رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

كان عليّ أن أرسل في الأمسية التي وصلنا فيها رسالة إلى المهندسين الفرنسيين المقيمين في وادي حبران ، وقد طلبوا منا لحمل الرسالة مبلغ ٤٠ قرشا ؛ وهو مبلغ ضخم في هذا البلد. وكان يمكن لأول أعرابي نراه أن يحمل الرسالة مقابل مبلغ أقل بعشر مرات مما طلبوا ؛ لقد ساومنا واتفقنا على دفع نصف المبلغ ، ولسنا بحاجة إلى القول : إن الدير يحتفظ بالمبلغ كله ، أما المراسل المسكين فإنه لا يحصل على بارة واحدة مقابل تعبه. إن الرهبان اليونانيين الذين يحسبون حساب كل شيء ، بادروا من قبل ، ولكي لا نضع في حسابنا الحصول على أية منافع ولو كانت صغيرة ، إلى التلميح بخصوص الرسالة التي حملناها إليهم من كوستا إلى أنها كانت كافية لتفتح أبواب الدير لنا ، ولكنه كان من الأفضل أن نطلب رسالة من سلطتهم العليا في القاهرة ، وإن ما ينبغي معرفته أن هذه الرسالة تشترى بريال فضي واحد ، بينما لا يستفيدون شيئا من رسالة كوستا. لقد أوصونا في اليوم التالي وألحوا في وصاتهم أن نعطيهم حتى مخصصات الخدم الذين رافقونا في رحلتنا إلى جبل سيناء بحجة أن الخدم سيفقدون تلك الأموال بين الصخور ؛ لقد كانوا بكل بساطة يودون الاحتفاظ بها لأنفسهم ؛ ولم يكن ذلك إلّا بداية واعدة ، وفّت فيما بعد بما وعدت. / ٧٩ / لقد أجبرونا بادئ ذي بدء ، وأكاد أقول بالقوة ، على شراء عجينة من التمر من صنعهم ، وسبحات هزيلة صنعوها من سبحاتهم القديمة ، وثمار المنّ معبأة في علب من الصفيح ، وخواتم فضية عليها الأحرف الأولى من اسم القديسة كاترين ، وغير ذلك من طرائف موجوداتهم ، بثمن باهظ. أما بخصوص الطعام فإن الأمور كانت تجري على الشكل

١٢١

التالي : يأخذ الدير على عاتقه تقديم الخبز لكل زائر وذلك موجود في شروط تأسيسه. يوزع ذلك الخبز اليومي في الصباح على البدو والبدويات ؛ لأنني رأيت هنا عددا منهن ، وكان بينهن واحدة شابة وجميلة ، لها عينان ساحرتان ، وأسنان لامعة ، ولم تكن محجبة ؛ وإن نساء البادية كنّ في هذه الناحية أكثر حرية ، وأقل تشددا من بقية المسلمات.

إذا يحق للمسافرين الحصول على خبز الدير ، شأنهم شأن كل الناس ، ولا يحق لهم غير ذلك أبدا : أما كل الباقي فهذا شأن المسافر ، إنهم يسمحون باستخدام المطبخ ، ولكنه خال وبدون نار. وإذا أراد الزوار استخدامه فعليهم أن يحضروا كل شيء معهم ، بدءا من القدور والفحم وانتهاء بالأطعمة والتوابل المخصصة لأبسط ضرورات الحياة. ونستطيع التفاهم بسهولة مع الراهب الذي يشرف على المطبخ فنحصل منه مقابل مبلغ معقول على الأشياء التي لا غنى عنها في شؤون الحياة المادية ؛ وهو يبيعك مقابل أي / ٨٠ / مبلغ ، مهما كان قليلا ، عرقا يدعي أنه مصنوع من عنب قبرص.

أما نحن فلم نكن بحاجة إلّا إلى أشياء قليلة جدا ، لقد حملنا معنا كل الضروريات ، وما يزيد عن حاجتنا. لقد كان رفيق رحلتي مثال البريطاني في هذه الناحية ، كان حريصا على راحته ، ويحب ملذات الحياة ، وكان يرى أنه يخطئ في حق نفسه إن لم يتناول يوميا في قلب الصحراء وجبة عشاء كاملة ، ولو كان عليه أن نتظرها حتى منتصف الليل ، كان ذلك عنده مسألة كبرياء وإحساس بالذات : لقد

١٢٢

كان في ذلك امتحان لكرامته باعتباره رحالة. ولما كان قد عرف أن عيد ميلاده يصادف وهو في سيناء ، ولما كان حريصا على الاحتفال بالمناسبة كما ينبغي أن يفعل ذلك ابن بريطانيا الحقيقي ، فإنه حمل معه من القاهرة لهذه المناسبة ديكا روميا محشوا بالكمأة ، بل وحمل معه أيضا الشمبانيا التي فاجأني بها ، وشرفني أن أشاركه في شربها.

كانت وجبة الطعام سهلة التحضير مع وجود مثل هذا الصحن الأساسي ، وكان ما حملناه من الأطعمة للرحلة يكفينا ويزيد. إذا ، كنا نأكل على حسابنا الخاص ، وكانت موارد الدير غير ذات أهمية بالنسبة إلينا.

ليس هناك حتى هنا ما يستحق النقد ، وإنه لمن العدل أن يدفع المسافرون ثمن ما يأكلونه ، ولا يمكن أن نطلب من الدير أن يفلس من أجل أن ينفق على مأكلهم : لذلك قمنا بإجراء المطلوب عن طيبة خاطر ، وبلا مساومة. ولكن ، وفي لحظة حرجة ، أعني / ٨١ / لحظة الرحيل ، حدث مشهد ينسجم تماما لو وضعناه في مسرحية البخيل لموليير (١) Moliere ، ولم يكن أرباغون ليفعل أفضل من ذلك. قدموا لنا في البداية قائمة حساب بالمصروفات المتفق عليها ؛ أجرة حمل الرسالة للمهندسين الفرنسيين ، ثمن الطرائف التي اشتريناها ، أجرة الرحلة إلى الجبل ، أجرة خدمات متنوعة ... إلخ. لم يكن هناك أي اعتراض على ذلك. ثم قدموا لنا بعد ذلك بلطف قائمة حساب

__________________

(١) موليير (١٦٢٢ ـ ١٦٧٣ م) : كاتب مسرحي وممثل فرنسي. يعدّ أحد أعظم الكوميديين في جميع العصور. والبخيل واحدة من أشهر مسر حياته ، وأرباغون الشخصية الرئيسية فيها.

١٢٣

إضافية صغيرة لم نكن ننتظرها ؛ وتحتوي على تفصيلات هي غاية في الطرافة : عشرون قرشا للراهب البواب لأنه فتح لنا الأبواب ، عشرون قرشا للراهب الخوري الذي أخذنا لزيارة الكنيسة ، عشرون قرشا للخدم الذين لم يخدمونا لأن معنا خدمنا الخاصين ، عشرون قرشا للخدم الذين رافقونا إلى الجبل ، عشرون قرشا للراهب آمر الصرف لأننا أزعجناه ، عشرون قرشا للضجة التي أحدثناها ، وهذا البند الأخير يذكرني بطريقة البيع الإسبانية ، إذ ندفع كل شيء ، ثم ندفع بعد ذلك للتعويض عما أحدثناه من ضجة.

باختصار ، لقد تحصل لدينا عند جمع العشرينات من القروش مبلغ صحيح تماما. أما الزيادة ، وأعني الهبة التي اعتاد الزوار أن يتركوها للدير عند مغادرتهم ، فقد كانوا يعتمدون في ذلك على مدى كرمنا. لقد كنا على وعي بالعرف ، وكنا ننوي أن نلتزم به حتى إن هبتنا كانت جاهزة من قبل ؛ ولكننا لما اعتبرنا أن الرهبان اليونانيين استولوا عليها مسبقا بأنفسهم فقد رأينا من العدل أن تنقص منها / ٨٢ / بمقدار المبلغ الذي استولوا عليه في قائمة الحساب ، وحددناه بمئة وعشرين قرشا. وقد كان ذلك أيضا مبالغة في الكرم : لأن الأمريكيّين اللذين سبقانا لم يدفعوا أكثر من ذلك مع أنهم مكثوا في الدير زمنا أطول من الزمن الذي قضيناه ، ولم يتعرضوا إلّا لقليل من الاستغلال الذي تعرضنا له.

هنا انفجرت العاصفة ، مئة وعشرون قرشا ، يا إله العدل ، فيك رجاؤنا ، إذا من نظنهم نحن؟ مئة وعشرون قرشا لأناس مثلهم ، لأناس مثلنا! مئة وعشرون قرشا! إن في ذلك عارا علينا وإهانة لهم! إننا نتسربل بالعار عندما نقدم مثل هذه الهبة ،

١٢٤

وإنه لعار أكبر أن يقبلوها. ومن الجدير بالملاحظة أن المبلغ كان وهم يحتجون قد أصبح في جيوبهم ، ولم يخرجوه منها. لقد كان أكثر أفراد العصابة إثارة راهب يدعى جوزيف ، وكان وجهه مميزا لأنه لم يكن له أنف أبدا ، وكان يتحدث الإيطالية بإتقان تام ؛ كان يقول : أي طريقة في التعامل هذه! وكان يردد ذلك عشر مرات في الدقيقة ، وهو يرتجف كأن به مسا ، وقد كان يمكن له بطيبة خاطر أن يتفوه بكلام جارح لو كانت لديه الجرأة لفعل ذلك. أما الأخ بيير المسكين فقد كان يقوم عبثا بدور المصلح ، وكان كبير الرهبان ، وهو رجل محترم له لحية بيضاء ، يشرف على هذا النقاش البشع ، مظهرا أن في ذلك إهانة شخصية له نفسه. واستمرت العاصفة وقتا طويلا ، ولكنها كانت جعجعة بلا طحن : لم نزد على المبلغ ولا بارة واحدة. كان ضميرنا مرتاحا لأننا / ٨٣ / قمنا بالواجب على أكمل وجه ، بل وسّعنا في ذلك عليهم : لقد صرفنا في الدير بعد كل حساب مبلغ خمس مئة قرش ، وكان ذلك بالتأكيد ثمنا مرتفعا لضيافة دامت أربعين ساعة ، ويا لتلك الضيافة!

كان السقوط ذريعا من قمة جبل سيناء إلى مثل هذه التفاهات ، وأعتذر للقارئ عن ذلك. ولكن إذا كانت الحياة رحلة كما نردد دائما ، فإن باستطاعتنا أن نعكس الآية فنقول إن الرحلة كالحياة مملوءة بالمشاعر المختلفة ، وبالحوادث من كل الأنواع ، وفيها من الحوادث البسيطة والعارضة أكثر مما فيها من الأحداث الكبرى. ناهيك عن أن هذه النزاعات الصغيرة ، مهما كانت سوقية ، فإن ذلك يجعلها تحمل في جوانبها درسا يتمثل فيما ظهر من جشع الرهبان اليونانيين. لقد وجدتهم في كل مكان

١٢٥

متشابهين ، وخصوصا في القدس حيث كان جشعهم أكثر إزعاجا ؛ لأنه جشع لا مسوغ له ، وهو بالتالي لا يغتفر.

إذا حاولت الدخول إلى كنيسة القيامة (١) Saint Sepulcre فإنك تجد راهبا يونانيا مرابطا عند الباب يمد لك يده ، وإذا حاولت الصعود إلى جبل الجلجلة ، وأنت ترتجف متأثرا بتلك المشاعر التي يحركها هذا المكان في نفوس أقل الناس إيمانا فإنك تجد هناك راهبا يونانيا آخر يصب ماء الورد على أصابعك ويطلب منك أيضا أجرة عمله الخير ، وإنهم في الحقيقة يقنعون بالقليل ؛ فبعض القروش تخلصك منهم. ويبدو أن الرهبان الإغريق لم يكونوا في عهد سوفوكليس (٢) Sophocle أقل جشعا ، لأن هذا

__________________

(١) المكان الذي يزعم النصارى أن المسيح عليه‌السلام صلب فيه ، ثم حفر له قبر وضعت جثته فيه وهو في القدس وعليه كنيسة تعرف ب القديس سيبولكرSaint Sepulcre يحج إليها المسيحيون وفيها مكان لعبادات الأرثوذكس ، وآخر للكاثوليك ، وكان قنصل فرنسا في القدس مكلفا بالسهر على حقوق اللاتينيين أمام تطرف اليونان. وانظر : معجم البلدان لياقوت الحموي ، ج ٤ ، ص ٣٩٦ ـ ٣٩٧ ، رسم (قمامة).

(٢) سوفوكليس Sophocles (٤٩٤ ـ ٤٠٦ ق. م) ثاني الشعراء التراجيديين الإغريق ، نشأ في طبقة متوسطة ذات اتجاهات سياسية معتدلة بحيث لم تكن مفرطة في شعبيتها كما لم تكن مغالية في أرستقراطيتها ، وكان وسطا في عقيدته الدينية ، لا هو من المتزمتين ولا هو من المستهترين ـ تتسم نزعته الفلسفية بالتشاؤم والضيق بالحياة والرثاء للإنسان وما يلقى من آلام. وكان لهذه النزعة أثرها على مسر حياته فبدت كلها يغلب عليها الطابع المعتم. أفاد من جهود سلفه أيسخيلوس. كتب ٢٣ مسرحية لم يبق منها إلا سبع. كان أرسطو يعد مسرحية" أوديب ملكا" لسوفوكليس مأساة نموذجية ... فليس ثمة بيت شعر فيها دون دلالة ومغزى ، وليس ثمة فرصة لإيقاظ العاطفة إلا حفلت بها.

انظر : نظام العبودية القديم والنموذج المثالي للإنسان ، جوزيف فوجت ، تقديم وترجمة وتعليق د. منيرة كروان ، المشروع القومي للترجمة ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، رقم (١٢٢) ، ١٩٩٩ م ، ص ٣٢.

١٢٦

الشاعر يقول للعرّاف العجوز / ٨٤ / تيرزياس (١) Tirsias على لسان كريون (٢) Cron : " إن الجنس الكهنوتي كله يحب المال". لقد ألقيت لسكان ذلك النزل غير المضياف وأنا أستعد لمغادرته كلمة وداع كانت هي مقولة مواطنهم المشهور سوفوكليس ، وقد قلتها بلغتهم حتى تكون مفهومة لديهم أكثر (٣).

لقد فاتني الحديث عن محنة من نوع آخر عانينا منها ، وأجد من المفيد أن أرويها. لما كانت سيناء التي تسمى رسميا جبل الطور واقعة في منطقة نفوذ عباس باشا فقد كانت له فيها حامية صغيرة كانت تعسكر حينئذ بالقرب من الدير ، وكان قائد الحامية برتبة بنباشي (مقدم) (٤) ، وقد قمنا بزيارة مجاملة لهذا الضابط عند

__________________

(١) عرّاف ضرير في الأساطير اليونانية ، ضربته" هيرا" زوجة" زيوس" بالعمى ووهب له" زيوس" القدرة على التنبؤ ، كما وهب له طول العمر. يذكره هوميروس وأسخيلوس ... وسوفوكليس في أعمالهم. ويظهر عند ت. س. إليوت في" الأرض اليباب". معجم ديانات ... ، موثق سابقا ، ج ٣ ، ص ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٢) Cron كريون ، خال ولدي أوديب الذي أصبح ملكا لطيبةThbes بعد موتهما وهماEteacles ـ ايتكليس وPolynice ـ بولينيس ، ثم حكم على أنتيجوناAntigone ابنة أوديب بالموت. وهو أحد شخصيات مسرحيات سوفوكليس وخصوصا في" أوديب ملكا" و" أوديب في كولون" و" أنتيجونا".

(٣) أثبت ديدييه قول سوفوكليس باليونانية.

(٤) يستخدم ديدييه هنا لقب Bin ـ Bachi التركي ليسخر من هذا الضابط المصري الذي لم يحسن استقبالهم. ودليلنا ما تتضمنه السطور التالية التي يتحدث فيها عن الانطباع السيء الذي تتركه لدى المصري خصوصا والعربي عموما عندما تحدثه بالتركية لأنها حسب قول ديدييه لغة الغزاة. وبنباشي أو بيكباشي : لفظ تركي بمعنى رأس الألف ، واستعملت بيكباشي في العصر العثماني المتأخر ، وتعادل وفق المصطلحات العسكرية المعاصرة رتبة (مقدم) ، انظر : معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ، تأليف مصطفى عبد الكريم الخطيب ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ١٤١٦ ه‍ ـ ١٩٩٦ م ، ص ٨٣ ـ ٨٤. انظر المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية ، د. سهيل صابان ، ط. مكتبة الملك فهد الوطنية ، الرياض ، ١٤٢١ ه‍ / ٢٠٠٠ م ، ص ٦٦.

١٢٧

وصولنا ، فلم يحسن استقبالنا : لقد التقيناه عند مدخل المعسكر ، في الهواء الطلق ، ونحن وقوف ، بلا قهوة ولا شيشة ، بل إنه لم يدخلنا إلى خيمته. كنّا ممتعضين لأنّه أساء استقبالنا ، وأعلمناه بذلك عن طريق خادم تركي كنا نستخدمه ، وطلبنا منه قصدا أن ينقل إليه الرسالة بالتركية ؛ وهو أمر يغضب المصريين والعرب لأن التركية لغة الغزاة. لقد انزعج من توبيخنا له / ٨٥ / ، وأراد بدوره أن يثأر منا لذلك ، فطلب أن نسأل عن جوازات سفرنا ؛ نعم أيها القارئ ، جوازات سفر في سيناء! إن مصر الغنية بأسباب الحضارة الأوروبية لم تنس من بينها هذا السبب (جوازات السفر). كان ذلك البنباشي يظن أنه سيجد في أوراقنا نقصا ، إلّا أنه نال ما يستحق ؛ لقد كان رفيقي نظاميا ، وكنت أنا أكثر نظامية منه ، لأن مبدئي في السفر هو الحصول على عدد كبير من التأشيرات ، وعدم الاقتصاد في ذلك ، لكي أتجنب الانزعاج والتأخير ؛ لذلك كان معي جواز سفر خاص بالذهاب إلى سيناء حصلت عليه من القنصل الفرنسي في القاهرة ، ومؤشر من السلطات المصرية ، وقد طلبت زيادة في الحيطة أن يسجّل عليه السلاح الذي أحمله. ولما لم يجد وسيلة لإزعاجنا ، لم يكن لديه ما يستطيع فعله إلّا أن يعيد لنا أوراقنا : وهذا ما فعله ، ولكن ليس دون أن يمتع نفسه بوضع تأشيرته الخاصة عليها ، وقد علمت من ذلك أن هذه الشخصية المشهورة تسمّى Hassim Ibrahim هاشم إبراهيم. ولما شعر بأنه قد هزم في هذا الجانب أراد أن يثأر بطريقة أخرى ، لقد تخيل أن باستطاعته مصادرة الجمال التي حملتنا من مدينة الطور ، والتي كان من المفترض أن ترجعنا إليها. وإليكم الدافع أو الحجة للقيام بهذا الإجراء العشوائي ؛ إن الأعمال الجارية في الطريق ، وحاجة معسكر العاملين فيه ،

١٢٨

جعلت الحكومة المصرية تحجز كل جمال المنطقة : صحيح أنهم كانوا يدفعون لأصحابها / ٨٦ / أجرة جيدة ؛ ولكن ثقل الأحمال ، والمعاملة السيئة التي تلقاها تلك الجمال من الجنود ، جعل عددا كبيرا من هذه الحيوانات التي تغذى تغذية سيئة ، وتكاد تكون من قبل منهكة بسبب الضائقة العامة ، جعلها ، تموت من التعب ، وجعل طرق الصحراء مليئة ببقايا جثثها. لذلك لا يلتزم البدو ، إلّا بعد تردد ، بأوامر الباشا ، ويراوغون للتخلص منها كلما استطاعوا فعل ذلك ، دون أن يعرضوا أنفسهم للخطر ؛ لأن بدو سيناء مفسدون تماما ومهجنون تماما : لقد أصبحوا فقراء ، لا يملكون إلا ماشية قليلة ، وليس لهم من مورد في الأوقات العادية إلّا أن يذهبوا إلى القاهرة لبيع ملح المناجم والفحم. وتتحاشى السلطات استخدام العنف الشديد في معاملتهم ، وذلك لسببين ، أولهما : أن سياسة عباس باشا حينئذ كانت تقوم على استثناء البدو كلهم من هذه الإجراءات ، مخافة أن يؤدي التشديد عليهم إلى إثارتهم. وثانيهما : أنهم إذا هربوا إلى قلب الصحراء فليس هناك من سيذهب للبحث عنهم ، وكلما كثر البدو كثرت الجمال. تلك كانت حالة البلد ، واعتمادا على أوامر المصادرة التي أصدرتها حكومته نظّم البنباشي أمر مصادرة جمالنا زاعما أنها تابعة للمعسكر ، وأنه اعتمادا على ذلك لا يحق لبدو الطور أن يؤجرها. وقد أجبناه عن ذلك بالقول : إن كوننا غير مصريين ، وغير بدو / ٨٧ / يجعل أوامر الباشا لا تخصنا أبدا ، وإن جمالنا لنا حتى الطور لأننا استأجرناها ، ودفعنا أجرتها ؛ وإننا نمنعه من أن يمسها ، ونلقي على عاتقه مسؤولية تعويض الأضرار التي تلحق بنا ، ولن نتوانى عن طلبها من الحكومة المصرية عن طريق قنصلينا عن كل ساعة تأخير يسببها لنا ، ناهيك عن

١٢٩

إزاحته عن منصبه التي ستتلو ذلك دون أدنى شك. وبعد هذا الاعتراض الحاسم ، كتبنا في المساء نفسه رسالة إلى صديقينا المهندسين في معسكر وادي حبران ليمدوا لنا يد المساعدة عند الحاجة. ولم تصل الأمور إلى هذا الحد لأن البنباشي خاف ، وعدل عن مزاعمه ، وأفرج عن جمالنا وجاءنا زائرا ، ولكننا رددنا له الصاع صاعين باستقباله كما كان قد استقبلنا. كنا على طاولة الطعام عندما جاءنا ، وبدلا من أن ندعوه إلى مشاركتنا طعامنا ، كما كنا سنفعل ذلك في ظروف مختلفة تماما ، وكما جرت العادة دوما في الشرق ، تركناه واقفا ، ولم ندعه يدخل علينا بل تركناه على قدميه أمام الباب ، ولم نوجه إليه أي كلمة ، ولم نعره أي اهتمام كما لو أنه ليس بموجود. كان هذا الدرس القاسي ضروريا : وينبغي على الدوام معاملة الأتراك كذلك في مثل هذه الحالة ، وإلّا / ٨٨ / فإنهم سيحتقرونك ويزعجونك. لقد أبدينا في مقابل ذلك احتراما كبيرا لطبيب عسكري شاب كان يرافقه ، ولم يكن لدينا ما نأخذه عليه ، كان مصريا ، ويتحدث الفرنسية والإنجليزية بطلاقة. وقد لمحنا في أثناء رحيلنا من بعيد أن البنباشي ، قد خطرت له فكرة عبقرية ؛ إذ نصب في وسط المعسكر منصة عالية من الخشب فوقها كرسي ، وكان يجلس عليه ، وكأنه مشعوذ على سريره ، ظانا بلا شك أن مكانته المعنوية ترتفع بسبب مباشر من ارتفاعه المادي. مررنا على مرمى منه دون أن نلتفت إليه ، ولست أشك بعد كل ما حدث ، أنه لم يحتفظ بذكرى حسنة عن إقامتنا في سيناء.

إن أخشى ما أخشاه في السفر هو أن أسلك الطريق نفسها مرتين ، وقد كلفني تلافي ذلك القيام بانعطافات لا يستهان بها ؛ ولكن الضرورة هنا دفعتني إلى ذلك. لقد

١٣٠

كان علينا أن نسلك في العودة الطريق نفسها التي سلكناها في المجيء ، وأن نضع أقدامنا على آثار خطواتنا التي ما زالت واضحة. تجاوزنا مرة أخرى السهل الكبير الذي نزل فيه العبرانيون بقيادة هارون (١) الأخ الشقيق لموسى ، وعبدوا العجل فجأة. ثم هبطنا بعد ذلك عبر نقب الدير الذي يبدو لي الآن ، لو كان ذلك ممكنا ، أكثر تهدما وأكثر رعبا أيضا من المرة الأولى. لقد التقينا أحد المسافرين الأوروبيين وهو يصعد القمة / ٨٩ / ولما كان هو أيضا يقوم بزيارة الدير فقد نصحنا له بأخوة ، وبلا إلحاح أن يكون حريصا كل الحرص على أمواله ، ولم نقابل أحدا آخر حتى نهاية الرحلة إلى سيناء.

__________________

(١). يزعم العهد القديم أن بني إسرائيل عبدوا العجل الذهبي الذي صنعه لهم هارون في غياب موسى في جبل المناجاة (سفر الخروج ٣٢ : ١ ـ ٢). انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٤٥٦ ؛ وانظر : معجم ديانات ... ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٤٦ ـ ٤٧.

وقد حدثنا القرآن الكريم في غير موضع عن اتخاذ بني إسرائيل العجل إلها معبودا في سورة البقرة ، الآيات ٥١ ـ ٦١ ، والآيتان ٩٢ ـ ٩٣ حيث يقول تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)). وقد صنع العجل من حلي بني إسرائيل وكان صورة مجسدة لعجل لا روح فيها ، إنما هي جسد فقط ، كانت الريح تدخل فيه ، فيسمع له صوت كخوار البقر ، انظر سورة الأعراف ، الآيات من ١٤٨ ـ ١٥٠ ، وسورة طه ، الآيات من ٧٧ ـ ٩٨ ، وفيها دلالة على أن السامري هو الذي أخرج لهم العجل ، وأن هارون نهاهم عن عبادته ولكنهم لم يستجيبوا له ، وعاتبه موسى عليه‌السلام عتابا شديدا فأجاب ، طه ٩٤(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)).

١٣١

نصبنا خيامنا على حدود وادي صلاف ، الذي يقع تماما عند أقدام نقب حبران. كان ذلك التوقف رائعا ، ولا زالت ذكراه ماثلة حية تختلج في ذاكرتي. كان الزمان والمكان يزخران بالجمال والسحر : كانت الوديان والكتل السفلية من الجبال قد بدأ يغشاها الغسق ، ولكن القمم العالية كانت ما تزال تقدح بعض شرر الغروب. إنه النزاع الأخير بين الضوء المتلاشي وبين الظلمة التي تولد ، وكانت عظمة المكان وجماله ، وهدوء الطبيعة ، والهواء العليل ، والمساء الحزين ، والعزلة ، والصمت ، والحرية ، كل ذلك ، كان يمس شغاف القلب ، ويجعله ثملا بالأحاسيس التي لا يمكن التعبير عنها ، وفي هذا اليوم أشعر حقا لأول مرة أنني أقمت في الصحراء.

ثم شددنا الرحال عند مطلع الشمس إلى ذلك النقب البغيض ، نقب حبران الذي لا يقل عبوره من هذه الجهة صعوبة عنه من الجهة المقابلة ، والذي أجهدنا في المرة السابقة كل الإجهاد ، وقد أجهدنا في العودة أكثر أيضا ، لأننا هبطنا منه هبوطا يكاد يكون عموديا ، عبر طريق أكثر قصرا ، ولكنها أكثر سوءا من الأخرى ، تكثر فيها الصخور المحدبة ، والحجارة المتدحرجة ، لقد كان النقب سريع الانحدار حتى إن الجمال لا تستطيع نزوله ، فقامت بالتفاف طويل حوله استغرق وقتا ، وجدنا أنفسنا معه مضطرين / ٩٠ / لانتظار وصولها وقتا طويلا في أسفل المنحدر.

ولما دخلنا وادي حبران تبدى لي من جديد جبل سربال الذي كان عاريا وقاحلا ، ولكنه كان جليلا كما تركته في الذهاب. ولقد أدهشني عندما اقتربت منه عارض مزدوج من التناغم بين الضوء والأرض ، كانت قد فاتتني ملاحظته في المرة

١٣٢

الأولى ، لأن الشمس كان لها حينئذ وضعية مختلفة : إنه منحدر ضخم ، ناتئ جدا ، ويحدث في الجبل قطعا عرضيا جانبيا ، وكانت طريقة الإضاءة في تلك اللحظة تعكس عليه ظلا واضحا كل الوضوح ، وأسود فاحما حتى لتظنّه ثوب حداد ضخما ، ملتفا بشكل متصالب على أحد العمالقة. لقد انضم إلينا خلال الطريق متطوع جديد : إنه قعود صغير وحر ، ضائع بدون شك ، وما زال غير مستأنس أيضا ، انضم إلى قافلتنا بدافع حب الجماعة ، وأضحكنا طوال فترة الصباح بقفزاته الجميلة ، وباستقلاليته ؛ فمع أنه كان يتبعنا عن قريب ، لم يترك أحدا يمسك به ، أو أن يقترب منه. وقد لقي جنود حملة استطاع وجدناهم معسكرين حول نبع نقب حبران صعوبة كبيرة في الإمساك به ، ولم ينجحوا في ذلك إلّا باستخدام أنشوطة ؛ لقد كان دفاعه عن نفسه بطوليا ، وقد استطاع أن يجندل غير واحد من مهاجميه خلال الصراع. لقد كنت شاهدا على المعركة ، وأتيحت لي الفرصة خلالها لمراقبة قوة ذلك الحيوان ورشاقته الفطريتين ، وكيف يتحول إلى حيوان وديع كل الوداعة ، ويصبح في غاية من اللطف ، عندما يكون / ٩١ / مستأنسا ؛ ويصبح حينئذ أكثر بطئا ، وأكثر تأنيا.

كان العمل في الطريق قد تقدم خلال الأيام الخمسة التي استغرقتها رحلتنا ، ومع ذلك فإن المهندسين لم يكونا بعد قد غادرا مكان إقامتهما في جانب المسيل المائي ليكونا على الدوام كعادتهما مشرفين على الأعمال. كانا ينتظراننا في خيمتهم ، وقد هيّآ غداء فاخرا ، كان الطبق الرئيسي فيه فخذ جدي بري ، وقد كنا نحن أيضا قد

١٣٣

أتينا بجدي كامل اصطاده أحد البدو في جبل سيناء ، واشتريناه منه عند مغادرة الدير.

لعلكم تظنون ، وقد كنت أظن ذلك ، أنه لا وجود لذلك الحيوان البالغ الروعة إلّا في فلك البروج ، وفي المنحنى الخيالي للمدار الجنوبي ، إنه موجود حقا ليس في صحراء سيناء فقط ، وإنما في السودان ، حيث رأيته بعض المرات ، أقل حجما من اليحمور ، وأقل منه علوا ، يشبه الأيل شبها كبيرا إلا أن قرنه ليس له ضخامة قرن الأيل الكثير العقد والفروع ، والذي لا يتناسب أبدا مع حجم رأسه وبقية أعضاء جسده.

كان الغداء بهيجا ، وقد تعرفت خلاله على سميرين جديدين هما : علي أفندي ، وسليمان أغا من ضباط المعسكر ، وهما مسلمان ملتزمان ، ويتحدثان الفرنسية ، ولا يشربان النبيذ ، مع أنهما يجلسان على طاولة أوروبية ، وهما يخشيان دوما من أن يطعمها أحد في غفلة منهما لحم الخنزير أو دجاجا غير مذبوح على الطريقة الإسلامية. / ٩٢ /

على الرغم من أننا كنا في شهر يناير (كانون الثاني) فإن الجو كان خلال الرحلة مشرقا ؛ وهو شيء غير معتاد في هذا الفصل ، إلّا في مثل هذا المناخ المناسب ؛ ولكن اليوم التالي ، آخر أيام الرحلة ، كان مزعجا : كانت السماء مكفهرة ، وكان هواء البحر البارد والعاصف يجعلني أتجمد على ظهر الهجان الذي كان يسير بسرعة دون أن استحثه على المسير ، ووصلنا إلى الطور في ساعة مبكرة.

١٣٤

لقد وجدت ريس مركبنا جالسا في المقهى نفسه الذي تركته فيه عند المغادرة ، فهب واقفا أمامي بلطف ، ورحب بي بشهامة عربي من العرب الأوائل. وبينما هو يوجه إلي التهاني وعبارات المجاملة كان جمّالتنا يهربون بسرعة مع جمالهم التي ما كادت الأحمال تنزل عنها ، خوفا من أن يتم حجزها في الطور كما حدث في سيناء ، وعلى حين غرة كانوا في أعماق الصحراء.

ولما لم يعد لي ما أفعله في الطور ذهبت للنوم في المركب الذي انتظرنا بصبر في الميناء ثلاثة أيام أكثر مما كان مشترطا في العقد. وفي اليوم الثاني ، ومنذ الفجر نشرنا الأشرعة في الطريق إلى جدة.

١٣٥
١٣٦

الفصل الخامس

/ ٩٣ / البحر الأحمر (١)

يسمى المركب الذي صعدت ظهره في البحر الأحمر ، السنبوك (٢). طوله ٦٠ قدما ، وعرضه ١٥ قدما ، ولم يكن مجسّرا إلّا في الخلف حيث يرتفع ضرب من الكوثل ، أعدوا تحته خلوة أطلقوا عليها اسم مقصورة ولا فخر! وهي واسعة تكفي لاحتواء مرتبتين ولا شيء غيرهما ؛ كنا ننام هناك ، أمّا في النهار فكنا نعيش في الهواء الطلق على الكوثل. وإن للسنبوك الذي يسير بالتجديف شراعين يكادان يكونان

__________________

(١) يمثل البحر الأحمر الذي تسميه العرب" بحر القلزم" جزءا من الأخدود الإفريقي العظيم الذي يمتد من جنوب خط الاستواء حتى شمال فلسطين. وهو أكثر أجزاء الأخدود وضوحا ، ويمتد بصفة عامة من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي ، بين خطي عرض ٣٥ شمالا ، ٣٠ ، ١٢ شمالا لمسافة طول ١٩٣٢ كم ويبلغ اتساع البحر عند شبه جزيرة سيناء ١٧٥ كم ، في حين يبلغ اتساعه ٣٥٠ كم فيما بين مصوع وجازان ، ثم يضيق إلى ما بين ٣٠ ـ ٤٠ كم عند النهاية الجنوبية لمضيق باب المندب ، ويصل عمقه في بعض المواضع ٤٨٤ م ، بينما يصل في القناة الوسطى إلى ٣٠٣٩ مترا ، وتحيط بسواحله الشعاب المرجانية. انظر تفصيلات أوسع في كتاب الموانئ السعودية على البحر الأحمر ، دراسة في الجغرافيا الاقتصادية ، د. محمد أحمد الرويثي ، ط ١ ، مؤسسة الرسالة ، ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ م ، ص ٤٧ ـ ٥٧. وذكر البلادي في معجم معالم الحجاز ، ١٣٩٨ ه‍ ـ ١٩٧٨ م ، ج ١ ، ص ١٧٩ أنه سمي البحر الأحمر لوجود الشعب ذات اللون المرجاني بداخله ، والتي كثيرا ما تتحطم السفن بسببها.

(٢). السنبوك (والجمع سنابيك) بفتح السين ، وأصلها غير عربي ، لكن العرب يعرفون هذا النوع من السفن بهذا الاسم. انظر : تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي ، تأليف سيف مرزوق الشملان ، ج ١ ، ص ٢٧١. ويلاحظ أن بعض المؤلفين يكتبها بالميم وهو خطأ. انظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٥٤.

١٣٧

لاتينيين ؛ أحدهما في مقدمة السنبوك ، ويمتد بكامله خارج السنبوك عندما ينفخه الهواء ، ويشكل ما يشبه بالونا نصف مدور. أما جؤجؤ السفينة ، فقد كان يشبه ما رأيته مرسوما على لوحات جدارية أو ميداليات قديمة ، وأراهن واثقا ، أنه ومنذ قرون ، لم يتغير أي شيء فيه ، وأن المراكب والأشرعة والمجاديف هي بالتأكيد نفسها منذ العصور الموغلة في القدم ، وأن البحارة يرسون في المرافئ نفسها ، ويمارسون العادات نفسها ، ولديهم الأحكام المسبقة نفسها ، ونذر الشؤم نفسها التي كانت في عهد سكان الكهوف.

كان السنبوك مصنوعا من خشب هندي قاس جدا يسمّى : الساج. وقد رأيت في ميناء مرسيليا ، / ٩٤ / سفينة قديمة تابعة لشركة الهند ، مصنوعة من الخشب نفسه في بومباي في عام ١٧٠٧ م ، وقد أصبح هيكلها قاسيا حتى إنه يثلم المسامير التي نود غرزها فيه ويلويها. يبحر بطريق البحر هذا ، منذ مئة وخمسين عاما ، ويعدّ فأل خير لأنه لم يغرق أبدا ، وأغنى كل من ملكه (١).

وقد كان لسنبوكنا أيضا سمعة حسنة جدا ، لقد كان يعدّ عن استحقاق سنبوكا سريعا ، وكان الشيخ عبد الغفار ، مالكه ، وهو تاجر ثري من تجار جدة ، مسرورا مما ينجز به من أعمال ، وقد كنت مسرورا أنا نفسي لأنني وجدته يقوم بالرحلة.

__________________

(١) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٦.

١٣٨

كان على متنه ، ناهيك عن الريس ، فريق مكون من عشرة بحارة ، وعبد أسود صغير ، رشيق ونبيه ، كان في الوقت نفسه يعمل نوتيا وخادما للجميع. وكانوا يعاملونه معاملة إنسانية لائقة ، ولم أره خلال خمسة عشر يوما قضيتها على ظهر السنبوك يعاقب إلّا مرة واحدة ، وبلطف شديد. وأجدني مدفوعا إلى الاعتراف ، لكي أظل صادقا ، أن السنبوك كان يعج بالجراذين ، وبتشكيلة كبيرة من الهوام ؛ ولكنني أضيف مسرعا أن تلك الهوام كانت كما يبدو قد اعتادت العرب ، وظلت وفية لهم ، ولم ينلنا منها إلا إزعاج بسيط.

تلك هي السفن المستخدمة في البحر الأحمر ، إنها آلات خفيفة لملاحة صعبة. يعدّ هذا البحر واحدا من أخطر البحار / ٩٥ / التي نعرفها : تقطعه وتعبره في كل الاتجاهات تيارات مائية ، وتملؤه الصخور البحرية والشعاب المرجانية ، وهو ، ناهيك عن ذلك ، معرض لعواصف هوائية عاتية ، يجعلها تقارب الشاطئين والجبال كثيرة الحدوث ، والتغير ؛ لذلك كثيرا ما تغرق السفن فيه ، على الرغم من حذر البحارة الشديد ووجلهم. لقد علمتني تجربتي ، كما سنرى ، أن هذا البحر غير مفترى عليه ، وإن كنت لم أهلك فيه ، فقد أوشكت على ذلك ، وإنني أدين بخروجي سالما لحماية السماء وصلابة السنبوك.

أبحرنا من الطور فجرا ، وكان الهواء طوال اليوم مؤاتيا ، وها نحن قريبا نتجاوز رأس محمد ، الذي يعد الحد الأقصى لشبه جزيرة سيناء. وفي المساء ، وعلى الرغم من أن الهواء كان ما يزال مؤاتيا ، فإنه أصبح عنيفا ، يثير القلق ، وهاج البحر ، وأصبحت الأمواج تتقاذفنا بعنف شديد ، ونحن في زورقنا السريع العطب.

١٣٩

قلت : إن المراكب في البحر الأحمر ، لا تسير ليلا أبدا. وقد كان ينبغي هنا بالتأكيد الالتزام بهذا العرف ، والبحث عن ملجأ يقينا هذا الجو العاصف ، ولكن الأمر هذه المرة كان مستحيلا ؛ لقد وصلنا خليج العقبة الذي كان ينبغي تجاوزه كاملا لكي نجد ملجأ أو مرفأ ، إذا ، كان ينبغي الإبحار طوال الليل على الرغم من عتو الأمواج المتزايد أبدا ، ومن عنف الهواء. / ٩٦ /

كان المركب يسير بلا بوصلة ، لأنني لا أستطيع إعطاء هذا الاسم للبوصلة البدائية المصنوعة من الخشب ، والتي لا يكاد أحد ينظر إليها في النهار ، وليست مضاءة في الليل أبدا ، كنا نسير وسط الظلمات نحو المغامرة بلا أمم ، وحسبما تقودنا العاصفة ، ولمّا يئس البحارة من السيطرة على المركب ، وهم لم يحاولوا ذلك ، فإنهم تركوا قيادة السنبوك ، واستسلموا للكسل والرعب ، سلموا أمرهم لله وحده في توجيه المركب وحمايته ؛ بعضهم صمت ، وبعضهم الآخر كان يستغيث بكل أولياء الإسلام. وكان أحد خدمنا ، التركي الذي تحدثت عنه سابقا ، يزيد من حالة الرعب العام ، كان في أقصى حالات الخوف ، يثير الضحك في بعض حالاته ، حتى إنني كنت سأضحك من ذلك ملء شدقي لو كان الضحك مقبولا في مثل هذه اللحظات. كان السنبوك يصرّ عند كل عاصفة عابرة كما لو أنه سيخرق ، وكان يميل على جانبيه كل الميل ، حتى ليخيل أنه من المستحيل أن يستوي مرة أخرى ، وكنت أنتظر أن أراه بين لحظة وأخرى وقد انقلب أعلاه سافله. كان الموج يغطي كل شيء ، ويكتسح كل شيء ، حتى الكوثل على الرغم من ارتفاعه. ولما لم يكن باستطاعتنا ، رفيق سفري وأنا ، مواجهة ذلك إلّا في المقصورة ، فقد كنا هناك مستلقيين جنبا إلى جنب ، كلّ على

١٤٠