رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

المسجد ، وقد سنحت لي بذلك الفرصة لأرى أمام عيني ، خلال عدة ساعات ، مرور كل السكان الذكور ؛ ولم أر أية امرأة.

في البدء هاهم المؤمنون يذهبون إلى صلاة العصر في المسجد المجاور ، ثم يأتي بعد ذلك الغواصون الذين طالما ألحوا عليّ ، وبأدب جم ، لأزور أماكن غوصهم. وكان يمر أمامي أيضا جيئة وذهابا ، وبأنفة ، عدد من الباشي بوزوق (١) الأرناؤط والأكراد الذين يشكلون حامية تحتفظ بها الدولة العثمانية هنا ، والذين كانوا يصطنعون هيئة الشجاعة للتأثير فيّ ، وهم مسلحون بغدّاراتهم الطويلة ، متلفعون ببرانسهم البيضاء.

ثم جاء دور الحاكم ليمرّ بعدهم ، وهو لم يأت إلّا بدافع الفضول ، ولكي يلتمس زيارتي ، ولكنه لّما كان مجرّد أفندي ، فإنه لم يكن له ما يؤهله لكي أمنّ عليه بهذا

__________________

(١) جاء في معجم المصطلحات ... ، موثق سابقا ، ص ٦٥ : " باشي بوزوق : لفظ تركي أطلق في العصر العثماني على القوات غير النظامية" الجيش الشعبي أو المليشيات" كانت معروفة في مصر أيام محمد علي باشا ومن جاء بعده ، بلغ عدد أفرادها في عصر إسماعيل ٥٠٠٠ مقاتل ، وهم من الأتراك والعرب ، مهمتهم المحافظة على الأمن في الداخل ، والواحات ومرافقة محمل الحج ، ناهيك عن جباية الضرائب. كانت أرادي" معسكرات" الباشي بوزوق ترتبط بديوان مستقل عن ديوان الجهادية يعرف بديوان" السرجشمة" وكان هذا الديوان يتولى إدارة جنود الباشي بوزوق من حيث التجهيز والتسليح وتطبيق النظم العسكرية ، غير أن هذا الديوان ألغي فيما بعد ، وألحق الباشي بوزوق بديوان الجهادية ، كان لباس الجندي من هؤلاء مصنوعا من الزرد ، وسلاحه سيف مستقيم كأسياف الصليبيين ويتدرع بطراز معروف من الدروع ، وعلى رأس الواحد منهم خوذة لها حامية للأنف على نمط خوذ المماليك". وانظر المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية ، موثق سابقا ، ص ٥٦.

١٦١

التمييز : ولما كانت أوروبيا وفرنسيا ومسافرا مميزا ، وطبقا للعرف ، وكما ينبغي أن يكون أي شخص يسافر لمتعته ولتثقيف نفسه ، فإنه لم يكن عليّ أن أخصه بأي مجاملة.

وربما أدهش بعض الناس رؤيتي أتحدث غير مرة عن موضوع آداب العشرة ، وأتخذ منه موقفا متصلبا ؛ / ١١٥ / ولكن ذلك ضروري في الشرق ، حيث لكل شيء قواعده ، وحيث تطبق الرسميات بصرامة شديدة : وإن احترام الأوروبيين مرتبط بمدى التزامهم بهذه الأمور البسيطة ، إن أي مخالفة للعادات المتمكنة ، تنقلب حتما ضد المخالف ؛ وإن أي تساهل أو أي مبادرة مهما كانت بسيطة تعد خضوعا وليس تسامحا ، وتعد اعترافا شخصيا بالدونية ، وبتفوق الآخر. ولما وجد الشرقيون ، والأتراك خصوصا ، أنهم مضطرون للتنازل للأوروبيين عن كل الأشياء المهمة ، فإنهم استعادوا تميزهم بذكاء ملفت في مسائل حق التصدر ، وفي العلاقات اليومية ، ينبغي في معاملتهم الانطلاق على الدوام من مبدأ أن كل ما يخصهم مهم ، وأنه لا شيء مما يخص الآخرين مهم في نظرهم.

إن ديوان الحاكم الذي لم أذهب إليه ، يقع في منزل ذي مظهر جميل ، إنه أجمل بيت في المدينة ، أقيم قرب البحر في مكان متميز ، وبينما كنت أمر أمامه لأعود إلى الميناء ، عرتني الدهشة ، عندما رأيت على مقربة منه تحت سقيفة ، ستة مدافع متروكة هناك منذ ما يقارب ثلاثين سنة ، تركها محمد علي أو ابنه إبراهيم باشا بعد

١٦٢

حرب الوهابيين ، وهي في حالة جيدة ، ولم يكن وجودها نشازا في أي رحبة مدفعية أوروبية. / ١١٦ / وفي اليوم التالي نشر السنبوك قلوعه عندما نادى المؤذن الذي كان من أعلى المنارة يدعو المؤمنين لأداء أولى الصلوات الخمس في اليوم ، وتقابل صلاة السحر عند الكاثوليك ، وتسمّى أذان الفجر. وعندما طلعت الشمس كنا قد قطعنا عددا من الأميال. لقد كانت أيام ٧ و ٨ و ٩ فبراير (شباط) تشبه أيام ٣ و ٤ و : هواء مؤات ، بحر هادئ ، إبحار سريع ، الحالة التأملية نفسها ، غروب متألق ، وتوقفات ليلية في عرض البحر. ولما لم يعد على فريق البحارة أن يجدفوا ، فإنهم عادوا إلى سيرتهم الأولى في التكاسل ، يقضون النهار بالتدخين والنوم ، إنها حياة الكسالى المثلى ، ولا يعني ذلك أن هذه الأنحاء غير خطرة ، حتى في أكثر الأجواء مناسبة ، وذلك بسبب الأرصفة الصخرية ، والعثرات الموجودة تحت سطح الماء التي لا تزال المنطقة تعج بها.

ولكن الممارسة الطويلة للقباطنة ، جعلتهم يتغلبون على هذه الصعوبات بسهولة ، وقد كنت معجبا بمهارة قبطاننا ، وهو يتجاوز كل تلك العقبات ، غير عابئ بوجودها. إن هؤلاء الرجال الذين يفرطون في الفزع خلال المد ، تجدهم هنا وقد ملئوا حزما يكاد يصل حد التهور ؛ إنها أمكنتهم المفضلة ، وإن العادة (الروتين) توجههم توجيها أدق من أي خارطة.

لقد أصيب الريس عشية وصولنا إلى ينبع بحمى مقلعة لم يستطع التخلص منها ، وظلت تقض مضجعه حتى جدة. / ١١٧ / كان عندما تحل به نوبة الحمى يظل

١٦٣

مستلقيا على سجادته مرتعشا ، مرسلا تأوهات محزنة ، وعندما كانت تمضي النوبة ، كان يتناول من جديد شيشته وأعماله. وكان هذا التوالي يحدث عدة مرات في اليوم. لقد حاول رفيق رحلتي ، الذي كان يحمل معه صيدلية تجانسية (١) Homopatique أن يجرب عليه موهبته الطبية البسيطة ، ولكنه لم ينجح في التخفيف عنه ، وظلت الحمى تفعل فعلها.

كان اسم الريس خليل سلام ، وكان رجلا محببا جدا ، مفضالا ، ومؤدبا ، كما ثبت لنا خلال الفترة الماضية ، وكان على الدوام يسعى لإرضائنا ، كان كوستا المتبصر قد وضع في العقد شرطا ينص على أن الرحلة ينبغي ، مهما كانت الظروف ، أن تكون ممتعة لنا ، وأن على القبطان أن يجعلها كذلك لنا. ولم أر أبدا أن أحدا استطاع الوفاء بالتزامه كما حصل هنا ، لقد تم تنفيذ العهد بدقة من جميع جوانبه ، وهذا شيء نادر الحدوث في أوروبا. لم يكن لدي أدنى ملاحظة يمكن توجيهها ، وأقل من ذلك أيضا المآخذ التي يمكن أن آخذها على خليل سلام إبان كل الفترة التي قضيتها على متن السفينة. وأشك أن يكون هناك في أي ميناء غربي كثير من القباطنة يتمتعون بمثل هذه الدقة ولين الجانب. لم يكن يرتدي في البحر ، شأنه شأن بقية البحارة ، إلا قميصا من القطن ، ولكنه عند النزول إلى اليابسة ، كان يلبس ثيابا جميلة من الحرير ، وكان له حينئذ حقيقة هيئة الوجهاء. / ١١٨ / كان الساحل لا يزال محاطا بجبال عالية ،

__________________

(١) نسبة إلى الطب التجانسي الذي يقوم على مداواة الداء بالداء. (عن المنهل).

١٦٤

وكان أكثرها ظهورا لنا (١) صبح ، والنّباع (٢) ، وجبل بني أيوب ، وكلما تقدمنا نحو الجنوب تكاد الجبال جميعا تأخذ شكلا هرميا ، وأكثر تلك المخروطيات العالية ظهورا هو مخروط كلّية ، وإذا تقدمنا أكثر نحو الجنوب ، فإن الجبال تنخفض انخفاضا قليلا ، وكلما اقتربنا من جدة يصبح الساحل سهليا. تنتشر بين تلك الجبال الواقعة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة أشجار البلسم المكي الذي يتمتع بسمعة طيبة في الشرق ، بل في الغرب أيضا ، ويجنى من تلك الجبال عسل ذو مذاق لذيذ ، لونه أبيض برّاق. وهنا أيضا تتكاثر أشجار الأراك (٣) التي يتخذ منها العرب مساويك لأسنانهم. وتسكن في المناطق العالية نسور جريئة ، حتى إنها تهوي على القوافل ، وتختطف ما في صحون طعام الحجاج. وقد أكد ذلك بوركهارت ، وكان هو نفسه أحد ضحايا هذا الاختطاف الفظ (٤). أما المناطق المنخفضة فيسكنها أعراب زبيديون من قبيلة حرب

__________________

(١) كذا في الأصل Loubeh ولعل صوابهاSoubeh ـ صبح (جبل) وهو منطقة قبيلة صبح القوية المتفرعة من قبيلة حرب. قال بوركهارت : ... وتوجد هنا بشكل رئيسي أشجار البلسم المكي ، وسنا مكة المكرمة أو السّنا العربي الذي تصدره قافلة الحجيج السوري ولا يجمع إلّا من هذه المنطقة. انظر : رحلات بوكهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٢٨٢.

وانظر : ص ٢٨٥ أيضا ففيها حديث مفصل عن البلسم المكي.

(٢) في الأصل : Napa.

(٣) في الأصل :Un arbuste dont les Arabes font leurs brosses dents

والترجمة الحرفية هي :وشجرة الأراك جنبة (وهي كل شجرة علوها متران إلى سبعة أمتار تظل صغيرة وإن شاخت) يتخذ منها العرب مساويك لأسنانهم.

(٤) قال بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٣٧٢ : " ... ويوجد في الجبال المجاورة أعداد هائلة من النسور (الرخم) إذ كانت المئات منها تحوم حولنا ، وبعضها كان ينقضّ ـ بالفعل ـ ويخطف اللحم من صحوننا." انظر تعليق المترجمين رقم (٣) في الصفحة نفسها.

١٦٥

الكبيرة ، وينظر إليهم الأعراب الآخرون نظرة ازدراء لأنهم حضريون ويعملون في الصيد. لقد قابلنا في عرض البحر واحدا من أولئك الصيادين المهرة ، كان رجلا رائعا ، ممشوق القوام ، عاريا تماما حتى لتحسبه إله الموج مصنوعا من البرونز / ١١٩ / الفلورنسي. كان منتصبا بإباء على مركبه ، وجاء يعرض علينا السمك الذي اصطاده ، ولكننا لم نستطع الشراء منه ، لأنه كان يرفض نقودنا ، ويطلب ثمنا لبضاعته قمحا أو تبغا : ولم يكن لدينا على ظهر السفينة لا هذا ولا ذاك.

هناك عدد من المدن والقرى على ذلك الساحل ، من بينها الجار التي لم نستطع تبين ملامحها عند مرورنا ، إلا بمساعدة المنظار. وفي منطقة أعلى ، وإلى الداخل قليلا هناك مستورة ؛ وهي إحدى محطات قافلة الحج المصرية ، وإلى أقصى الجنوب هناك رابغ التي يلفظها بحارتناRabr والتي قضينا ليلة ٨ في موازاتها ، ولكن في عرض البحر بعيدا عنها ، أما الليلة السابقة فقد قضيناها على خط الاستواء وقد واجهنا في يوم ٩ كثيرا من الصخور المفتتة والشعاب المرجانية ، ولكل واحد منها اسم خاص : وأخطرها يسمّى ، إن لم يخني سمعي ، أم الحبلين (١). وكانت جزيرة غواط (٢) Ghaouat غير بعيدة عنا. ثم يأتي بعد ذلك رأس حطيبة. وبعد وقت قليل من تجاوزنا ذلك الرأس ، قابلنا سنبوكا على متنه جماعة من الدراويش العائدين من مكة المكرمة ، وكانوا يرفعون علما أخضر ، وهذا هو اللون المحبب لدى المسلمين ، والذي كان لون

__________________

(١) كتبها ديدييه Om ـ el Hableijn وترجمها إلى الفرنسيةmer des deux Cordes ـ أم الحبلين.

(٢) كتبت في الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥٨Ghawat ـ غواط.

١٦٦

شعار محاكم التفتيش في إسبانيا. وعلى الرغم من خصوصيته الدينية ، وعلى الرغم من كوننا من غير المسلمين ، فإنهم حيّونا بصوت عال عندما مروا بقربنا ، وكانت صيحاتهم تختلط بالموسيقى والأغاني التي كان يتردد صداها على سطح الماء / ١٢٠ / واستمر يتردد طوال الوقت الذي كنا فيه نسمعهم.

لم نلتق بكثير من المسافرين خلال الرحلة ، ومع أننا أبحرنا في بعض الأحيان مع سفن أخرى تمضي في الوجهة نفسها ، فإن سنبوكنا كان سريعا كل السرعة مما جعلنا نسبقهم دائما. كان هذا اليوم الأخير رائعا : أبحرنا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، وقطعنا ما يقارب ٧٠ ميلا حتى الساعة الثامنة مساء ؛ وهي الساعة التي دخلنا فيها ميناء جدة. لم يحدث من قبل أن تم العبور بهذه السرعة ؛ لأننا إذا استثنينا فترات التوقف الإرادية ، ورحلة سيناء ، فإن الرحلة من السويس إلى جدة لم تستغرق إلّا أحد عشر يوما ، ممّا يعني أننا كنا نبحر بسرعة ممتازة ، خصوصا إذا أخذنا في الحسبان أننا كنا نتوقف الليل كله. لا أود مغادرة البحر الأحمر ، دون الإشارة إلى أنه غني جدا بالأصداف التي تحتوي على أحجار كريمة ، وأننا نجد فيه ، وخصوصا في مياه جدة ، كثيرا من السمك الطيار الذي يسميه العرب : جراد البحر.

خالف الريس أنظمة الشرطة المحلية ، عندما دخل ميناء جدة في الليل ، وهو لم يلجأ إلى هذه المخالفة إلّا لكي ننزل إلى اليابسة مبكرين. وقد عوقب على ذلك بالسجن ، وربما كان سيظل هناك عددا من الأيام ، لو لا أنني تدخلت لدى السلطات لإطلاق سراحه بعد توقيفه ببضع ساعات ، وقد كنت أشعر / ١٢١ / بالسعادة ،

١٦٧

لأنني استطعت بهذه الخدمة البسيطة أن أرد إليه بعض سالف خدماته خلال الرحلة. وقد وزعنا بخشيشا مجزيا على أفراد الطاقم كلهم ، وعلى الريس أيضا ، مسددين بذلك ما لهم من دين في ذمتنا. قضينا تلك الليلة على متن السفينة أيضا ، وكان علينا في اليوم التالي أن نتتظر ساعة المد والجزر المناسبة لكي نغادر السنبوك. إن ميناء جدة مملوء بالأرصفة الرملية ، ومياهه ضحلة حتى إنه ينبغي على السفن أن ترسو على بعد ٢ إلى ٣ أميال عن الشاطئ ، وقد كانت هناك في قنوات الملاحة سفينة ذات ثلاث صوار جانحة ، تقبع هناك شاهدا يثير القلق ، ويدل على الأخطار التي يتعرض لها من يخاطرون بدخول الميناء. جاء مركب مسطح ليحملنا من السنبوك إلى اليابسة ، وكان هذا المركب نفسه مجبرا على القيام بالتفافات كبيرة حتى لا يغوص في الرمال ، ومع ذلك فإنه اصطدم غير مرة بقاع البحر. ولكننا ، على الرغم من ذلك ، وصلنا أصحاء سالمين ، ولكن في الساعة التاسعة ، إلى رصيف الجمارك الواقع غير بعيد عن حصن ، هو في حالة سيئة ، ولكنه يثير الإعجاب ، ويحتل موقعا متقدما في البحر.

١٦٨

الفصل السادس

جدّة (١)

أخبروني في القاهرة أن جدة ليست إلّا حيا صغيرا ، وقد تكرر ذلك على مسامعي حتى إنني / ١٢٢ / لم أكن أنتظر رؤيتها على ما هي عليه. كم كانت دهشتي كبيرة عندما وجدتها على العكس مدينة جميلة ، مكينة البناء ، جيدة التأسيس ، تعج بالسكان ، نابضة بالحياة ، ومزدحمة ، وجديرة على كل المستويات أن تحمل الاسم الذي تعرف به ، ميناء مكة المكرمة ، وليست بأقل جدارة لحمل اسمها الذي يعني بالعربية الغنية (٢). ناهيك عن مياه مينائها الضحلة وأرصفتها الرملية فهي محمية من ناحية البحر بحصن وبسرية مدفعية بينها مدفع ضخم من عيار خمس مئة مليمتر يزرع الرعب في قلوب البدو. والمدينة محاطة من الجهة الأخرى بسور سميك ، مرتفع بما يكفي ، مصان صيانة جيدة ، مسبوق بحفرة عميقة ، وعليه أبراج في حالة جيدة. إن هذا المعقل لا يصمد ساعة أمام قصف المدفعية الأوروبية ، ولكنه على

__________________

(١) انظر ما أورده بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٢٠ ـ ٥٧ ويبدو أن ديدييه ينقل عنه بتصرف في كثير من المواضع. وانظر في الحديث عن جدة قديما وحديثا وعن الخلاف في ضبط اسمها ومعناه كتاب : موسوعة جدة ، تأليف عبد القدوس الأنصاري ، القاهرة ، ١٩٨٢ م. وانظر : ما ترجمه د. أحمد عبد الرحيم نصر في كتابه : التراث الشعبي في أدب الرحلات ، موثق سابقا ، ص ٦٤ ـ ٦٩ ، من رحلة ديدييه عن زي رجال جدة ونسائها وعن وصف بيوتها ورواشينها.

(٢) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٢٧ ، وفيه : " اسمها العربي يعني (غنية) ينطبق عليها تماما." وجاء في لسان العرب" جدد" أن الجد بفتح الجيم ـ الحظ والسعادة والغنى.

١٦٩

الدوام كان كافيا إبّان الحروب التي تدور في البلد ، وخصوصا إبّان حرب الوهابيين ، لحماية المدينة ولفرض هيبتها لذلك اشتهرت بأنها مدينة مستعصية على الاحتلال ، وبأنها أكثر الأمكنة تحصينا في الحجاز. يوجد في هذا السور ثلاثة أبواب ، باب اليمن من الجنوب ، وباب المدينة المنورة في الشمال ، وأخيرا باب مكة المكرمة في الشرق ، وهو أجملها ، ويقوم على حراسته برجان منخفضان منحوتان بمهارة فائقة في الذروة. تبتعد جدة عن مكة المكرمة مدة ١٥ أو ١٦ ساعة ، ويبلغ عدد سكانها من ١٥ إلى ٢٠ ألف نسمة. وتنقسم إلى قسمين كبيرين ، حي اليمن ، وحي الشام ، وهما مسميان بذلك بسبب وضعهما الجغرافي : فحي الشام يقع في الشمال على الطريق إلى سورية ؛ وحي اليمن في الجنوب / ١٢٣ / على الطريق إلى اليمن أحد أقاليم الجزيرة العربية الذي يعطي اسمه الحي المذكور. هناك أقسام أخرى صغيرة تسكنها جماعات من السكان متمايزة ، يقع بينها غالبا من حي إلى آخر شجارات عنيفة ، شوارعها عريضة ، نظيفة نظافة مقبولة ، تبدأ عادة بساحات واسعة جيدة التهوية تشكل رئتي المدينة. أما بيوتها فهي متينة البنيان ، وتتألف من عدة طوابق ، وأبوابها على شكل أقواس ، وهي مبنية من الحجر ، ولها مظهر جميل ، ونوافذ واسعة تطل على الخارج ، وهذا شيء نادر في البلاد الإسلامية لأن الحياة المنزلية تتم على الدوام داخل البيت الذي يبنى بطريقة لا تدع شيئا يتسلل إلى الداخل ؛ لا ضوء النهار ، ولا الهواء ، ولا الضوضاء ، ولا الأنظار الفضولية. ليس لتلك النوافذ زجاج ، بل إن كل فتحاتها مغطاة بشبك من الخشب المفرّض بمهارة عجيبة ، ليسمح بالرؤية من الداخل دون أن يتمكن من في

١٧٠

الخارج من رؤية من في الداخل. إن تلك النوافذ المتقنة الصنع ، البارزة والمقوسة ، كأنها مشربيات القاهرة أو شرفاتها ، مطلية بألوان زاهية تتباين مع اللون الأبيض للجدران. وإن كثيرا من السطوح محاطة بحواجز مفرغة محفور فيها بأناقة زخارف تمثل نفليات (١). وبعضها بما في ذلك المنزل الذي كان يسكنه في حياته آخر أشراف مكة المستقلين ، أقيم عليها مظلات خشبية منجورة كالنوافذ ، تصعد إليها النساء لاستنشاق الهواء الطلق فيها دون أن يراهن أحد. ويقضي أهل جدة وقتا طويلا على السطوح لأن / ١٢٤ / نسيم البحر يخفف من وطأة الحر الذي لا يكاد يحتمل في الصيف. يمتد السوق على طول المدينة ، ويسير موازيا للبحر ، ويتصل به بوساطة شارعين جانبيين. يضم سوق جدة كل أنواع البضائع ، أكثرها أجنبي ، وكذلك مواد غذائية محلية أو مستوردة : ونجد أن دمشق وبغداد وفارس ومصر والهند خصوصا موجودة في هذا السوق عبر منتجاتها الطبيعية أو المصنعة. وتسود فيه في كل الأوقات حركة غير عادية ، وليس بالسهل أن يشق المرء طريقه بين أكداس البضائع ، والجمال والحمّالين ، ناهيك عن الكلاب الضالة ، والمسالمة التي تبحث عن رزقها في هذه الضوضاء. أما العمال الذين يقومون بالأعمال الشاقة في السوق والميناء فهم يكادون جميعا يكونون من النوبيين أو من سكان الجبال ، ويسمون الحضارمة إنهم عموما رجال في غاية الوسامة ، مفتولو العضلات ، ذوو بأس ، ويكادون يكونون عراة ، ولون بشرتهم الناعمة واللامعة أسمر شديد الدكنة. ونرى أيضا بعض

__________________

(١) النفلية في فن العمارة هي : زخرف على شكل وريقات النفل الثلاث. (عن المنهل).

١٧١

السود الأقحاح القادمين من البلاد القريبة من خط الاستواء ، ولكنهم عبيد ، في حين أن الآخرين أحرار ، ويحصلون على أجور غالية لقاء خدماتهم. وإن هذا السوق الذي يقع في الوسط بين إفريقيا وآسيا ، مهم لتنوع نماذج البشر الذين نلقاهم فيه ؛ فأنت تلقى فيه السود الذين لم يؤتوا من الجمال شيئا ، وتلقى فيه النماذج الجميلة / ١٢٥ / من الأجناس القوقازية المتميزة ، وليس تنوع اللغات والعادات بأقل إثارة : عرب المدن والصحراء ، تجار مسقط والبصرة ، أتراك ، سوريون ، يونانيون ، مصريون ، بربر ، وهنود بأعداد كبيرة ، وماليزيون وبانيانيون (١) ، وكل من أولئك يلبس زيه الوطني ، وكلّ يتكلم بلهجته الخاصة ، يتسابقون ، يتقابلون ، يتدافعون بأكتافهم ، أو إنهم يستقرون في المقاهي لمعالجة قضاياهم. إن بعض سكان جدة يقطعون أحجارا يزعمون أنها ثمينة ، مع أنها ذات قيمة ضئيلة ، منها من بين أخريات تلك التي يسمونها : حجر مكة ، وتسمى في الحجاز" العقيق" والتي ليست ، كما أعتقد ، إلّا ما يسمى العقيق الأحمر ؛ ويصنعون منها خواتم مطلية بطبقة من الفضة ، ليست متقنة الصنع ، ويصنعون منها أيضا سبحات تلقى رواجا كبيرا لدى الحجاج. ويصنعون أيضا سبحات من" اليسر" المتوافر بكثرة في البحر الأحمر ، والذي تستخرج أجود أنواعه قساوة ولمعانا من جنوب جدة.

__________________

(١) Banians ، جاء في رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٢٦ : " ... وفي فترة الرياح الموسمية يقوم بعض البانيانيين Banians بزيارة جدة على متن السفن الهندية ، لكنهم دائما يعودون عليها ولا يستقر أحد منهم هنا." جاء في الحاشية : " البانيان : تعني في غرب الهند التجار أو الوكلاء الذين يشتغلون بالتجارة في البحر الأحمر أو الخليج العربي ، انظر : A glossary Judicial and Revemue Terms P. ٤٩ : Wilson

١٧٢

تشتهر جدة بأنها مدينة مقدسة شأنها شأن مكة المكرمة والمدينة المنورة (١) ، وكل الذكور المولودين في أحضان جدة ، يحملون على وجوههم وشما يسمى" المشالي" (٢) ؛ وهي عبارة عن جروح عميقة تحدث في وجوه الأطفال عندما يبلغون أربعين يوما ، وهي ثلاثة على كل وجنة ، واثنان على كل صدغ ، لتظل هذه المشالي مدى الحياة موجودة على وجوههم ، ولتكون لهم علامة توقير / ١٢٦ / لدى المؤمنين. إن هذه الندب المقدسة في العادات الإسلامية تجعل أولئك الذين يحملونها يحوزون بحملها قمة الشرف (٣).

__________________

(١) هذا غير صحيح فجدة ليست مدينة مقدسة.

(٢) رسمها ديدييه M eschal ، ورسمها بوركهارت ، Meshale ، وكتبها مترجما رحلة بوركهارت" المشعلة" ، وكتبها د. نصر" عادة المشالي". انظر رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٧٠ وكتاب الدكتور أحمد عبد الرحيم نصر ، موثق سابقا ، ص ٦٧.

(٣) انظر هذه الفقرة مترجمة في كتاب التراث الشعبي في أدب الرحلات ، موثق سابقا ، ص ٦٧ وقد ترجم من رحلات ديدييه فقرات لها علاقة بالتراث الشعبي في الحجاز ، ولكنه ترجم عن النص الإنجليزي الذي هو ترجمة لرحلة ديدييه ، وسنشير إلى الفقرات المترجمة في أماكنها من الرحلة ، قارن ترجمته بالأصل هنا. وانظر : النص الإنجليزي لرحلات بوركهارت ، ط. مصورة عن طبعة لندن ١٨٩٢ م ، السلسلة التي يصدرها فؤاد سزكين ، ١٩٩٥ م ، ص ١٨٣. وجاء في رحلة بيرتون ما نصه نقلا عن كتاب : التراث الشعبي في أدب الرحلات ، موثق سابقا ، ص ٤٨" تأخذ معظم الأسر في مكة الأطفال الذكور عندما يبلغون الأربعين يوما إلى الكعبة للدعاء لهم. ثم يحملونهم إلى البيت حيث يقوم المزين بعمل ثلاثة فصود رأسيه على الجزء الملحم لكل خد بدءا من الزاوية الخارجية للعينين إلى ركني الفم تقريبا. هذه" المشالي" ، كما تسمى ، قد لا تكون عادة قديمة. فالمكيون يقولون إنها لم تكن معروفة لدى أسلافهم. وعندي أنها ترجع إلى زمن قديم جدا وأنها وثنية الأصل ، وهي ما تزال سائدة رغم نهي علماء الدين عنها. وتسمى هذه العملية" التشريط" ويفصد أيضا جسم الطفل كله بجروح صغيرة حتى يغطي الدم الجسم كله. وقد أخبر بعض المكيين علي بيك أن الغرض من التشريط طبي. وقال آخرون إنها دلالة على أن من يحملها خادم لبيت الله. وأرجعها علي بيك إلى الرغبة في التجميل تماما كرغبة المرأة التي تشم نفسها. وقد أخبرني المكييون أن هذه العادة نشأت عن ضرورة حماية الأطفال من وقوعهم أسرى في يد الفرس ـ

١٧٣

أتى زمن لم يكن فيه وجود غير المسلمين في جدة مسموحا ، كما هو الحال عليه اليوم في المدينتين المقدستين ، لم يكونوا يجرؤون على الظهور بملابسهم الأوروبية ، وإن ماتوا فيها فإن رفاتهم كان يحمل إلى جزيرة صغيرة في مرسى جدة لكي لا يدنس الأراضي المقدسة (١).

__________________

ـ فهي دلالة على أن الأطفال من المدينة المقدسة. غير أن انتشارها الواسع يدل على قدم أصلها ... وقد نهى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتباعه صراحة عن وسم الجسم بالفصد. وعلامات التجميل هذه شائعة وسط شعوب مناطق غرب البحر الأحمر. ويزين النوبة في مصر العليا وجوههم بفصود مثل المكيين تماما. وقد رأيت خدودا مفصدة كما في المدينة المقدسة وسط القالا بالحبشة." وعلق د. أحمد نصر في ص ٥٩ من الكتاب المذكور أعلاه قائلا : " أدرك الأديب السعودي أحمد إبراهيم الغزاوي في مكة المكرمة عادة تشريط الخدود (المشالي) وشاهدها وقال إنها كانت مما يعد للرجل والمرأة زينة وجمالا وإنها كانت عامة بين البيض والسود على السواء وقد أرجعها إلى ما قبل القرنين السادس والسابع الهجري. واستدل على ذلك ببيتين من الشعر لبهاء الدين محمد بن إبراهيم النحاس النحوي المولود في ٦١٧ ه‍ والمتوفى في ٨٩٨ ه‍ يمدح مليحا شرطوه قائلا :

قلت لما شرطوه وجرى

دمه القاني على الخد النقي

ليس بدعا ما أتوا في فعلهم

هو بدر مشرق بالشفق

انظر : أحمد بن إبراهيم الغزاوي ، شذرات الذهب ، جدة ، دار المنهل ، ١٩٨٧ م ، ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ؛ وانظر : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، سنوك هورخرونيه ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٤١٩.

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٩١ ـ ١٩٢. ونقل المترجمان في الحاشية (٢) ص (١٩١) ما جاء في كتاب محمد علي المغربي : ملامح الحياة الاجتماعية في الحجاز ، ص ١٧١" وكانت في مدينة جدة مقبرة للنصارى وما تزال موجودة حتى الآن ... ويبدو أن هذه المقبرة أقيمت في العهد العثماني لدفن الأجانب الذين يموتون في جدة ... وهي قائمة حتى الآن كما ذكرنا في جنوب جدة قرب السوق الجنوبية ، ولكنها غير مستعملة إطلاقا". ويقول المترجمان : ولا نعرف إذا كانت المقبرة التي ذكرها المؤلف هي نفس المقبرة التي يصفها المغربي. وقد تحدث بوركهارت في غير موضع من رحلاته عن أوضاع المسيحيين في جدة انظر : ص ٢٦ ، ١٩٠ ، ١٩١ ، ١٩٢.

١٧٤

لقد تغيرت الأمور اليوم : فالمسيحيون يتمتعون اليوم في جدة بكامل حريتهم ، وبأمن يوازي ما يجدونه في مصر وإستانبول. لقد تجولت في أنحاء المدينة كلها ، في كل أوقات النهار والليل ، وحدي في غالب الأحيان ، ولم يتعرض لي أحد بشتم قط ، ووجدت من الناس كلهم لطفا وفضلا (١). ولم يزعجني إلّا المتسولون الذين ينتشرون في كل أحياء المدينة ، ويكادون جميعا يكونون من الهنود ، قدموا من أوطانهم للحج ، وتقطعت بهم سبل العودة لنقص في المال ، ولما لم يكن لهم أي موارد ، فإنهم ظلوا هنا عالة على الناس. هناك كثير من الحجاج المصريين والنوبيين ، وخصوصا من سود السودان ، وهم كالهنود في الفقر ، ولكنهم يعملون بشجاعة لكسب المبالغ البسيطة الضرورية لعودتهم إلى مسقط رأسهم ، أما الهنود الذين هم أكثر بلادة وكسلا فهم يحبون / ١٢٧ / العيش على الهبات ، ويفضلون المنفى الأبدي على العمل ، مهما كان بسيطا. إلا أن بعضهم ، وهم قلة قليلة ، يمتهنون مهنا حضرية مختلفة : فقد استخدمت خلال إقامتي خياطا كشميريا ذا مهارة وصبر نادرين. لقد أحست الحكومة البريطانية بالتأثر لهذه الهجرات السنوية ، ولكن سياستها لم تكن تسمح لها بمضايقة مواطنيها المسلمين في ممارسة عبادتهم ، واكتفت باعتبار القباطنة التجار مسؤولين عن إعادة الحجاج الذين يحملونهم إلى جدة. ونتج عن ذلك أن هؤلاء لم يعودوا يقبلون على أي سفينة إن لم يبرهنوا على أنهم قادرون على تأمين نفقات ذهابهم وعودتهم.

__________________

(١) انظر تحليلات بوركهارت بهذا الخصوص في رحلاته ، ص ١٩٠.

١٧٥

إن العمل الوحيد الذي يقوم به سكان جدة ، على الرغم من أنهم قوم مكرمون ، هو التجارة ، التي توفر المال نقدا ، والتي يغتنون منها على العموم. إن أغلب سكان جدة من أصول أجنبية ، وهم نشيطون ، وخبراء ، وإن حيوتيهم البدنية ، وتوقد أذهانهم يتعارض مع الخمول الواضح والغبي لدى كثرة من الشرقيين ، وخصوصا الأتراك. إن لون بشرتهم أسمر شديد الدكنة ، يفرطون في اقتناء أدوات الزينة ، شأنهم شأن أهل مكة ، ويمكن قول الكثير عن ذلك. إن ملابس أهل المدينتين متشابهة تماما ، سواء ملابس النساء أم الرجال : فملابس هؤلاء الرجال الداخلية مصنوعة من الحرير المضلع ، ذي الألوان الجذابة ، وهي مشدودة على الخصر / ١٢٨ / بحزام كشميري ؛ ويلبسون فوقها عند الخروج ثوبا طويلا مفتوحا من الصوف الناعم ، يسمى البنش أو الجبة حسب الفصل ، وهي مصنوعة عادة في بغداد. أما رؤوسهم فيغطونها بطاقية بيضاء مزركشة ، يلتف حولها عمامة من الموسلين. والعامة لا يلبسون إلّا ثوبا طويلا من الكتان الخشن.

أما النساء فإنني لا أستطيع أن أقول عنهن شيئا ، لأنني لم أر أيا منهن : وكل ما أعرفه أن بشرتهن أقل سمرة من بشرات الرجال ، وأنهن يقصصن شعورهن كالرجال باختلاف بسيط هو أنهن يزيّن شعورهن بسلسال من الذهب (١). وإن أولئك اللواتي

__________________

(١) استخدم المؤلف هنا كلمةSequins وجاء في معجم روبير الصغير أن للكلمة أصلا عربيا هو السكةSikki ، وهي في لغة فينيسياZecchino ، وتعني قطعة نقدية. وهو عملة ذهبية قديمة في فينيسيا ، شاعت في إيطاليا والمشرق. وقد وردت في رحلات بوركهارت ، الترجمة العربية ، ص ١٥ وعربها المترجمان ب" السّكوينات" وقالا في الحاشية (٢) إن السكوين نقد ذهبي إيطالي وتركي قديم. وانظر ص ٣٢٠ من رحلات بوركهارت إذ سمّي السكوين البندقي Venetian Zecchin.

١٧٦

نقابلهن من عامة الشعب في الشارع منقبات ، ويختفين تماما في ثوب قبيح من القطن الأزرق. أما الأخريات فيرتدين سراويل زرقاء فضفاضة ، مزركشة بالفضة ، ويلبسن أثوابا مزركشة ، مصنوعة من حرير الهند. عندما يخرجن ، وهذا نادر الحدوث ، فإنهن يغطين وجوههن بخمار أبيض أو أزرق فاتح يسمى : البرقع. ويلتحفن ثوبا فضفاضا مصنوعا من نسيج حريري صقيل (تفتةTaffetas) أسود ، وهو يشبه الحبرةhabra عند المصريين ، وهن مولعات بالمجوهرات ، شأنهن شأن كل النساء في الشرق والغرب ، وهن يلبسن خواتم كثيرة ، وعقودا وأساور ، كلها من الذهب ، ويضعن في أقدامهن خلاخل من فضة. تلك هي الثياب التي يلبسنها في الحفلات. أمّا في بيوتهن فقد أخبرت أنهن يتخفّفن من الثياب / ١٢٩ / حتى يمكننا القول دون أن نتجنى عليهن : إنهن شبه عاريات ، وخصوصا الجواري. وليس بالنادر أن نلمح في الأحياء التي تقل فيها الحركة عبر نوافذ لم يحكم إغلاقها ، سهوا أو عمدا ، النصف الأعلى للمرأة مكشوفا تماما.

لم أتحدث حتى هنا إلّا عن فضائل جدة ، وإليكم الآن مساوئها : فالماء العذب نادر فيها ، وهواؤها سيئ في فصل الصيف ؛ حار ورطب في الوقت نفسه ، ترتخي له الأعصاب ، ويوهن الجسد ، وخصوصا هواء الجنوب ؛ وإن كثيرا من الأجانب ، والسكان الأصليين لا يستطيعون اعتياده. فالزحار ، والحمى المقلعة ، والعفنية تكاد تكون مستوطنة على هذا الشاطئ الذي تنتشر فيه الأوبئة أكثر من أي شاطئ آخر في الجزيرة العربية.

١٧٧

لقد عانيت أنا نفسي خلال بعض الأيام من هذا الجو المؤذي ، واستطعت من خلال ما عانيته خلال هذه الفترة البسيطة أن أحكم على ما يكون عليه الحال في أيام القيظ. وعلى الرغم من أننا ما نزال في منتصف شهر فبراير (شباط) ، فإن ميزان الحرارة كان يصل إلى ٢٣ درجة على ميزان رومير (١) ؛ لقد كان هواء الجنوب العنيف يلفظ النار بدل أن يأتي بالنسيم ، كان الجو خانقا ، وكنت أشعر أنه يسحقني تحت وطأته ، وكنت أجد صعوبة في السير ، وكان جسدي كله مشبعا برطوبة غير محتملة. وأزيد على ذلك بالقول إن الذباب والبعوض كان مزعجا كل الإزعاج.

ويسكن جدة أيضا سكان آخرون ذوو أجنحة ؛ وهم نوع من البواشق (الباز) ، نجده في كل المدن العربية ، وأنا ، منذ رحلتي ، ما إن أسمع أصواتها الحادة ، / ١٣٠ / حتى ترتسم في اللحظة نفسها في مخيلتي منارات ، ونخيل وعمائم.

وإذا خرجنا من جدة عبر باب مكة المكرمة فإننا نجد أنفسنا مباشرة في معسكر إفريقي حقيقي : إن أكواخ القش أو النخيل المنتشرة على حدود الصحراء ، والتي تبدأ كما هو الحال في ينبع والطور والسويس على أبواب المدينة ، تلك الأكواخ ، هي مساكن النوبيين الذين يعملون في الميناء والسوق ، وتسكنها أيضا بعض الأسر الفقيرة من جدة ، والتي لا تستطيع لفقرها السكن في مكان آخر.

إن النساء الحرائر من الطبقات الفقيرة يسكنّ أيضا هذا المصبّ القذر ؛ ناهيك عما يقوم بهذا الحي من صناعات بسيطة ، فإنه ينعقد فيه سوق للخشب والخضار ،

__________________

(١) ميزان روميرRaumur : ميزان حرارة يشير فيه الصفر إلى درجة التجمد ، و ٨٠ إلى درجة الغليان.

١٧٨

وسوق للمواشي. وإن للعجول في هذا البلد حدبة ، وهي صغيرة الحجم وغالية جدا : إذ يباع الواحد بستة تلرات ؛ وهو لا يساوي في مصوع إلا تلرا واحدا. وليس ببعيد ، وبالقرب من باب المدينة المنورة ، هناك ثكنة عسكرية أقامها محمد علي أيام حربه مع الوهابيين ، وقائد هذه الثكنة إسماعيل بيك ، وهو بنباشي (١) تركي ، وهو أكثر أدبا من نظيره في سيناء ، وقد كان يبدي لي آيات الاحترام ، دون أن ينسى تقديم القهوة والشيشة. وغير بعيد عن الثكنة ، هناك عدد من الطواحين الهوائية التي بناها محمد علي لاستخدام قواته ، ثم أهملت مباشرة بعد رحيله باعتبار أنها بدعة أوروبية ، وهي تستخدم اليوم مقرا للجنود غير النظاميين. ويوجد على مرمى حجر من الثكنة / ١٣١ / مقبرة محاطة بالأسوار ، ولها باب محكم الإغلاق ، وهي فريدة من نوعها لم أر في الشرق مثلها ، حيث تترك المقابر بلا سياج ولا حارس.

إذا ، توقعوا من المدفون في هذه المقبرة؟ إنها حواء ، أم الجنس البشري. وينتشر بخصوصها لدى علماء البلد أسطورة لا تليق بأبوينا الأولين. فهم يحكون أن آدم الذي ملّ من زوجته ، مع أنهما كانا سعيدين إبّان ما يقارب مئة سنة ، اتجه حبا في التغيير إلى بناته ؛ لأنه لم يكن لديه خيار آخر ، لأنه لم يكن هناك على الأرض نساء أخريات ، وعندما علمت الزوجة المتروكة بهذه الخيانة ، أقسمت أن تنتقم ؛ فاتجهت بدورها إلى أبنائها ، لأنه لم يكن هناك على وجه الأرض رجال غيرهم ، ولكن هؤلاء أجابوها ببعض القسوة أنها عجوز ، وأنهم لا يرغبون فيها.

__________________

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨٧.

١٧٩

إن أمنا جميعا التي حكم عليها أن تظل محتشمة ، على الرغم منها ، لقيت نتائج ما قامت به عندما امتهنت نفسها ، فكظمت غيظها. ولكن آدم عاد ، بعد خطئه ، إلى زوجته الشرعية ، وبعد المصالحة قاما معا برحلة عبر الجزيرة العربية ، فماتت حواء في هذا المكان عينه ، ودفنها زوجها ، وأجرى لها كل التشريفات التي تفرضها فضائلها الكثيرة. أما آدم الذي أصبح أرملا فقد تابع رحلته ، وذهب ليموت بدوره في جزيرة سيلان / ١٣٢ / ودفن هناك ، ولا تذكر القصة من دفنه ، ولا كيف عبر البحر. إن انتهاك المحارم المزدوج ، الذي قام به أحد الطرفين حقا ، والآخر كان ينويه ، فتح بطريقة لا أخلاقية سجل الحياة الأسرية للإنسانية (١). إن المسلمين ، وهم ممن يدافع بحزم عن الأسرة ، لا يرون في القصة شاهدا على حظر تعدد الزوجات ، وإنما يرونها دليلا قاطعا على أنه ليس من قوانين الكون أن يكون للمرء امرأة واحدة.

لقد حافظت النساء على مستوى والدتهن ، وظللن جديرات بتراثها على كل المستويات ، ولكن قامتهن أصبحت أكثر قصرا : لأن طول قبرها ليس أقل من ٦٠ مترا (٢) ؛ ويرتفع فوقه مسجد صغير تعلوه قبة بيضاء (٣). وتبدو بالطبع كل المدافن

__________________

(١) لا أدري من أين تلقط ديدييه هذه الترهات حول نبي الله وعبده أبي البشر آدم عليه‌السلام ، ولعلها تكون من موبقات العهد القديم عن الرسل والأنبياء.

(٢) كذا في الأصل ولعل الصواب : ٦ أمتار.

(٣) تحدث بيرتون في رحلته عن قبر خارج مدينة جدة يعرف باسم" قبر أمنا حواء" وقدم له رسما تصويريا وقال إن المسافة بين الرأس والقدمين هي نحو ست خطوات. انظر : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٥١ ـ ٥٢. ويورد عبد القدوس الأنصاري غير رأي عن قبر حواء عندما يتحدث عن اسم (جدة) ، وهو يذهب إلى القول إنها بضم ـ

١٨٠