رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

الأخرى كئيبة إزاء هذه : بيد أن مدفن عثمان باشا وأسرته يثير الإعجاب. وليس للقبور أي زينة خارجية إلّا شاهدتان مستقيمتان منتصبتان ، إحداهما عند الرأس والأخرى عند القدمين ؛ ولكن كثيرا منها تظلله أشجار النخيل ، أو أشجار الصبار (١) ،

__________________

ـ الجيم لا كسرها ، وهو يدفع قول ابن المجاور الدمشقي الذي يقول إن الاسم هو (جدة) بكسر الجيم ، لأن أمنا حواء جدة البشر مدفونة فيها ، ويقول إن هذه الرواية أسطورية ولا يعقل أن يكون قبرها معروفا حتى اليوم. ويورد الأنصاري ما قاله ابن جبير من أن القبة التي على القبر كانت منزلا لحواء عندما توجهت إلى مكة ، وما قاله البتنوني من أن موضع القبر كان هيكلا عبدته قضاعة في الجاهلية. ويذكر أن عون الرفيق شريف مكة ـ كما ذكر البتنوني ـ حاول هدم القبة ، لكن قناصل الدول في جدة تفاهموا معه وديا على عدم هدمها لأن حواء ليست أم المسلمين وحدهم وإنما هي أم الناس جميعا. ثم ذكر الأنصاري أن القبة هدمت عندما دخلت الحكومة العربية السعودية جدة. انظر : موسوعة مدينة جدة ، عبد القدوس الأنصاري ، مج ١ ، ط ٤ ، القاهرة ، ١٩٨٢ م ، ص ٤٧ ـ ٤٩. وكتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٥٩ ـ ٦٠. ويذكر سنوك هورخرونيه أن الحجاج يزورون قبر أمنا حواء ، الذي يبلغ طوله بضع ياردات ، صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٣٣٦. وذكر بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٢٥ : " ... وعلى بعد ميلين شمالي جدة يمكن مشاهدة قبر حواء" أم البشر" وقد أخبرت أنه مبني من الحجارة بناء بدائيا ، وطوله حوالي أربعة أقدام ، وارتفاعه قدمان أو ثلاثة أقدام ، وعرضه مثل ذلك ، وبهذا فهو يشبه قبر نوح في وادي البقاع في الشام".

(١) لاحظ بيرتون نمو شجيرات الصبار بين الطوب والحجارة ، وذكر أن شجر الصبار يزرع في المقبرة كتعويذة ضد الأرواح الشريرة كما تعلق جلود التماسيح المحشوة بالتبن فوق المنازل في مصر. وقد عزا بوركهارت زراعة هذه الشجيرات إلى اسمها الذي يشير إلى" الصبر" الذي ينتظر به المؤمن يوم القيامة. التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٤٨.

١٨١

وجنبيات خضراء تسبغ على مكان الموت هذا ، هيئة زاهية. وكان هناك غير بعيد عدد من الشباب الهنود يلعبون بالراحية (ضرب من لعبة التنس) بمهارة فائقة وفرح غير عابئين بمن في جوارهم.

إن الموت لا يخيف المسلمين ؛ وهم في هذا مسيحيون ، أكثر من المسيحيين أنفسهم ، إن الطابع المأساوي الذي نسبغه ، نحن المسيحيين ، على الموت مخالفين / ١٣٣ / بذلك عقيدتنا الأصلية ، التي ترى في الموت خلاصا ، هو باب للعبور إلى الخلود الأبدي.

يذهب أقرباء الميتين وأصدقاؤهم في بعض أيام الأسبوع ، وخصوصا الجمعة ، الذي هو عند المسلمين بمثابة يوم الأحد لدى المسيحيين ، إلى المقابر ، ليس للبكاء أو الصلاة عليهم ، وإنما للتحدث مع الغائبين وكأنهم موجودون ، ولكي يتناولوا حول قبورهم وجبات خفيفة شهية بعيدا عن جو المقابر الكئيب (١). وإن النساء على الخصوص هن الحريصات على القيام بذلك ، لأنه يسمح لهن كل أسبوع باقتناص بعض ساعات الحرية التي يستغللنها أحسن استغلال. إن مقابر إستانبول هي مكان التقاء ومواعيد ، وتحرص النساء التركيات من ذوات الغنى والنسب على زيارتها كل يوم جمعة ؛ ومع أنهن محجبات ، فإنهن يظهرن من أنوثتهن ما يسلب ألباب المارة. وإذا كان مظهر المقبرة في جدة زاهيا فإن الموضع الذي تقع فيه موحش وقليل الجاذبية : فمن

__________________

(١) تحدث سنوك هورخرونيه عن زيارة القبور في صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٣٧٢ ـ ٣٧٤. وانظر كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٧ ـ ٦٩ ، و ٢١٦ ـ ٢١٧.

١٨٢

جهة هناك البحر الذي ينتهي في هذا المكان ببحيرة شاطئيه تنتهي هي نفسها بسبخة ملحية ، ثم تأتي بعد ذلك الرمال ، التي تمتد حتى تخوم الأفق. وتلوح على البعد سلسلة من الجبال التي يلفها الضباب ، وتختفي ملامحها في عتمة المساء. لقد توافرت لي في هذا اليوم أيضا فرصة مراقبة قصر فترة الغسق في / ١٣٤ / هذه المنطقة الاستوائية. كانت الشمس قد غابت منذ قليل ، ولم يكن قرصها المتوهج قد غاص بعد في عرض البحر ، بينما كان الظلام قد بدأ يلف الجهة المقابلة من السماء : وكان الليل قد نزل تماما عندما دخلت جدة عبر باب المدينة المنورة. كان سكننا قريبا من هذا الباب ، في المنطقة المرتفعة من الحي الشامي. هناك في جدة عدد من الخانات أو الوكالات لسكن المسافرين ، يجدون فيها في الوقت نفسه مستودعا لأمتعتهم أو بضائعهم ، ولأنفسهم غرفة خالية من كل شيء ، ولكن هذه الأمكنة مخصصة للتجار ، ولما لم نكن تجارا ، ولا نريد أن نظهر كذلك ، فإننا حصلنا على منزل كان فيما مضى يقيم فيه قنصل فرنسا ، وهو اليوم متروك لسكن العصافير. كان مالك المنزل يقيم في مكة المكرمة ، وكان وكيله المفوض في جدة لا يريد ، أو لا يجرؤ على تأجيرنا المنزل في غياب صاحبه ، وكان يقول إنه سيرسل إليه رسالة للحصول على موافقته ، ولكننا كنا على عجلة من أمرنا ، وبينما كان يتردد ، ويطلب وقتا للتفكير ، استقر بنا المقام في المنزل مؤقتا ، ودام هذا المقام المؤقت حتى مغادرتنا جدة ؛ أي شهرا كاملا : ولمّا كنا لم نحدد أي مبلغ فإننا دفعنا عند مغادرتنا ٥ تلرات ، وهو مبلغ مناسب للأجرة إن لم يكن كبيرا ، بسبب الحالة التي كان المكان عليها. إذ لم يكن في الحقيقة / ١٣٥ / من السهل إزالة الأنقاض التي كانت تملأ المكان. وقد استطعنا في نهاية الأمر أن نجعل

١٨٣

غرفتين من المنزل مناسبتين للسكن ، وكانت أمتعة الرحلة من سجاد ووسائد وفرش كافية تماما لفرشها. واستولى طباخنا غاسبارو على المطبخ الذي كان يقع على السطح ؛ أما بقية الخدم فإنهم أقاموا حيث استطاعوا ، وكما استطاعوا ، وها نحن في مسكننا نعيش كبر جوازيين حضريين.

كانت غرفتي في الطابق الثاني ، نقبت لها نافذة ضخمة ، مغلقة ، أو من المفترض أنها كذلك ، بنظام بالغ التعقيد هو عبارة عن مصاريع للضوء تسمح بدخول الهواء والغبار والشمس والعصافير ؛ لأن الغرفة كانت مليئة بأعشاشها. هاكم ما كنت أراه وأسمعه عبر تلك النافذة في الأيام والليالي كلها. بادئ ذي بدء ، كنت أرى البحر يمتد امتدادا شاسعا ليلامس السماء في آخر حدود الأفق ؛ وكان هناك قليل من الأشرعة التي ترصع هذا الحقل الأزرق ، ولكنّ عري ذلك البحر كان يزيد من جلاله ، ويجعل الفكر مستغرقا في هواجس المطلق التي لا يمكن الحديث عن كنهها.

وإذا عدت إلى الأرض فإنني كنت أرى من عل القسم الشمالي من المدينة كله ؛ السوق الذي كانت تتناهى إليّ منه أصوات الناس والجمال ، وكنت أرى أيضا السطوح التي كنت ألمح عليها في الليل خيال النساء ، وكنت أرى أخيرا عددا من المساجد التي ترتفع مناراتها. وكان على بعد خطوات مني مسجد صغير ، وأنيق ، وله / ١٣٦ / رواقان خارجيان ، وكان له مؤذن عجوز ، يصدح بالأذان خمس مرات في اليوم : الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء ؛ وينبغي على المسلم أن يتوضأ لكل صلاة ، بغسل وجهه ، وما وراء أذنيه ، ويديه حتى المرفقين ورجليه وأماكن أخرى. ومما يؤسف له

١٨٤

أن صوت جاري المؤذن كان حادا ومرتعشا ، وفهمت عند سماعه ، لماذا جاء أحد سكان القاهرة القديمة بمؤذن ذي صوت جميل ، وكان يخصص له راتبا لكي يظل يؤذن من المنارة نفسها.

وكان بالقرب من المسجد منزل يتصل به ، ويسكنه العلماء ، وكان يقام فيه كل ليلة ، في وقت متأخر ، طقوس دينية صاخبة يتخللها أغان وصلوات ومواعظ ، وكان ذلك مترافقا بالموسيقى ؛ وأيّ موسيقى! وكان يرافقها الناي والطبلة. وكانت تقام بالقرب منه ، حفلات أخرى ، من طبيعة أخرى ، مختلفة كل الاختلاف : إنهم أفارقة سودانيون ، عائدون من الحج الأخير إلى مكة المكرمة ، يقضون المساء كله يغنون ويرقصون ، أغاني ورقصا متوحشين ، يذهبان بالفكر بعيدا إلى أعماق القارة الأفريقية.

وفي كل صباح ، وفي الساعة نفسها ، كانت تمرّ أمام نافذتي بدوية جميلة شابة من أسيوط في مصر ، تمثل نمطا أصيلا بين بنات جلدتها ، كانت تمر ، وهي تغني / ١٣٧ / بصوت ندي وناعم ، أغنية مأساوية حزينة ، كانت تكرّر على الدوام الأغنية نفسها ، وكانت رتابة الأغنية تجعلها أكثر حزنا وعويلا. كان قلبي ينفطر لسماعها في أول يوم وفي آخر يوم من إقامتي. أمّا في المساء فقد كان يحين دور أحد الهنود ؛ وهو متسول ينام على حصيرة في زاوية من زوايا الشارع ، ويغني هو أيضا على أرض أجنبية أنغام وطنه. كان يستمر في الغناء إلى ساعة متأخرة من الليل ، حتى إنه كان في غالب الأحيان يمنعني من النوم ، ولكنني كنت أغفر له ذلك لما كان يمنحني إياه من لذة وأنا

١٨٥

أستمع إليه. وبعد هذا كله ، كنت على الدوام أسمع الصدى البعيد لصوت الدربوكة في أحياء المدينة المختلفة ، وأصوات الجوقات العسكرية ، وعيارات البنادق باستمرار ، وغالبا طلقة مدفع احتفالا بنصر ، تحقق أم لم يتحقق ، للأتراك على الروس ، آلاف الأصوات ، وبكلمة واحدة ، ضجة ضخمة مختلطة ، تشبه جلبة البحر البعيدة التي كانت في بعض الأحيان يعلو ضجيجها على كل ذلك. ورأيت في أحد الأيام من نافذتي مركبا يدخل ميناء جدة قادما من الجنوب ، وأعتقد أنني رأيت بمساعدة المنظار أن المركب كان محملا بحمولة بشرية ، وأخبرت أنه حقا يحمل من مصوّع دفعة عبيد من الجنسين ، وأنه كان بين النساء جارية تكاد تكون بيضاء ، مع أنها حبشية. ودفعني فضولي إلى رؤيتها ، ولكنها كانت قد بيعت فورا ، وبثمن غال لأحد الأتراك الذي أغراه لونها الفاتح / ١٣٨ / وهو من العاملين في الديوان ، أخو الباشا أو أحد أقربائه على الأقل.

إن العبيد البيض نادرون جدا هذه الأيام في أسواق الشرق ، ولا يكاد أحد يستطيع الحصول على ذلك إلا في إستانبول التي يوجد فيها وحدها الثروة الكافية للحصول على رقيق أبيض ، إنها نزوة تكلف ما بين ٢٠ إلى ٣٠ ألف فرنك ؛ إن مثل هذه الجواهر ليست ، كما نرى ، في قدرة أيّ كان. إن خيلاء هؤلاء النسوة لا يمكن احتماله : ولما كنّ يعرفن أن مصيرهن سيؤول إلى حمى أسياد من علية القوم وأقويائهم فإنهن يحتقرن بقية الرجال ؛ ويا لسوء حظ الشخص البسيط الذي يتجرأ على شراء

١٨٦

إحداهن ، فهو لن يتأخر عن إعلان توبته ؛ ويكون عليه عندئذ أن يحمل مسرعا إلى السوق سلعته العنيدة المختالة.

عندما كنت في مصر ، تلقى عباس باشا عددا من خيول السباق هدية من إمام مسقط ، وردّ له عباس باشا الهدية ، فأرسل له جاريتين بيضاوين ؛ جورجيتين أو شركسيتين ، وهي هبة غريبة ، بسبب سن المهدى إليه ، ناهيك عن المصير المزعج الذي ينتظرهما. وحدث أن وقعت السفينة التي تنقلهما خلال مرورها بمضيق باب المندب بأيدي سفينة حرب أوروبية فرنسية أو بريطانية ، لست أدري أيهما ، كانت تقوم بملاحقة تجار العبيد في المحيط الهندي. ولمّا كان المركب المصري يحمل عبيدا فقد عدوّه غنيمة قانونية ، وتمّ في الوقت نفسه / ١٣٩ / تحرير الجاريتين. وأجهل ما حلّ بهما ، ولكنني ، بحكم المعرفة التي اكتسبتها بطبائع الشرقيين ، متأكد من أن الجاريتين قامتا بلعن محرريهما ، بدلا من مباركة عملهم الإنساني الذي قاموا به ؛ لأنهن يفضلن الحياة الهانئة ، والمصير الطيب الذي وعدتا به عندما تدخلان في حريم الأمير الحاكم ، على الحرية التي لن تدريا ما ستفعلان بها. أما بقية العبيد الذين حملوا من مصوع ، ذكورا كانوا أم إناثا ، فإنهم كانوا أطفالا لا تزيد أعمارهم عن أربع إلى سبع سنوات أو ثمان ، باستثناء حبشية يبلغ عمرها ١٣ إلى ١٤ عاما ، ولكنها ذات هيئة تكون عليها الأوروبية في الخامسة والعشرين من عمرها ، وقد كانت تلك الحبشية ، بعد مواطنتها التي يمكن القول : إنها بيضاء ، أثمن تلك الجواهر البشرية ، لأنه على الرغم من لونها

١٨٧

الضارب إلى السمرة ، فإنّ الجلّاب علقوا عليها أملا كبير للحصول على ربح وفير. كانت الفتاة المسكينة معروضة في متجر مهجور في أكثر شوارع جدة سكانا ، كانت جالسة على مقعد يرتفع عن الأرض ثلاثة أقدام ، وكانت متسمرة عليه كأنها تمثال ، تنتظر من يشترونها في صمت عميق ، لقد ألقي عليها لسترها قطعة من قماش الكاليكو (١) الأبيض يلفها من رأسها إلى قدميها ؛ ولم تكن ترتدي أي شيء تحته ، كان ذلك كل ما ترتديه ، ولم يكن الراغبون فيها ، جادين كانوا أم لا ، يتورعون عن رفع ذلك الغطاء الرقيق من كل الاتجاهات ليتفحصوا ، كما يرغبون ، السلعة المعروضة كما يحدث عند شراء حصان أو رأس من الماشية. سبق لي أن رأيت في القاهرة ، وفي عدد من المرات / ١٤٠ / عروضا مشابهة ، وتساءلت غالبا عمّا تشعر به هذه المخلوقات ، وعن التناوب الذي يعتريهم بين الخوف والأمل كلما جاء قادم جديد يرغب في شرائهن.

كان الجلّاب (تاجر الرقيق) يرغب كل الرغبة في بيعي تلك الجارية ؛ مع أنه يعلم أنه لا يمكن للفرنسيين شراء العبيد إلّا لتحريرهم ، وأن كل عبد يشترونه يصبح حرا بمجرد أن تتم عملية الشراء. كان يطلب من أبناء جلدته ١٥٠٠ فرنك ثمنا لها (١٢

__________________

(١) Calicot ، ورد ذكره في رحلات بوركهارت ، انظر : الترجمة العربية ، موثق سابقا ، ص ١٧١ وكتبه المترجمان Calico ، وعرباه الكاليكو. وفي المنهل : عرباه كاليكوت (قماش قطني خشن يصنع أصلا في مدينة كاليكوت على شاطئ مالابار). وفي معجم روبير الصغير أن تاءها لا تلفظ ؛ وقد كتبناها حسب ذلك.

١٨٨

صرة) ، وقد خفض السعر إلى (ثماني صرر) لكي يغريني بشرائها. وقد جال بخاطري للحظة أن أقوم بعمل صالح ، ولكنني للأسف اتبعت وصية الدبلوماسي الذي كان ينصح بالاحتراس من المبادرات الأولية لأنها مبادرات خيرّة ، وقلت في نفسي ، وأنا محق في ذلك ، إنني إن شرعت بشراء العبيد فإن الأموال المخصصة لرحلتي ستنفد عما قريب. لقد كان رفيق رحلتي من ناحيته يفكر بما كنت أفكر به ، ولكن هدفه كان أقل نبلا مما كنت أفكر فيه : إنه الإحسان النفعي Carita Pelosa! كما يقول الإيطاليون. وسواء كان خيرا أم شرا فإن مشروعه ومشروعي ظلا في حيز التفكير ، وبيعت الشابة الإفريقية ، لست أدري لمن. أين هي الآن ، وفي يد من وقعت؟

إن الرق بالتأكيد تعسف يبعث على الثورة ؛ إنه يحط من الطبيعة البشرية ، وينتج عنه آلاف التجاوزات. ولكنّه ينبغي الاعتراف أن مصير أولئك الحبشيات ليس محزنا كما يبدو / ١٤١ / من النظرة الأولى. ولما كنّ صائرات إلى خدمة حريم المشتري فإنهن يصبحن من أفراد الأسرة ، وترتبط شروط عيشهن بمستوى عيش سيداتهن اللواتي يلزمن ، هن أنفسهن ، البيوت ، ويكدن هن أنفسهن يكن جواري شأن جواريهن. وأعترف أن سيدهن قد يقضي منهن وطره ، وهذا ما يحدث غالبا ، ولكنه بذلك يحظر على نفسه أن يبيعهن مرة أخرى : لأنه من العار على مسلم أن يبيع جارية عاش معها ، بل إن الأسياد يتزوجون عادة من الجواري اللواتي أنجبن منهم أولادا ، ويتم ذلك

١٨٩

خصوصا في مدن الجزيرة العربية (١). وإن هذا النوع من الزيجات لا يؤدي ، ولو قليلا ، إلى جعل لون سحنة العرب غامقة ، ولكن التعصب ضد اختلاط الدماء غير موجود في هذه البلاد.

إن الأم مهما كان وضعها ، جارية سوداء من الطراز الأخير في السلم الاجتماعي في إفريقيا ، لا تؤثر في أصالة الولد ؛ إن الأب وحده هو أصل النسب ، وليس للأم أي حساب. ونحن نعرف أن السلطان نفسه الذي لا يعترف لأحد بالأصالة ، وليس له نظراء ، لم يتزوج ، وربما ما زال ، لا يتزوج إلا الجواري.

لقد شاهدت في مصر ، وبين الأوروبيين ، زيجات كثيرة من هذا النوع ؛ وعددا من الفرنسيين الذين أعرفهم لم يكن لهم زواج آخر إلا هذا ، وهم ليسوا في حال سيئة ، عدا أن المشهور عن الحبشيات أنهن مبذرات ، مما يدعو إلى القول : إنهن يخربن البيت. لقد عرفت منهن جميلات إذا غضضنا البصر عن لون بشراتهن ، فإنهن صالحات في أي مكان ، وحتى فيما يخص اللون / ١٤٢ / فإننا نعتاده بسرعة ، ولم أعد خلال وقت قصير أعير ذلك التفاتا.

وتعوّض الحبشيات هذا العيب البسيط ، إن كان عيبا ، بأن لهن بشرة ناعمة ، وشعرا طويلا ناعم الملمس ، وبأن لهن قدودا ممشوقة ، وأشكالا أنيقة ، وقسمات

__________________

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ١٧٣ ـ ١٧٤ والمستقر في الإسلام أن الأمة بمجرد أن تلد تصبح" أم ولد" ويكون لها من الحقوق والواجبات الشرعية ما للزوجة ، وليس هناك داع لأن يكون ذلك بعقد زواج. انظر الحاشية (١) ص (١٧٤) من رحلات بوركهارت.

١٩٠

متناسقة ، تليق بأكثر التماثيل الإغريقية جمالا ، ولهن أيضا عيون ساحرة ، وأسنان رائعة ، ويدان صغيرتان ، وقدمان دقيقتان. إنهن بكلمة واحدة حزن كل أسباب الجمال التي تكون في المرأة ، ولست مندهشا من رؤيتهن يثرن رغبات تستمر متأججة حتى بعد الزواج (١).

كانت نافذتي مطلّا أشرف من خلالها على الميناء كله : لا يدخله أو يخرج منه شيء دون أن أراه. لقد وصل عدد من القلعيات أو ثلاثيات الصواري المحملات بالسكر والأرز ، ناهيك عن مراكب البلد التي كانت تذهب وتجيء في كل يوم.

لقد كانت مفاجأة سعيدة لي ، عندما رأيت في صباح أحد الأيام العلم الفرنسي يرفرف على سفينة حربية وصلت في الليل ؛ كانت الحرّاقة البخارية التي تحمل اسم لو كيمان Le Caiman ، الكابتن كورمييه Cormier من قاعدة الهند ، وصل إلى جدة في رحلة استطلاع. وتحمل السفينة على متنها ، ناهيك عن طاقمها المعتاد ، حوالي مئة من المدغشقريين المجندين مؤقتا من جزيرتهم للخدمة على متن السفينة ، مما يكاد يضفي عليها هيئة متوحشة. إننا أبناء بلد واحد جمعتهم المصادفة في جدة ، وتمّ التعارف

__________________

(١). تحدث سنوك هور خرونيه باستفاضة عن الرقيق في كتابه : صفحات من تاريخ مكة المكرمة ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٣١٩ ـ ٣٢٩. وانظر اكتشاف جزيرة العرب ، خمسة قرون من المغامرة والعلم ، جاكلين بيرين ، نقله إلى العربية : قدري قلعجي ، قدم له الشيخ حمد الجاسر ، دار الكاتب العربي ، بيروت ، د. ت ، ص ٣٣٢ ، وسنشير إليه من الآن فصاعدا ب" اكتشاف ...". وانظر :

Courtellemont, Gervais, Mon voyage a la Mecque, Paris, Librairie Hachette et Cie, ٦٩٨١, PP. ٢٢١.

١٩١

بيننا بعد وقت قليل ، وأصبحنا أصدقاء من الساعة الأولى. / ١٤٣ / تناولت طعام الغداء على متن السفينة غير مرة ؛ وفعل مثل ذلك قائد السفينة وطبيبها في منزلي ، وأقيمت في القنصلية الفرنسية حفلة عشاء رسمية كان الواجب يفرض حضورها بسبب مرض القنصل.

هذه المآدب المتفرقة ، التي ليست بذات دلالة في أوروبا ، تكتسب بعض الأهمية على بعد ١٢٠٠ فرسخ عن باريس : لأن المسافات تجمّل أكثر الأشياء ابتذالا.

Elonginquo reverential. لقد ترسخت الصداقة بيننا عندما قدم لي ضباط السفينة هدية لا تقدر بثمن في هذا المكان ، لقد تركوا لي عند مغادرتهم ١٢ زجاجة من نبيذ بوردوBordeaux. كانت الحراقة لوكيمان Le Caiman قد ألقت مراسيها بعيدا جدا عن المدينة ، وتمّ ذلك بناء على اقتراح السلطات المحلية ، وأظن في الحقيقة أن الباشا كان يخشى أن يكون الهدف من مجيء الحرّاقة هو الإغارة على المدينة ، وأن ضحالة الماء في الميناء ليست إلّا حجة. ولكن ذلك لم يمنعه من زيارة الحرّاقة في موكب ضخم ؛ وهي زيارة لم تكن في الواقع إلّا ردا على المجاملة بمثلها ؛ لأن قائد السفينة بادر ، كما ينبغي عليه ، إلى زيارة الباشا أولا. وأطلق الجانبان مدافع التحية بانتظام كما هي العادة في مثل هذه المناسبات ، وقد غالى الجانبان في ذلك ، ولم يختصرا. وظلت الحرّاقة أسبوعا ، وفي يوم مغادرتها رافقتها مسافة ستة أميال. وخلال عودتي إلى اليابسة مع البحار المحلي الذي رافق الحرّاقة حتى خرجت من قنوات الملاحة ، عانيت كثيرا من الحر الذي كان خانقا ، ومن انعكاس الشمس على

١٩٢

البحر الذي كان في ذلك اليوم هادئا وشاحبا كأنه بقعة زيت. كان قائد السفينة المحبب يود بإلحاح / ١٤٤ / أن يأخذني إلى جزيرة بوربون (١) Bourbon. وكان الأمر مغريا جدا بالنسبة إلى رحالة ، ولو أنني استجبت لذلك الإغراء لما كنت مضيت بعيدا ، لأن سوء حظ الحراقة لوكيمان جعلها تغرق على سواحل زيلع (٢) Zyla.

إن لقوتين أوروبيتين هما فرنسا وبريطانيا وحدهما قنصلين في جدة. القنصل الفرنسي هو روشيه ديريكور (٣) Rochet D\'Hricourt ، كان حينئذ على حافة الموت ، وقد مات منذ ذلك الحين ، وستتاح لي في الصفحات القادمة فرصة الحديث عنه. أما القنصل أو نائب القنصل البريطاني فهو كول M.Cole ، وهو في الوقت نفسه ، شأنه

__________________

(١) جزيرة بوربون أو جزيرة الرينيون ، جزيرة فرنسية في المحيط الهندي ، تقع شرق مدغشقر بحوالي ٧٠٠ كم.

(٢) قبالة ساحل إفريقيا الشرقي على البحر الأحمر.

(٣) Rouchet D\'Hricourt ـ روشيه ديريكور جاء في : اكتشاف ... ، موثق سابقا ، ص ٣٣٨ : " ... وقام فرنسي آخر يدعى روشيه دي هيريكور (ديريكور) برحلة على نفقته الخاصة لارتياد مملكة خوا في القسم الجنوبي من بلاد الحبشة. ولدى عودته ، قدرت الجمعية العلمية الفرنسية أنه بإمكانه القيام بعمل مثمر ، فيما إذا امتلك أدوات علمية ، فقدمت إليه أجهزة دقيقة ، وعلمته استعمالها ، وأرسلته في رحلة ثانية سنة ١٨٤٢ م فعاد منها بعدد وافر من المعلومات في مختلف نواحي المعرفة تتعلق ببلاد الحبشة بنوع خاص. ومع هذا ، لا تخلو رحلته ، ومروره بالقصير ، وجدة ، والحديدة ، والمخا من المعلومات الشائقة ، إذ كان قد طرأ تبدل عظيم في شؤون البحر الأحمر ما بين سنتي ١٨٣٩ ـ ١٨٤٢ م وذلك بتأثير الظروف السياسية الدولية". وانظر ص ٣٤٠ ـ ٣٤١ من كتاب : اكتشاف ... ، موثق سابقا. وسيتحدث ديدييه بالتفصيل عن روشيه ديريكور في الفصل الثالث عشر المعنون ب" مغادرة جدة" ص ٣٠٦ ـ ٣٠٩ من الأصل الفرنسي ، وذكر أنه توفي في ٩ مارس (آذار) ١٨٥٤ م.

١٩٣

شأن زميله في السويس ، وكيل تجاري لشركة الهند الشرقية. وإن وظيفته ليست وظيفة بلا عمل بسبب العدد الكبير من الهنود الذين هم مواطنون بريطانيون ويقيمون في جدة. ولا نستطيع أن نقول : الشيء نفسه عن زميله الفرنسي الذي ليس له في الحجاز كله مواطن واحد. ولعله من المفيد أن نعلم أن الباب العالي العثماني يمتنع عن قبول اعتماد القناصل بحجة أن جدة مدينة مقدسة. كان سكننا ملاصقا لسكن السيد كول ، وكنت أقضي في منزله وقتا يساوي الوقت الذي كنت أقضيه في سكني. لقد حملت إليه رسالة من صديق مشترك هو السيد بيرتون ، وقد أسدى لي طوال مدة إقامتي في جدة خدمات جليلة.

لم نأت إلى جدة لأجل رؤية جدة نفسها ، ولكن بنيّة الذهاب إلى الطائف ؛ وهي مدينة صغيرة تبعد مسيرة خمسة أيام إلى الداخل ؛ وهي مشهورة في الجزيرة العربية بغزارة / ١٤٥ / مياهها ، وجودة ثمارها ، وخضرة بساتينها. وهي دار إقامة الشريف الأكبر ؛ أمير مكة المكرمة الذي بنى فيها قصرا ، ولمّا كنا مسيحيين فإننا لا نستطيع القيام بهذه الرحلة بدون أن يأذن هو بذلك. وقد طلب السيد كول الإذن عبر مصطفى أفندي وكيل الأمير الشريف في جدة. ولم يتأخر الجواب ، وفيه أن الشريف سيستقبلنا بكل سعادة ، وأنه سيهتم برحلتي الذهاب والإياب : وسيرسل لنا هجنه ورجاله ليحملونا إلى الطائف ، ويعودوا بنا إلى جدة. وصل هذا الجواب اللطيف في ١٧ فبراير (شباط). ومهما كانت السرعة والمبادرة التي تعهد بها الشريف أن ينفذ بهما وعده ، فقد كان أمامي أسبوع انتظار كامل ؛ وكان ينبغي عليّ أن أشغله ، ولكن

١٩٤

كيف؟ لم يبق لي ما أراه في جدة." لقد قال لي أحد السكان الأصليين : كيف ـ وأجبته بنعم ، ولكن هل الممكن أن يدوم الكيف ثمانية أيام؟ " وقد يسألني أحد ما الكيف؟ وهأنذا أقول لكم :

عندما ينهي العربي أعماله ، مهما كان نوعها ، ويكون يومه قد انتهى ، يعتزل الناس بين حريمه ، ويتخفف من ثيابه ، ويأخذ شيشته ، ويجلس متربعا على ديوانه ، ويستغرق عليه دون شعور ، / ١٤٦ / وهو يدخن في استرخاء بدني وروحي ؛ هو نوع من النوم والصحو ، دون أن يكون لا هذا ولا ذاك. ولا يجرؤ أحد في العالم أن يعكر عليه صفو هذه اللحظة الطقوسية حتى لو كان زوجته نفسها ، أو حتى أقرب الجواري إلى نفسه. إن حالة البين ـ بين هذه ، التي هي وسط بين الوجود واللاوجود ، والتي لا يمكن أن تعرّفها لأوروبي ، ولا يمكن له أن يفهمها ـ ليست إلا تطبيقا عمليا للمثل الشرقي القائل : خير لك أن تكون جالسا من أن تكون واقفا ، ومستلقيا من أن تكون جالسا ، ونائما من أن تكون مستلقيا ، وميتا من أن تكون حيا. ليس الموت الحقيقي هو المقصود هنا : لأننا في هذه الحالة لا نفكر ، ولا نشعر ، ولا نحلم ، ولا نعيش ، ولكننا نتنفس ، نعيش كما تعيش النباتات ، وهذا يمثل لدى العربي النعيم الأعظم ، والشعور المسبق بالنعيم الخالد. ذلك ما يسمونه الكيف.

وقد جعل الأتراك ، وخصوصا الطبقات الميسورة ، من هذه العادة الروحية ممارسة مادية ، وأفسدوا المتعة التي لا توصف للجسد والروح ، عندما جعلوها مترافقة بشرب الكحول : إنهم يشربونه بشراهة حتى الثمالة ، وينتح عن ذلك التصرف

١٩٥

الحيواني ، عن ذلك الكيف (١) الذي لا يليق به هذا الاسم ، أن الإنسان يغط في نوم عميق. ونرى من خلال ما ذكرته أن الإنسان لا يستطيع ، مهما كانت قوة الإرادة لديه ، أن يستمر في ممارسة هذا النوع من الكيف أسبوعا كاملا. ولما كنت قد رأيت كل شيء في جدة ، فإنه لم يعد فيها ما يثير فضولي ، فتركت الاهتمام بالأشياء ، واتجهت نحو الناس ، وإليكم بعضا ممن / ١٤٧ / خالطتهم لقتل الوقت حتى يحين موعد مغادرتي إلى الطائف.

__________________

(١) أورد روبن بدول في كتابه : الرحالة الغربيون في الجزيرة العربية ، الترجمة العربية ، موثقة سابقا ، ص ٥٧ ، في الحديث عن رحلة بيرتون" ... وقد استمتع بيرتون بجو الإسكندرية ، حيث وجد فيها ما يسميه العرب بالكيف ، فالرجل الشرقي يحب الخلود إلى الراحة والاستمتاع بالملذات الحيوانية ، وبناء القصور في الهواء ، وقد تجده جالسا تحت شجرة تفوح بالعطر مستمتعا باحتساء القهوة أو تدخين النارجيلة أو شرب الشربيت غير مكترث بما يدور حوله في الأمور التي تعكر صفو الحياة ، بينما الحياة الباردة في أوروبا تملي على الرجل الغربي أن يكون مفعما بالنشاط والحيوية."

١٩٦

الفصل السابع

لوحة نابضة بالحياة

المكان للمكين ، لذلك أبدأ بالحاكم. كان الباب العالي العثماني يرسل فيما مضى إلى المدينتين المقدستين ، وجدة باشا يحمل ثلاثة ذيول (١) احتراما لقدسية المدن الثلاث. ومع أن هذا الامتياز الذي أسف عليه هواة الأصالة قد ألغي ، فإن ولاية مهد الإسلام ، ظلت أولى ولايات الإمبراطورية العثمانية ، والموظف الكبير الذي يولّى

__________________

(١) يستخدم الذيل أو الطوخ للدلالة على الرتبة عند العثمانيين ، والطوخ علامة على الخانية ، وكان عبارة عن عمود يعلق به ذيل ثور ، وقد استبدل الترك ذيل الحصان بذيل الثور. والطوخ أو الذيل عند العثمانيين مزراق رأسه كرة مذهبة ، وقد علق تحت الكرة خصلة من ذيل حصان مصبوغة باللون الأحمر. وكان لرجالات الدولة العثمانية أطواخ أو ذيول بحسب منازلهم ، فللسلطان سبعة أطواخ أو ستة ، وللوزير الأعظم خمسة أطواخ (ذيول) أو ثلاثة ، وللوزير ثلاثة أطواخ (ذيول) ، وللوالي طوخان (ذيلان). ولم يكن يترتب على العزل من المناصب سحب الذيول (الأطواخ) إلا إذا كان العزل بجرم ، وكانت الأطواخ السلطانية وأطواخ رجالات الدولة تسبق الجيش عند الغزو. انظر : أحمد السعيد سليمان : تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل. القاهرة ، دار المعارف ، د. ت. ص ١٤٦ ـ ١٤٨. (عن حاشية ترجمة رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٥١ ، الحاشية (٢)). ويشير ديدييه بعد بوركهارت إلى أن والي جدة كان يحمل ثلاثة ذيول تعني أنه كان لا يقل عن رتبة وزير ، مما يدل على أهمية جدة بالنسبة إلى الدولة العثمانية ، انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٥١. وذكر في معجم المصطلحات ... ، موثق سابقا ، ص ٣١٠ ، أن كلمة" طوخ" كلمة صينية دخلت التركية بمعنى راية من نوع خاص ... ووردت في بعض المراجع بلفظ : توخ ، أو طوغ. وذكر د. صابان ، في المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية ، موثق سابقا ، ص ١٤٩ : أنها طوغ Tug : وهي ذؤابة من وبر الخيول ، تعلق على العمامة التي يلبسها أركان الدولة ، وهي علامة مميزة لهم حسب مكانتهم.

١٩٧

عليها لا يتقدمه إلا رئيس الوزراء ، ويتقاضى سنويا مليونا ومئتي قرش ، يضاعفها مرتين أو ثلاثا عادة ، إن لم يزدها عشرة أضعاف بالطرق المألوفة في تركية وغيرها. ويبدو من الطبيعي أن يقيم في مكة ، ولكنه لا يقوم إلا بزيارات نادرة إلى عاصمة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزياراته للمدينة المنورة أكثر ندرة ، ويقيم في جدة طول الوقت ؛ بسبب أن هذه المدينة هي مقر الجمارك التركية ؛ وهي المورد الرئيسي ، ويكاد يكون الوحيد ، لموارد الحجاز العامة ؛ وإننا لا نستطيع ، حسب مبدأ الخوري تيري (١) Terray ، أن نأخذ إلا حيثما نجد ما يؤخذ ، ومن جمارك جدة غرف الباشا / ١٤٨ / ما شاء الله له أن يغرف (٢). هنا يوجد الكنز في نظر التركي ، وهنا يوجد قلبه وشخصه أيضا.

زرت الباشا منذ اليوم التالي لوصولي ، ولكن ليس قبل أن أرسل من يخبره بذلك ، بضع ساعات قبل موعد الزيارة ، كما هي العادة بين ذوي الاعتبار. كان الاستقبال في

__________________

(١) Terray (L\'abbe Joseph ـ Marie) ـ الخوري تيري : مراقب مالي عام ، ولد في بوين Boen في منطقة (اللوارLoire) في فرنسا عام ١٧١٥ م ، وتوفي في باريس ١٧٧٨ م. قام بعدد من الأعمال التي قيدت الأعمال التجارية وفرضت عليها ضرائب وقيودا ضخمة بعد أن استطاع على الرغم من أعماله السيئة أن يصبح مفتشا ماليا عاما في عام ١٧٦٩ م.

(٢) يقول بوركهارت في رحلاته ، موثق سابقا ، ص ٥١ ـ ٥٢ : " ويحكم جدة باشا يحمل ثلاثة ذيول (أو أطواخ) وله الأقدمية على معظم الآخرين بحكم ارتباط جدة بالمدينتين المقدستين ، إلّا أن منصب ولاية جدة يعد تشريفا قلّ أن يأبه به نبلاء الأتراك ، إذ إنهم دائما يعتبرون جدة مكانا للنفي أكثر منها مكان ترقية إلى منصب رفيع ، وكثيرا ما يعيّن في ولاية جدة رجل دولة مغضوب عليه. ووالي جدة يلقّب نفسه والي جدة وسواكن والحبش وليس والي جدة فحسب ، وتأييدا لهذا اللقب فإنه يقيم مكاتب للجمرك في كل من سواكن ومصوع اللتين كانتا قبل حكم محمد علي تابعتين كلية لشريف مكة". انظر تعليق المترجمين في الحاشية (١) من ص ٥٢ على المقصود بالحبش.

١٩٨

غاية اللياقة : إذ كان على الباب لجنة عسكرية لاستقبالنا ، وكان العبيد والخدم ينتشرون على الدرج وفي المدخل ، وكان هناك الشيشة والقهوة والشراب والشاي والحلويات ، وكان كل ذلك يطلب بصوت عال ، وتلك هي غاية اللياقة في الشرق ، حتى يستطيع الجميع أن يسمعوا التشريفات التي تقدّم للزائر ، ولم يكن ينقص الحفلة شيء. لقد خرج الباشا نفسه للقائي لدى باب المجلس ، وقادني إلى غرفة مستقلة تطلّ على البحر ، مليئة بالسجاد والدواوين ، والوسائد ، وبكلمة واحدة مليئة بكل وسائل الراحة المتوفرة في البلد.

أما قنصل فرنسا الذي كان طريح الفراش ، وأقعده المرض الشديد عن مرافقتي ، فقد طلب رسميا من السيد دوكيه M.Dequie المترجم ، وموثق العقود في القنصلية أن يمثله ، وقد تفضل السيد دوكيه بالقيام بدور المترجم ، وقد قام بذلك بذكاء وتفان. كان اسم الحاكم أحمد عزت باشا (١) ، وهو رجل حيوي ، جيد الثقافة ، وهذا نادر لدى الأتراك ، بل إنه شاعر ، يستعرض معارفه بكل طيبة خاطر. بدأ الحديث بالطبع

__________________

(١) ذكر دحلان في كتابه : خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام ، ط. ١ ، المطبعة الخيرية ، القاهرة ، ١٣٠٥ ه‍ ، ص ٣١٦ ، أنه كان أميرا للحج الشامي في عام ١٢٦٨ ه‍ ، وصديقا للشريف عبد المطلب ، وأعانه ضد والي جدة آقه باشا ، وأن الشريف عبد المطلب أرسل للصدر الأعظم رشيد باشا يطلب عزل آقة باشا ، وتوجيه ولاية جدة لأحمد عزت باشا الأرزنجاني فأجيب إلى ذلك في سنة ١٢٦٩ ه‍ ، وهو الذي بنى البيت الذي بالزاهر بالقرب من شهداء فخ في مدة ولايته هذه ، ثم حصلت منافرة بينه وبين الشريف عبد المطلب بعد وصوله إلى جدة بأيام قلائل. وعزل أحمد عزت باشا سنة ١٢٧٠ ه‍ في شهر رجب. وتولى مكانه كامل باشا. ولد عام ١٢١٣ ه‍ في أرزنجان ، وتوفي في ١٤ شوال ١٣١٠ ه‍. كان كاتبا وشاعرا وأديبا ، اهتم في كتاباته بالموضوعات العسكرية. انظر : محمد تويا ، سجل عثماني ، ج ٣ ، ص ٤٦٥ ، ١٣١١ ه‍.

١٩٩

عن الحرب (١) التي كانت حينئذ قد بدأت ، وقد أمر بإحضار / ١٤٩ / خرائط جغرافية تركية ليتتبع عليها التوضيحات التي كان يطلبها مني.

وجعلته أنا بدوري يتحدث عن الموضوعات التي تهمني أكثر من غيرها ، عن البلد الذي يحكمه ، وقد استقيت منه المعلومات التي ذكرتها سابقا عن مدينة النبي صالح المهدمة. لقد زودني بمعلومات أخرى هي في نظري موضع شك : فهو ، على سبيل المثال ، رفع عدد سكان مكة المكرمة إلى ١٠٠ ألف نسمة ، مع أن عدد سكانها لا يبلغ نصف هذا العدد ، وقال : إن عدد سكان مكة المكرمة الذين تساعدهم إستانبول يبلغ ٢٠ ألفا. وعلمت منه أن إحدى أرامل ملك لاهور رونجيت ـ سينغ (٢) Runjet ـ Singh جاورت بعد موت زوجها في مكة المكرمة ، وهي تعيش من

__________________

(١) بين روسيا والإمبراطورية العثمانية ، وقد جرت هذه الحرب بين (١٨٥٣ ـ ١٨٥٦ م) في فترة حكم الإمبراطور نقولاNicolas (١٨٢٥ ـ ١٨٥٥) ، والتي انتصر فيها ، وكاد ينجح في إسقاط الإمبراطورية العثمانية لو لا تدخل فرنسا وبريطانيا للحفاظ عليها (حرب القرم Crime ١٨٥٤ ـ ١٨٥٥ م) ، فانهزم نقولا في معركة سيباستوبول Sbastopol ، واضطر حسب معاهدة باريس (١٨٥٦ م) أن يتخلى عن بعض الأراضي التي احتلها ، وعن الوجود الروسي البحري في البحر الأسود. واشتركت مصر في هذه الحرب إلى جوار الدولة العثمانية ، وقد أشار بيرتون في رحلته إلى حماسة المصريين ورغبتهم بالجهاد ضد الروس. انظر : رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ١٧.

(٢) ولد عام ١٧٨٠ وتوفي عام ١٨٣٩ م ، حاكم هندي (مهراجا) كان يعرف ب" أسد البنجاب" ، حصل على ولاية لاهور منحة من زمان شاه ملك أفغانستان بعد أن استولى عليها وعمره ٢٠ سنة بقوة السلاح.

٢٠٠