رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

الأخرى بجديد إلّا أنهم التزموا بأفكار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوجيهاته الجلية ؛ ولهذا السبب كانوا يهدمون القباب المقامة على أضرحة الأولياء بحماسة فائقة ، ويقولون : إن القبة هي من ميزات المعابد ؛ وإن تقديس أي إنسان ، مهما كان قدره وكراماته ، يوقع في المحرمات ، والقدسية ميزة انفرد بها الله تعالى وحده.

كان سعود يسكن الدرعية مع عائلته الكبيرة جدا ، والمتماسكة ، وكان من هناك يحكم القبائل الخاضعة لسلطته. لقد كانت سلطته تشبه بكثير من الاعتبارات سلطة الشريف ـ الأمير في مكة المكرمة إلّا أنها كانت سواء في جانبها الدنيوي أم الروحي ، أكثر متانة وحزما ومهابة. كان بهي الطلعة ، ذا صوت رخيم مما جعل العرب يقولون إن كلماته كلها تصل إلى القلب. كان متوافقا مع مذهبه ، يطبق كل مبادئه. وكان هو وعائلته وأتباعه يلبسون عباءات بسيطة من الصوف لا يدخل في حياكتها أي خيط حرير ، كان مثالا يحتذى في إيتاء الفضائل ، ولم يكن يسمح لأي امرأة من أسرته أن تلبس أي قطعة من حلي ، مهما صغرت ، وكان أتباعه يفعلون مثل ذلك التزاما / ١٨٥ / بنص القرآن الكريم (١). وكان في كل مساء يقيم الصلاة في أهل بيته ،

__________________

(١) هذه العبارة ليست صحيحة لا شرعا ولا تاريخيا ، إذ لم يمنع القرآن الكريم النساء من لبس الحلي ، وإنما منع التبرج بها لغير المحرم ، كما أن الإمام سعود وغيره من قادة الدولة السعودية وعلمائها لم يمنعوا نساءهم ولا نساء غيرهم من لبس الحلي ، ولم يمتنعوا إلا عن لبس الحرير والذهب للرجال فقط.

٢٤١

كما تفعل كثير من العائلات البروتستانتية في أوروبا. وكانت الخيل أعظم متعة يروّح بها عن نفسه ؛ فقد كان يملك ألفي رأس من الخيل الأصيلة النادرة الأنساب في نجد ، وكان ثمن بعضها باهظا ؛ شأن تلك الفرس التي دفع ثمنها ما يقارب ١٥ ألف فرنك ، وكان لديه أيضا كثير من الإبل النجيبة التي تتمتع بسرعة عجيبة (١).

وكان من اليسير على كل الناس أن يدخلوا عليه ، وكان بيته على الدوام يعج بالشيوخ ، والبدو العاديين ، الذين يأتون إليه يستشيرونه في أمورهم ، فيأكلون كما لو أنهم في بيوتهم ، وكان الجميع ، حتى أفقرهم حالا ، يحدثونه بحرية لا تتجاوز حدود اللياقة ، ويحيونه باسمه ، ويأخذون يده ، ويطلقون عليه لقب" أبو شوارب (٢) " ، لأن له شاربين كبيرين. كان لطيفا في تصرفاته ، ويرغب في أن يظل الناس جالسين عندما يظهر إليهم. وكان متأنيا في النصح ، ماهرا وحازما في تصريف الأمور ، وكان يقيم العدل بين الناس بتجرد وموضوعية ، لا يعرف الانحياز إليهما سبيلا. ومع ذلك فإنه نادرا ما كان يصدر حكما بالإعدام. وكان هناك عقوبة يخشاها المجرمون أكثر من الموت وهي أن يأمر الزعيم الوهابي بحلق لحاهم.

__________________

(١) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٣٧ ـ ٣٨. وينقل الدكتور العثيمين عن ابن بشر قوله في : عنوان المجد ، ج ١ ، ص ٢٣١ : " إن سعودا ، ملك من الخيل العتاق ألفا وأربع مئة فرس".

(٢) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٣١ ؛ يقول : " ... وكانت لحيته أطول مما يشاهد بين البدو بصفة عامة ، كما كان الشعر الذي حول فمه كثيرا لدرجة أن اسمه لدى أهل الدرعية" أبو الشوارب".

٢٤٢

كان ، وهو الصادق الوفي بوعده ، يمقت الكذب ، ويأمر في بعض الأحيان بجلد الكاذبين ؛ ولكنه كان يرغب / ١٨٦ / في أن يبادر الحاضرون إلى تهدئة روعه عندما يأخذه الغضب ، وكان يشكر ذلك لمن يقوم به. كان فصيحا ومتمكنا من التراث الإسلامي ، شأنه شأن صفوة العلماء ، ويحب الخوض في نقاشات دينية ، ويدافع عن رأيه بحماسة ، ويسمح لخصومه بالقيام بالشيء نفسه ، وكان عندما ينتهي النقاش يختمه بجملة جوهرية" الله أعلم" ويعلم الحاضرون عادة أن هذه الجملة إيذان بإنهاء الحوار [...].

ولم يتردد سعود عن الاعتراف في نهاية حكمه أن سوء الحظ الذي أصاب الوهابيين كان بسبب أخطائه (١). كان سعود مصدر السلطات كلها ؛ إذ جمعها في يده ، ولم يكن في زمن السلم يستشير إلا صفوة العلماء الذين ينتمون حصرا إلى أسرة مؤسس المذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب. كان سعود يعيّن المشايخ الكبار ، وكان لهم على الآخرين سلطة لم يكونوا أبدا يسرفون في استخدامها ؛ لأن سعودا كان حاذقا جدا ، ويعرف حق المعرفة طبيعة العرب فكان يداريهم ، ولا يحاول حكمهم بطريقة استبدادية ، لأن أي استبداد يثيرهم ، وقد كان تجنيبهم ذلك الثمن الذي يدفعه سعود لضمان سلطته عليهم. كان يرسل إلى القبائل الخاضعة لسلطته قاضيا يدفع هو أجره ،

__________________

(١) نقل بوركهارت في مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٦٤ ، عن سعود أنه كان يقول : " لو لا أعمالي وأعمال أصدقائي السيئة لوجد ديننا طريقه إلى القاهرة واستنابول منذ زمن طويل".

٢٤٣

وكان مكلفا بإقامة العدل باسم سعود ، ويشدد عليه في الوصاة بألا يقبل أي أموال. ولا زالت نزاهة أولئك القضاة مضرب المثل في الجزيرة العربية. لقد كان / ١٨٧ / القانون الوحيد المتبع هو القرآن الذي يطبق بحذافيره بلا تأويل ولا تعسف.

ويمكن الاعتراض على أحكام القاضي كلها لدى الأمير ، وكذلك على كل أعمال الشيوخ ؛ مما كان يسهم في جعل هؤلاء وأولئك يستقيمون في أداء واجباتهم ، وفي التزام القانون.

كان سعود أيضا يرسل عمّالا لجمع الزكاة المخصصة لبيت المال ، وتتألف من العشور التي تدفع عينا ، ومن الغرامات ، ومن خمس الغنائم ، ومن ٥ ، ٢% من رأسمال التجار الذين ينبغي عليهم ، كما كان الحال في روما القديمة ، أن يوضحوا مقدارها مقسمين على صحة ما يقولون. أمّا القبائل المتمردة ، فقد كانت تعاقب بالنهب ، وكانت الأموال تذهب لزيادة الموارد العامة لبيت المال (١).

كانت هذه الضرائب المختلفة تبدو للبدو كثيرة ، وهم الذين اعتادوا ألّا يدفعوا أي ضرائب ، ولكنهم مع ذلك كانوا يدفعونها لأنهم يرونها تستخدم بإخلاص لمصلحة الجميع. لقد كانوا يدفعون فضلا عن ذلك ضريبة خاصة مخصصة بكاملها لأعمال الخير ، حسب ما نظم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقاديرها ، وتسمى تلك الضريبة الزكاة ، ولها طبيعة

__________________

(١) قارن ما قاله بوركهارت في : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٥٧ ـ ٦٤. وتعليقات الدكتور العثيمين.

٢٤٤

دينية ، ولا يجرؤ أحد من الوهابيين أن يمتنع عن أدائها أو يشكو منها ، وإلّا يعد من أشرار المسلمين.

لم يقبل البدو بسهولة أداء واجب الخدمة العسكرية التي فرضت عليهم أعباء ثقيلة ، وأجبرتهم على تنقلات كثيرة. لقد كانت الخدمة العسكرية / ١٨٨ / تجنيدا حقيقيا ، ما عدا الاقتراع الذي يطبق عندما لا يكون هناك استنفار عام ؛ إذ كان بالإمكان تقديم بديل عن المطلوب للخدمة. لقد كان يترك للجنود قسم كبير من الغنائم التي يكسبونها من الأعداء ، والتي كانت تقسّم حسب قانون يطبق بدقة. وكانت تلك الغنائم في غالب الأحيان كثيرة ؛ لأن الحروب لم تكن في واقع الأمر إلّا غزوات ضخمة تطال أكثر القبائل قطعانا. كان سعود هو الذي يخطط لتلك الغزوات ، ويقودها هو أو أبناؤه بكفاءة نادرة ، وكانت في غالب الأحيان غزوات ظافرة [...].

لقد كان هناك عدد كبير من القوات يحارب على ظهور الهجن ، وقلة على الخيل ، والكثرة الكاثرة مشيا على الأقدام. وكان كل واحد من أولئك يعود بعد الحرب إلى بيته ، ولا يبقى على أهبة الاستعداد بصفة قوات نظامية إلّا حراس شخصيون يتكونون من أشجع الجنود ، وأكثرهم حنكة ، والذين كان سعود يستبقيهم لديه في الدرعية.

كانت القبائل الحضرية في نجد هي المبادرة في الخضوع للسلطة الدينية السياسية لعبد العزيز ولابنه سعود الذي وصل بغزواته عبر اليمن إلى مسقط ، وقاد جيشه الظافر حتى أبواب / ١٨٩ / البصرة وبغداد وحلب ، وحتى أبواب دمشق.

٢٤٥

ولكنه لم يكن أبدا يفكر في مدّ نفوذه خارج حدود الجزيرة العربية (١). أمّا غزواته ناحية الفرات ولبنان (كذا ، وربما يقصد سورية) فلم تكن إلّا غارات سريعة يقوم بها للحصول على الغنائم لزيادة مكاسبه ومكاسب جنوده. وإن تلك البلاد ، أعني العراق وسورية ، تابعة تبعية مباشرة للأتراك الذين يعدهم هراطقة ، وإن في تلك البلاد كل الأسباب التي تدعوه لكراهيتها ، وكل ما فيها يجعل غاراته عليها مسوغة. لقد انتهى الأمر بباشا بغداد إلى التأثر بتلك الغارات ، وسيّر في عام ١٧٩٧ م لمحاربة الوهابيين المخوفين حملة لم تحرز أي نجاح ، ولم تزد على أنها دعّمت الازدراء والبغضاء اللذين يكنهما الوهابيون للعثمانيين.

أما باشا دمشق فقد كان بصدد تهيئة حملة لإبادتهم ، ولكن تلك الحملة ظلت فكرة ، ولم تخرج إلى حيز التنفيذ. وقد كان الوهابيون أقل حظا في منطقة الخليج العربي (٢) حيث كان لهم ميناء اسمه رأس الخيمة ، دمره الأسطول البريطاني في عام ١٨٠٩ م لمعاقبة السكان على عدد من أعمال القرصنة التي تعرضت لها في الخليج سفن التجارة البريطانية (٣).

__________________

(١) يكرر هنا ديدييه ما ذكره بوركهارت في : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٦٨ ، ويعلق الدكتور العثيمين بقوله : " الرسائل التي وجهها سعود إلى والي دمشق توضح أنه كان يرغب في الاستيلاء على بلاد الشام. انظر : تاريخ البلاد العربية السعودية : عهد سعود الكبير لمنير العجلاني ، د. ن ، د. ت ، ص ٦٦ ـ ٦٨.

(٢) في الأصل : الخليج الفارسي. لكن الشواهد تؤيد تسميته بالعربي. ولذا ترجم ، هنا ، بالعربي. انظر : مواد لتاريخ الوهابيين ، موثق سابقا ، ص ٨٣.

(٣) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٠١ ـ ١٠٢. وعلق الدكتور العثيمين فقال : " يصف الغربيون دائما الآخرين بالقرصنة إذا هاجموا سفنهم مهما كانت الدوافع لذلك. ومعروف أن القواسم كانوا يهاجمون سفن أعدائهم لا قرصنة وإنما جهادا ودفاعا عن المصالح الوطنية".

٢٤٦

وكان سعود حينئذ قد أبطل الدعاء للسلطان العثماني على المنابر في الصلوات العامة ، مما يعني أنه أعلن التمرد الذي يعادل إعلان الحرب.

كان أكثر جيران سعود شعورا بالتهديد هو الشريف غالب بلا ريب الذي كان حينئذ يحكم الحجاز ، وقد كانت الأراضي التي تخضع لسلطته تتصل بأراضي / ١٩٠ / الأمير الجديد. وقد قام هذا الأخير بعدد من التوسعات ، وكان يخشى من توسعات أكثر خطورة في المستقبل.

لقد كان غالب المذعور ، لا يكّف عن تشويه صورة الوهابيين لدى الباب العالي ، وعن إثارته ضدهم ، أملا في أن يساعده الباب العالي في توجيه ضربات حاسمة لهم. ولّما لم يستطع التغلب على حذره حمل السلاح منذ عام ١٧٩٣ م ، ومع أنه اعتمد على موارده الخاصة ، فإنه حقق بعض الانتصارات في نجد. واستمرت الخصومة عدة سنوات بين الجارين ، وكانت الحظوظ إبّان ذلك متساوية بينهما ؛ ولكن ، وفي النهاية ، وعلى الرغم من حنكة غالب العسكرية ، كان الانتصار من نصيب الوهابيين : لقد دخلوا الحجاز بقوة كبيرة ، واستولوا على الطائف في عام ١٨٠١ وعلى مكة المكرمة في عام ١٨٠٣ م ، وكان انضباطهم مضرب المثل في المدينة المقدسة ، ولم ترتكب أي مخالفة. ولم يعان المكيون إلّا من وجوب مداومة الحضور إلى المسجد في أوقات الصلاة ، ومن حرصهم على إخفاء ملابسهم الحريرية ، ومن الامتناع عن التدخين علانية ، إلّا أنهم عوضوا عن ذلك بالتدخين كما يحلو لهم في منازلهم.

٢٤٧

وانسحب غالب إلى جدة ، وتبعه سعود إلى هناك ، ولكن أسوار المدينة منعته من دخولها ، وبدأ المفاوضات مع الشريف ـ الأمير الذي عاد إلى مكة ، واستعاد سلطته فيها ، ولكنه لم يحصل على ذلك إلّا بعد أن اتبع المذهب الوهابي (١). وكان سعود قد استولى على المدينة المنورة ، وعامل السكان معاملة أقل احتراما من تلك التي / ١٩١ / لقيها منه سكان مكة ، فوضع في المدينة المنورة حامية وهابية ، وجرد ضريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأشياء الثمينة التي تبرع بها المؤمنون ، وقد حاول أيضا أن يهدم القبة العالية المقامة على الضريح ، كما قاموا بهدم كل القباب التي لم تكن تابعة للمساجد (٢). وقد قيل خطأ : إن الوهابيين ألغوا الحج : لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شدد على تطبيق هذه الفريضة ، ولا يمكن ، والحالة هذه ، أن يقوم الوهابيون بإلغائها. ولكن الوهابيين الذين أزعجتهم التجاوزات المتطرفة التي كان يمارسها الحجاج الأتراك ، أجبروهم على تصرف أكثر لياقة ، وردعوا بقسوة الفوضى التي كانوا يثيرونها (٣). ولم يتعرض الحجاج المغاربة الذين كانوا أكثر تنظيما لأي مضايقات ، وكذلك الهنود وأفارقة السودان. وإن كانت قوافل الحج من بغداد ودمشق والقاهرة قد توقفت ؛ فإن سبب ذلك هو أن

__________________

(١) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) دخل سعود المدينة المنورة في عام ١٢١٨ ه‍ / ١٨٠٤ م. انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٩٣ ـ ٩٥.

(٣) قارن بما يقوله بوركهارت في : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٩٥. وانظر تعليق الدكتور العثيمين في الحاشية(٢).

٢٤٨

الباشاوات والقوات العثمانية التي ترافقها عادة لم يعودوا يجرؤون على المخاطرة بالسفر عبر المناطق التي يسيطر عليها الوهابيون الذين كان مجرد ذكر اسمهم يثير رعبا كبيرا بين أعدائهم.

كان السلطان العثماني قد عيّن في هذه الأثناء محمد علي ، الذي سيذيع صيته بعد ذلك في أنحاء العالم ، باشا لمصر ، وفرض عليه أن يخلص المدينتين المقدستين من أيدي الوهابيين الذين سيطروا عليهما. ولما تولّى محمد علي منصبه الجديد عام ١٨٠٤ م شغل / ١٩٢ / بالقضاء على المماليك ، ولم يفكر بتنفيذ أوامر السلطان إلّا في عام ١٨٠٩ م ، عندما كلف ابنه الثاني طوسون بيك (١) الذي كان له من العمر ثمانية عشر عاما ، ولكنه كان ذا شجاعة مجربة ، نادرة اليوم لدى العثمانيين ، وخصوصا في أسر الباشاوات ، كلفه ، قيادة حملة نزلت في ينبع عام ١٨١١ م. وكانت بداياته سيئة : إذ تقدم نحو المدينة المنورة (٢) التي كان الوهابيون لا يزالون يسيطرون عليها ، والذين

__________________

(١) يختصر ديدييه الأحداث اختصارا مخلا ؛ إذ إن محمد علي بدأ في عام ١٨٠٩ م يجهز بجد لحملته ، فبنى أسطولا من ثمان وعشرين سفينة مختلفة الأحجام ، وذلك في ميناء السويس في أعوام ١٨٠٩ ، ١٨١٠ ، وبداية سنة ١٨١١ م. ورمم القلاع على طريق الحج بين القاهرة وينبع ، وهي عجرود ونخل والعقبة والمويلح والوجه ، ووضع فيها حاميات من المشاة ، وأنشأ مخازن للقمح في القصير. وبدأت الحملة في نهاية أغسطس سنة ١٨١١ م.

انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٠٩ وما بعدها.

(٢) وصل الأسطول المصري إلى قرب ينبع في أكتوبر (تشرين الأول) ١٨١١ م وفي يناير (كانون الثاني) ١٨١٢ م تقدم طوسون بيك مع جنوده صوب المدينة المنورة. مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١١٣ ، ١١٥.

٢٤٩

هزموه شر هزيمة في مضيق الجديدة (١). وأجبر على التراجع إلى ينبع ، والتحق بجيشه هناك ، ونجح في السنة التالية ـ بفضل المساعدات التي تلقاها من مصر ـ أن يستولي على المدينة المنورة. ووجدت الحامية الوهابية التي ظلت معتصمة في القلعة نفسها مجبرة على الاستسلام بعد ثلاثة أسابيع من المقاومة ، وخرجت بأسلحتها وبأمتعتها بفضل عهد أمان ؛ ولكنها ما إن قطعت مئة خطوة خارج القلعة حتى انقض الأتراك عليها وسلبوها وذبحوا أفرادها. ولنتأمل ما يتمتع به العثمانيون من نية حسنة (٢)!

وقد عيّن أحد المارقين الاسكتلنديين (٣) من خدم البيك الشاب لبعض الوقت حاكما للمدينة المنورة ، ولكنّه سقط بعد ذلك قتيلا وسلاحه بيده في مواجهة

__________________

(١) ممر ضيق يتراوح عرضه بين أربعين وستين ياردة في جبال وعرة شديدة الانحدار تقع على مدخلها قرية الجديدة ... وهي المستوطنة الرئيسية لقبيلة حرب. وطول الممر الضيق ساعة ونصف الساعة. مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١١٦.

(٢) مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٢٣ ـ ١٢٥.

(٣) المسمى إبراهيم أغا ، وكان رئيسا للماليك الذين مع طوسون ، وهو من إدنبره واسمه الأصلي توماس كيث ، أسر خلال الحملة الإنجليزية الأخيرة على مصر ، ثم أسلم واشتراه أحمد بونابرت ، ولجأ إلى حماية زوجة محمد علي بعد أن قتل صقيليا من خدم أحمد بونابرت ، وغضب عليه طوسون مرة وأمر بقتله إلا أنه دافع عن نفسه وهرب إلى حاميته التي أصلحت الأمر ، وأصبح بعد أن أثبت جدارته رئيسا للمماليك لدى طوسون ، وكان أحد اثنين لم يتخليا عن طوسون في الجديدة ، وقاتل ببسالة في الاستيلاء على المدينة المنورة وتربة ، وكان قد أصبح صاحب الخزانة ، ويحتل المرتبة الثانية في البلاط ، وعين حاكما للمدينة المنورة في إبريل (نيسان) ١٨١٥ ثم قتل بعد ذلك في العام نفسه في القصيم. انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١١٨ ـ ١١٩ ، وص ١٨٩.

٢٥٠

الوهابيين. وسقطت أواخر السنة نفسها مكة المكرمة ثم الطائف في أيدي الأتراك الذين كان يقودهم مصطفى بيك ، صهر محمد علي ، وهو رجل شرس سفك من قبل دماء المصريين ، وكان يفخر / ١٩٣ / قائلا" إن عدد من سيموتون تحت عصي جلاده يفوق عدد الرجال الذين يولدون في أسرته ، لو أن كل واحدة من زوجاته ولدت في كل يوم مولودا ذكرا" (١). وإن ذكريات وحشيتهم وخداعهم لازالت ماثلة في أذهان العرب بعد أربعين سنة. لقد أخطأ الوهابيون إبّان تلك الحملة كلها عندما استهانوا كثيرا بأعدائهم ، ولم يواجهوهم بالقوة المطلوبة ، ونتج عن ذلك أنهم أجبروا على ترك الحجاز ، وعلى العودة إلى حدودهم الأولى.

وقد عين الباب العالي طوسون بيك باشا جدة ، وقدم والده بشخصه من القاهرة إلى مكة المكرمة في عام ١٨١٤ ليجني ثمار الانتصارات التي لم يحققها بنفسه.

أمّا الشريف غالب فإنه كان يصّرف شؤونه بكثير من الحذر والبراعة الفائقة ؛ حتى إنه استطاع المحافظة على سلطته في هذه الظروف الفظيعة. لقد كان ينقل ولاءه بين الأتراك أو الوهابيين حسب المصلحة الآنية ، أو حسب حظوظ العدوين في النصر ، لقد كان يراعي الخصمين ، متجنبا توريط نفسه بالقيام بأي إجراء ذي دلالة مفرطة ، مؤمنا لنفسه في كل الظروف مخرجا. لقد تمثلت سياسته في التذبذب ، وفي التهدئة ، أملا في رؤية أحد العدوين اللذين يخشاهما بالتساوي يضعف أحدهما الآخر ، كان يجد خلاصه في الكره الذي يكنه أحدهما للآخر. وعندما ظهر أن النصر سيكون

__________________

(١) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٢٤ ـ ١٢٥.

٢٥١

نهائيا بجانب العثمانيين ، ضم قواته إلى قواتهم ، وحضر بنفسه معركة الاستيلاء على الطائف. وقد كان أبرز زعماء / ١٩٤ / الوهابيين وأكثرهم توفيقا في تلك الحرب هو المضايفي (١) صهر الشريف غالب الذي كان يكرهه ، ولم يجد حرجا من أن يعد بمكافأة لمن يقتله أو يأسره. وقد تمّ تسليم المضايفي لغالب غدرا ، فبادر مسرعا في نشوة النصر بإرساله إلى إستانبول حيث تم قطع رأس العربي المقدام. وكان غالب الذي أرضى حقده ، يأمل في أن يرضي الأتراك بذلك. لقد كان ذلك جهلا بطبائعهم ، ولم يدم وهمه إلّا قليلا. لقد ذهب إلى جدة لاستقبال محمد علي عند وصوله إلى الحجاز ، وعادا معا إلى مكة المكرمة ، وتعاهدا رسميا على القرآن في المسجد الحرام ألا يحاول

__________________

(١) عثمان بن عبد الرحمن المضايفي من قبيلة عدوان المشهورة بالطائف. كان صهرا للشريف غالب تزوج أخته ، وكان أكبر أعوانه وقادة جيشه ، ثم اختلف معه وانضم إلى الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وولاه الإمام عبد العزيز على الجيش المكلف بالاستيلاء على الطائف ، ونجح عثمان في الاستيلاء عليها سنة ١٢١٧ ه‍ / ١٨٠٣ م وأصبح أميرا عليها وعلى المناطق التابعة لها. وعندما نجح الشريف غالب في السنة نفسها باسترداد الطائف هرب عثمان ، ثم قبض عليه بعد ذلك بدو عتيبه وسلموه للشريف ، ثم أرسله طوسون باشا أسيرا إلى مصر ، ومنها إلى إستانبول وقتل هناك. انظر : عنوان المجد في تاريخ نجد ، تحقيق عبد الرحمن بن عبد اللطيف ، الرياض دارة الملك عبد العزيز ، ط ٤ ، ١٤٠٢ ه‍ / ١٩٨٢ م ، ص ١ / ٢٠٩ ، ٢٦٠ ، ٣٣٤ ـ ٣٣٥. عن حاشية مترجمي رحلات بوركهارت ، موثق سابقا ، ص ٦٨. وانظر كتاب : عثمان بن عبد الرحمن المضايفي أمير الطائف والحجاز في الدولة السعودية الأولى ، تأليف د. إبراهيم بن محمد الزيد ، إصدار لجنة المطبوعات في التنشيط السياحي ، محافظة الطائف ، ط ١ ، ١٤١٨ / ١٩٩٧.

٢٥٢

أحدهما القيام بأي شيء يعارض مصلحة الآخر ، وأن يعيشا متحدين. ولقد كان باشا مصر ، على عادة الأتراك المستأصلة فيه ، يفكر ، وهو يقر بذلك العهد ، في أن يخرقه. أما الشريف فقد كان على العكس يحرص على الوفاء بعهده ، ولا يمكن حتى لألد أعدائه أن يتهمه بأي ميل لخرق ذلك العهد. ذلك هو الفارق بين العرقين : العربي يحترم العهود التي يبرمها ، أمّا التركي فلا يحترم أي شيء.

كان الشريف يقيم في مكة المكرمة في قصر محصّن تحصينا منيعا ، تدافع عنه حامية مؤلفة من ٨٠٠ رجل ، ومدفعيون ، مما يجعل السيطرة عليه مستحيلة. ولّما لم يكن محمد علي يستطيع ، مفاجأته أو القبض عليه في وسط الحاشية الكبيرة التي كانت ترافقه على الدوام عند خروجه ، فإنه دبر له / ١٩٥ / كل أنواع المكائد التي لم تجد في البداية أي نجاح. وقد كان ينوي القبض عليه ، ولو كان ذلك في المسجد الحرام ، لو لا أن القاضي أمر باحترام حرمة المكان المقدس. ثم نصب له محمد علي في نهاية الأمر فخا متقنا ، ومدبرا بإحكام فوقع فيه غالب ، وتمّ أسره مع مراعاة المظاهر الخادعة ، واكتفى بعد ذلك بالقول باحتقار : " لو أنني كنت خائنا لما حدث ذلك أبدا". ثم نفاه السلطان إلى سالونيك ، وقد مات فيها متأثرا بالطاعون في صيف عام ١٨١٦ م.

وانتهت بموته حكومة الأشراف. وكل الأشراف ـ الأمراء الذين جاؤوا بعد غالب ، عينهم الباب العالي ، واكتفوا بالمرتب الشهري المحدد الذي كان يدفعه الباب العالي. وأصبح شأنهم شأن موظفي الإمبراطورية العثمانية كلهم ، فهم لا يتمتعون إلا

٢٥٣

باستقلال شكلي ، وبسلطة اسمية. وقد كانوا يعاملون على الدوام كما يعامل شيوخ قبائل الحجاز ، كانوا يختارون من قدماء الأسرة الحاكمة ؛ ولكنهم لم يكونوا في الحقيقة إلّا موظفين لدى الحكومة التي تعينهم وتدفع رواتبهم ، شأنهم شأن الوزراء والباشاوات. وكان يحيى أول الأشراف الذين عينهم محمد علي ، ويحيى أحد أقارب غالب ، ولا يتمتع بأية موهبة ، وهو مناسب تماما لما يريده محمد علي.

لقد كان الباشا يريد أن يزيل النفوذ العريق والتقليدي لأحفاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جذوره ؛ فنفى ثلاث مئة منهم إلى مصر ، ولم يترك للآخرين إلا أعمالا ثانوية / ١٩٦ / مثل أن يكونوا على سبيل المثال ، أدلاء في جيشه. أثار سجن غالب والغدر الذي كان ضحيته استنكار العرب كلهم ضد الأتراك. وقد بدا المكّيون أنفسهم محزونيين لذلك. ولم يكن الوهابيون أبدا ليقوموا بمثل هذه الأعمال الدنيئة ، لقد كانوا عاجزين عن ذلك ، ولمّا كانت أية مقارنة بينهم وبين الأتراك ستكون لصالحهم بالتأكيد ، فإنهم قد نالوا الحظوة الشعبية لأنفسهم.

لقد دفع محمد علي ثمن غدره عددا من الهزائم التي كادت تودي بحياته ؛ أولها كانت الهزيمة الساحقة في تربة حيث انتصر الوهابيون على صفوة قواته التي كان يقودها ولده طوسون ، وهزم تلك القوات شر هزيمة عرب البقوم ، الذين يعمل بعضهم في الزراعة ، وبعضهم الآخر في الرعي ، تقودهم أو تلهمهم على الأقل امرأة اسمها : غالية (١).

__________________

(١) انظر : رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز ، موثق سابقا ، ج ٢ ، ص ٢١٠.

٢٥٤

لقد كانت غالية جان دارك الصحراء ، وكانت هي الشيخ الحقيقي للقبيلة ، وكان الأتراك بالطبع ينظرون إليها على أنها ساحرة ، وأن سحرها يجعل أنصارها لا يهزمون (١). وأذلّت القوات العثمانية بهزيمتين لم تكونا أقل عنفا من الهزيمة الأولى في زهران والقنفذة (٢) ، وهي إحدى مدن الحجاز الخمس. أمّا محمد علي فكان لا يستطيع الخروج من وراء أسوار مكة المكرمة ، وقد كانت الاتصالات مع جدة غالبا مقطوعة. وأصبح جيشه في أسوأ حال : إذ كانت الجمال تنقصهم للنقل ، وقد / ١٩٧ / هلك من ذلك الجيش ثلاثون ألفا في تلك الحرب. كانت الأغذية نادرة في كل المواقع ، وقد وصلت أسعارها حدا غير معقول. أمّا الجنود الذين كانت رواتبهم غير مجزية ، أو أنهم لا يتلقون رواتب أبدا ، فإنهم لم يكونوا يحصلون إلّا بصعوبة كبيرة على حاجاتهم الضرورية الأولية ، وقد كانوا يرفعون أصواتهم بالاعتراض ، ويفرون بأعداد كبيرة ، ولم يعد المجندون يصلون إلى الحجاز أبدا. وكان محمد علي وحده هو الذي لم ييأس ، لقد كان متأكدا أن خسارة الحجاز تعني بالنسبة إليه خسارة مصر ، وقد بذل لكي يحتفظ

__________________

(١) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٤١ ـ ١٤٢.

(٢) انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٤٥ ـ ١٤٦ ، وقال بوركهارت : " وهي ميناء يبعد عن جدة سبعة أيام جنوبا. وكانت في السابق جزءا من أراضي الشريف غالب ، ولكنها أصبحت خلال السنوات الخمس الأخيرة في يد طامي (بن شعيب) ، شيخ عرب عسير أقوى القبائل الجبلية جنوب مكة وأشد المتحمسين من الوهابيين". أما هزيمة الأتراك في زهران التي كان على رأس قبائلها بخروش بن علاس فقد تحدث عنها بوركهارت في مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٦٢ ـ ١٦٣.

٢٥٥

بالحجاز جهودا جبارة ، وأظهر حزما نادر المثال. ولما أخفق في الحرب لجأ إلى المفاوضات ، وبدأها أولا مع القبائل المجاورة لمكة المكرمة ، واستمال عددا منها بدفع مبالغ مالية كبيرة [...].

لقد أبدى محمد علي للبدو ودا ومحاباة جعلت له بينهم أصدقاء كثرا : كان يستقبلهم بلا تكلف ، ويسمح لهم بمخاطبته على طريقتهم فيما اعتادوه من عدم المجاملة ، ويغدق عليهم الهدايا ، ويدفع بكرم لكل المتطوعين الذين يقدمونهم للخدمة في جيشه ، وكان في كل الخصومات يجعل الحق دوما إلى جانبهم ضد جنوده أنفسهم. وأوغل في هذه السياسة فأصبح يستجدي رضا أهل مكة المكرمة ، ومع أنه ماسوني بالمفهوم العربي لهذه الكلمة ، أي ملحد ومشرك مجاهر ، فإنه كان يتظاهر بالحمية والإخلاص ، ويكرّم العلماء ، ويجري لهم الجرايات ، ويرمم الأماكن المقدسة ، ويتردد / ١٩٨ / بكثرة إلى المساجد ، ويؤدي بدقة الشعائر الطويلة حول الكعبة ، كان ، بعبارة واحدة ، يؤدي كل الواجبات التي يؤديها المسلم المثالي.

وعندما ظهر له أن تلك الوسائل وما شابهها جعلت الأمور تستقيم له بادر بكل قوته ، وبمساعدة فرقة من الخيالة الذين جلبهم من الصحراء الليبية ، إلى تنظيم حملة جديدة ضد الوهابيين المجتمعين في بسل ؛ وهي قرية إلى الشرق من الطائف ، وأحرز شخصيا نصرا حاسما في شهر يناير (كانون الثاني) ١٨١٥ م. كان سعود قد توفي العام

٢٥٦

الفائت (١) في الدرعية ، وانتقلت السلطة العليا الوراثية في أسرته إلى ولده عبد الله بن سعود الذي كان يتفوق على أبيه في القدرة العسكرية التي عرف بها ، ولكنه كان أقل من والده حنكة في سياسة القبائل ، وفي صيانة مصالحهم والتوفيق بينها.

لقد حصلت في بداية حكمه اضطرابات داخلية بين صفوف أسرته نفسها ، ثم امتدت تدريجيا إلى عدد من القبائل. وبدأ كبار مشائخ تلك القبائل يبدون استقلالا لم يكونوا يجرؤون على مجرد الحلم به إبّان حكم الأمير السابق الذي كان أكثر حزما ، وكانت القبائل بالإجماع تخضع لسلطته. وأضعفت تلك المنازعات الداخلية الانضباط الذي تشتد الحاجة إليه إبّان الحرب ، والذي لم يكن فقدانه بعيدا عن أن يكون السبب الرئيسي في هزيمة بسل (٢). لقد كانت كلمات سعود الأخيرة قبل موته لولده عبد الله أنه / ١٩٩ / نصح له قائلا : " لا تقاتل الأتراك أبدا في أرض مكشوفة" ؛ ولأنه لم يتبع هذه النصيحة القيمة ، وقعت تلك الطامة الكبرى (٣). لم يكن عبد الله يقود القوات

__________________

(١) مايو (أيار) ١٨١٤ م ، وجاء في عنوان المجد ، ج ١ ، ص ٢٣٩ أن وفاة سعود كانت ليلة الاثنين الحادي عشر من جمادى الأولى سنة ١٢٢٩ ه‍. وكان" موته بعلة وقعت في أسفل بطنه أصابه منها مثل حصر البول". انظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٥٣.

(٢) انظر حديث بوركهارت عن معركة بسل في مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٦٨ ـ ١٧٥.

(٣) يقول بوركهارت في : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ١٧٤ : " ... وربما كان سبب هزيمة الوهابيين نزولهم من الجبال إلى السهل ؛ إذ لم تكن لديهم أية وسائل لمقاومة الفرسان الأتراك. وكان سعود قد حذّر ابنه في كلماته الأخيرة التي وجهها إليه من القيام بمثل ذلك العمل. لكن احتقارهم للجنود الأتراك ، ورغبتهم في إنهاء الحملة ، وربما رغبتهم ـ

٢٥٧

بنفسه في معركة بسل ، بل كان على رأس جماعة من الاحتياطيين ؛ كان عليها حماية منطقة أخرى من حدوده. وكان يقود القوات الموجودة في بسل أخوه فيصل (١).

لقد تمتع الأتراك وأسرفوا في استغلال النصر بوحشيتهم المعهودة ؛ فقد كان هناك ثلاث مئة من الأسرى الذين وعدوا بصيانة حياتهم ، ثم رفعوا على الخوازيق بأمر من محمد علي : خمسون على أبواب مكة المكرمة ، ومثلهم على باب جدة ، والباقون على طول الطريق الواصل بين المدينتين. وظلت أجساد أبناء الصحراء الشجعان معروضة حتى ملأت الضواري والوحوش بطونها من لحومهم. ويمكن لهذا التصرف الفظيع أن ينبئ بالفظاعات الأخرى. ومن بسل سار الباشا على طريق اليمن ، حيث كان عدد

__________________

ـ في اعتقال محمد علي شخصيا ، من الأمور التي جعلتهم ينسون الأسلوب الحكيم الذي اتبعوه في الحرب من قبل ...". وجاء في : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٥٣ : " ... ويقال إن كلمات سعود الأخيرة كانت موجهة إلى ابنه عبد الله ناصحا إياه بقوله : " لا تقاتل الأتراك في أرض مكشوفة" وهذا مبدأ لو اتبّع بدقة لمكّن شعبه ، بدون شك ، من استعادة الحجاز".

(١) فيصل بن سعود أخو عبد الله أمير الوهابيين ، كان أوسم رجل في الدرعية وألطفهم ، ويحبه العرب كثيرا قتل أثناء حصار الدرعية ١٢٣٣ ه‍. عنوان المجد ، ج ١ ، ص ٢٧٢.

وكان لسعود أبناء آخرون غير عبد الله وفيصل ، وهم ناصر الذي توفي عام ١٢٢٥ ه‍ ، وتركي بن سعود الذي توفي قرب نهاية حصار الدرعية. وإبراهيم الذي قتل في أثناء حصار الدرعية ، أما فهيد (فهد) وعمر فقد كانا ضمن من نقلهم محمد علي إلى مصر سنة ١٢٣٤ ه‍ ، ومن أبناء سعود أيضا مشاري وسعد وعبد الرحمن وحسن وخالد ، انظر : آل سعود ، ص ١٦ ـ ١٧ ، وعنوان المجد ، ج ١ ، ص ٢٧٢ ، ٢٠٣ ـ ٢٠٥ ، ٢٧٦. وانظر : مواد ... ، موثق سابقا ، ص ٣٣ والحواشي.

٢٥٨

الوهابيين كثيرا ، وكان يأمل أن يحقق غنائم كثيرة ، لأن تلك المنطقة تشتهر في الشرق بغناها الفاحش ، ولكن القوات عانت معاناة كبيرة في مسيرتها ، ولم تكد تصل إلى منتصف الطريق حتى تمردت ، ورفضت الذهاب إلى أبعد من ذلك : فدفع ذلك الوضع الباشا إلى الأمر بإرسال تلك القوات إلى مكة المكرمة ، ومن هناك إلى مصر ليستبدل بها قوات أخرى جديدة.

وإن هذه الحملة الفاشلة أعطت بفشلها محمد علي / ٢٠٠ / فرصة لإظهار حقده وممارسة قسوته على بعض أحد شيوخ القبائل الذين مكنته الخيانة من القبض عليهم. فأمر حرسه الخاص بقتله أمام عينيه شر قتلة ؛ إذ طلب من حراسه الخاصين أن يجرّحوه ببطء بسيوفهم لكي يطول عذابه ، فقضى المقدام العربي المسمى بخروش (١) نحبه دون أن تصدر عنه أنة ألم واحدة. أمّا محمد علي الذي كان راضيا عن الانتصار الذي حققه في بسل ، وارتأى أنه حقق ما يكفي لرفعة مجده ، ولمصلحته عندما خلّص المدينتين المقدستين ، فإنه عرض شروطا للصلح على عبد الله بن سعود ، وذهب إلى المدينة المنورة لانتظار النتيجة التي ستسفر عنها عروضه السلمية. وكان طوسون باشا قد سبق والده إلى المدينة المنورة ، وكان حين وصول أبيه في منطقة القصيم ؛ وهي إحدى مناطق النفوذ الوهابي ، لإبرام سلام باسمه مع أمير الدرعية ، وفي هذه الأثناء كان محمد علي الذي لم يدعم ابنه لا بالمال ولا بالرجال

__________________

(١) في الأصل Bakroud والصواب Bakrouch انظر : مواد لتاريخ الوهابيين ، الترجمة العربية ، موثقة سابقا ، ص ١٨٣ ـ ١٨٤.

٢٥٩

يبحر ثانية وبسرعة إلى مصر التي كان يرى أنها تمر بفترة حرجة ، وهي مهددة بأن يهاجمها أسطول الكابتن باشا. وعندما وصلته معاهدة الصلح التي أبرمها ولده ، لم يرفض الموافقة عليها ، ولكن غموض لغته أثبتت لأقل الناس بصيرة أن له مطامع مستقبلية في الجزيرة العربية. وتحقق ذلك في عام ١٨١٦ م عندما قام بإرسال ابنه البكر إبراهيم باشا مع جيش جديد ، هدفه الاستيلاء على الدرعية ، وتقويض / ٢٠١ / دعائم الحكومة الوهابية تماما. وقد أبدى إبراهيم في هذه المناسبة شجاعة وكفاءة لا يمكن إنكارهما ، وأظهر حزما تكلل بالنجاح ، واستطاع أخيرا في سبتمبر (أيلول) ١٨١٨ م بعد سنتين من الجهد المستمر ، والنضال بلا هوادة ، الاستيلاء على الدرعية (١) التي هدمها رأسا على عقب ، وأجبر السكان على البحث على ملجأ في مكان آخر. وأخضع نجدا كلها ، واستطاع بفضل مساعدة باشا البصرة أن يصل بجيشه الظافر إلى ما وراء جبل شمر باتجاه بغداد.

لقد دافع عبد الله بن سعود عن عاصمته بتصميم كبير ، وشجاعة نادرة ، ولكنه لم يلق في دفاعه دعم السكان الذين أنهكهم الحصار الطويل ، وثبط هممهم ، والذين كانوا يفضلون الحظوظ التي سيوفرها لهم الاستسلام ، على الويلات التي

__________________

(١) حطم إبراهيم باشا الدرعية تماما سنة ١٨١٨ م / ٨ ذي القعدة ١٢٣٣ ه‍ ، وفي سنة ١٨٢١ كانت سيطرة المصريين تامة على الحجاز ، بينما ظلت نجد أقل أهمية بالنسبة إلى المصريين ؛ وهكذا تمكن ابن عم لسعود بن عبد العزيز هو (تركي بن عبد الله بن محمد ابن سعود) أن يقود ثورة اختار الرياض لتكون عاصمة له وظلت كذلك حتى اليوم. انظر : الحركة الوهابية في عيون ... ، موثق سابقا ، ص ٦٩ ، الحاشية (١٦).

٢٦٠