رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

إن هذه الواحة (١) الجميلة محمية من الشمال بجبل حمّام الذي تتباين صخوره الكلسية مع الخضرة الندية التي تكسو طوال العام العينين الغزيرتين اللتين تتفجران من أسفل الجبل : إحداهما شديدة البرودة ، صافية كل الصفاء ، ولها طعم لذيذ ؛ أما الأخرى فهي على العكس حارة ، يكثر فيها الحديد ، ومشربة تماما بالكبريت. وقد بني على هذه الأخيرة بناء (٢) محكم الإغلاق ، جيد المواقع لتوفير الراحة لمن يريدون السباحة فيها ، ولم يفتني الاستحمام فيها ؛ وقد كان حماما رائعا بقيت أياما طوالا بعده أشعر بالنظافة من أثره. يسمّى هذا الحمّام المعدني في البلد : حمّام فرعون. أمّا العين المجاورة / ٤١ / فهي عين مشهورة ، لها مكانة عالية (٣) ، تعرف باسم : عين موسى. ونلاحظ هنا أيضا الذكريات التوراتية. وينتصب وراء جبل حمّام جبل آخر اسمه جبل الناقوس ؛ وهي تسمية غريبة في بلد لا يعرف النواقيس ، وهي ممنوعة فيه. وتزعم الحكاية الخرافية : أنه كان في القديم دير مسيحي في هذه البقعة ، وأن الأرض

__________________

(١) واحة ليست في المعاجم العربية ولم أجد إلا الواحات واحدها واح على غير قياس وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان ، ط. دار صادر ، بيروت ، ١٣٩٩ ه‍ / ١٩٧٩ م ، ج ٥ ، ص ٣٤١ عن الواح : لا أعرف معناها وما أظنها إلا قبطية. ويتحدث الجغرافيون عن منطقة الواحات في مصر.

(٢) ذكر بيرتون في رحلته ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٦٦ أنه مبنى صغير من طابق واحد ... بناه عباس باشا ليستخدمه كاستراحة ، وكان مطليا باللون الأبيض الساطع ، ومزينا بستائر من الكاليكوCalico ذوات ألوان متدرجة رائعة.

(٣) قارن بما يذكره بيرتون في رحلته ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٦٦ ـ ١٦٥ ؛ إذ سمى العين الحارة شتاء والباردة صيفا ولها طعم مالح ومر : عيون موسى ، وسمى العين العذبة الغزيرة : بير موسى.

٨١

ابتلعته في أعماقها ، وأننا منذ ذلك الوقت نسمع أصوات النواقيس كل يوم عند العصر ؛ أي في الساعة الثالثة بعد الظهر. وإن كان صحيحا وجود مثل هذه الأصوات المعجزة التي لم أستطع التحقق من وجودها ؛ فإن سبب حدوث ذلك قد يكون سيلا في داخل الأرض ، أو بركانا يتفجر تحت الأرض : وإن وجود العينين المتفجرتين اللتين تحدثنا عنهما قبل قليل ، إحداهما قرب الأخرى ، مع أن طبيعة كل منهما ، ودرجة حرارته مختلفة عن الأخرى اختلافا كليا ، يدل بما لا يترك مجالا للشك على الوجود المتزامن ، والفعل المتقطع أو المستمر ، للماء والنار في أعماق الأرض الغامضة (١). ولما عدنا من هذه الرحلة ، وجدنا ريس مركبنا ؛ والريس اسم يطلقه العرب على قباطنة المراكب ، جالسا مع بعض بحارته على باب منزل متداع يقع خارج المدينة ، يحميه من الشمس إفريز من سعف النخل ، تحمله قضبان من الحديد طويلة مغروزة في الرمل : وتلك هي صورة المقهى في الطور ، ونحتسي فيه مقابل عدد قليل من البارات القهوة قبل كل شيء ، ثم الشيشة المعمّرة ، والماء البارد حسب الطلب. / ٤٢ / يقدم كل ذلك صاحب المقهى بنفسه ، عن طيب خاطر ، ولكن إياك أن تطلب منه أي شيء آخر. كان بحارتنا هناك يجلسون القرفصاء ، والشيشة في أفواههم ، وكؤوس القهوة في أيديهم ؛

__________________

(١) انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٣٥ ؛ وفيه تعليل لصوت النواقيس : " ... وقد كثرت الأقوال في تعليل ذلك ؛ وأشهرها أن الرمال بانهيالها تمر على صخور مجوّفة في باطن القليب فتحدث ذلك الصوت". وهذه الظاهرة معروفة في كثير من الصحاري في الجزيرة العربية ، وقد تكلم عليها عبد الله فيلبي في كتابه : الربع الخالي بشيء من التفصيل.

٨٢

وكم أصبحت أثيرا لديهم ، عندما ضاعفت لهم كمية القهوة والدخان أربع مرات ، بل عشر مرات على حسابي ، والعرب يقدرون ذلك كثيرا. لقد أصبح أولئك البحارة ، بعد أن شربوا ذلك القدر الكبير من القهوة ، ودخنوا كمية كبيرة من التنباك على حسابي ، يعرفون أنني مستعد لأن أقدم لهم دائما مثل ذلك. ويستهلك العربي كمية كبيرة من القهوة والدخان. ذكرت فيما مضى أن أحد بنود عقد استئجار السفينة الذي وقعناه في السويس بحضور كوستا ، يقضي بأن ينتظرنا المركب في الطور إلى حين عودتنا من الرحلة إلى جبل سيناء ، وحددت أيام الانتظار بخمسة. ولكي يردّ الريس على كرمي بأحسن منه قال لي راضيا : إنه لا ينبغي عليّ إرهاق نفسي ، وإن باستطاعتي القيام بالرحلة على مهل ، وإنه سينتظرني الوقت الذي يناسبني. وقد كنت قد تعلمت من التجربة ، وعلى حساب مصالحي في بعض الأحيان ، أن العربي لا يعرف الاستعجال أبدا ؛ وقد أعجبت بصبر هذا الريس المتطوع ؛ ولو كنت في مكانه ، محكوما عليّ ، شأنه ، الإقامة لأسابيع طويلة في هذا المكان النائي ، لم أكن بالتأكيد لأنظر للأمر بهذا القدر من التعقل : لأنه ليس أمام المرء في مثل هذا الجحر ، إلّا الرحيل / ٤٣ / وقد غادرته في اليوم التالي. تركنا القسم الأعظم من أمتعتنا في المركب ، يحرسه أحد الخدم ، ولكي نتخفف في أثناء السفر ، لم نحمل معنا إلا ما لا يمكن الاستغناء عنه ؛ فتقلصت قافلتنا نتيجة ذلك إلى ستة جمال ، منهما اثنان من الهجن ، أو يزعم أنهما كذلك. لقد علموني في طفولتي ، وما زالوا على الأرجح يعلمون الأطفال حتى اليوم ، أن للهجان سنامين في حين أن الجمل ليس له إلا سنام واحد ؛ وقد رأيتها مرسومة كذلك

٨٣

في عدد كبير من كتب التاريخ الطبيعي ، وهذا خطأ : ليس للنوعين إلّا سنام واحد ، ولا وجود في أي مكان ، كما أعلم ، إن لم يكن في التبت ، لحيوان من هذا النوع ، له سنامان. إن مقام الهجن بين الجمال كمقام فرس الركوب بين الخيل التي تجر العربات ، ولا يتميز منها إلّا بدقة أعضائه ، وبكرم نسبه. نمتطي الأول ، أما الثاني فيستخدم لحمل الأمتعة. إن الجمل بطيء الحركة ثقيلها ، وصعب المراس ، ويهتز جسمه في أثناء سيره اهتزازات مزعجة جدا ، تسبب في غالب الأحيان دوارا كدوار البحر لأولئك الذين لم يعتادوا ركوبه ؛ أما الهجان فإنه ، على العكس مما سبق ، ذو خطوة واثقة ومريحة ، وسيره لطيف ، وإذا أحسن تدريبه فإن راكبه يستطيع في أثناء سيره تناول فنجان من القهوة دون أن تسكب منه نقطة واحدة ، وهو سريع / ٤٤ / ، يستطيع قطع ما يربو على أربع مراحل في اليوم ، دون أكل أو شرب. ويمضي الخيال العربي إلى أبعد من ذلك ، فيزعم أن الهجان الأصيل يقطع أربعا وعشرين مرحلة في اليوم الواحد. كانت المرة الأولى التي أمتطي فيها هجانا ، لذلك بدوت منفعلا بعض الانفعال ، خصوصا أن الهجان الذي كان مخصصا لركوبي كان طويل الساقين ، وكان رحله يشبه كل الشبه أرحل البدو الذين قابلتهم في صحراء السويس ، وكان له جرابان طويلان يتدليان على الجانبين. كان الرحل نفسه عاليا علوا كبيرا ، وكان ، كالمعتاد ، موضوعا في أعلى السنام مما يجعله أكثر علوا أيضا. كنت على بعد عشرة أقدام من الأرض. ناهيك عن أن الرحل العربي عريض ، ولا يمكن الركوب عليه برجلين متدليتين ، ولا نستطيع الاستواء عليه إلّا جلوسا ، والقدمان ممدودتان إلى الأمام على عنق

٨٤

الحيوان ، وليس لتوجيه الحيوان الوجهة التي تريدها ، إلا مجرد زمام. ولّما أنهيت رحلة الصعود ، ورأيتني معلقا في هذا العلو ، ولجة عميقة على يميني ، وأخرى على يساري ، تساءلت إن كنت لن أصاب بالدوار؟ وشعرت بأنني غير مستقر على قاعدتي ، وأنني سأقع منذ الخطوة الأولى. لم تكد تلك الآلة المخيفة تبدأ السير حتى فقدت / ٤٥ / توازني تماما ، وإن كنت لم أقع فلأنني تمسكت بقربوسي الرحل اللذين يؤديان للمبتدئين بركوب الهجن خدمة جلى ، وأحدهما مثبت في مقدمة الرحل ، والثاني في مؤخرته ، ويبلغ طولهما قدما واحدا. لم تدم فترة تدريبي زمنا طويلا ، وسرعان ما اعتدت على ركوبي الجديد ، حتى أصبح بإمكاني إناخته عندما أريد النزول ، وإنهاضه بعد الصعود دون أن أكون ، كما في البداية ، بحاجة إلى مساعدة أحد. وانتهى بي الأمر إلى اعتياد ركوب ذلك الرحل ، المقلق في البداية ، والذي صرت أجلس عليه براحة كما لو أنني أجلس على كرسي وثير بفضل السجادة التي تغطيه. وأعجبت كل الإعجاب على الخصوص بالخرجين (١) اللذين يتدليان على الجانبين ، واللذين يسمحان بأن تجد بالقرب منك كل الأشياء الضرورية للسفر. باختصار ، إنني لم أجد بين وسائل الانتقال المختلفة التي جربتها على الأرض ، وفي البحر ، أفضل وأسهل من الهجن ، وليس بين تلك الوسائل ما هو أكثر ميزات وأقل مساوئ منها ؛ جربتها مدة تقارب ستة أشهر متتالية ، دون أي حادث ، ودون تعب ، ودون مزعجات. / ٤٦ /

__________________

(١) خرج وجمعه خروج : وهو وعاء من شعر أو جلد ذو عدلين يحمل على ظهر الدابة ، توضع به الأمتعة. انظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ٤٢ ، وتعليق المترجم.

٨٥
٨٦

الفصل الرابع

جبل سيناء

لئن كنت حزينا لأنني وجدت طريقا عريضة بين القاهرة والسويس ، لقد كنت أكثر حزنا عندما وجدت طريقا أخرى بين الطور وجبل سيناء. يمكن أن نسوغ وجود الأولى بأنها ضرورية ، ولكن هذه الثانية ، ما الحاجة إليها؟ ليس هناك أي ضرورة لها ، وليس هناك ما يسوغ وجودها. ولكي أوضح سبب وجودها ينبغي أن أعود مرة أخرى إلى عباس باشا.

رأينا فيما سبق أن عباس باشا الذي وجد أن العباسية قريبة جدا من القاهرة ، أمر ببناء قصر دار البيضاء في قلب الصحراء ، ولكنه بعد ذلك وجد أن الدار البيضاء ليست بعيدة عن كل ما يود الهروب منه ؛ فزيّن له خاله أن يأمر ببناء قصر جديد على واحدة من أكثر قمم سلسلة جبال سيناء جدبا ، وأكثرها كآبة ، وأكثرها صعوبة وصول. هنا على الأقل لن يرى قبعات ، ولن يطارده القناصل في ذلك المكان العالي.

ومنذ أن تمّ اختيار موقع البناء ، وقبل أن يبدأ بتأسيسه ، أو إرساء مخطط هذا القصر المعلق بين الأرض والسماء ، كأنّه وكر طير من الكواسر ، أمر عباس مباشرة بشق طريق لكي يذهب / ٤٧ / إليه بالسيارة ؛ لأنه أصيب بسبب فجوره بعاهة منعته من ركوب الخيل والهجن. وما إن صدر الأمر حتى بدأ العمل بالمشروع بإشراف مهندسين فرنسيين يديران لإتمامه جيشا من العمال المهرة. كان ثلث الطريق قد تمّ إنجازه ، عندما مات عباس ، وأظن أن الأعمال قد توقفت بعد موته ، ولم يعد

٨٧

إنشاء هذا القصر الخيالي في جبل سيناء واردا. وزعم الناس أن هذا المشروع المتهور كان يخفي وراءه نوايا سياسية خفية ؛ فقد كان عباس باشا منذ بعض الوقت قد بدأ يستميل البدو القاطنين على الحدود السورية ، ويقرّبهم منه ، ويستقبلهم بترحاب ، ولما ذهب لزيارتهم بنفسه ، وعدهم بإعطائهم أحد أبنائه لينشأ بينهم ، ويتخلق بأخلاقهم وعاداتهم ، وهذه عادة تمارس في الجزيرة العربية إذ يترك أبناء الأشراف أسرهم بعد عدة أيام من ولادتهم ، وينتقلون من حضن أمهاتهم إلى خيام رجال القبائل ، لكي يتدربوا على تقوية أجسادهم ، ويعتادوا تحمل التعب ، ولكي تلهج الركبان بأسمائهم. تلك كانت ، كما يقال : النية الخفية ، والهدف السري لباشا مصر. كان يأمل ، وهو يرى الباب العالي متورطا في حرب مدمرة مع روسيا ، الاستفادة من الإنهاك الذي أصابه ليستولي من جديد ، بمساعدة البدو ، على ما كان يسيطر عليه جده محمد علي / ٤٨ / من مواقع في سورية أجبرته أوروبا على التخلي عنها.

وكان في هذه الأثناء ، وبانتظار الفرصة المناسبة ، يرسل لقادة جيشه على مضض ، قليلا من المال مما يحتاجونه في الحرب. وعندما سمع نبأ كارثة سينوب (١) Sinope البحرية التي تم فيها إغراق الأسطول البحري المصري كله تقريبا ، بدأ يكيل الشتائم المقذعة ، ليس للقيصر ، وإنما للسلطان التركي ؛ وأود في هذا المجال أن أسوق حادثة توضح طبيعة الرجل.

__________________

(١) سينوب Sinope (بالتركيةSinob) مدينة وميناء آسيوي في تركية (الأناضول) حطم فيها الروس في عام (١٨٥٣) الأسطول التركي الذي كان يضم بين قطعاته الأسطول المصري.

٨٨

نتذكر أن أحد قادة السفن المصرية قام في ذلك اليوم المشؤوم بتفجير نفسه وسفينته بدل أن يستسلم للعدو ؛ وقد أبدى كل الناس إعجابهم بهذه المأثرة الجريئة ، باستثناء عباس : لأنه عاجز عن إدراك معنى الشجاعة ، والإخلاص ، لم ير في ذلك إلّا أنه خسر سفينة حربية ، وصرخ بغضب : عاهرPesvink ؛ وهي شتيمة مقذعة بالتركية ، كان لا يني يرددها ، شأنه شأن الغالبية العظمى من الأتراك ، وهي بالإيطاليةRuffiano ، لقد كانت تلك الشتيمة هي كل التأبين الذي استحقه منه ذلك البحار الشجاع ، ولو استطاع العودة من لجة المحيط لدفنه عباس دون شك في التراب لكي يعاقبه على بطولته.

تبلغ المسافة من الطور إلى دير جبل سيناء خمسة وعشرين فرسخا ؛ وهذا يعني أن الجمل يحتاج إلى خمس وعشرين ساعة لقطعها. وإن الطريق التي كنت إن صح القول : أدشنها ، باعتباري أحد أول / ٤٩ / المسافرين عليه ، إن لم أكن أولهم ، يتجه من الشمال منحدرا نحو الشرق ؛ منطلقا من البحر ، ثم يبتعد عنه ليقترب من جبل سربال (١) ، ولو كان بالإمكان ، بدل أن يدور حول ذلك السور الطويل من الجرانيت ، أن يخترقه ، لأصبح أكثر قصرا. ولكن الأمر غير ممكن. ولا يتميز الطريق عن الأرض التي

__________________

(١) أشهر جبال سيناء بعد جبل موسى ، يقع إلى الشمال من مدينة الطور والغرب من جبل موسى على نحو ثلاثين ميلا من كل منهما. انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٣٣. وفيه ص (٤٥٤) أنه منحدر انحدارا عظيما ، ورأسه يبعد عن سفحه بعدا سحيقا ، ليس في سفحه سهل كبير أو صغير ، وليس هناك إلّا وادي فيران ، وقعره وادي عليات الآتي من جبل سربال ، وكلا الواديين ضيق.

٨٩

تحيط به إلّا بصلابته ؛ مما يسمح للجمال بالسير عليه بسرعة أكبر من سرعة سيرها على الرمل الذي تغوص فيه أخفافها ، على الرغم من أنها عريضة ، وليس على الطريق محطات أو عربات نقل ، كما نجد على طريق السويس ، ولا يسلكها أحد ، ولم نقابل عليها أحدا طوال يوم كامل ، أخطأت ، لقد قابلنا أحدا ، وها كم من هو.

جماعة من البدو ، كانوا متوقفين على قارعة الطريق مع جمالهم ، ويبدو أنهم كانوا ينتظرون مرورنا ، وقد بدا ذلك واضحا ؛ إذ ما كدنا نصل إليهم حتى دار نقاش حاد بينهم وبين جمّالتنا ، ولم أستطع معرفة الموضوع الذي دار النقاش حوله بالتحديد ، توقعت فقط بسبب كلمتي جمل وتلري Talari اللتين تكررتا أكثر من مئة مرة ، أن الحديث يدور حول الجمال ، وأن القضية لها علاقة بالنقود.

ينقسم بدو الطور (الطّورة) إلى عدد من القبائل ، منها : الصوالحة والمزينيين ، والعليقات (١) ، وتسيطر كل قبيلة على مساحة محددة من الصحراء ، وتقتسم بينها حق تأجير الجمال / ٥٠ / للتجار والمسافرين ، وينتج عن هذه الترتيبات خلافات مستمرة ، وغالبا ما تكون معقدة كل التعقيد ؛ وقد كنا على الأرجح نشهد خلافا من هذا النوع ، دون أن نتدخل فيه بالطبع من قريب أو بعيد.

ومهما يكن من أمر ، وبعد كلام كثير ، أنزلوا حمولة اثنين من جمالنا ، واستبدلوا بهما اثنين آخرين ، ويبدو أن هذه العملية أرضت كل الأطراف. أما نحن فإننا استفدنا من هذا التوقف الطويل ، فطلبنا من الخادم المكلف تحضير القهوة أن يحضرها ؛ لأن لكل

__________________

(١) قارن بما في رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٢٤ ـ ١٢٥.

٩٠

خادم في الشرق وظائفه المحددة ، ثم قدمناها إلى ذلك الجمع ، وافترقنا ونحن على وفاق تام.

لقد دار ذلك المشهد السلوكي على تخوم إحدى واحات النخيل التي كانت أقل جمالا وأقل نباتا من واحة حمّام التي تجاورها ، والتي تعد بلا شك امتدادا لها. وقد كان هناك في مكان غير بعيد بئر عامة (يستطيع كل الناس ورودها) ، وكان يحميها من غزو الرمال مثابة (١) مبنية. أقول : بئر عامة ؛ لأن الآبار في الصحراء تمتلكها عادة القبيلة التي توجد تلك الآبار في أرضها ، وتطلب تلك القبيلة مكوسا من الأجانب الذين يأتونها ، ومن مسافات بعيدة كل البعد في بعض الأحيان ، لإرواء قطعانهم وأسرهم. ولم نجد بعد أن تجاوزنا هذه الواحة أي نباتات أخرى إلا بعض الأشجار أو الجنيبات (٢) الجافة / ٥١ / التي لا ظلّ لها ، ولا يكاد يكون لها أوراق.

لقد كان الطقس حتى هنا جميلا ، ثم أصبح فجأة ينذر بالخطر ؛ فقد أصبح لون السماء ، داكنا ومصفرا ، يوحي بالشؤم ، وملأت السماء في وقت قصير السحب

__________________

(١) Margelle ـ مثاب (مثابة) البئر ؛ وهو حجر منقور يثبت حول فوهة البئر" عن المنهل".

(٢) Arbustes Rabougris ـ الجنيبات الجافة مفردها جنبة : وهي الأشجار التي لا ظل لها لصغرها ، وتظل صغيرة حتى لو شاخت ، وقد ترجمها مترجما رحلات بور كهارت : جنيبات وذكرا في الحاشية ، ص ٣٧٣ ـ ٣٧٤ ما نصه : " ورد في معجم الشهابي للعلوم الزراعية ما ننقله باختصار : نبات معمر خشبي يتميز عن الشجر بقلة ارتفاعه وإن شاخ ، ويبدأ نمو فروعه من قاعدته ، ولا يجوز تسميتها شجيرة لأن الشجيرة تكبر فتصير شجرة ، وفي لسان العرب أن الجنيبة هي ما فوق البقل ، ودون الشجر".

٩١

السوداء ، وحلّ حولنا ظلام مغم ، وهاج البحر يزأر من بعيد ، وقصف الرعد وراء الجبال قصفا يصم الآذان ، وكان صوته يقترب منا عند كل قصفة ، وبدأت قطرات المطر الكبيرة تسقط علينا. وكان كل شيء يرهص بحدوث عاصفة هوجاء. ولم يبد على الجمال والجمّالة أي قلق ، ولم يخطئهم حسهم ؛ إذ هدأ البحر فجأة ، كما كانت الحال عند بدء العاصفة ، وابتعد الرعد ، ثم توقف ، وتفرقت السحب بسرعة ، وعاد إلى السماء صفاؤها المعتاد. لقد كان على يسارنا طوال يوم المسير سهل رملي معزول يمتد حتى البحر الذي لا نكاد نراه إلا لماما ، وكانت على يميننا سلسلة جبال سربال الجرداء. لقد وصلنا في المساء إلى آخر الطريق بعد ثماني أو تسع ساعات من المسير. لقد كانت خيام الجيش المكلف إنشاء الطريق منصوبة في مدخل وادي حبران العريض على صف واحد ، ومتقاربة إحداها من الأخرى ، حتى إنها تولد شعورا بالروعة وسط هذا القفر / ٥٢ / الصحراوي. وتتباين بلونها الأبيض مع خلفية الغروب التي كان الظلام قد بدأ يغشاها.

كنا قد مررنا بالمعسكر وهو خال ، لأن وقت مرورنا صادف خلال ساعات العمل. وقد كان الجنود يعودون إليه ، وأدوات العمل على أكتافهم ، وكأنهم مجرد عمال بسطاء ، بعد يوم عمل صعب. إن هذا التجمع الكبير من الرجال في بلد يخلو من كل شيء ، استنفد موارده ، لما طالت إقامته حتى انتشر الجوع بين سكانها ، ولم يعد لدى البدو ما يأكلونه ، ولا ما يطعمون به جمالهم ، وقد حاولنا عبثا البحث في الطور عن خروف نحتاجه خلال السفر ، ولم نجد بغيتنا بأي ثمن كان. ثم شاءت المصادفة أن

٩٢

نجد واحدا ، كان صاحبه يذهب إلى المعسكر ليبيعه ، وقد طلب منا مقابله ثمنا مرتفعا ، كان الحيوان المسكين هزيلا مما جعل طباخنا غاسبارومازانتي يرفض بعناد إتمام الشراء.

لقد كانت حاجات الجنود الضرورية كلها تستقدم من القاهرة ، ولنتخيّل في ظل هذه الأحوال الثمن الذي تدفعه مصر لإرضاء النزوات الشاذة لفرعونها الجديد.

أمّا المهندسان الفرنسيان المكلفان إنشاء ذلك المشروع المكلف وغير المفيد ، واللذان سبق لي الحديث عنهما ، وهما : M M.Mouchelet موشليه ، وVivas فيفاس ، فقد كانا يقيمان للاستطلاع قرب مسيل مائي يتجاوز طول الوادي باتساعه ، ويبعد مسافة ميل أو ميلين عن المعسكر باتجاه الأمام ، في القسم المقفر من الوادي / ٥٣ /. حلّ الليل ولم نهتد إليهما إلّا بصعوبة وسط الظلمات والصخور. نجحنا أخيرا في لقائهما ، ونصبنا خيمتنا إلى جانب خيمتهم ، وأقول : خيمتنا ؛ لأن خيمتي احترقت ، كما ذكرت ، في السويس ، ولم أستطع الحصول على أخرى ، وقد وجدت نفسي مجبرا مؤقتا على مشاركة رفيقي في السفر خيمته. كنت أحمل للمهندسين رسائل من أصدقائهم في القاهرة ، وقد استقبلاني استقبالا حارا ، وقاما بواجب الضيافة أحسن قيام ، ناهيك عن أنهما زوّداني بمعلومات كثيرة ثمينة عن البلد.

تشرق الشمس متأخرة في هذه الأنحاء ، وقد فوجئت عندما أشرقت بعظمة المشهد الذي جاء نور الشمس ليظهره أمام عيني ، ولم أكن في اليوم السابق عند الوصول ليلا قد لمحت إلا ظلاله وسط الظلام. ليس وادي حبران إلّا ممرا ضيقا محفورا عموديا

٩٣

في جبل سربال من جانب ، ومن الجانب الآخر في سلسلة جبلية من الطبيعة نفسها ، وتنتمي إلى النظام الجيولوجي نفسه ، وتمتد في الاتجاه نفسه. وتشكل هاتان السلسلتان كما يبدو سلسلة واحدة ، ويبدو أن كتلتهما المتماسكة تتحدى أبدا قوى الطبيعة المدمرة. كيف ومتى انفصلتا ، وأي قوة عظمى لا يصمد شيء أمامها أحدثت ذلك الانهيار ، وحفرت في الجرانيت ذلك الشق العميق؟ هل الماء؟ أم النار؟ / ٥٤ / إن كلتا الفرضيتين متساويتان في الصحة.

ومع أن الطبيعة تحتفظ بسر ثوراتها ، وأنه ليس هناك أيّ ذكريات مكتوبة للتثبت منها وتسجيلها ؛ لأنه لم يتح لأنظار أيّ من البشر أن تتأملها ، على الرغم من كل ذلك ، فإن آثارها المادية تظل موجودة وثابتة في مظاهر لا يمكن محوها من سطح الكون ؛ لتشكل للعلم صوى عبر القرون.

يدل وجود كتل الجرانيت التي سقطت من الأعلى إلى الوادي على حدوث اضطراب ضخم ، وهي ملقاة هناك في قعر ذلك الخندق العميق ؛ بعضها مختلط ببعض ، وكأنها جثث توحي بعالم سبق وجود الإنسان على الأرض. وإنه لمن العبث أن يبحث المرء هنا عن الظل والخضرة : إذ لا نجد ، باستثناء نخلة هزيلة منفردة على صخرة ناتئة ، أي أشجار أخرى ، ليس هناك قطعة عشب صغيرة ، والصخور كلها عارية ، وينتشر في كل مكان الكآبة والموت.

هذا المضيق المخيف ، والرائع هو البهو المناسب للوصول إلى جبل سيناء. كانت الطريق الكبرى تنتهي في هذا المكان ، ولكن العمل بها كان يسير بنشاط

٩٤

استثنائي ، ولكنه كان بطيئا جدا ، مقارنة بصبر عباس باشا الذي يكاد ينفد. ولم يكن المهندسون الذين كان يستعجلهم يستطيعون التغلب على عقبات المكان إلا بصعوبة كبيرة ، وباستخدام المتفجرات والآلات.

لقد كان ينبغي في كل خطوة ، تفجير قطع ضخمة من الجرانيت التي كانت تقع في مجرى المسيل محدثة ضجة كبيرة ، وتسد مجرى الماء الذي كان ينتثر في كل مكان ويغمر المنخفض. / ٥٥ / ولما كان كل ما يفعله العرب مترافقا بالإيقاع ، فإن صدى أغاني العمال كانت تردده الجبال ، وكان غالبا ما يقطع ذلك الترداد صوت انفجار الألغام ، وتهاوي الصخور. ولم يكن بالسهل علينا أن نخرج سالمين من هذا الركام من الماء والحجارة والرجال. ولم نستطع الخلاص من ذلك إلّا سيرا على الأقدام ، لأن الهجن التي خلقت للرمال ، وللأراضي السهلة ، كانت أكثر اضطرابا منا في هذا العراك المتلاحم.

وقد لفت المرافقون نظري عرضا إلى فسقية (١) طبيعية ، ماؤها هادئ وصاف كأنما هو في مغطس ، ولست أدري لماذا يسميها الناس ، حمّام النصراني. ولما تجاوزنا هذه المسافة الصعبة ، بعد تعب ، وتعرض للخطر ، ولكن دون حوادث ، وصلنا إلى منطقة من الوادي أقل وعورة وأكثر اتساعا ، منها ينبع مسيل الماء ، لقد كان انتقالا مفاجئا من جهنم من الصخور إلى جنة من الخضرة. ينبجس الماء من الأرض متدفقا

__________________

(١) Vasque ـ فسقية ، كلمة من أصل عربي يقصد بها حوض من رخام في وسطه نافورة ماء.

٩٥

وسط العشب الكثيف ، تتحلق حوله مجموعة من أشجار النخيل الجميلة التي يتكاثر عددها حتى تشكل في بعض المواقع أجمة لا تنفذ أشعة الشمس من خلالها. إن التباين يجعل هذه الواحة غير المنتظرة ثروة لا تقدر بثمن.

وكلما تقدم بنا المسير أصبحت المنطقة أكثر رحابة من الجانبين ، ونعبر دون أن نشعر بذلك من نقب حبران إلى الوادي (١) الذي يحمل الاسم نفسه. تطلق العرب اسم الوادي / ٥٦ / على المكان الفسيح المزروع عادة بالأشجار ، وهو بالألمانيةThal ، ويتوافق مع Huerta الإسبانية.

ليس في وادي حبران من مزروعات أخرى ، عدا أشجار نخيل التمر التي تنشر ظلالها في مدخل الوادي ، ثم تتناقص شيئا فشيئا ، وينتهي بها الأمر إلى أن تختفي تماما. أرض الوادي قاسية ، تكثر فيها الحجارة ، وتفتقر الجبال الجانبية إلى أي نوع من الحياة ، ولكن طرافة تكويناتها تعوض عن قحطها. أما جبل سربال ، الذي أدرنا له ظهورنا بعد أن درنا حوله ، فإنه أكثر علوا من الجبال الأخرى ، وتنتشر كتلة منحدراته الجرداء على فراسخ عديدة من المنطقة. وهناك مسيل ماء ضئيل ؛ يلفت النظر إليه ما في هذا الكون من قحط ، ويحمل اسما مخيفا هو عين النمر ، وإن كان هذا الاسم مخيفا فإنه لا يتفق مع الواقع المحلي باعتبار أنه لم يعد هناك وجود للنمر في هذه

__________________

(١) وادي حبران : ينشأ من نقب حبران شرقي جبل سربال ، ويسير متعرجا جنوبا نحو ١٥ ميلا في سهل القاع على علو نحو ١٦ ميلا من مدينة الطور. وهو في طريق هذه المدينة من الدير والعقبة. انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٥٩.

٩٦

الأنحاء. وليس هناك إلّا بعض الفهود. وينغلق الوادي من هذه الناحية بنقب أو منحدر حبران الذي يسمى أيضا العجاني (١) De L adjani ؛ وهي طلعة مخيفة تكون حياة الراكب فيها مرهونة بكبوة من ركوبه ، بسبب وعورة الطريق ، وكثرة الحجارة فيها ، وقربها من الهاوية. لذلك صعدنا هذه الطلعة الطويلة التي لا تنتهي على القدمين : واستمرت حفلة التعذيب ساعة حسبناها قرنا. ويرى الناظر من القمة عددا كبيرا من الأودية يتيه المرء فيها ، يتداخل بعضها في بعضها الآخر ، والتي لا يمكن إلّا لفطرة البدوي وحدها أن تكون دليلا للتوجه فيها : لأنها جميعا محاطة ومحددة / ٥٧ / بهضاب أو جبال تتشابه جماليا بأنها جميعا مجردة ومحرومة من أي زرع.

وعلى الرغم من قحطها ، فإن هذا المنظر يأسر الألباب ، ولم أستطع أن أحول نظري عنه ، ولا أن أفكر بأمر آخر ، وأنا أتخيل موسى وقومه ، وقد نصبوا خيامهم في هذه الأماكن الموحشة.

كان ينبغي علينا بعد أن صعدنا ، أن ننحدر على الأقدام ، ساعة أخرى من التعب ؛ لأن المكان في هذه الناحية هو أسوأ من الصعود ، إن كان هنالك ما هو أسوأ. وعلى الرغم من أننا لم نكن نركب الهجن ، وهي تتحرك بالتالي بحرية ، فإنها كانت تتعثر في كل خطوة ، أما الجمال التي تحمل أمتعتنا فقد كان الجمالون مجبرين على أن يسندوا الحمولة من الجانبين لمنعها من الوقوع في المهاوي. وربما كان الحصان ، والبغل على وجه الخصوص أكثر مناسبة من الجمل لمثل هذه الطرقات ؛ ولكن قبائل الطورة

__________________

(١) كذا في الأصل ولعلها : العجاوة.

٩٧

لا تملك خيلا ولا بغالا. وصلنا أخيرا ، بعد تعثر وجري ، نهاية ذلك المنحدر الشديد ، ودخلنا في واد آخر ، إنه وادي صلاف (١). كانت الجمال هنا ، والحمد لله ، على الأرض المناسبة لها ؛ أي على طريق رملية مستوية ، ولم يكن هناك من تغيير إلا هذا : فجبال هذا الوادي الجديد لها أوصاف الجبال السابقة نفسها ، فهي تشبهها في خلوها من أي نبات ، وفي الكآبة التي تخيم عليها.

وعلى العكس مما سبق فإن الرمل هنا تزينه / ٥٨ / أزهار جميلة بيضاء وصفراء وبنفسجية تخفف من لمعانه ، وتمنح النظر راحة وهدوءا. ونجد في هذه الأودية الطرفاء ؛ وهي نبات ينتج المنّ ؛ ذلك الرحيق السماوي (٢) الذي رزقه الله لبني إسرائيل عندما تاهوا في سيناء. لقد كانت تنتشر حولنا قطع ضخمة من نبات الرّتم ؛ وهو نبات يتميز بأنه يشتعل وهو أخضر ، مما يمنحه قيمة كبيرة في هذه الصحراء التي لا غابات فيها : وقد كان في تلك الليلة ذا فائدة عظيمة لنا ، لأن الهواء كان شديد البرودة ، ومع أن معسكرنا الصغير كان محميا بأكمة من الجرانيت ، فقد كنا سنقاسي من البرد لو لا النار المتأججة والمتوقدة التي استخدمنا ذلك النبات في إشعالها وتلقيمها

__________________

(١) في تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٥١ ، أنه من أشهر فروع وادي الشيخ وأكبرها ... وفي وادي صلاف بالقرب من مصب الدهيسة عند مروره بنقب حبران نواويس للسكان الأصليين.

(٢) Ambroisie Cleste ـ طعام يظن أنه أحلى عشر مرات من العسل. والطرفاء تعرف بشجرة المنّ إذ تتسلط عليها دودة كدودة القز تثقب جذوعها وأغصانها فيخرج من الثقوب صمغ حلو المذاق يلتقطه بدو سيناء ، ويجعلونه في علب صغيرة من الصفيح ويبيعونه لزوار الدير والسياح ، أو يأتون به إلى مصر فيبيعونه فيها باسم المن.

٩٨

طوال الليل. كانت الليلة الأولى التي أقضيها حقيقة في الصحراء ؛ في اليوم السابق كنت في أوروبا ، تحت خيمة المهندسين الفرنسيين ، أما صحراء السويس التي سبق لي التخييم فيها ، فإنني أصر على ألّا أسميها صحراء ؛ بسبب استراحاتها ، وعربات السفر التي تجوبها ، ومحطات البرق فيها ، وغير ذلك من الاختراعات الأوروبية التي غشيتها.

لا شيء من ذلك هنا : ليس هنا طرقات ، ولا سقف بيت واحد ، ولا بشر ؛ في كل مكان ، هناك العزلة والهدوء. كان الهواء في الصباح أكثر برودة مما كان عليه في المساء ، ومع أن قرص الشمس كان ملتمعا ، فإنه لم يمنح الجو بعض السخونة بعد : لقد انطلقنا متأخرين ، ذلك أن جملا هائجا هرب بعد أن تمّ تحميله ، لقد هرب بكل ما يحمله ، وكان يلزم قائده بعض الوقت / ٥٩ / ليمسك به ، ولم تتم إعادته إلّا بعد مقاومة شديدة. مشينا طوال فترة الصباح على أرض رملية مستوية تماما : كنا نرى الطبيعة التي رأيناها في اليوم السابق ، الجبال نفسها ، والأفق نفسه. وينتهي عدد من الأودية إلى الوادي الذي نعبره ، وإن أعرضها وأكثرها صلاحية لمسير القوافل فيه هو وادي فيران (١) الذي يمتد إلى اليسار ، وينحدر حتى البحر. وبينما كنا نمر أمامه خرج علينا منه بدوي يسير على قدميه ، مرّ بنا وإمارات الفظاظة تبدو عليه ، ودون أن يلقي السلام ، واختفى وراء صخرة دون أن يكلف نفسه عناء إدارة رأسه لرؤيتنا.

__________________

(١) وادي فيران أو فاران ، وهو أشهر أودية الجزيرة كلها قديما وحديثا وأغزرها ماء ونخيلا ويشكل مع وادي الشيخ واديا واحدا ، القسم الأعلى منه وادي الشيخ ، والأسفل وادي فيران وله عدة فروع. انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٥٢.

٩٩

لقد كان أول من رأيناه منذ وادي حبران. لقد كان هناك غير بعيد عنا مقبرة ، ولما كان البدو دائمي الترحل فإنهم لم يكن لهم أماكن محددة لدفن موتاهم ، بل كانوا يدفنونهم في الفلاة منفردين ، وإن العلامة الوحيدة لتلك القبور المندثرة ، هي مجرد حجر طبيعي ينفرد بحمايتها من شهية الضباع المقززة.

إن هندي السهول يحمل معه عظام أجداده ؛ أما عربي الصحراء ، فإنه يوكلهم إلى عناية الله ورسوله. وصلنا أخيرا إلى مضيق وادي الدير وسمي بذلك لأنه يقع بجوار دير سيناء. ودير سيناء آخر المعاقل الطبيعية المرتفعة بين البحر الأحمر وجبل سيناء ، والتي قدّر لها أن تعيش أحداثا عظيمة ، وإن هذا المعقل أكثر ارتفاعا ، وأكثر عرضا ، وأكثر إثارة للرعب أيضا من نقب / ٦٠ / حبران ، الذي ليس إلا صورة مبسطة عنه. ولم أر أي مكان في أوروبا أكثر فظاعة منه ، حتى في أكثر الأماكن توحشا ، وأكثرها وعورة في جبال الألب وجبال كارباث (١) Carpathes : إن المكان صورة عن السديم ، ليس السديم الذي سبق انفصال العناصر ، ولكنه السديم الذي يتلو فناء الكون. إن مثل هذه المشاهد تستعصي على كل وصف ؛ وإن فرشاة سلفاتور روزا (٢) Salvator Rosa هي وحدها القادرة على رسم منظر الرعب هذا. لنتصور

__________________

(١) منطقة بين جزيرة كريت وجزيرة رودوس على البحر المتوسط مشهورة بعواصفها ومناطقها الوعرة.

(٢) (Salvator) Rosa رسام ونحات وشاعر وموسيقي ، ولد في رونيلا Ronella بالقرب من نابولي Naples عام (١٦١٥ م) ، ومات في روما عام (١٦٧٣ م). تمتاز لوحاته بالأبهة المتوحشة ، وبالمشاهد العنيفة والقاسية مثل : المعارك واللصوص.

١٠٠