذي أصبت فيه بالحمى في بداية الرحلة ، بديل عثمان ، وكان يذهب لاستلام منصبه على صوت الطبلة التي يستخدمها الجنود غير النظاميين في مسيرتهم ، وكانت حاشية ضخمة وباهرة ترافق القائد الجديد. ولمحنا عند الظهيرة البحر في الأفق. كان الجو قائظا مع أن الهواء كان عاصفا ؛ ولم يكن ليحمل أية برودة ، بل كان يلفح وجوهنا بلظى النار ، ويثير حولنا سحابات من الرمال. ومع أننا كنا قريبين كل القرب من المدينة فإننا توقفنا طويلا في الرغامة حيث ودعنا قبل اثني عشر يوما أصدقاءنا في جدة. والرغامة مكان كئيب كل الكآبة ، وقبيح كل القبح ، ولكن المصادفة جعلتنا نجد فيه لبنا لذيذا منعشا. وكان هناك أحد الجنود غير النظاميين ، تأخر عن زملائه ليريح حصانه ، وقد لقينا منه / ٢٩١ / ، وهو أمر غريب ، عناية فائقة.

إن عزل كرد عثمان أغا قد أذلّ أولئك الأجلاف. أدى الشريف حامد بالقرب مني بخشوع صلاة العصر ، ثالثة الصلوات ؛ ولمّا انتهى من صلاته حملنا عصا الترحال ، ودخلنا جدة قبل الرابعة عبر باب مكة المكرمة. كنت في اليوم التالي حريصا بالطبع على زيارة الشريف حامد في بيت مصطفى أفندي ، وكيل الشريف الأكبر ، وقد وافقا على دعوتي لهما لتناول العشاء ليودع بعضنا بعضا ؛ وذلك في سكني المؤقت ، ودعوت أيضا السيدين كول ودوكيه ، وصديقي خالد بيك بن سعود الذي كانت سعادتي حقيقية برؤيته من جديد. تكفل غاسبارو بإعداد الطعام ، عدا الخروف المحشو الذي لم يكن يعرف طريقة تحضيره كما ينبغي ؛ لذلك عهدنا بتحضيره إلى طباخ محلي مشهور

٣٥٤

في جدة بمهارته في ذلك ، فحضّره في بيته ، وجاء إلينا به في الوقت المحدد ، وقد أتقن تحضيره كل الإتقان. يشوى هذا الخروف الذي يعد الوجبة الرئيسية لدى الشرقيين مطمورا في فرن محفور في الأرض لهذه الغاية ، وأعترف أن اللحم المشوي بهذه الطريقة يبلغ حدا من الإتقان غير معروف في فن الطهو الغربي (١).

لقد شهد عشاؤنا اضطرابا غير عادي ؛ فقد وصل خالد بيك بن سعود ، وعلامات الأسى بادية عليه ، وقد احمرّت عيناه من الدموع. لقد أخفى سبب هذا الحزن الشديد عنّا باعتبار أن الأمر حدث أسري ، والعرب كما سبق لي القول ، لا يتحدثون أبدا عمّا يحدث لنسائهم. ولكنني علمت من / ٢٩٢ / مصدر آخر سبب الحزن الذي كان يعتريه ؛ وإليكم ما علمته.

في مرحلة من مراحل حياته التي أجهلها ، قامت إحدى النساء العربيات بإنقاذ حياته ، وذهب أخوها ضحية ما قامت به هذه المرأة ، وقد تزوجها خالد بيك بن سعود اعترافا بجميلها ، وكان يحبها ويحنو عليها. كانت حينئذ مريضة ، وكان قلقا كل القلق على حالتها ، ولمّا ألححت عليه لبّى دعوتي خوفا من أن يكدرني بغيابه. ولم أكن قاسيا كي أفرط في استغلال لطفه الشديد ، بل سارعت إلى إخباره أنه في حلّ

__________________

(١) تعرف هذه الطريقة في الطبخ ب" المندي" ، وهو وضع برميل من حديد أو جرة كبيرة من فخار في حفرة في الأرض ، ثم يوضع بها مقدار من الحطب وتشعل فيه النار حتى يصبح جمرا ، ثم ينزل الخروف أو اللحم أيا كان على الجمر على أن يكون بينهما عازل ثم تغطى هذه الحفرة بالتراب بإحكام حتى ينضج اللحم وعادة يكون بعد ساعة ونصف من وقت دفنه ، وهي طريقة اشتهرت في حضرموت.

٣٥٥

من دعوتي ، فانتهز ذلك للعودة فورا إلى منزله ، وقد أثبت لي تسليمه علي عند المغادرة كم كان متأثرا بحسن تصرفي.

وقد تلا هذا الظرف الطارئ ظرف طارئ آخر ؛ فقد انتظرنا الشريف حامدا ومصطفى أفندي ساعتين كاملتين ، وعندما وصلا أخيرا كان يرافقهما ثمانية أشخاص غير مدعوين ، منهم أحمد حمودي ، مما أحدث بعض الاضطراب في الخدمة. وبعد هذا التأخير ، أدركنا المغرب في وسط العشاء ، وغادر مدعوونا الطاولة لمّا سمعوا نداء المؤذن لأداء الصلاة في غرفة مجاورة. إنني ، باختصار ، لم أر في حياتي عشاء أكثر تهافتا ، وأكثر / ٢٩٣ / اضطرابا. لا يمكن إتقان الأمور إلّا في بيئتها المناسبة. كانت لحظة الوداع حرجة ؛ إذ لم يحصل رئيس الجمّالة ومن رافقونا إلى جدة على بخشيشهم في الطائف ، وقد وزعنا عليهم تلرات تتناسب مع طول بقائهم معنا ، والتعب الذي اعتراهم من خدمتنا ، وأضفنا إلى بخشيش رئيسهم ثوبا أحمر طارت له نفسه فرحا ، ولبسه على الفور ، وجاب السوق لتراه المدينة كلها.

لم يكن بوسعنا نسيان الشريف حامد نفسه ، فقدمنا له تذكارا هو وشاح كشميري ، ثمنه ألفا قرش ، وقد بدا راضيا عنه كل الرضا ، ووعدنا أن يلبسه إكراما لذكرانا. وقد علمت ، بكل أسف ، أنه لم يلبسه طويلا ، لأن هذا الرجل النبيل ، الأنموذج الكامل للسيد العربي ، توفي بعد بضعة أشهر من تاريخ عودتي إلى فرنسا.

٣٥٦

الفصل الثاني عشر

بعض التأملات

لقد قصصت بالتفصيل ، بلا زيادة ، ودون أية مبالغة ، كيف / ٢٩٤ / استقبلني الشريف الأكبر. لم أكن بالتأكيد أنتظر مثل ذلك الاستقبال الذي يذكّر بأجمل أيام الكرم العربي التي تحدثت عنها قصص" ألف ليلة وليلة" الرائعة. لمّا وصلنا إلى جدة كنا نحدّث أنفسنا بزيارة الطائف كما فعلنا عندما وصلنا إلى الطور ، وزرنا جبل سيناء. لقد طلبنا ، أو رجونا أن يطلب لنا ، السماح من الأمير ـ الشريف لزيارة مكان إقامته ؛ لأننا كنا نظن أننا بذلك نقوم بإجراء شكلي لا يمكن تجاهله ، كما نفعل في أوروبا عندما نطلب من السفراء وضع تأشيرات البلاد التي سنجوبها على جواز السفر ؛ ووضعنا في حسباننا أن استقبالنا سيكون للإجابة بأنه يسمح لنا بمجرد الزيارة ، شرط ألا نبالغ في ذلك ، وأن زيارتنا ستكون على مسؤوليتنا الخاصة ، وعلى حسابنا ، وكما يحلو لنا أن نقوم بذلك. وقد رأينا أن الأمور سارت على خلاف ما كنا نتخيل تماما.

لقد سئلت في بعض المرات ، وسألت نفسي ، عن سبب مثل ذلك الاستقبال الذي حظيت به ورفيق رحلتي ؛ لأن الأمير ـ الشريف لم يكن في واقع الأمر يعرف أحدا منا ، وإذا قبلنا فرضا أنه أراد أن يكون لطيفا مع القنصل البريطاني الذي نقل إليه رغبتنا فيعامل من أوصاه بهم القنصل معاملة جيدة ، فقد كان بإمكانه أن يحقق ذلك بأقل مما فعل.

٣٥٧

لقد كان السيد كول (القنصل البريطاني) نفسه مندهشا من تلك الطريقة الرائعة في السلوك. ومعاذ الله أن تكون غايتي من البحث عن السبب هي التقليل / ٢٩٥ / من قيمة ذلك الكرم الرفيع ، لكي أزيح عن كاهلي أعباء الاعتراف بالجميل ، ولن يكون في بحثي عن الأسباب أي نوع من أنواع إنكار الجميل.

إن العرب حذرون بطبعهم ، وخصوصا من الأوروبيين ، والعرب يرون بواعث سرية تكمن وراء تصرفات الأوروبيين كلها ، حتى لو كانت غير ذات بال. والحال أنه من الطبيعي ، في الحالة السياسية التي كانت الجزيرة العربية تعيشها آنذاك ، أن يكون وجود بريطانيّ وفرنسي يجوبان الحجاز مدعاة للشك ، وأن يظنّ أن حكومة كل منهما أرسلت مواطنها لدراسة الوضع في البلد ، واستطلاع مدى ارتباطه بالباب العالي ، وموقفه منه. وعلى الرغم من أن ذلك غير صحيح ، فإنه غير مستبعد ، ولا مبالغ فيه بسبب الظروف ، وإن شك الشريف الأكبر بذلك جعله يعاملنا تلك المعاملة ، باعتبار أنه كان لذلك الشك أساس متين. وحتى لو كان الأمر كذلك ، فإنني أكرر أن اعترافي بالجميل لا تشوبه شائبة. كان الشريف الأكبر حريصا خلال حديثه معنا على ألّا يظهر أي تحيز لصالح روسيا ، بل بدا قاسيا بأحكامه عليها ، معاديا لها ، ذا موقف هجومي ؛ مع أنه من المستحيل أن تجد عربيا ، بله الشريف الأكبر ، لا يكنّ تعاطفا خفيا لأعداء تركية. ولا ينبغي أن ننسى أنه ليس للأتراك حق في الجزيرة العربية أكثر مما للنمسا في إيطاليا على سبيل المثال ، وأكثر مما لروسيا في بولونيا ، وأن الأتراك يسيطرون على الجزيرة العربية بالقوة بعد / ٢٩٦ / أن أسقطوا حكومة الأشراف الوطنية ، وبعد أن

٣٥٨

وقع غالب والد الشريف عبد المطلب ضحية خيانتهم المشهورة ، ومات في المنفى بعد أن نفوه إلى أراض تابعة للدولة العثمانية ، وقضى ابنه عبد المطلب نفسه أربعا وعشرين سنة من عمره في ذلك المنفى ، ولمّا عاد في النهاية إلى وطنه ومنصبه الوراثي لم يكن له إلّا ظل سلطة محدودة.

إن كل ما يضعف الباب العالي لا بد له أن يلقى قبولا في نفوس العرب عموما ، وفي نفس الشريف الأكبر خصوصا ، وأن يمنحهم أملا مشروعا في التخلص من الأتراك. وعلى العكس ، إن كل ما يجعل الأتراك منيعي الجانب يحزنهم بالضرورة ، ويزيد من أمد خضوعهم لهم.

ولست أرى سببا وجيها للكيل بمكيالين ؛ بأن ننكر على العرب تطلعهم للاستقلال ، ونجد ذلك عدلا عند الإيطاليين والبولونيين ، وعند كل الشعوب الأوروبية التي تعاني من السيطرة الأجنبية. إن الأصيل يظل على الدوام أصيلا ، وينبغي ألا يجعله كونه بالطبع أقل ذكاء وقيما ممقوتا من أولئك الذين يستبد بهم ؛ وإن وصوله بنفسه إلى مرحلة التهالك يجعله يحافظ على ما اغتصبه بالمكر والفساد ومساعدة الآخرين.

تلك هي بالتحديد وبالاختصار حال الأتراك مع العرب ، كما هي حالهم أيضا مع اليونانيين والسوريين ، ومع كل الشعوب التي خضعت لهم في الماضي. لم يعد / ٢٩٧ / باستطاعتهم الدفاع عن أنفسهم ، ويقمعون الآخرين ، وإن ذلك ، مهما يمكن أن يقال : وضع خاطئ ، ومخالف للواقع ، وينبغي أن يوضع حد له ، ولا يمكن أن يستمر زمنا

٣٥٩

طويلا ؛ وإن كل المؤتمرات والبروتوكولات لن تجعل تركية تنبعث من جديد ، لقد انهارت ، وكان يمكن أن يزول اسمها منذ زمن طويل من على الخريطة لو لا أن الغرب اتفق على اقتسام تركتها. إن كل خطط الإصلاح التي نباهي بها في هذه الأيام ، والتي ليست في واقع الأمر إلّا أطماعا ، هي أوهام وأكاذيب. ويمكن أن استشهد بتلك الشخصية التركية المرموقة التي أرسلت إلى مؤتمر السلام في باريس ، والذي كان أول الساخرين من الأمر السلطاني (١) المشهور في شهر فبراير (شباط) الماضي ، وصرح علانية أنه لا يمكن قبوله أبدا.

إننا لا نصلح من مات ، ولكن ندفنه ؛ وإن لم يقم جيلنا بهذا الواجب فإن الجيل القادم سيقوم به. وتكمن في هذا ، المسألة الشرقية التي سبق طرحها ، والتي عالجها مونتسكيو (٢) Montesquieu قبل أكثر من قرن ، وتحدث عنها مستخدما الكلمات نفسها التي نستخدمها اليوم ، واقترح لها الحلول نفسها التي نطرحها اليوم.

__________________

(١) استخدم ديدييه مصطلحا تركيا جاء في الأصل Hat ـ Houmayoum ، والصواب Hatt ـ I ـ Hmayn (خطي همايون) ، وهو الاسم العام الذي يطلق على الأوامر الصادرة من السلاطين وبكتابة أيديهم أو ما حرره الكتاب وأمضاه السلطان ... وقد سمي الخط الهمايوني بالخط الشريف أيضا. انظر : المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية ، موثق سابقا ، ص ١٠١. ويبدو أن المقصود هنا هو الأمر السلطاني الذي قضى بقبول إنهاء الحرب مع روسيا والذهاب إلى مؤتمر السلام الذي عقد في باريس في مارس (آذار) ١٨٥٦ م.

(٢) مونتسكيوMontesquieu ـ (١٦٨٩ ـ ١٧٥٥ م) : كاتب وفيلسوف سياسي فرنسي ، أشهر آثاره" روح القوانين L Esprit des Lois " (عام ١٧٤٨ م).

٣٦٠