رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

وكان في هذا الجانب من المدينة عدد من المقاهي كما في الجانب الآخر ، وبعد استراحة قصيرة في مقهى عرفات الذي يقع في أسفل الجبل الذي يحمل اسمه ، وحيث وجدنا ، وهذا شيء نادر ، لبنا. تابعنا طريقنا عبر وادي نعمان ؛ وهو واد رملي ، شديد الحرارة ، تنتشر فيه جنيبات شوكية ، ونباتات جميلة جدا ، لها أوراق سميكة ، طولها من ست إلى ثماني أقدام ، ولها أزهار بيضاء وبنفسجية ، بتلاتهاPetales ناعمة نعومة المخمل. وعندما ينكسر ساقها يخرج منه سائل يشيع في البلد أنه يذهب بالبصر. نسيت الاسم الذي يطلقه العرب على هذه النبتة ؛ ويسمونها في السودان حيث تنتشر بكثرة عشر (١) Ochar. وكان أحد الضباع الضخمة القابع وراء دغل قد هرب لدى اقترابنا منه ، وظل طوال مدة جريه يبدو وكأنه نقطة سوداء على رمال الصحراء الملتمعة. توقفنا ثانية / ٢٢٢ / لاستراحة طويلة في مقهى شداد الواقع في أسفل جبل كرا ، الذي كان طوال اليوم في مواجهتنا ، والذي كان علينا الآن تجاوزه. كان علينا الترجل عن الهجن التي لا تستخدم ركوبا لدى تجاوز الجبال ، وهي في الواقع ليست مهيأة لذلك. لقد كان على هجن قافلتنا أن تقوم بالتفاف طويل كي تصل إلى الطائف. وأرسل لنا الشريف الأكبر بدلا منها ما يقارب خمسة عشر بغلا كانت تنتظرنا في المقهى. وبينما كنا نعدها ، كان يطاف علينا من جميع الجهات بشراب في

__________________

(١) ذكره بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٢٧١ ، وقال إنه ذكره كثيرا في رحلته إلى بلاد النوبة ، وقال المترجمان : إنه عريض الورق ومنابته في الحجاز ونجد ، واسمه اللاتيني Asclepia وقد ورد في معجم الشهابي أنها فصيلة نباتية من ذوات الفلقتين منها الصقلاب والعشر.

٢٨١

صحيفة من خشب. وكانت أخبار وصولنا اجتذبت بدو الجوار. كانوا جميعا يرتدون أثوابا زرقاء مشدودة ، إلى الخصر بضفيرة من الجلد تلتف اثنتي عشرة أو خمس عشرة مرة حول الجسد ، ناهيك عن أنهم يتجندون حمالات سيوف مزينة بصفائح صغيرة من الفضة ، موضوع بعضها فوق بعض على شكل حراشف الأسماك. أما الخنجر المعقوف الذي يسمونه هنا جنبيّة فقد كان موضوعا في أحزمتهم ، وكانوا يحملون في أيديهم رمحا جميلا ، قناته طويلة جدا ، ومستقيمة ، ومجلوة. أما العصا فقد كان يلتف حولها سلك من النحاس الأصفر المجدول بطريقة فنية. وكان بعضهم يحمل بنادق بفتيلة ، كان أخمص كل منها مربعا ، ومرصعا بالعاج. وكانت الكفيات الزرقاء تغطي رؤوسهم ، وقد وضع عليها عقال أسود مصنوع من خليط من الشمع والزبدة والراتنج المعجونة معا ، وتكون حواف ذلك العقال الخارجية مزينة / ٢٢٣ / بعروق اللؤلؤ (١).

كان هؤلاء الرجال طوالا ، ممشوقي القامة ، وقسماتهم متناغمة ، وبشرتهم سمراء داكنة ، وكان بينهم أطفال صغار لا تتجاوز أعمارهم عشرة أو اثني عشر عاما ، يلبسون كالرجال ، ويتسلحون بمثل سلاحهم ، وكانوا في غاية الكياسة. لقد شد انتباهي السلوك الأبيّ والمؤدب في الوقت نفسه لدى الرجال والأطفال على حد سواء. كانوا يعنون بنا دون تجاوز حدود الاحترام ، وكان يحدثوننا دون ارتباك ، كنا نلمس لديهم الاستقلالية ، وعزة النفس ، وضربا من النبل الغريزي الذي لم يستطع أي احتكاك بالأجنبي أن يفسده عليهم في عمق صحرائهم.

__________________

(١) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٥.

٢٨٢

ليس بالإمكان تقديم لوحة أكثر روعة ، ولا استعراضا أكثر تأثيرا ومفاجأة. كانوا أول بدو أشاهدهم في بيئتهم الحقيقية ، وحملت لهم منذ تلك اللحظة احتراما واستلطافا لم تزدهما التجربة الطويلة إلّا تمكنا. وكانت إحدى قبائل الجوار (١) باتجاه الجنوب ، والتي آسف لنسيان اسمها ، تدّعي بحق أنها تتكلم العربية الفصحى في الجزيرة العربية. وبعد أن استبدلت آسفا كل الأسف بالهجان الرائع الذي كنت أركبه بغلا ، وبالرحل الحريري المزين بالفضة سرجا من الجلد كانت له كثير من صفات البردعة. ركبت الطريق متأخرا. وكانت تضاريس الأرض قد تغيرت تماما : إذ حلت محل الرمل أرض صلبة ووعرة ، كان يصدر عن حوافر البغال عند وقوعها عليها صوت يشبه صوت احتكاك المعادن. وبعد ميل على / ٢٢٤ / الأكثر قطعناه في أرض سهلية ، دخلنا في مضيق واسع في بدايته ، ولكنه يضيق بعد قليل منكمشا ، ويرتفع تدريجيا. وتمتد على جانبيه دكك كبيرة من النضيد الرخامي بطبقات أفقية. كان جبل كرا الذي كنا حينئذ نتسلق أولى منحدراته ينتصب أمامنا ، وكأنه يتحدانا ، كانت جوانبه متصدعة متشققة ، وقممه الجرداء ، المنحوتة على شكل قباب ورؤوس مسننة. إن الجبال التي لا تزال على حالة خلقها الأولى أكثر توحشا ووعورة من جبال العصور التالية. إنها هياكل من بداية العالم ، كانت ، كما نرى ، عرضة للهزات ، وجعلتها الاختلاجات العميقة متعرجة ، وهدمتها الاندفاعات الهائلة.

تلك هي طبيعة جبل كرا ، كتلة جرانيتية انبجست في بداية الخلق ، مثل جبل سيناء ، من أحشاء الكون. تغشاه الشمس كاملا عند غروبها ، وتضفي فجأة على

__________________

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٦٩.

٢٨٣

كل النتوءات درجة إشراق الألوان الذهبية والسوداء مما يمنحها انعكاسا مدهشا. كانت تلك اللحظة قصيرة ، ولكنها مهيبة. كان الغسق قد بدأ يخيم على الأجزاء السفلية من الجبل عندما تلفتت فرأيت بعيدا ورائي جبلا آخر منفردا ، ضخما ، يغشاه أيضا حتى قواعده لون زهري فاقع. يسمى ذلك الجبل كبكب ، وهو واحد من أعلى جبال الحجاز. أرخى الليل سدوله مبكرا على المنظر / ٢٢٥ / الرائع ، وأدركنا في أكثر مناطق المضيق الذي نسلكه وعورة ، وأكثرها توحشا ؛ لقد أصبح ضيقا ، ولا يتسع إلّا لمرور بغل واحد ، ومنحدرا لا يمكن التقدم فيه إلا ببطء شديد. كان فيه عقبات كثيرة ، جعلها الظلام أكثر صعوبة أيضا ، بيد أننا أدركنا بلا حوادث مقهى الكر (١) ؛ وهو مكان واسع مسور بالأحجار بلا طين ، وفي وسطه موقد مشتعل كما في الحسينية ، ولكن هذا الموقد ليس عليه أي قدر ، وعليه ، فليس هناك عشاء ، مع أن الشريف كان قد أمر بأن نجد العشاء هناك جاهزا ؛ ولكن يبدو أن الرسالة لم تبّلغ كما هي ، أو أنها لم تبلغ أبدا. لم يعدوا لنا أي خروف ولو كان صغيرا. وكنت على الدوام أشك في أن العبد" أبو سلاسي" هو الذي فعل ذلك بنا على طريقته. وكان على غاسبارو الذي لم يجد منذ جدة ما يفعله أن يمارس مهاراته هنا. ولكن الحقيقة أن ذلك لم يكن ليهمه كثيرا ؛ لأنه كان علينا أن نرضى بالحليب والأرز. ذهبنا ، بعد هذا العشاء المتواضع ، للنوم كل على سجادته ، تحت قبة السماء التي تزينها النجوم. ولما كنا قد وصلنا إلى الكر ليلا فإنني لم أستطع تبين ملامح المكان الذي كنا

__________________

(١) نهاية جبل الكرا وأسفله ، انظر : ما رأيت وما سمعت لخير الدين الزركلي ، ص ٧٢ ـ ٧٣.

٢٨٤

فيه. ورأيت في الصباح أننا في قعر حفرة ذات فوهة واسعة ، جدرانها شديدة الانحدار ، وجوانبها مسننة برؤوس تتفاوت في حدتها. / ٢٢٦ / وكانت رؤوس تلك المسننات عندما انطلقنا تضاء الواحد تلو الآخر حسب علوها بضوء الشروق ، وكانت بعض حزم الضوء قد بدأت تتسرب على طول النتوءات الصخرية العليا ؛ إلّا أن عتمة الشفق ما زالت تغشانا ، وكنا بحاجة إلى عدد من الساعات للوصول إلى المناطق التي تضيئها الشمس. كان ينبغي ألّا نشكو مما قاسيناه من مصاعب ، لأن الصعود الشاق الآتي سيجعل ذلك ذكرى جميلة ، وقد كان يمكن أن يكون أكثر الصعود أكثر صعوبة لو أننا لم نبادره في جو بارد. وهذا ما كان الشريف حامد خطط له بدقة. ومع أن جبل كرا أقل ضخامة ، وأقل هولا من جبل سيناء فإنه يذكّر به ، بوعورة طرقاته ، وبقحطه. لعله ، شأنه شأن جبل سيناء ، قد تعرض لهزة عميقة ؛ لأن التصدعات الواسعة والتهدمات التي تنتشر فيه وتكثر ، هي آثار لا تدحض لزلازل عنيفة خربته. لم أر في امتداده كله شجرة واحدة ، هناك بعض الجنيبات الشوكية ، وبعض من أشجار السرو القزمة التي تظهر على مسافات متباعدة عبر الصخور. كان الطريق في كل الاتجاهات منحدرا ووعرا كل الوعورة في بعض المواضع ، وإذا رأيته من الأسفل فإن سلوكه يبدو مستعصيا أبدا. لقد وصلنا على أية حال إلى نهايته بفضل خطوات البغال الواثقة ، ونفهم لماذا لا تستطيع الجمال سلوك هذه الطريق. إن مدفعية محمد علي ، إبّان حرب الوهابيين / ٢٢٧ / استطاعت مع ذلك تسلق هذه المنحدرات الوعرة ، وما زالت على الطريق الحالية آثار بعض الأعمال التي نفذت في ذلك الوقت لجعل الطريق سالكة. بل تم في بعض المواقع تعبيده مما جعله اليوم أكثر

٢٨٥

صعوبة : لأن الزمن والأمطار أزالت ذلك التعبيد ، ولم يتم إصلاحه بعد ذلك أبدا ، وقد تحولت مواد التعبيد اليوم إلى أحجار متحركة ، وإلى أفخاخ مزروعة عمدا تحت أقدام المطايا. وقد بلغت الصعوبات في بعض الأحيان حدا كان يقتضي الترجل عن البغال ، وإنزال كل الأحمال عنها ، كانت البغال متشبثة بالأرض ، تنزلق إلى الوراء ، تكاد تسقط في الهوة ، لو لا أن البغّالة كانوا يسندونها ، وكانوا غالبا مضطرين لحملها. أما عرب المرافقة فكانوا حفاة الأقدام ، يقفزون من صخرة إلى صخرة ، وكأنهم من ظباء الجبال ، وكان يمكن لهم أن يخلفونا وراءهم بمسافة طويلة ، لو لا أنهم كانوا يتوقفون غالبا لانتظارنا. كانوا ، وهم جالسون أو واقفون على رؤوس الصخور ، يبعثون الحياة في الطبيعة القاسية التي كانوا سمة من سماتها الأساسية.

وجدنا أنفسنا بعد ساعتين أو ثلاث من الصعود المتعب ، وكأنما للتعويض عن ذلك التعب ، ومكافأة عليه مستحقة ، أمام نبع عذب محمي تحت كتلة ضخمة من الجرانيت ومحاطة بالنعناع ، والزقوم (١) Absinthe ، والخزامي ، ونباتات أخرى ذات رائحة عطرة. / ٢٢٨ / كان الشريف حامد على غير عادته قد سبقنا بما يقارب

__________________

(١) عشبة معمرة تستعمل في الطب للهضم والإدرار. وذكر تاميزيه في كتابه : رحلة في بلاد العرب ـ الحملة المصرية على عسير ١٢٤٩ ه‍ / ١٨٣٤ م ، القسم المترجم ، ص ١١٦ أن العرب تسمي الأفسنتين Absynthe الزقوم ، وأضاف تاميزيه" ... وجدنا بالقرب من العقيق نوعا من الزقوم ، يشبه الذي نجده في أوروبا ، ولونه هنا يميل إلى الأخضر الداكن ، ويستخدمه العرب هنا كبهارات عند الطبخ ، ويستخرجون منه عصيرا ـ أيضا ـ ". ترجم هذا القسم من رحلة تاميزيه الدكتور محمد بن عبد الله آل زلفة ، ونشره في الرياض ١٤١٤ ه‍ / ١٩٩٣ م.

٢٨٦

مئة خطوة ، وأعدّ لنا هناك قرب النبع وجبة طعام بسيطة ، كان ماء النبع البارد والنمير أبازيره المناسبة. وظهر في إعداد الوجبة ما عرفناه من أناقة الشريف في كل أفعاله. كان النظر من هذا الموضع يقع ، إذا نظرنا إلى الخلف ، على هوة واسعة من الحجر خرجنا من قعرها الذي تستطيع العين بهلع أن تقدر مدى عمقه : إذ تنتشر في كل مكان شعاف جرداء ، وجروف شاسعة ، ومنحدرات مذهلة. كان يشيع في تلك الطبيعة المخيفة صمت عميق ، لا يقطعه إلّا أصداء بعيدة لأصوات بعض الرعاة الذين لا نراهم. وفي الأفق البعيد نحو الغرب ، وفيما وراء تلك الشعاف ، كان يقبع بجلاله وانفراده جبل كبكب الرائع الذي بدا لي في مساء اليوم السابق ، وقد غشاه لون وردي جميل. أما الآن فيغشاه لون أزرق لامع ، أكثر غمقا من لون السماء ، كان ينتصب في الأفق وكأنه جدار من الفولاذ الأسمر.

أمّا جبل كرا فيسكنه نزلاء أكثر حبا للسلم ، أعني القرود التي يحمل كل ما يمكن القبض عليه منها إلى مكة المكرمة ، ويحملها الحجاج معهم من هذا المكان إمّا إلى دمشق وإمّا إلى القاهرة حيث رأيت عددا منها يصل إبّان الحج الأخير ، / ٢٢٩ / ولكنني في مقابل ذلك لم أر أيا منها حرا متوحشا في الطبيعة. ويروي الناس بخصوصها حكاية ، يضحك العرب لها كثيرا ؛ إذ يروى أن المطر أصاب بضاعة أحد تجار الطرابيش فبلّلها ، فنشرها في الشمس لتجفيفها ؛ وما إن رأت القرود ذلك حتى هرعت من كل أنحاء الجبل ، وكم كانت دهشة التاجر عندما رآها تتواثب حوله ، وقد

٢٨٧

اعتمر كل واحد منها طربوشا. وتشيع دعابة مماثلة في الموانئ البحرية الأوروبية بفارق بسيط هو أن الطرابيش تتحول في الحكاية الأوروبية إلى قبعات من القطن (١).

كان الطريق من النبع إلى ذروة جبل كرا أكثر وعورة وخطرا ، وفي النهاية ، وبعد ثلاث ساعات أو أربع من هذا المسير الشاق ، وصلنا قمة الجبل ، وأصبحنا تحت أشعة الشمس التي كان الجبل نفسه يحمينا منها. إن أول ما يلفت النظر هو المجرى المائي الصافي الذي كان ينتظرنا على جانبه مفاجأة أخرى ، بل إكرام آخر. كان هناك في استقبالنا أحد أشراف المنطقة ممتطيا هجانا أبيض ، وكان معه في انتظارنا أيضا شريف آخر اسمه سليم ، يمتطي فرسا بيضاء ، أرسلهما الشريف الأكبر من الطائف مبالغة في إكرامنا. كان يلتف حولهم ستون / ٢٣٠ / من البدو ، من قبيلة هذيل المشهورة بالشجاعة ، وكانوا يرتدون ثيابا تشابه تماما ما كان يرتديه البدو في مقهى شداد ، وهم مسلحون أيضا بالخناجر والرماح والبنادق ذات الفتيلة. كانوا مشهورين بأنهم أمهر الرماة في الصحراء. لقد اصطفوا على طريقنا بكل الاحترام الذي يليق

__________________

(١) قال العياشي في رحلته ماء الموائد (الرحلة العياشية) ، ج ٢ ، ص ١١٦ : " ... ورأينا القرود به (جبل كرا) تصيح وتثب في أعالي تلك الصخور فتعجبنا من ذلك وأخبرنا أنها توجد في هذا الجبل ، وما سمعنا قط أنها بأرض الحجاز ، وإنما يقال : إنها تجلب من الشام والروم إلى مصر والحجاز". عن كتاب : الطائف ، جغرافيته ـ تاريخه ـ أنساب قبائله ، تأليف محمد سعيد بن حسن آل كمال ، ١٤١٦ ه‍ / ١٩٩٥ م ، جمع وتعليق د.

سليمان بن صالح بن سليمان آل كمال ، مكتبة المعارف بالطائف ، ١٤١٧ ه‍ ، ص ١١٤.

٢٨٨

بضيوف أميرهم ، ولكن بغير نظام ، ولا انضباط ، وكأن كل منهم كان يفعل ما يحلو له ، وبإرادته الشخصية. حدث كل ذلك في صمت مطبق : لم يصدر عن البدو أي صيحة ، والشريفان لم ينبسا ببنت شفة ؛ واكتفيا بالسلام علينا كما يسلم الشرقيون بوضع اليد اليمنى على الصدر ، ثم على الفم ، ثم على الجبهة. رددنا السلام بالطريقة نفسها ، ثم قادانا بعد ذلك ، يرافقنا ستون من البدو ، إلى بيت مجاور أعد لنا.

كان اسم المكان الهدى ، وكان قد أسس المنزل أو يسكنه على الأقل أحد المارقين من أهل موسكو لم أستطع الحصول على أي معلومة عنه ، وعلمت بعد ذلك بالمصادفة في القاهرة من أحد اليونانيين ، وكان يعرفه ، أنه من قدامى ضباط الحرس الذين تورطوا في الفتنة العسكرية عام ١٨٢٥ م ، عندما تسلم العرش الإمبراطور نقولاNicolas. ثم أفلح في الهرب ولجأ إلى إستانبول ، ولكن السفير الروسي ألح في طلبه ، وخوفا من أن تستجيب الحكومة التركية الضعيفة للمطالب المتكررة / ٢٣١ / لجارها القوي ، اعتنق الإسلام لكي يفلت من ثأر القيصر. ولّما أصبح يتمتع بالحصانة بسبب تخليه عن دينه ، فإنه ذهب للإقامة في الحجاز حيث قضى فترة طويلة ، ثم قضى أيامه الأخيرة في الأناضول. ومع أن أوروبيا كان يسكن ذلك البيت ، فليس فيه ما يذكّر بأوروبا : كان مربعا ، صغيرا جدا ، مبنيا بالحجارة فقط ، تمتد أمامه مصطبة ، ويحيط به عدد من الأفنية التي تطل غرفاته عليها.

كانت الغرف الرئيسية في الطابق الأرضي ، وكانت مغطاة بالبسط ، وقد أعدت لنستريح فيها ، خلوت بنفسي بضع ساعات للاستظلال ، بل قل للاستراحة ؛ لأنه لا

٢٨٩

يمكن للإنسان أن يتحمل الحركة واختلاط الأمور في منزل صغير ، حطّ فيه رحالهم ما يقارب مئة رجل مسلح. لم يستطع الجميع دخول المنزل ، بل ظل كثير منهم في الخارج ، مستلقين على الأرض ، أو يجلسون القرفصاء بمحاذاة الجدران ، أما الآخرون فقد كانوا يتزاحمون في فناء المنزل. لقد أكل وشرب هذا الجمع الغفير كله كيفما اتفق. أما نحن فقد قدّم لنا في البداية اللبن ، وله لدى العرب استخدامات كثيرة ، والمعروف أنه صحي جدا في تلك الأجواء.

ثم حملوا إلينا بعد ساعتين جبلا من الرز يعلوه خروف ضخم مشوي ، يحمله عبدان ينوءان بحمله ، ثم وضعوه أمامنا. دعونا الشريفين لمشاركتنا الطعام ، وها نحن جميعا جالسون على شكل دائرة ، وأقدامنا / ٢٣٢ / متصالبة حول هذه الجفنة الضخمة : كنا سبعة ، وكانت شهيتنا مفتوحة ، ولمّا شبعنا نحن السبعة كان الطعام لا يزال وفيرا ، وذهب ما بقي من المائدة إلى المعنيين. كانت الساعة حوالي الثالثة عندما فكرنا بالانطلاق ؛ لأن الوصول إلى الطائف كان يحتاج أربع ساعات على الأقل. لم يرافقنا شريف الجبل ورجاله من البدو ، وتمت مراسم الوداع من الجانبين بالمراسم والصمت اللذين سادا عند الوصول.

انضم إلينا الشريف سليم وحده كما فعل ذلك في اليوم السابق طاهر أفندي في الحسينية : كان الشريف سليم على رأس القافلة ممتطيا فرسه البيضاء ، وقد اكتشفنا خلال الطريق مدى تقاه وورعه. توقف في المغرب والعشاء ، ومد سجادة الصلاة على جانب الطريق ، وسجد فوقها متجها باتجاه مكة المكرمة ، وأدى الصلاتين في

٢٩٠

موعدهما المحدد. ولمّا لم يكن هناك ماء فقد تيمم بالرمل ، كما رخص القرآن بذلك للمسلمين كافة.

إن قمة جبل كرا مستوية ، وتنتشر عليها بين كل مسافة وأخرى مخاريط جرانيتية ، واضحة ، ومنتظمة حتى لتظن أن يد الإنسان قد نحتتها. وتبدو من بعيد حقول الشعير والقمح ؛ وتكثر في هذه المنطقة الأشجار المثمرة التي تعيش في أجوائنا الأوروبية ، وخصوصا أشجار المشمش / ٢٣٣ / والدراق واللوز ، وتعطي غلة وافرة ، وليس هناك أشجار نخيل أو برتقال لأن جبل كرا لعلوه غير مناسب لها. أما دوالي العنب فإنها تنتج عنبا من أفضل الأعناب وأحلاها. لقد اختل مقياس الضغط الجوي لدينا خلال الرحلة ، ولم يكن باستطاعتي تحديد درجة ارتفاعنا عن سطح البحر ؛ ولكنني لا أبالغ ، حسب الصعود الطويل والشاق ، إذا قلت إننا كنا في هذه النقطة على علو ١٦٠٠ أو ١٧٠٠ متر ؛ مما يجعل درجة الحرارة في هذه النقطة تقارب درجة الحرارة المتوسطة في بلادنا : لذلك يأتي إلى هذا المكان سكان مكة المكرمة خلال الصيف بحثا عن الخضرة والبرودة. لقد وجدت أن للمكان شبها يلفت النظر ببعض أقسام جبال الألب الوسطى في فوسيني Faucigny ، وبصخرة إيطاليا الكبيرة ـ Grand Rocher D\'Italie في أبروز (١) Abruzze.

كنا لبعض الوقت نسير في منطقة سهلية ، ثم تأخذ بالتعرج والاضطراب أكثر فأكثر ؛ اختفت الأراضي المزروعة ليحل محلها الرمل ، عدا بعض طاقات العشب التي

__________________

(١) منطقة إيطالية مشهورة بجبالها وسهولها ، وتنتمي الجبال فيها إلى سلسلة الأبينان L Apennin ، وأعلى قمة فيها هي صخرة إيطاليا الكبرى (٢٢٩١ م).

٢٩١

تطل برأسها بصعوبة ، لتكون حينئذ مرعى للأغنام الهزيلة ، ثم تختفي المزروعات تماما. وترهص كتل الجرانيت الضخمة المتراكبة فوق بعضها بنهاية الأرض السهلية.

بدأنا بالانحدار ، ولكن ، باسثناء بعض المنحدرات الشديدة بعض الشدة ، وبعض الممار التي كان في عبورها شيء من الصعوبة ، فإن هذا الجانب لا علاقة له البتة / ٢٣٤ / بالجانب المقابل ، وإذا قورن به فإنه سيكون بمثابة انحدار صغير. وقد كان بإمكان الهجن أن تسير عليه بيسر وسهولة. كان هناك منحدر أول ، يتبعه شعب رملي مستو كل الاستواء ، محصور بين هضبتين منخفضتين ، وينتصب في آخره حصن مهدم كان فيما مضى مخصصا لحماية القوافل. ولم يعد اليوم يستخدم إلّا لتزيين المشهد ، وسكن الجوارح التي تخفي فيه أوكارها. لقد كان الأفق حتى هنا مغلقا ، ثم انفتح فجأة ، كما لو أن ذلك تمّ بفعل السحر. لقد انبسط أمامنا سهل ضخم دائري ، ولكنه كان أكثر انخفاضا من المنطقة التي كنا فيها وتحيط به من كل الجهات سلسلة جبال غزوان (١) الجرداء ؛ وهي جبال متساوية العلو تقريبا ، ولكنها تتفاوت في أشكالها ، وكانت كلها حينئذ يغشاها لون المساء الأرجواني. وكان شيء من البياض يبدو في وسط السهل : إنها الطائف. يؤدي منحدر ثان أقل انحدارا وقصرا من الأول إلى وادي القرن الذي كان مرصعا بالروضات ، وتشقها كلها سواقي المياه التي تدل على أن الشعب الذي يسكن المكان شعب حاذق.

__________________

(١) ذكر البلادي في معجم معالم الحجاز ، ج ٥ ، ص ٢٢٤ أن الصواب : عروان بالعين المهملة والراء المهملة ، ويبعد عن الطائف سبعين كيلا. ولا يعتدّ بهذا لأنه : غزوان في الكتب الجغرافية العربيّة القديمة ؛ انظر : المقدسي وغيره.

٢٩٢

قابلنا طوال الأمسية كثيرا من العرب المسلحين في الجبل ، وقابلنا أكثر منهم أيضا في الوادي ، ولكنهم بلا سلاح ، ويعملون بسلام على استخراج الما لري روضاتهم ، أو لسقاية قطعانهم. / ٢٣٥ / وكان الجميع يتركون أعمالهم عند اقترابنا منهم ، ويقبلون للسلام على الشريفين وعلينا بطريقة غير مباشرة. كانت رؤوس هؤلاء البدو المزارعين الذين هم أكثر سوادا من بدو حدّة حاسرة ، وكان كل ما يلبسونه ثوبا قصيرا من الكتان الخشن. وكان كل شيء يوضح أنهم يعيشون حياة ريفية شاقة ، وأنهم يتمتعون بلطف فائق ، وبطبائع وعادات غاية في البساطة. كانت تبدو في عيونهم وهم يروننا نمر أمامهم علائم الدهشة والفضول في بعض الأحيان ، وليس علائم العدوانية أو الضغينة ، ولم يكن ثمة أي ظل من التعصب.

لم يكن علينا بدءا من هذه المنطقة أن ننحدر ؛ لأن الطريق كان يتعرج في بعض المواضع ، ولكنه كان لينا جدا ، وكانت حوافر البغال تنغمس بكاملها في الرمال ، وكانت تسير ببطء شديد مما أخر سيرنا. أدركنا بعد قليل ليل دامس ، ولكنه مرصع بالنجوم ؛ وكانت هناك بعض الأعشاب الشوكية التي تنتشر حولنا ، وتقف في طريقنا ، وتعلق رؤوسها الحادة ببرانسنا وعباءاتنا.

وصلنا أخيرا إلى أسوار الطائف ، كانت الساعة السابعة مساء ، وكان الباب مغلقا ، ولكنه انفتح لحظة وصولنا ، وكأنما بفعل السحر ، لأننا لم نر أحدا يقوم بذلك. دخل الشريف سليم أولا ، وكان مقدّمنا. كان مركز الحراسة التركي المؤلف مما يقارب اثني عشر جنديا من المشاة في رتل واحد ، وقد تقلدوا السلاح لتأدية تحية الشرف

٢٩٣

عند مرورنا. / ٢٣٦ / ولمّا دخل الجميع تحركت مفاصل الباب من جديد ، وانغلق كما كان قد انفتح. فاتني القول : إن طاهر أفندي سبقنا قبل ميل تقريبا من الوصول إلى الطائف ، ليخبر الشريف الأكبر بوصولنا الميمون ، ولكي يتأكد بنفسه بلا شك من أن كل شيء يتم كما ينبغي. رأينا كيف تم كل شيء على أحسن حال ، وسنرى في الفصل التالي أن كل شيء سيتم لاحقا بأحسن مما سبق.

٢٩٤

الفصل العاشر

الطائف (١)

عبرنا قسما من المدينة الغارقة في الصمت والظلام ، وقادنا الشريف سليم مباشرة إلى المنزل الذي جهزوه لإقامتنا : كانت تشتعل على بابه عدة مشاعل ، واصطف لدى الباب أيضا حرس مكون من عبيد منزل الأمير ، وهم يلبسون ويتسلحون كما كان الرجال الذين يرافقوننا يلبسون ويتسلحون ، ناهيك عن جندي انكشاري يحمل عصا في رأسها كرة من الفضة ، وكأنه من حرس الكنائس أو الفنادق

__________________

(١) ترجم الدكتور محمد بن عبد الله آل زلفة ما كتبه ديدييه عن الطائف ونشره في صحيفة الجزيرة ، العدد ١٠١٦٢ ، الثلاثاء ٢٣ ربيع الآخر ١٤٢١ ه‍ / ٢٥ يوليو (تموز) ٢٠٠٠ م ، ص ١٢ ، بعنوان : الطائف في كتب الرحالة الأوروبيين شارلز ديديه نموذجا ؛ والصواب : شارل ديدييه كما يقتضي النطق الفرنسي. والترجمة عن الإنجليزية وقد استفدنا منها ، وتعقبه الدكتور سليمان بن صالح آل كمال في مقالة بعنوان : تعقيب على د. محمد آل زلفة : الرحالة وقعوا في أخطاء يجب التصدي لها ، الجزيرة ، العدد ١٠١٨٨ ، ٢٠ جمادى الأولى ١٤٢١ ه‍ / ٢٠ أغسطس (آب) ٢٠٠٠ م ، ص ١٣. وقد تحدث تاميزييه وبوركهارت عن الطائف ، وتحدث الأستاذ محمد سعيد بن حسن آل كمال في كتابه : الطائف ، جغرافيته ـ تاريخه ـ أنساب قبائله ، جمع وتعليق د. سليمان بن صالح بن سليمان آل كمال ، مكتبة المعارف بالطائف ، ١٤١٧ ه‍ ، ص ١٣ ـ ٢٧ عن مؤرخي الطائف ومؤلفاتهم. وانظر في مجلة" المنهل" م ٧ ، ع ١٠ ، ١٣٦٦ ه‍ ، ص ٤٤٥ ـ ٤٤٦ مقالة للأستاذ الشيخ عبد الوهاب الدهلوي بعنوان : " تعريف بالكتب المؤلفة عن الحرمين والطائف وجدة" ؛ وانظر كتاب : تاريخ الطائف قديما وحديثا ، مناحي ضاوي حمود القثامي ، مطبوعات نادي الطائف الأدبي ، د. ت.

٢٩٥

السويسريين. وعندما ترجلنا جاء إبراهيم أغا خازن الشريف الأكبر حتى الشارع لاستقبالنا ، / ٢٣٧ / وأدخلنا إلى مجلس مستو يطلّ على الفناء ، الذي كان في واقع الأمر امتدادا له ، ولا يتميز منه إلّا بأنه مغطى ، وأكثر ارتفاعا ببعض درجات. كان الفناء مرصوفا ببلاط كبير ، وفي وسطه بركة من الرخام الأبيض فيها نافورة مياه ؛ وكان هناك دالية تعرّش على طول الجدران. كان المجلس مفروشا بسجاد أحمر وأسود جميل ؛ وتنتشر فيه أرائك من الحرير الأخضر المطرز بخيوط ذهبية.

وكان هناك أربعة قناديل مضاءة تتدلى من السقف ، وشمعدانان ضخمان ، يبلغ علو كل منهما ثماني أقدام ، يتلألآن في ضوء الشموع ، وعبدان أسودان يلبسان ثيابا فاخرة ، ويرجّان برصانة مبخرتين زاخرتين بالعود ، ونشرا حولنا عند دخولنا سحابة من البخور ؛ وهو تقليد لا يقومان به إلا عند استقبال شخصيات مهمة. لقد هيؤوا لنا كراسي أوروبية. وما كدت أجلس حتى أحضر عبدان الإبريق لغسل اليدين ، وبينما كان أحدهما يصب الماء الفاتر على يدي من وعاء جميل ، كان الآخر جاثيا على ركبتيه أمامي ، وهو يحمل إبريقا عريضا ذا قعرين ، مثبتا في وسطه كوب صغير لوضع الصابون ؛ وكان في القعر الأول ثقوب متعددة يتسرب منها الماء ويختفي في الداخل.

قدّم لي بعد ذلك فوطة طويلة من الكتان ، مزينة بالأهداب ، ومطرزة / ٢٣٨ / بالذهب من الطرفين. تلك الأشياء كلها : الإبريق ، والوعاء ، والمبخرتان ، والشمعدانان ، والقناديل ، مصنوعة من الفضة المصمتة ، المرصعة بمهارة ، وقد جلبت ـ شأنها شأن بقية الأشياء ـ من منزل الشريف. وعندما قدّر القائمون عن

٢٩٦

خدمتنا أننا نلنا قسطا كافيا من الراحة انفتح باب في صدر المجلس ، وظهرت لنا طاولة أعدّت على الطريقة الأوروبية ؛ مع الصحون ، وغطاء المائدة ، والسكاكين ، وحولها الكراسي ؛ أي كل الأشياء المجهولة في الشرق حيث يأكل الناس جلوسا على الأرض ، وتقوم أصابع المدعوين مقام كل الأشياء الأخرى. كانت الشوكات من الحديد ولها قبضات من العاج ، والملاعق كانت من المحار المرصع بزخارف ذهبية.

كان العشاء يزخر بأنواع الأطعمة المحلية. جاء أولا الخروف الذي يعدّ من عادات الضيافة ، كان محشوا بالرز ، واللوز والفستق. ثم تلته أوراق العنب المحشوة ، والكباب ؛ وهو قطع من اللحم مربعة ومشوية على السفود ، وعصائر الورد المخثّرة المطبوخة مع صدور الفراريج أو الخراف ، أتت بعد ذلك كله تشكيلة منوعة من الحلويات تسمى" الفطير". ناهيك عن الأشياء الأخرى العجيبة ؛ كان كل ذلك متبلا بالأعشاب العطرية المقطعة في الخل ، وله صلصة بالكريما المطيبة بالتوابل ؛ وهو خليط كان يثير الرعب لدى بدر الدين حسن ؛ الحلواني المشهور في" ألف ليلة وليلة". ثم أعلن تقديم البيلاف (١) نهاية العشاء الذي جرت مراسمه بسرعة كبيرة.

كان الساقي / ٢٣٩ / يحمل دورقا ، أو قلّة ، مملوءة بالماء البارد يطوف به في كأس من الفضة يشرب الجميع منها. ولست بحاجة للقول : إن النبيذ لم يكن موجودا ؛ ولكن القائمين على خدمتنا كانوا يعرفون عادة المسيحيين ، فقالوا لنا بلطف : إنه لا ينبغي أن نخجل من ذلك إذا كنا نحمل معنا ، وقد كنا في واقع الأمر قد اتخذنا الاحتياطات لذلك ؛ إلّا أننا لم نشربه إلّا في غرفنا الخاصة احتراما لمستضيفنا.

__________________

(١) البيلاف : طعام شرقي من أرز ولحم وتوابل.

٢٩٧

ولمّا انتهى الطعام ، عدنا إلى المجلس لشرب القهوة والتدخين ، وفي حوالي العاشرة قادونا إلى الحرملك في الطابق الأول حيث أعدت لنا مبالغة بالاهتمام أسرّة أوروبية. وكانت النساء قد غادرن المنزل في الصباح ليخلين لنا المكان ، ومع أنهن غائبات فإن كل شيء في البيت كان يذكّر بهن. كان هذا البيت من أجمل بيوت المدينة ، ويمتلكه تاجر غني من أصل هندي اسمه محمد سيد شمس (١) ، وكانت أعماله في مكة المكرمة ، إلّا أنه كان في تلك الفترة يسكن الطائف ، ووضع بيته تحت تصرف الشريف من أجلنا ، وذهب مع أسرته كلها إلى منزل آخر ، وكان في الأسرة ثلاثة أجيال ابنه عبد الله ، وحفيده عبد القادر الذي يذكّرني ، سنه ، وصورته ، وثيابه ، بفتى آخر يحمل الاسم نفسه ؛ إنه ابن فراج يوسف في جدة ، وقد كان هنديا مثله.

إن اسم عبد القادر الذي اكتسب شهرة واسعة في فرنسا هو اسم ولي من أكبر / ٢٤٠ / أولياء المسلمين ، وهو شائع جدا في الشرق. كانت الأجيال الثلاثة في استقبالنا عند وصولنا. ولكن ابن محمد شمس وحده هو الذي لبى دعوتنا للعشاء ، بينما ذهب الجد بسبب كبر سنه ، والحفيد بسبب صغره إلى النوم في ساعة مبكرة.

__________________

(١) قال الدكتور سليمان بن صالح آل كمال في تعقبه الدكتور آل زلفة ، موثق سابقا : " إن هذا البيت موقعه في محلة واسط (أي وسط القرية) بزقاق الخميس ، مبني من الحجر ويتألف من عدة طوابق. أما بيت شمس الدين فهم من الأسر المكية الثرية في ذلك العهد ، برز منهم بعض العلماء ، وكانوا يمتلكون مكتبة ضخمة. أورد ذلك عنهم الشيخ أبو الخير عبد الله مرداد رحمه‌الله في كتابه القيم (المختصر من نشر النور والزهر) وينسب إليهم في الطائف مسجد شمس بمحلة السليمانية. وذكر غير ذلك. وانظر : بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ١١٩ ـ ١٢٠.

٢٩٨

وتناول الشريف حامد طعام العشاء معنا ، ولكن الشريف سليما الذي أنجز مهمته استأذن منا للذهاب إلى منزله للاستراحة. وباستثناء واحد أو اثنين من خدم المنزل ، كان الجميع قد قدموا من بيت الشريف الأكبر الذي تخلى لنا عن طباخه الخاص ، واستغنى عنه طوال مدة إقامتنا في الطائف : لقد كان فنانا حاذقا ، أصله من إستانبول ، وأخذ عنه غاسبارو عددا من وصفات الطبخ المحلية ، وحضرها لنا فيما بقي من الرحلة. وكانت طاولتنا في كل يوم عامرة بأنواع المآكل التي كانت في اليوم الأول.

وجاء في اليوم التالي القائمون على خدمتنا يتلقون رغباتنا فيما نود أن يقدم لنا في الفطور كما لو أننا كنا في بيوتنا ، ويقوم على خدمتنا خدمنا الخاص. وكان جوابنا ، أننا لا نأكل في الصباح إلّا قليلا ، فقدموا لنا في صحون صغيرة الحجم وجبة طعام خفيفة من الزبدة الفاخرة ، والجبن الطازح القليل الملح ، والفواكه ، والزيتون ، والعسل اللذيذ ، وتشكيلة من المربيات من كل الأنواع تم تحضيرها في منزل الشريف الأكبر بعناية نسائه. إن الرقيق في الشرق ، وخصوصا الحبشيات ، ماهرات جدا في هذا المجال ، وتشرف السيدات / ٢٤١ / عادة على عمليات الإعداد المهمة. وهذه واحدة من أكثر وسائلهن براءة لتمضية الوقت ، وهو أمر مهم لهؤلاء السيدات اللواتي لا يقمن بأي عمل. وتنافس الحريم في هذا المجال بعض الأديرة الإيطالية حيث تكشف الراهبات عن مواهب جليلة في هذا النوع من الأعمال ، ويتمتعن بشهرة مستحقة.

٢٩٩

وإن راهبات دير لامارتوراناLa Martorana في بلرم (١) Palerme ، وأخريات غيرهن ، يتركن ذكريات لطيفة في ذاكرة كل المسافرين. وإن للرهبان اختصاصاتهم أيضا ؛ إذ يصنع كثير منهم ، كما هي حال رهبان دير غرونوبل الكبيرLa Grande ـ Chartreuse de Grenoble ، ماء ورد لا نظير له.

يقيم الشريف الأكبر في قصر يبعد نصف ساعة عن المدينة ، بناه في عمق الصحراء ، وكان لا يكاد يغادره. وأرسل لنا خيولا لتحملنا إليه. كان اسم حصاني" عسير" باسم المنطقة التي جلب منها ، وكان فحلا رائعا أسود اللون ، يشتعل حيوية ونشاطا ، وكان وديعا ، شأنه شأن الخيول العربية كلها ، ويستطيع الطفل ركوبه. أمّا السرج الذي كان مكسوا بالصوف الأزرق ، وموشى بخيوط ذهبية رفيعة ، حسب الطريقة التي يستخدمونها في إستانبول ، فقد كان ذا ثمن باهظ وروعة تليق بالأمراء حقا.

كان الجندي الانكشاري يسير في مقدمة الموكب ، وهو يحمل عصاه الطويلة ذات المقبض الفضي ، وكان يرافقنا عدد كبير من الحراس ؛ منهم الفارس والراجل. وكان سائس خيل الشريف يسير أمامي ، وهو يرتدي الثياب الخاصة بالمناسبة. إن لسائسي الخيول عند العرب منزلة عالية ، وتنحصر وظيفتهم الأساسية في الجري / ٢٤٢ / على أقدامهم أمام حصان السيد أو هجانه ، ومهما كانت سرعة الحصان أو الهجان

__________________

(١) بلرم ، بالرمو بالإيطالية : مدينة في جزيرة صقلية ، وهناك كنيسة تحمل اسم لامارتورانا تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي ، ورمّمت في القرن السابع عشر.

٣٠٠