رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

يتحدث فيه عن مشاهداته على ضفاف النيل ، وعن زيارته للخرطوم ، وسنار ومقابلته رفاعة الطهطاوي (١). وله رواية سماها : روما تحت الأرض (١٨٣٣ م) Rome Souterraine ، قدم فيها صورة حية وطريفة عن الحياة الاجتماعية والسياسية في إيطاليا ، وعن الحركة الثورية ، وهي في مجلدين صدرت لها طبعة معدلة عام ١٨٤١ و ١٨٤٨ م.

لقد التقى ديدييه خلال رحلته من القاهرة إلى السويس بالرحالة الإنجليزي المشهور ريتشارد بيرتون (١٨٢١ ـ ١٨٩٠ م) Richard Burton الذي كتب رحلته بعنوان : قصة رحلة شخصية للحج إلى مكة والمدينة ، وترجم ألف ليلة وليلة وغيرها إلى اللغة الإنجليزية (٢) ، ولما طبعت رحلة بيرتون لم يشر هذا الأخير إلى ديدييه إلّا في حاشية علمنا منها اسم الإنجليزي الذي كان يرافق ديدييه ، الذي لم يذكر اسمه أبدا ،

__________________

(١) انظر كتاب : مصر في كتابات ... ، موثق سابقا ، ص ١١٢. وذكرت في ص ١٣٧ من هذا الكتاب أسماء كتب ديدييه بالفرنسية ونذكرها هنا مقرونة بسنة الطبع :

١. Quarante Jours au Desert ( ٧٥٨١)

٢. Cinq Cent Lieues sur le Nil (٨٥٨١)

٣. Les Nuits du Caire (٠٦٨١)

٤. Campagne de Rom (٢٤٨١)

وله كتب أخرى عن صقلية خصوصا وإيطاليا عموما تراجع في مقدمة الترجمة الإنجليزية لرحلته.

(٢) انظر : رحلة ديدييه ، ص / ١٣ / ، ويشير ديدييه في حاشية إلى أن المجلة البريطانية نشرت قطعا من رحلة بيرتون ، ويدلي بشهادته حول مطابقة ما في الرحلة للواقع. وقد حمل ديدييه رسالة من بيرتون إلى القنصل البريطاني في جدة السيد كول M.Cole ، انظر النص الأصلي لرحلة ديدييه (ص / ١٤٤ /).

٢١

ولكنه تحدث عنه فقال (١) : " ... يتحدث العربية ، ويكتبها عند الحاجة ، وكان يتجول منذ عدة سنين في الشرق ..." ثم أعاد الحديث عنه باستفاضة في الفصل الذي خصصه للطائف ، لأنه كان منزعجا من تصرفاته واستعلائه (٢).

٤ ـ أهمية الرحلة ومصادرها :

وصف ديدييه في كتابه مسار الرحلة من القاهرة إلى السويس ، وجبل سيناء ، ودير سانت كاترين ، ومدينة الطور ، ثم تحدث عن البحر الأحمر ، وينبع ، وجدة ، والطائف التي قابل فيها شريف مكة المكرمة عبد المطلب بن غالب ، ثم وصف طريق جدة ـ الطائف ، والطائف ـ جدة ، لأنه عاد من طريق أخرى تختلف عن طريق الذهاب ، وتحدث عن مغادرته جدة إلى سواكن عبر البحر الأحمر ، وتضمنت الرحلة فصلا عن الأشراف والوهابيين تحدث فيه عن الأشراف وتاريخهم وعلاقاتهم بالدعوة الوهابية ، وأنحى باللائمة على الشريف غالب ، الذي أسهم في رأيه بانتصار محمد علي باشا على الدولة السعودية الأولى التي كانت ، كما يقول ديدييه ، وحدها قادرة على

__________________

(١) وعلمنا من حاشية بيرتون في كتابه : قصة رحلة شخصية للحج إلى مكة والمدينة ، (النص الإنجليزي) ، مج ١ ، ص ٧٨ ـ ١٧٩ ، ط ١٩٦٤ ، الحاشية (٤) أن اسم الإنجليزي مرافق ديدييه هو القس هاملتون Abbe Hamilton ، وأنهما دفعا ١٠٠٠ قرش ما يعادل (١٠ جنيهات استرلينية) أجرة السنبوك من السويس إلى جدة ، ويقول بيرتون : إلهما من علية القوم وإنه رافقهما من القاهرة إلى السويس ، انظر رحلة ديدييه ، ص / ٣٢ ـ ٣٣ /.

(٢) انظر النص الأصلي لرحلة ديدييه ص / ٢٦٢ ـ ٢٦٣ /.

٢٢

الوقوف في وجه السيطرة التركية. وتتضمن الرحلة فصلا آخر ، سماه" لوحة نابضة بالحياة" تحدث فيه عن الأشخاص الذين قابلهم في جدة ، خصوصا مثل الوالي العثماني ، وخالد بن سعود ، وغيرهم من العسكر والتجار. ونجده في فصل آخر سماه" بعض التأملات" يتحدث عن رحلته ، وصدقه في حكاية الأحداث ، وعرض لبعض المقارنات بين العرب والأتراك ، وقال : إن الأمة العربية يحقّ لها الطموح إلى التخلص من الأتراك ، كما هو شأن كل الشعوب التي تخضع لسلطتهم. يحتوي الكتاب على ذكريات ديدييه الشخصية ، وملاحظاته التي كان يدونها يوميا في أثناء الرحلة بكل أمانة وإخلاص ، وعلى الرغم من أهمية الرحلة في معرفة أحوال الحجاز في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، فإننا لا نجد له ذكرا في الكتب التي تحدثت عن الرحالة في الجزيرة العربية وخصوصا كتاب مواطنته (١) جاكلين بيرين : اكتشاف الجزيرة العربيةLa Dcouverte de L Arabie (١٩٥٩ م). وقد رأينا أن بيرتون لم يشر إليه إلّا في حاشية صغيرة. وقد وجدت ناصر الدين دينيه في كتابه : الحج إلى بيت الله الحرام ، يذكر ديدييه في الفصل الذي خصصه للحديث عن الوهابيين ، الذي وضع له عنوانا كلمة الملك عبد العزيز آل سعود ، يرحمه‌الله ، " لسنا أصحاب مذهب

__________________

(١) انظر : مقدمة الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٨. ولم يشر إليه هو غارث Hoggarth (١٩٠٤ م) ، ولا بدول Bidwell (١٩٧٦ م) ، وخصص له بيلي وندرR.Bayly Winder في كتابه : Saudi Arabia in the Nineteenth Century (١٩٧٧ م) المملكة العربية السعودية في القرن التاسع عشر ، فقرة قصيرة. وأشار إليه توماس ل. ولي Thomas L.Wolley في تمهيده للطبعة الأولى من رحلة بيرتون.

٢٣

جديد" (١). وقد أشار إلى ديدييه جورج رينتزGeorge Snavely Rentz في مصادر رسالته المعنونة : محمد بن عبد الوهاب وبداية امبراطورية الموحدين في شبه الجزيرة العربية (٢).

ويبدو أن نوال سراج ششة هي أول من أشار بالعربية إلى رحلة ديدييه ووصوله إلى جدة في عام ١٨٥٤ م ، وذلك في كتابها : جدة في مطلع القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي (٣) ، ثم أشار إليه وترجم مقاطع من رحلته (عن الإنجليزية) الدكتور أحمد عبد الرحيم نصر في كتابه : التراث الشعبي في أدب الرحلات (٤) ، وأشارت إليه ، وترجمت له وتحدثت عن بعض أحداث حياته ، وعن كتبه التي لها علاقة بمصر الدكتورة إلهام محمد علي ذهني في كتابها : مصر في كتابات الفرنسيين في القرن التاسع عشر (٥).

__________________

(١) انظر : الحج إلى بيت الله الحرام ، ناصر الدين دينيه والحاج إبراهيم باعامر ، (النص الفرنسي) ، دار نشر هاشيت ، باريس ١٩٣٠ ، ص ١٩٩. وكلمة الملك عبد العزيز آل سعود المقتبسة من خطبته التي ألقاها عام ١٩٢٩ م ، خلال العشاء الذي أقامه على شرف وجهاء الحجاج في ذلك العام ، انظر مقالنا : ناصر الدين دينيه وكتابه : الحج إلى بيت الله الحرام ، الذي سيصدر في مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية.

(٢) انظر القسم المنشور من هذه الرسالة في كتاب : الحركة الوهابية في عيون الرحالة الأجانب ، ترجمة وتعليق أ. د. عبد الله بن ناصر الوليعي ، الرياض ، ١٤١٧ ه‍ / ١٩٩٧ م ، ص ١٧٢.

(٣) كتابها المنشور في مكتبة الطالب الجامعي ، مكة المكرمة ، العزيزية ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م ، ص ١٣٩ ، وقد سمته (شارلز ديدير) وهو خطأ والصواب : شارل ديدييه كما أثبتنا.

(٤) المطبوع في الدوحة ، مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية ، ١٩٩٥ م ، ص ٦٣ ـ ٦٩ وسماه : (تشالز ديديه) وهذا خطأ أيضا.

(٥) المطبوع في الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ١٩٩٥ م ، ص ١١١ ـ ١١٢ ، وانظر : ص ١٣٧ وقد سمته (شارل ديديه) والصواب (ديدييه).

٢٤

إن أهمية هذه الرحلة تكمن في أنها تقدم صورة واضحة عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وهي فترة تقل مصادرها ، ونحتاج إلى مثل هذه النصوص ، لزيادة معرفتنا بها. وللرحلة أهمية لا تنكر في مجال المعلومات الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية عن الأماكن التي مرّ بها ديدييه انطلاقا من السويس حتى الطور ، وجبل سيناء ، والبحر الأحمر ، وينبع ، وجدة ، والطائف ؛ إذ نجده يصف الأماكن والأسواق والمياه والأشجار ، ويركز على البشر بطباعهم ولباسهم ومساكنهم ، وسيجد علماء الانثروبولوجيا (الإناسة) ، وعلماء الاجتماع ، والجغرافيون فائدة جلّى في رحلة ديدييه.

لقد التقى ديدييه بأشخاص من الطراز الأول إبّان رحلته مثل : خالد بن سعود ، وعبد المطلب بن غالب شريف مكة المكرمة ، وغيرهما من الأشراف ، وبالقنصل الفرنسي في جدة روشيه ديريكورRochet D\'HEricourt ، والقنصل البريطاني فيها السيد كول M.Cole ، والوالي العثماني أحمد عزت باشا ، وكرد عثمان باشا ، أحد القادة العسكريين الأتراك. وغيرهم من التجار من ذوي الأصول الهندية والأوروبية ، ويجد القارئ في الرحلة تحليلا سلوكيا رائعا لكل تلك الشخصيات المختلفة في أخلاقها وطبائعها والحضارات التي تنتمي إليها. إن المعلومات التي يقدمها ديدييه ، بأسلوب رائع ، ومقدرة على الوصف هائلة ، تذكرنا بالكاتب الفرنسي الكبير إميل زولا ، الذي كان يبلغ من العمر (١٤) عاما عندما قام ديدييه برحلته ، وكان عمره (١٧) عاما عندما نشرت رحلة ديدييه ، فهل قرأ زولا ما كتب ديدييه؟ وقد ضمن ديدييه رحلته كثيرا من معالم

٢٥

ثقافته ، وهو الشاعر الذي بدأ نشر قصائده في سن مبكرة. لقد قرأ ديدييه كما يبدو من رحلته الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد ، وقرأ روايات الأدباء اللاتينيين واليونان ، وأشعار شعراء الأمتين ، واطلع على الفنون التشكيلية لهما ، وأتقن الأدب الفرنسي ، وقرأ كتب المفكرين والفلاسفة في عصره ، كل ذلك يجده القارئ في هذه الرحلة.

أما بخصوص العرب ، فهو بلا شك قرأ ألف ليلة وليلة (١) مترجمة ، واطلع على كتب الرحلات ، خصوصا رحلات بوركهارت ، الذي يستشهد به ديدييه في مكان واحد من رحلته (٢) ، ولكنه اعتمد عليه كلية في الفصل الذي كتبه عن" الأشراف والوهابيين". وقد وضحنا كل ذلك في حواشي الترجمة. لقد كان ديدييه مطلعا على رحلة تاميزييه (٣) ، وعلى رحلة روشيه ديريكور ، الذي توفي في جدة يوم ٩ آذار

__________________

(١) أشار إليها ديدييه في مواضع من رحلته ص / ٢٤ / وص / ١٥٠ / وص / ٢٣٨ / وص / ٢٩٤ / ويدل أحد هذه الأماكن على الأقل على أنه قرأها ويتذكر تفاصيل حكاياتها.

(٢) انظر النص الأصلي لرحلة ديدييه ص / ١١٨ / ؛ إذ ينقل عن بور كهارت : أن نوعا من النسور الجريئة التي تختطف الطعام من صحون الحجاج ، تعيش في جبال الحجاز الممتدة بين المدينة المنورة ومكة المكرمة. انظر : رحلات في شبه الجزيرة العربية ، جون لويس بوركهارت ، ترجمة د. عبد العزيز الهلابي ود. عبد الرحمن الشيخ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط ١ ، ١٤١٣ ه‍ / ١٩٩٢ م ، ص ٣٧٢.

(٣) استنتحنا ذلك بالاعتماد على معلومات أوردها ديدييه ووجدناها عند تاميزييه في كتابه : رحلة في بلاد العرب ، انظر نص ديدييه بالفرنسية ، ص / ٢٢٠ / وتعليقنا عليه. ويبدو أن ديدييه قد اطلع على أخبار الرحلات الفاشلة التي جرت لسبر القارة الإفريقية ، انظر : ص / ٣٦ / من الأصل الفرنسي.

٢٦

(مارس) ١٨٥٤ م وشارك ديدييه في دفنه. وتظهر الفقرات التي تحدث فيها عن الأمة العربية أنه مطلع على تاريخ الحضارة العربية وإنجازاتها الأدبية والعلمية فهو يقول : " إنها أمة عالمة ومثقفة ، نبغت في العلوم قدر ما نبغت في الفن والحروب. لقد كانت خلال أمد طويل ، أمة مبتكرة حيثما قادها حماسها الديني ، لقد كان لها مدارس تزدهر فيها دراسة الطب والعمارة والرياضيات والفلك. وفي هذه المدارس تعلم الغرب ، وأبدعت روائع أدبية ما زالت حتى اليوم متعة العقول المثقفة كلها" (١).

تنوعت مصادر ديدييه التي استخدمها أحسن استخدام ، فأغنت ملاحظاته الشخصية ، ومدوّناته اليومية ، وكان مآل ذلك كله هذه الرحلة الممتعة.

٥ ـ ملابسات الرحلة (٢) :

يكرر ديدييه في غير موضع من رحلته ، أنه ليس في مهمة رسمية ، وأن رحلته ليس لها أي هدف سياسي ، وأن المصادفة وحدها هي التي قادته إلى الجزيرة العربية ، وأنه ، نفسه ، اعترته الدهشة من الاستقبال الحافل الذي لقيه من الشريف الأكبر ، يقول على سبيل المثال : " ... إن وجود بريطاني وفرنسي يجوبان الحجاز في هذه الفترة السياسية السائدة فيه ، مدعاة للشك ، مما يجعل الناس يظنون أن حكومة كلّ منهما أرسلت مواطنها لدراسة الأوضاع في الحجاز ، واستطلاع مدى ارتباطه بالباب العالي ،

__________________

(١) انظر : النص الأصلي لرحلة ديدييه ص / ٣٠٠ /.

(٢) نشكر للأستاذ الدكتور أحمد خالد البدلي ملاحظاته التي دعتنا إلى إعادة النظر فيما كنا قد كتبناه عن الرحلة في مقالنا في مجلة" الدرعية".

٢٧

وموقفه منه. وعلى الرغم من أن ذلك غير صحيح ، ولكنه غير مستبعد ، ولا مبالغ فيه ، وإن شك الشريف الأكبر في ذلك ، جعله يعاملنا تلك المعاملة اللائقة ..." (١).

يمكن أن يصدّق المرء للوهلة الأولى ما يدعيه ديدييه ، ولكن حياة الرجل ، واطلاعه على الأحداث الدولية ، واهتماماته السياسية ، وإرتباطه القوي بهويته المسيحية ، وكرهه الشديد للإمبراطورية العثمانية ، ولكل من يرتبط بها (محمد علي وأتباعه) ، وانعكاس ذلك الكره الذي ينقلب في بعض الأحيان إلى عنصرية ، كل ذلك يجعلنا نتساءل ، عمّا سميناه ملابسات الرحلة.

لقد سبق لديدييه أن تولى مهمات سياسية لصالح بلده كما رأينا في أطوار حياته ، وليس بالغريب أن تسند إليه مهمات أخرى!

إن تدخل القنصل البريطاني السيد كول ، ومرافقة المترجم في القنصلية الفرنسية وموثق العقود فيها السيد دوكيه M.Dequie لديدييه ورفيقه البريطاني ، والاستقبال الحافل الذي لقياه في الطائف ، والحراسة التي أرسلها الشريف ، كل ذلك يدفعنا إلى طرح سؤال ربما يجد إجابة في أبحاث لاحقة ليس مكانها هنا. يتحدث ديدييه عن أحداث هامة على المستوى الفرنسي المحلي (انقلاب الثاني من ديسمبر ١٨٥١ م) ، وعن موقف فرنسا من الإمبراطورية العثمانية الذي يصفه بأنه (كوميديا) (٢) ، ثم يتحدث عن حرب (القرم) بين تركية وروسيا التي جرت بين عامي (١٨٥٣ م ـ ١٨٥٦ م) ،

__________________

(١) الأصل الفرنسي ص / ٢٩٥ /.

(٢) انظر ما ذكرناه في الحاشية (رقم ١ ، ص ١٦) من هذه المقدمة.

٢٨

ووقوف بريطانيا وفرنسا إلى جانب تركية لا حبا بها ، وإنما للوقوف في وجه روسيا. ويخيّل إليه من خلال حديثه مع الشريف عبد المطلب ؛ أن هذا الأخير يميل إلى دعم روسيا (١) لا حبا بها أيضا ، وإنما لأنه في رأي ديدييه لا يمكن لعربي أن يتمنى انتصار تركية التي تستعمر الأمة العربية ، وتعامل العرب أسوأ معاملة : إن هذه الإشارات التي تصدر عن ديدييه تجعل السؤال التالي مشروعا : هل كان ديدييه في عام (١٨٥٤ م) مع القس هاملتون Abbe Hamilton رفيقه في الرحلة في مهمة لاستطلاع آراء الشريف والشخصيات الأخرى في الحجاز في الدولة العثمانية ، ومدى ارتباط الشعب بتلك الدولة التي كانت على وشك السقوط أمام الزحف الروسي؟ فقد أكدت الأحداث اللاحقة أن فرنسا وبريطانيا تدخلتا لصالح تركية طمعا في اقتسام تركتها بعد ذلك ، وإبعاد روسيا عن مناطق نفوذهما ، ودفعتا روسيا قسرا إلى توقيع معاهدة باريس (١٨٥٦ م) ، ناهيك عن أن سياسة نابليون الثالث (الإمبراطورية الثانية) كانت تقوم على إيجاد ضغوط خارجية للاستمرار في الحكم ، وكان ديدييه كما يقول هو نفسه شاهد عيان على انقلاب (٢ ديسمبر ١٨٥١ م) في فرنسا. فهل كان ديدييه مبعوث نابليون الثالث لاستكشاف منطقة الحجاز؟ والإجابة تحتاج إلى مكان أوسع ، ودراسة نترك للمختصين القيام بها ، ونكتفي بطرح القضية هنا ، ونختم بالإشارة إلى ما

__________________

(١) يقول الدكتور آل زلفة في مقالته الرابعة من المقالات المذكورة في الحاشية (١ ، ص ٣١) من هذه المقدمة : " أما موقف الشريف عبد المطلب من الحرب الروسية التركية فربما يلمح المؤلف من خلاله ، تأييده لروسيا. هذا رأي المؤلف ، وربما كان للشريف رأي آخر".

٢٩

ذكره الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل في تعليقه على رحلة بلجريف (١) " ... ولما كان نابليون الثالث إمبراطور فرنسا مهتما بكشف خبر جزيرة العرب ، وبحاجة إلى شراء خيول من أصول عربية لجنوده ، عثر هذا على بلجريف الذي كان يرغب في القيام برحلة إلى بلاد العرب ليكشف عن حقيقة الوضع فيها ... وقد قيل : إن بلجريف كان يمثل نابليون الثالث الذي كان مهتما اهتماما خاصا بمصر والشام ، وربما كان قد وجه اهتمامه إلى نجد لعلاقتها بموضوع قناة السويس الذي كان قد تم اقتراحه آنذاك بالفعل".

وإذا علمنا أن بلجريف جاء إلى الرياض حسب ما يدعي في عام ١٨٦٣ م / ١٢٨٠ ه‍) أي بعد تسع سنوات من رحلة ديدييه الذي لم يذهب إلى نجد ، فهل كانت رحلة بلجريف ، إن صحت ، امتدادا لاهتمام نابليون الثالث بأوضاع الجزيرة العربية والقوى السياسية فيها؟

__________________

(١) مسائل في تاريخ الجزيرة العربية ، ألفها وحققها أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري ، منشورات مؤسسة دار الأصالة للثقافة والنشر والإعلام ، الرياض ، ط ١ ، ١٤١٣ ه‍ / ١٩٩٣ م ، ص ٢٠٦ ، ٢٠٨ ؛ وانظر : دراسات في تاريخ الجزيرة العربية الحديث والمعاصر ، د. عبد الفتاح حسن أبو علية ، دار المريخ ، الرياض ، ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م ، ص ١٢٥ ـ ١٤٤. ونضيف إلى ما ذكره الشيخ أبو عقيل من أدلة على كذب بلجريف وعدم إنصافه ، ما أورده ناصر الدين دينيه في كتابه : الحج إلى بيت الله الحرام ، إذ يقول : " ... ولكننا لا نولي ما يورده هذا الرحالة ثقة كبيرة ؛ لأنه يكره الإسلام كرها مسعورا ..." انظر مقالنا : ناصر الدين دينيه وكتابه الحج إلى بيت الله الحرام ، موثق سابقا.

٣٠

٦ ـ عملي في الترجمة (١) :

إذا كانت الترجمة هي نقل المعلومات من نظام لغوي إلى نظام لغوي آخر ، فهي تمثّل لثقافة النص المترجم وثقافة النص المترجم إليه أيضا ، ناهيك عن عمليات أخرى معقدة تترافق مع الانتقال من نظام لغوي إلى نظام لغوي آخر ، لأن اللغة في واقع الأمر هي كالموقع الأثري تجد فيها عند التنقيب أخبار مستخدميها ، وتاريخهم ، ومعتقداتهم ، وعاداتهم ، وتقاليدهم مما ينبغي الانتباه إليه إذا أردنا ترجمة نصوص تنتمي إليها.

كان كل ذلك يجول في خاطري وأنا أقرأ نص ديدييه ، وحاولت في أثناء الترجمة أن أنقّب في نصه عما يريد قوله ، وكنت أنقب في العربية أيضا لأجد مقابلات نص ديدييه ، لكي لا يكون الفتى العربي في الترجمة غريب الوجه واليد واللسان.

__________________

(١) نشر الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الله آل زلفة ، مجموعة من المقالات بعنوان : الطائف في كتب الرحالة الأوروبيين ، شارلز ديديه Charles Didier نموذجا (شارل ديدييه) ، في صحيفة" الجزيرة" ، تحدث فيها عن الرحالة الأوروبيين الذين زاروا الطائف ، وتوقف عند ديدييه في المقالة الثانية ، ع ١٠١٥٨ ، ١٩ ربيع الآخر ١٤٢١ ه‍ / ٢١ يوليو (تموز) ٢٠٠٠ م ، ص ٧ ، وبدأ في المقالة الثالثة المنشورة في العدد ١٠١٦٢ ، ٢٣ ربيع الآخر ١٤٢١ ه‍ / ٢٥ يوليو (تموز) ٢٠٠٠ م ، ص ١٢ ، والمقالة الرابعة المنشورة في العدد ١٠١٦٥ ، ٢٦ ربيع الآخر ١٤٢١ ه‍ / ٢٨ يوليو (تموز) ٢٠٠٠ م ، ص ٦ ، والخامسة في العدد ١٠١٧٢ ، ٤ جمادى الأولى ١٤٢١ ه‍ / ٤ أغسطس (آب) ٢٠٠٠ م ، ص ٦ ، والسادسة في العدد ١٠١٧٩ ، ١١ جمادى الأولى ١٤٢١ ه‍ / ١١ أغسطس (آب) ٢٠٠٠ م ، ص ٨ ، بنشر الفصل الذي خصصه ديدييه للحديث عن الطائف. ويبدو أنه يترجم عن الإنجليزية ، وقد استفدنا من ترجمته وتعليقاته.

٣١

لم أكتف بالترجمة ، وإنما علّقت عليها بما يزيدها وضوحا ؛ فعرّفت بأشخاص الرحلة ، وما غمض من أمكنتها وحوادثها ، ووثقت النصوص قدر الطاقة من كتب الرحالة الآخرين ، وأحلت إلى القرآن الكريم في الموضوعات الدينية لتتضح الحقيقة في كتاب الله. ورأيت من المناسب أن أثبت في متن النص العربي صفحات الأصل الفرنسي للرحلة فوضعتها بين / / لتسهل المقابلة بالأصل ، وليسهل اختبار دقة الترجمة على من أراد.

كتبت الأسماء الأجنبية بالعربية ، وبلغتها الأصلية عند أول ورود لها ، وتحققت من أسماء الأماكن بالاعتماد على المعاجم الجغرافية ، وقد لقيت من ذلك عنتا سببه أن ديدييه لم يكن يحسن العربية ، وكان يكتب الأسماء كما يسمعها من أصحابها الذين كانوا لا يراعون في الغالب النطق الفصيح فالسكارى يكتبهاAl ـ Sakara والمهر يكتبهاAl ـ Mahr. أما الحروف الحلقية فيتخبط في كتابتها تخبطا كبيرا. وقد أشار هو نفسه إلى صعوبة كتابتها (١) ، ناهيك عن الأخطاء المطبعية عند ما يتحول : صبح ، إلى Loubh ، ولقيم ، إلى Goum ، والعباسي إلى العباري Al ـ Abbari. وقد أثبت في الحواشي الأسماء كما كتبها ديدييه لأن بعضها استعصى عليّ بسبب تغير أسماء المواضع أو بسبب خطأ الكتابة (٢). لقد اجتهدت في قراءة ما استعصى علي ثم تركته في الأصل مكتوبا كما ورد.

__________________

(١) انظر : ص / ١٠٤ / من النص الأصلي حيث يقول : " ... ليس من السهل نقل الحروف الحلقية في العربية إلى الحروف الفرنسية ، وخصوصا إذا كنا لم نرها مكتوبة أبدا".

(٢) الصلاة على النبي ، والترضي على الصحابة ، ووصف مكة بالمكرمة والمدينة بالمنورة لا وجود له في النص الأصلي ، لذا أضفنا ذلك. وما هو بين قوسين () زيادة من المترجم للإيضاح.

٣٢

وحرصت على أن يكون للرحلة فهرس يتضمن أسماء الأعلام والأماكن المذكورة في الرحلة لكي تزيد الفائدة منها بإذن الله.

إن هذه الرحلة إسهام في تاريخ الحجاز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وكل ما نأمله أن يجد القارئ فيها المتعة والفائدة ، وأن نكون قد أفلحنا في تقديم نص يدفع بالمعرفة خطوة إلى الأمام ؛ وإلّا فإن" مبلغ نفس عذرها مثل منجح" ، والله من وراء القصد.

د. محمد خير البقاعي

الرياض ٢٧ / ٤ / ١٤٢١ ه

٢٩ / ٧ / ٢٠٠٠ م

٣٣

نصّ الرّحلة

٣٤

المقدمة

لقد ذهب مؤلف الرحلة إلى الشرق بحثا عن الطمأنينة والنسيان ، بعد أن كره باريس ، وفرنسا ، وأوروبا كلها ، بسبب ظروف خاصة وعامة لا جدوى من ذكرها ، وليس بالإمكان التعرض لها في هذا المكان. وبعد أن أمضى في القاهرة شتاء لا يدانيه شيء في الروعة ، وظلت ذكراه متمكنة في نفسه ، كان يستعد للعودة إلى أوروبا. وكان قد مهر جواز سفره بتأشيرة إلى أثينا ، عندما عرض عليه أحد البريطانيين الذين ربطته به علاقات اجتماعية محدودة ، أن يقوما برحلة يقتسمان تكاليفها إلى جبل سيناء ، مع إمكانية متابعة الرحلة من هناك إلى مدينة جدة في الجزيرة العربية ؛ بهدف زيارة الشريف الأكبر ـ شريف مكة المكرمة الذي كان حينئذ يقيم في الطائف.

لقد طلب المؤلف مهلة أربع وعشرين ساعة للتفكير ، ولكن ميوله إلى الترحال / VI / دفعته إلى اتخاذ قرار عاجل : فلم تمض ساعة حتى كان موافقا على ما عرضه البريطانيّ عليه. وعمدا في الحال إلى إعداد لوازم الرحلة ، وحدد موعد الانطلاق بعد يومين ، ١٦ يناير (كانون الثاني) ١٨٥٤ م ؛ وبذلك وجد المؤلف نفسه منطلقا إلى الجزيرة العربية ، بدلا من الذهاب إلى اليونان.

وهو ينشر هنا قصة تلك الرحلة أملا في أن تجد بعض الاهتمام ، إذا كان هناك عدا المال شيء يهتم به الناس اليوم.

٣٥

لا يدعي المؤلف أنه يقدم لوحة تاريخية ، ولا لوحة صغيرة ، وإنما يقدم مجرد رسم بسيط لأحداث الرحلة ، ويعلن بصراحة ، مخلصا بذلك لما اعتاده فيما سبق ، أنه لم يسمح لنفسه ، وهو يرسم الأشخاص والأشياء ، باستخدام أي تجميل ، ولا تعديل ، إن لم يكن متوافقا مع الواقع. لقد استطاع بذلك أن يبتعد عن كل ما يغري الجهلة أو المنحرفين ، وعزاؤه في ذلك ، أنه يعتقد اعتقادا راسخا أن الرحلة المتخيلة أسوأ الروايات كلها.

ومهما يكن من أمر ، فإنه يستطيع القول مع مونتيني (١) Montaigne : إن هذا كتاب صادق ، وإنه ، بحالته الراهنة ، كتابه. لم يؤلفه مستعينا بكتب أخرى ، ولا بحسب انطباعات الآخرين ، ولكنه يحتوي على ذكريات شخصية ، وعلى ملاحظات سجّلت يوما / VII / بيوم في أماكن حدوثها.

ولكي يطمئن القارئ (نقول) : إن الهدف من نشر هذه الرحلة يتحقق إذا استطاعت الأحداث التي تتضمنها أن تجعل بعض الأذكياء يطلعون على المهزلة التي تقوم بها أوروبا لصالح تركية.

باريس ، في ٢٠ أكتوبر (تشرين الأول) ١٨٥٦ م

__________________

(١) Michel Eyquem de Montaigne ـ ميشيل إيكيم دو مونتيني (١٥٣٣ ـ ١٥٩٢ م) : أديب ومربّ فرنسي. اشتهر كتابه" مقالات Essais ".

٣٦

الفصل الأول

صحراء السويس

يفصل القاهرة عن السويس صحراء مساحتها ١٠٠ ميل. كان الناس في الماضي يخشونها ؛ إما بسبب انعدام الماء فيها بتاتا ، وإما بسبب البدو الذين كانوا ينهبون القوافل فيها. ولكن مظاهر الحضارة دخلت الصحراء ، فلم يعد من المناسب معه إطلاق اسم الصحراء عليها ؛ فقد قامت حكومة محمد علي الحازمة بتطهيرها من اللصوص الذين كانوا ينتشرون فيها ، وانتشر الأمن فيها انتشاره في طريق باريس في فرساي ، بل ربما أصبحت أكثر أمنا منها. ثم إن إدارة العبور (الترانزيت) المكلفة نقل الأمتعة والركاب إلى الهند عبر مصر أنشأت لهذا الغرض طريقا / ٢ / وسيّرت عليه عربات ، وأقامت محطات (مراكز) بريدية بلغ عددها خمسة عشر مركزا ، زودتها بماء النيل الذي يباع بأسعار مرتفعة ، وأهم تلك المراكز : هي الرابع ، والثامن ، والثاني عشر ، والثاني على وجه الخصوص. وتعدّ تلك المراكز مجموعة من النزل ، نعم ، أيها القارئ ، إنها نزل في قلب الصحراء ، وسيكون التحوّل في هذه المنطقة جذريا عند الانتهاء من أعمال سكة الحديد التي يجري العمل فيها لإتمام السكة المقامة بين الإسكندرية والقاهرة ، والتي تسير القطر عليها منذ زمن. وستربط السكة الجديدة البحر الأحمر بالبحر المتوسط بانتظار أن يأخذ شق القناة في المستقبل بيد مصر القديمة إلى مصير جديد.

٣٧

أمّا عربات النقل فهي علب بشعة ، مطلية باللون الأبيض ، لتعكس أشعة الشمس ويتقاضى أصحابها ٩ جنيهات وسطيا من كل راكب ، وتحمل كل عربة ستة ركاب في مكان لا يكاد يتسع لأربعة ، يقود العربة أحصنة يرخى لها العنان فتقطع مسافة ١٠٠ ميل في تسع ساعات ، ولا يحتاج البريد المحمول على الحصان لقطع تلك المسافة ست ساعات ، ويمكن أن تتقلص إلى خمس. وسيكون الفارق الزمني بينها وبين القطار ضئيلا كما هو واضح. تلك هي أحوال الذين هم في عجلة من أمرهم.

لم أكن في عجلة من أمري ، ولم يكن هدفي من الرحلة قطع أطول مسافة في أقصر زمن ممكن ، لذلك لم ألجأ إلى أيّ من وسيلتي النقل اللتين ذكرتهما ، بل عمدت إلى وسيلة أكثر بطئا ، ولكنها أكثر إثارة وتثقيفا ، لقد رافقت السكان الأصليين ، نصبت خيمتي على الطريق ، وقضيت فيها ثلاث ليال / ٣ / ، واستغرقت الرحلة مني زمنا يزيد على وقت العربات بثماني مرات. غادرت القاهرة ثالث اثنين على ظهر واحد من تلك الحمير الجميلة التي تكثر في مصر ، والتي ليس لها ما تشترك به مع الحمير الأوروبية إلا الاسم ؛ هذا الحيوان المعذّب الذي يحتقره الفلاحون بغير حق ، ويعاملونه معاملة قاسية. إن المسلمين أكثر رفقا بالحيوان من النصارى. إن لون الحمار المصري أسمر داكن ، وهو رشيق ، حسن الهيئة ، ممراح ، قدماه دقيقتان ، وأذناه مستقيمتان مدببتان ، ذلك مظهره ، أما مخبره فهو حيوان لا يقف شيء في وجه شجاعته ، ولا ينال التعب من همته ، أمّا قناعتة بالمأكل والمشرب فهي مضرب المثل ؛ فهو يكتفي بقبضة من الفول في اليوم ، ويمكن أن يسير ثلاثة أيام دون أن يشرب في جو ترتفع فيه درجة الحرارة ما

٣٨

بين ٣٥ و ٤٠ درجة ، ولا يمكن لأي حصان أن يقارعه ، وهو ينافس في ذلك الجمل نفسه. وإن لهذه الحمير القوية قيمة مادية كبيرة ، وإن أحد الأطباء من أصدقائي تلقى هدية من أحد نواب الملك (في مصر) حمارا أبيض اللون قدّر ثمنه من ١٢٠٠ إلى ١٥٠٠ فرنك.

تجتمع آلاف من هذا الحيوان الأثير في الساحات والشوارع ، كما تجتمع الفياكر في مدن أوروبا ، والأحصنة في إستانبول : يستخدمه كل الناس دون حرج ، وليس لسيدات المجتمع من ذوات الخدم والحشم من ركوب سواه. ومع أن برادع تلك الحمير قاسية ، وتشبه كل الشبه / ٤ / البردعة المستخدمة في أوروبا ، إلا أن لها سمات خاصة بها ، ولا نشعر بالضيق ونحن نجلس فوقها. وتنتشر التزيينات الأنيقة فوق السجاد ذي الطرر الذهبية ، التي يكون لها وقع في النفوس عجيب. وأضيف في هذا السياق أن مكاري القاهرة هم أطفال حيويون وأذكياء ، ولكنهم يصبحون في سنوات قليلة بلهاء : إذ إن ضربا من الطيش المبكر هو الذي يجعلهم يتحولون هذا التحول المؤسف.

كانت قافلتنا الصغيرة تتألف من أربعة من الأعيار ، ومن عشرة جمال لازمة لنقل خدمنا وعددهم خمسة ، وكانت أمتعتنا ذات حجم مقبول ؛ لأننا مقدمون على رحلة طويلة ، وينبغي أن نحمل معنا كل لوازمها من خيام وأسرة ، وسجاد ، ومؤن من كل الأنواع ، والنبيذ حتى الماء ، كان ينبغي أن نحمل كل شيء حتى آنية الطعام وأدواتها ولوازم الطبخ.

٣٩

كان قصر العباسية ، آخر مكان مسكون تراه بعد مغادرة القاهرة ، والعباسية قصر فخم ، رهيب ، بناه الخديوي عباس باشا (١) على حدود الصحراء ليكون سكنا له. إن هذا القصر بالنسبة إلى عباس باشا هو كجزيرة كابري (٢) Capree بالنسبة إلى تيبيريوس (٣) Tibere ، وعباس ليس إلا نسخة مصغرة عن تيبيريوس وهو نصف نمر ونصف ضبع ، لا يحد من وحشيته إلا الخوف.

__________________

(١) عباس باشا بن طوسون باشا بن محمد علي باشا (١٨٤٩ ـ ١٨٥٤) م تولى حكم مصر في عام ١٨٤٨ بعد وفاة والده طوسون في ١٠ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٨٤٨ م. وتوفي في يوليو (تموز) ١٨٥٤ م ، وقد كثرت الروايات عن وفاته ، وقد نال نصيبا وافرا من انتقادات الرحالة ، ويبدو أنه كان يكره القناصل الأجانب ويؤثر عنه قوله : " إذا كان يتحتم علي الخضوع لأحد ما ، فإنني أفضل الخضوع للخليفة ، لا للمسيحيين الذين أكرههم". وقد حاول إخراج مصر من دائرة النفوذ الفرنسي ، فصبّ عليه الرحالة والسياسيون الفرنسيون جام غضبهم. اقتنى عباس باشا الحيوانات ، وخصوصا الجمال القوية التي حصل عليها من الحجاز ، ولم يكن يأذن لأحد بزيارة حظائره لأنه كان يخشى شر العين الحسود على الجياد ولذلك أصدر أوامره بإلقاء القبض على كل من يقترب من الاصطبلات والحظائر ، وكذلك من أبراج الحمام ، لأنها كانت تحوي أجمل وأندر الأنواع. لقد أقام عباس في المناطق البعيدة النائية حيث الهواء النقي ، فبنى القصور في العباسية ، وعند جبل المقطم ، فكان محل إقامته أشبه بالقلعة ، يعسكر فيها مع موظفيه بعيدا عن دسائس القناصل. انظر بخصوص فترة عباس باشا كتاب : مصر في كتابات الرحالة الفرنسيين في القرن التاسع عشر ، د. إلهام محمد علي الذهني ، سلسلة مصر النهضة رقم (٥١) ، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ١٩٩٥ ، ص ١٥٧ ـ ١٦٢. وسنشير إليه من الآن فصاعدا ب" مصر في كتابات ..."

(٢) capree جزيرة إيطالية كانت مستوطنة يونانية ثم أصبحت أيام الرومان متنزّها ، وسكنها الإمبراطور أغسطس ، أما الإمبراطور تيبيريوس فبنى هناك عدة مبان أو مساكن.

(٣) Tibre أوTiberius (٤٢ ق. م ـ ٣٧ م) : إمبراطور روماني حكم بين (١٤ ـ ٣٧ م) سلك في الحكم سبيل التعقل في البداية ، ثم أطلق العنان لنزواته وشهواته.

٤٠