رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

فراشه ننتظر مستسلمين انجلاء المحنة على أي وجه ؛ ناهيك عن أنه كان علينا أن نحافظ على توازننا / ٩٧ / لأن ميل المركب كان شديدا ، ويجعل فرشتينا تنقلب إحداهما فوق الأخرى كأنهما ورقتا كتاب ، ويسطحنا بينهما كأننا نبتتان في كتاب الأعشاب ، ثم يقذفنا بعنف على جانبي المركب متعرضين لخطر أن تهرس رؤوسنا ، زد على ذلك أن الماء كان يتسرب من كل مكان ، وكأنما كنا نسبح في مياه البحر حقا. ولحسن الحظ أننا لم نصب بدوار البحر مما كان سيزيد الطين بلة.

استمر ذلك الكرب طوال الليل ، كانت ليلة طويلة من ليالي الشتاء ، ولم يضع النهار حدا لذلك الكرب ، بل كان استمرارا لليل وأكثر سوء منه : واستمرت العاصفة حتى المساء ؛ حينئذ فقط ارتحنا بعض الارتياح ، وسمح لي بمغادرة فراشي وسجني. ولما كان القول : عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم صحيحا كل الصحة فإن العاصفة دفعتنا في وجهتنا التي نريد ، وكان لها على الأقل ميزة ، تكمن في أنها جعلتنا نقطع في وقت قليل مسافة كبيرة من الطريق. وألقينا المراسي عند غياب الشمس ، في جزيرة مقفرة ورملية اسمها نعمان ، تقع على مقربة من الشاطئ الذي تقع عليه ضبا ؛ وهي قرية كبيرة من العربية الصخرية مشهورة بطيب مياه آبارها.

إن خليج العقبة الذي قاسينا ما قاسينا في تجاوزه ، وترك في نفسي ذكريات مؤلمة ، هو مثل خليج السويس جون صغير على البحر الأحمر الذي ينفتح / ٩٨ / في هذا المكان ليوسع مكانا لشبه جزيرة سيناء. لقد اكتسب خليج العقبة اسمه من قلعة (١) قديمة مهدمة اليوم ، تكاد تشغل كل مؤخرته ، وتحدد أقصى الأراضي المصرية.

__________________

(١) انظر وصفا لهذه القلعة في كتاب : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ١٩٤ ـ ١٩٥.

١٤١

وادعى مؤخرا أحد البريطانيين ، وهو الكابتن ألان W.Allan ، أن هذا الخليج كان في أحد الأيام الغابرة متصلا بالبحر الأبيض المتوسط عبر البحر الميت وبحيرة طبريا ، واستند في ذلك على التوضعات الأرضية الممتدة من القواعد الشمالية في لبنان حتى البحر الأحمر ، والتي ليست إلّا واديا عميقا ، واستند أيضا على اختلاف بالغ في المستوى مع البحر الأبيض المتوسط ، حتى إنه يتجاوزه في بعض الأماكن ٤٠٠٠ متر. وهو يرى ، والحالة هذه ، أنه إذا تم حفر قناة في محيط جبل الكرمل فإن البحر سيندفع في هذه اللجة ليتصل بالبحر الأحمر كما كان الأمر في غابر الأزمان.

إن أكبر بحيرتين في فلسطين ستلتقيان بسهولة مع البحر الأحمر كما يفترض آلان بوساطة قناة ثانية تحفر من البحر الميت إلى خليج العقبة. وتصبح الصحراء السورية بذلك محيطا ، ويصبح البحران بحرا واحدا. وإن كان هذا المشروع العملاق ممكن التنفيذ ، فإنه سيغني عن شق القناة الحالية في مضيق السويس ، ويجعل الوصول إلى الهند أكثر سهولة.

لقد عوضنا اليوم التالي عن المحن الصعبة التي مررنا بها في اليوم السابق : فالهواء الذي كان على الدوام مؤاتيا جدا ، أصبح أكثر تناسبا مع طاقة / ٩٩ / الإنسان ، أما البحر الذي كان ما يزال في الصباح هائجا ، فإنه هدأ تدريجيا. واستعاد طاقم البحارة شجاعته ؛ ولمّا لم يكن لديهم ما يفعلونه ، فقد أخذوا في الغناء ، حتى الخادم التركي نفسه ، كان بعد أن زال عنه الرعب ، يغني كالآخرين ، ويزعم أنه لم يعرف الخوف لحظة

١٤٢

واحدة. نزلنا إلى البر مساء في الوجه التي تلفظ وش (١) Ousch. استقبلنا عند نزولنا بعض الجنود الأتراك الذين كانوا حامية في هذا المكان البعيد. وكان أحدهم ، ويا للمفاجأة السعيدة ، يتحدث الفرنسية ، وكان يقول : إنه من إستانبول ، وربما كان أحد الجنود الفارين من جيشنا ، وسواء أكان فارا أم لا ، فإنه أبدى اهتماما كبيرا بنا ، وكان لطيفا كل اللطف ، وقدم لنا خدمات صغيرة متنوعة. قضيت الأمسية معه جالسين أمام القهوة ، وحولنا بالطبع بعض السكان الأصليين الذين يمكن بالتأكيد تفهم فضولهم الذي لم يكن على أية حال مزعجا.

إن رؤية أوروبي في هذه الأنحاء شيء نادر ، ولما وصلت أنباء وصولنا إلى بدو الجوار ؛ وهم أعراب من قبيلة بلي فإنهم حملوا إلينا أغذية من كل الأنواع ، البيض ، والخراف ، والحليب ، والسمك ، والخبز أيضا ، حتى إنه أصبح من السهل علينا أن ندعم مخزوننا من الطعام اللازم للرحلة ونجدده.

كان الجو لطيفا ، وكان البحر الذي استعاد هدوءه يأتي لتتكسر أمواجه على الساحل الرملي ، وكانت أسراب من النوارس تحلق فوق سطح البحر. تحتوي قرية الوجه على قصر يحمل الاسم نفسه ، يقع على بعد فرسخين أو ثلاثة فراسخ إلى الداخل / ١٠٠ / على طريق قافلة الحج المصرية الكبرى من القاهرة إلى مكة المكرمة ، وإذا صدقت الروايات ، فإن هناك إلى جهة الشمال البعيد ، على بعد خمسة

__________________

(١) انظر : رحلات في شبه الجزيرة العربية ، بوكهارت ، موثق سابقا ص ٣٩١. قال : إنها محطة توقف للحجيج اسمها الوجه (وتنطق أيضا الوش El ousch). وتسميتها الوش تأثر باللهجة المصرية.

١٤٣

أو ستة أيام من المسير ، وعلى بعد ١٤ يوما من العقبة ، على طريق قافلة أخرى ؛ هي قافلة دمشق ، آثار في غاية الروعة ؛ إنها مدائن صالح (١) ؛ حيث مازلنا نرى هناك منازل يبلغ عددها بين ٨٠ إلى ٩٠ منزلا ، منحوتة ومحفورة في الصخور ، وهي كلها تقريبا مؤلفة من صالة كبيرة ، ومن عدد من المقاصير الصغيرة ، ومن مكان للصلاة ، ويوجد على أبواب أغلبها نقوش تمثل نسورا ، ولكن الحجاج حطموا كل ما وصلت إليه أيديهم منها ، وظل عدد قليل منها لم تمتد إليه يد التحطيم. وإن على الصخور المستخدمة في بناء جدران هذه البيوت الغربية نقوشا لم يستطع أحد فك رموزها أبدا ، أو الوصول إليها بسبب علوها : إننا نجهل اللغة التي كتبت بها تلك النقوش (٢). ويوجد في هذا المكان آبار كثيرة ولكن ماءها مر ، وهواؤها فاسد ، ويظن الناس أنه مشحون بالسموم. ويعدّ المسلمون هذا المكان من الجزيرة العربية مكانا مشؤوما منذ الأحداث التي رافقت قصة ناقة النبي صالح عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) تحدث عنها بالتفصيل هاري سنت جون فيلبي في كتابه : أرض الأنبياء ، مدائن صالح ، تعريب عمر الديراوي ، منشورات المكتبة الأهلية ، بيروت ، ١٩٦٢ م ؛ وانظر : مدائن صالح ، محمد عبد الحميد مرداد ، المكتبة الصغيرة ، ٢٩ ، د. ن. ، ط. ٢ ، ١٣٩٩ ه‍ / ١٩٧٧ م ؛ وانظر : شمال الحجاز ، أ. موسل ، نقله إلى العربية د. عبد المحسن الحسيني ، الإسكندرية ، ١٩٥٢ م ، ص ٦٩ ـ ٩٦.

(٢) بل إنها كتبت بالخط النبطي المعروف. وهناك دراسات كثيرة تمت عليها ، ولعل الاطلاع على كتب الدكتور سليمان الذييب المتعلقة بنقوش شمال غرب المملكة تغني في هذا المجال.

(٣) في الأصل : منذ هياج الجمل المعروف الذي روضه النبي صالح :

depuis la revolte d\'un chameau traditionnel dompte par le prophete Salih.

وأثبتنا في الأصل ما هو ثابت في نص القرآن الكريم عن قصة النبي صالح عليه‌السلام. لأن ما أثبته المؤلف اختصار مخل للقصة المعروفة.

١٤٤

وإن قافلة الحج الشامية التي تجد نفسها مضطرة لعبور هذا المكان الملعون في الذهاب والإياب تفقد في كل مرة عددا من حجاجها ، وخصوصا أولئك الذين في قلوبهم مرض. / ١٠١ /

إذا ، أي مدينة هي تلك المدينة المجهولة ، المدفونة في حضن الصحراء؟ من أسسها؟ ومن سكنها؟ ومن هدّمها؟ إن وجودها مشكل ، ومصيرها لغز عويص. يخيم الصمت على ماضيها كما يخيم على آثارها. وإن كل ما قلته هنا هو ترداد لما أخبرت به ، لأن شيئا لم يكتب أبدا ، حسب علمي ، بخصوصها. وإنني إذ أقدم للقارئ ما انتهى إلى معرفتي من معلومات عنها فإنّني أدعوه إلى أن يأخذها مع الاحتفاظ بحق المراجعة ، كما فعلت ذلك أنا نفسي (١).

حصلت على هذه المعلومات من باشا المدينتين المقدستين الذي أكد لي أنه رأى الأمور بعينه ؛ وأقرّ أن ذلك ليس ضمانة صدق ، أو دقة. وليس هناك في الشرق ما هو أصعب من الحصول من أي كان ، وحول أي موضوع كان ، على معلومات ، وإن كانت إيجابية. وينبغي أن يسيطر الحس النقدي على أكثر الأقوال تأكيدا لمراقبتها. وتكمن الصعوبة في أبسط الأشياء ؛ فأنا على سبيل المثال أتحدى إن كان بالإمكان أن يعرف على وجه الدقة مقدار المسافة التي تفصل بين المكانين ، وكلما طرحت على الريس سؤالا من هذا النوع فإنه يصرخ في الإجابة قائلا : " إن الله مع الصابرين". لم ننزل

__________________

(١) قصّ علينا القرآن الكريم خبر قوم صالح في عدد من السور ، ونذكر هنا ما جاء في سورة الشمس حيث قال تعالى : (... كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥)).

١٤٥

إلى اليابسة أبدا في الأيام الثلاثة التالية وهي ٣ ، و ٤ ، و ٥ فبراير (شباط) ، وكنا على مسافة بعيدة عن الشاطئ حتى إننا لم نكن نراه في بعض / ١٠٢ / الأحيان.

كنا في الليل نتوقف في وسط البحر ، وكان الجو في الأيام الثلاثة المذكورة رائعا : لم يكن في السماء أي سحاب ، وكان البحر خفيف الموج ، ولم يكن هناك هواء إلّا ما يكفي لنشر أشرعتنا. وبعد أن كنّا قد تعرضنا لهزات عنيفة أصبحنا الآن نتحرك بلطف وكأننا في المهد.

كنت مستلقيا في مؤخرة المركب على سجادة غطينا بها الكوثل ، وكان هناك سجادة أخرى نصبت فوق رأسي تحميني من الشمس التي كانت شديدة الحرارة في هذا الفصل. كنت أقضي الوقت ، وأنا أحلم ، وأتأمل ، وأستنشق النسيم البحري ، وأنتشي بهذه السماء ، وبهذا البحر الرائع ، ومرت ساعات العبور الطويلة بسرعة ودون ملل. كان الساحل الأفريقي قد غاب عن الأنظار منذ فترة طويلة ، ولكن ساحل الجزيرة العربية أصبح ظاهرا للعيان منذ اليوم الأول ، كان محاطا بسلسلة من الجبال الحمراء التي كانت نتوءاتها الطويلة وقممها المسنونة تلفت النظر بتنوع أشكالها ، وكانت منذ طلوع الشمس حتى غيابها تتلون بكل الألوان ، وبكل ظلال الطيف الشمسي. وإن أكثر الجبال ظهورا من تلك السلسلة هي : جبل رعل (١) (رعال) ،

__________________

(١) جاء في معجم معالم الحجاز ، عاتق بن غيث البلادي ، دار مكة المكرمة ، ١٤٠٠ ه‍ / ١٩٨٠ م ، ج ٤ ، ص ٧٥" رعل أو رعال : مكان ذكره فيلبي وقال : يقع جنوب شرقي أم القرايا ، وإنه مقر شيخ قبيلة بلي المعروف بابن رفادة ، وترتفع رعال (٣٠٠٠) قدم وتشرف على وادي الحمض" ؛ وانظر : أرض الأنبياء ، مدائن صالح ، لفيلبي ، تعريب عمر الديراوي ، المكتبة الأهلية ، بيروت ، ١٩٦٢ ، ص ٣٣٣. وكتبت في الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥٠Ghal وهو خطأ.

١٤٦

وسفخة (١) (؟) Safkha ، وجبل كركما (٢) ، وهي أسماء أخذتها من فم الريس وكتبتها كما كان يلفظها.

وإذا انحدر النظر من الجبال إلى البحر فإننا نؤخذ بتنوع الألوان الذي ينتج ، حسب ظني ، عن اختلاف الأعماق : فهو هنا لون / ١٠٣ / أخضر مائل إلى السواد ، وهناك لون أبيض معكر ؛ وفي مكان آخر يتلون بفروق اللون الأزرق كلها من الأزرق الصافي إلى الأزرق النيلي الغامق جدا ؛ وهو في كثير من الأمكنة يكتسي اللون الأحمر القاني. وإن هذا اللون يكتسبه البحر دون شك من الرصيف المرجاني الضخم الذي ينتشر فيه وفي كل الجهات ، وإنه من المحتمل على الأقل أن هذا البحر اكتسب اسمه من هذا الظرف الطبيعي. إن أبسط قواعد الاشتقاق هي أكثرها قبولا ، وخصوصا تلك التي تقوم على وقائع مادية وملموسة. لقد سمعت من ينسب صفة الأحمر إلى قبيلة عربية تعيش على سواحله وتحمل هذه الصفة نفسها. ولكن ذلك قول فيه بعض العشوائية ؛ لأن تلك القبيلة لم تعد موجودة ، وربما لم تكن موجودة في يوم من الأيام : ولكن إذا افترضنا أنها وجدت في يوم من الأيام فإن ما ينبغي معرفته إن كانت هي التي أعطت البحر اسمها ، ولماذا لا يكون البحر هو الذي أعطاها اسمه.

__________________

(١) كذا كتبت في الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥٠ ولم أجدها.

(٢) رأس كركما : ميناء صغير جنوب الوجه عند مصب وادي المياه ، على رأس مشهور يحمل الاسم نفسه ، وأهل هذا الميناء يشتغلون بصيد السمك ، وبيع بعض الحاجيات إلى البادية ، وهم من بلي. وقد كتبها ديدييه Korkoum. وقال فيلبي في : أرض الأنبياء مدائن صالح ، موثق سابقا ، ص ٣٣٥ : " ... وتفضي هذه الطريق (من الوجه إلى العلا) إلى الدلتا الفعلية لوادي (حمضة) (كذا والصواب : الحمض) الذي يمتد مسافة بعيدة إلى الغرب حيث يقع المرتفع المعروف باسم (رأس كركمة) وهو مرتفع يتوجه رأس أصفر اللون. ومن هذا اللون اكتسب المرتفع اسمه. و (الكركم) باللغة العربية نبات يعطي لونا أصفر". وفي الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥٠Karkamah

١٤٧

وما دام الحديث عن الاشتقاق يجر بعضه بعضا فإنني أقدم اشتقاقا ، ولا أدّعي أنه الصحيح ، ولكنّه الاشتقاق الذي أراه صوابا. تسمي العرب جهنم الدار الحمراء ، وإن لهذه الصفة لديهم على الدوام دلالة شؤم ؛ فهل من المستحيل إذا أن يكونوا قد أطلقوا على هذا البحر المهلك بسبب أخطاره المحدقة ، وأحداثه الفظيعة اسما يقترن بالرعب الذي يلقيه في نفوسهم؟

توقفنا في الليلة الأولى بين دكتين من / ١٠٤ / الصخر تظهران على وجه الماء ، وهما ملجأ ممتاز للاحتماء من المد البحري ؛ لأن الموج يأتي ليتحول إلى زبد في كلا الجانبين ، في حين أن الوسط يبقى هادئا تماما. يسمّى هذا المكان" أبو حرير" (١) : ليس بالأمر السهل أن نكتب بالأحرف الفرنسية الأصوات الحلقية العربية ، وخصوصا عندما لا نكون قد رأيناها قط مكتوبة. رسونا في الليلة التالية لنحتمي بجزيرتين تفصلهما قناة ضيقة تسمى الأولى لبانة والأخرى جبل حسّان (٢) ، وتسكن الجزيرتين في

__________________

(١) في الأصل Bou Kharid ثم يصحح المؤلف فيقول والأصح Abouharir. وانظر : الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥٠.

(٢) لبانة جزيرة في البحر الأحمر مقابل مدينة أم لج تقع على مسافة كيلومترين غرب جزيرة الحساني وعلى الطرف الغربي للشط الصخري ، ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر ٧٦ م ، تمتلئ المياه حولها بالشعاب المرجانية والصخور الغاطسة. انظر : جزر البحر الأحمر (الملف العلمي) مجموعة من المؤلفين ، موثق سابقا ، ص ٧٠٩. وقد كتبها ديدييه Libna. والصواب Libana. أما حسان : بفتح الحاء والسين المشدة المفتوحة فألف ونون. فقال البلادي في معجم معالم الحجاز هو : جبل في البحر غربي أم لجّ تغيب عليه الشمس ، فيه أشجار وليس به سكان إلّا من ينجعه من بعض الناس إذا ـ

١٤٨

أيام الرعي قبيلة جهينة العربية التي تعيش على الساحل ، وتحمل قطعان ماشيتها على الفلك. وقد كانت حين لجأنا إليها مقفرة ، ولكننا نرى فيها أكواخا بناها الرعاة ، ثم تركوها حتى موسم الرعي القادم. إن لهؤلاء البدو ، شأنهم شأن بدو الساحل كلهم ، سمعة سيئة لدى البحارة ، لأنهم يعدونهم لصوصا من ذوي الجرأة ، يسطون في أغلب الأوقات على المراكب ، أو إنهم يأخذون منها جعالة على الأقل : لذلك يحرص البحارة على تجنب الاقتراب منهم ، ويظلون بمراكبهم على مسافة آمنة من المناطق المشبوهة.

وينبغي أن أشير هنا إلى أن الريس قدّم لبحارته ولنا القهوة إكراما لأحد أولياء الله المسلمين المدفون في جزيرة مجاورة ، واسمه الشيخ حسن المرابط (١) (بكسر الميم)

__________________

ـ أعشب ، وقد قرأت لمن كتبه حسّاني بياء النسبة ، وهو خطأ ، وهذا الجبل يكوّن جزيرة تتبعها أخريات صغار. انظر : معجم جبال الجزيرة ، عبد الله بن خميس ، الرياض ، ط ١ ، ١٤١٠ ـ ١٩٩٠ ، ج ٢ ص ٢١٠ ؛ وانظر معجم معالم الحجاز ، البلادي ، ١٣٩٩ ه‍ / ١٩٧٩ م ، ج ٣ ، ص ٦ ؛ وانظر جزر البحر الأحمر (الملف العلمي) ، مجموعة من المؤلفين ، الجمعية العلمية الملكية الأردنية ، ١٩٨٩ ، ص ٧٠٩ حيث سميت جزيرة الحساني ، وقيل إنها جزيرة ذات سطح جبلي ، ويبلغ أعلى منسوب بها ١٤٦ م عن سطح البحر ... ويوجد إلى الجنوب منها ممر ملاحي ضيق يؤدي إلى ميناء أم لج. وقال فيلبي في : أرض الأنبياء مدائن صالح ، موثق سابقا ، ص ٣٤٠ ، «... وقد جرى الحديث (في أم لج) في يوم من الأيام حول الاستفادة من مخزون (سماد الطيور) في الجزر القريبة من الشاطئ ، تلك الجزر التي تعتبر أكبرها جزيرة (حساني) ، وتبعد مسافة ليست كبيرة عن الشاطئ ، ولا يسكنها إلا أسراب كبيرة من الطيور البحرية". وانظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٧٨ ، ١٨٠.

(١) انظر : رحلة بيرتون ، موثق سابقا ، ج ١ ، ص ١٧٨.

١٤٩

ويلفظه البحارة / ١٠٥ / مرابط (بضم الميم) ، وهو اسم تحول في الجزائر إلى مربوط (مارابوMarabout) ، والمرابط هو الذي نذر نفسه للدفاع عن الدين. وإن الولي المذكور هو سيّد هذه الأنحاء التي يلقى فيها تبجيلا عظيما. لا تمر سفينة بجوار ضريحه دون أن تطلب عونه ، ودون أن ترسل إلى ضريحه الذي تحرسه أسرة عربية ، أعطية من الطحين أو القمح(١).

إن البحارة المحليين مفرطون في التطيّر ، فناهيك عن تبجيلهم الأولياء وإخلاصهم لهم ، فهم يعتقدون أن قاع البحر مسكون بالجن ، وأن منهم الأخيار ، ومنهم الأشرار ، وقد سبق لنا أن تأكدنا من ذلك عند بركة فرعون ؛ إنهم ينسبون للجن الأخيار الإبحار الموفق ، ويتهمون الأشرار بأنهم يهيجون الأمواج ، ويعصفون الرياح ، ويجذبون السفن إلى وسط المهالك. لذلك لا يفوت البحارة أبدا أن يخطبوا ودهم بأن يرموا لهم في البحر ما تحتويه وجباتهم ، بعض حبات من التمر ، وقبضة من الطحين ، وفي بعض الأحيان رغيف خبز كامل لكي يكون للأرواح الشريرة نصيبها أيضا (٢).

لم نكن نرى اليابسة في يومي ٤ و ٥ فبراير (شباط) ، ولكنها عادت إلى الظهور ، ورأيت عند الظهور الشمس ، في الأفق مدرجات جبلية رائعة يتلو بعضها بعضا ، وهي

__________________

(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٩١ ، وقارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٨.

(٢) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٩٠ ـ ٣٩١.

١٥٠

مقسمة بمهارة عجيبة ، وإن أقرب سلسلة تسمى نبط (١) ، وأبعدها / ١٠٦ / أبو غريرAbou Gharir. وتعلو قمة جبل المهر المخروطية على كل القمم الأخرى. وتمتد تلك الجبال نحو الجنوب ؛ وخلف هذه الحبال تقبع المدينة المنورة ، ووراءها باتجاه الشمال الشرقي صحراء نجد الشاسعة التي يفصلها عن بغداد جبل شمر ، ويوجد في تلك الصحراء أكثر جياد الجزيرة العربية قيمة. وبعد أن تجاوزنا من مسافة بعيدة جدا رأس بريدي Baridi ، توقفنا للمرة الثالثة في عرض البحر ، بعيدا عن التيارات البحرية العميقة المحملة بالصخور ، يساعدنا في ذلك استمرار الطقس الرائع. وأجد نفسي عاجزا عن وصف ذلك الجمال ، الذي يستعصي على الوصف لتلك الأمسيات التي قضيناها في عرض البحر ؛ روعة غروب الشمس التي كانت تتكرر في كل يوم ، ولكنها كانت تختلف على الدوام. أما في هذا اليوم ، فقد كان المشهد أكثر تألقا أيضا من اليوم السابق ، لو كان بالإمكان ذلك ، كانت ألوان السماء والبحر أكثر توهجا ، والطبيعة كلها أكثر روعة وأكثر هدوءا. لم يكن في البحر موجة واحدة ، ولم يكن في السماء أية سحابة. وكانت قمة جبل رضوى التي كنا نراها من موقعنا الذي رسونا فيه ، مضاءة

__________________

(١) كتبها ديدييه Nabt وهو مكان معروف. أما جبل المهر فقد كتبها ديدييه Mahar ، وجاء في : معجم معالم الحجاز ، للبلادي ، ١٤٠٢ ه‍ / ١٩٨٢ م ، ج ٨ ، ص ٣٠١ ـ ٣٠٢ : أن المهر جبل بطرف حرّة عويرض من الشمال ، أسود طويل لبني عطية ، تدعه سكة حديد الحجاز إلى المدينة يمينها ، يصب ماؤه في سهل المعظم. ولم أجد : أبو غرير فتركته كما كتبه المؤلف. وانظر : الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥١.

١٥١

وكأنها منارة ضخمة ، وكانت ما تزال تلتمع ، مع أن الشمس اختفت خلف البحر. ومع أن نجم سهيل كان يتبعها عن قرب ، ويسبح في فلكها المتوهج فإنه كان يلتمع على حافة الأفق لمعانا فريدا. وكانت النجوم الطالعة شاحبة حوله ، ولا تبدأ بالالتماع إلّا عندما تبدو هي نفسها تسبح في المدى الرحيب. / ١٠٧ /

قريبا سيظهر القمر ، وسيتلو السنا الذي انطفأ منذ قليل ظلام غير كثيف ، أو بعبارة أدق ، ضوء خفيف تراه في ليلة من الليالي الرائعة في آسيا ، التي هي أكثر ألقا من أيام طقسنا السديمي (يقصد في أوروبا). كان السنبوك ، وهو مستقر في مرساه ، يلفه الصمت والظلام ، وكان الجميع على متن السنبوك يغطون في نوم عميق ، إلّا أنا ؛ إذ لا يستطيع النوم أن يسلبني ميزة التمتع بهذه الأمسية الجميلة.

كان ذلك مظهرا من مظاهر التهاون واللامبالاة لدى الملاحين العرب ، الذين لم يكن أي منهم يقوم بنوبة الحراسة! لقد تركوا المركب طوال الليل في حراسة الله. كانت الأمسية الهادئة والليلة الجميلة تنبئان أن البحر سيكون هادئا في اليوم التالي ، وقد حصل ذلك بالفعل إبّان فترة الصباح كلها.

أمّا البحارة الذين لم يكن لديهم منذ غادرنا السويس ما يفعلونه تقريبا ، فقد بدؤوا بالتجديف الذي كان يترافق لشحذ الهمم بغناء رتيب وحزين ، لم أحفظ منه إلا الكلمة الأولى ، يا سيدي ، لأنها كانت تتردد كثيرا ، وعلى الدوام بالتنغيم نفسه. يقوم البحارة ، شأنهم شأن العرب كلهم ، بكل أعمالهم على وقع الغناء ، فهم ، سواء كانوا ينشرون الأشرعة أم يطوونها ، وسواء كانوا يلقون المرساة أم يرفعونها ، يغنون معا لزيادة

١٥٢

السرعة وللعمل بتوافق ، وإن لكل مناورة نصها الغنائي الخاص ، ولكن ذلك لم يكن ليمنع من تنفيذ المناورة بكثير من الاضطراب والبطء (١). لكن الهدوء لم يستمر على كل الأحوال طويلا ؛ إذ هبّ بعد عدة ساعات هواء الشمال ، الذي يهب لمدة تسعة أشهر في السنة على البحر الأحمر ، والذي يسهم في سرعة الإبحار ، مما جعلنا نصل عند الظهيرة إلى ينبع(٢).

إن ينبع ميناء المدينة المنورة ، تبعد عنها مسيرة خمسة أيام إلى الشرق : وميناؤها واسع ، وآمن جدا ، لأنه محمي بجزيرة العباسي (٣) ، ويغشاه الناس كثيرا. إن السفن التي تذهب من السويس إلى جدة ومن جدة ، إلى السويس تلقي مراسيها كلها فيه ، وهناك رحلات تكاد تكون يومية مع القصير ؛ وهي مدينة بحرية صغيرة تقع في الأراضي المصرية ، وتصل البحر الأحمر بالنيل عن طريق قنا (٤).

__________________

(١) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) انظر : بلاد ينبع ، لمحات تاريخية جغرافية وانطباعات خاصة ، حمد الجاسر ، دار اليمامة ، الرياض ، ١٩٦٦ م. وانظر كتاب التراث الشعبي في أدب الرحلات ، د.

أحمد عبد الرحيم نصر ، الدوحة ، ١٩٩٥ ، ص ٦٤ ـ ٦٥.

(٣) العباسي كتبها ديدييه Al ـ Abbari ولعله خطأ مطبعي إذ الصواب العباسي ، انظر كتاب بلاد ينبع للشيخ حمد الجاسر ، موثق سابقا ، ص ١١٦. وقد كتبت في الترجمة الإنجليزية لرحلة ديدييه ، موثق سابقا ، ص ٥٢Al ـ Abhari وهو خطأ أيضا.

(٤) هذا طريق تجارة داخلية يمتد من القصير إلى الغرب عبر قنا ويمثل خط الاتصال بين الصعيد والبحر الأحمر به طرق للقوافل تستغرق أربعة أيام من قنا إلى القصير. انظر كتاب : مصر في كتابات ... ، موثق سابقا ، ص ٢١٥ ، ٣٦٤.

١٥٣

ينبع مدينة ذات أهمية ضئيلة ، سيئة العمارة ، تكاد تكون مقفرة ، ومشبعة بتلك الرائحة المقززة الخاصة بالمدن العربية ، والتي وجدتها نفسها في المغرب وفي طرابلس الغرب وفي مصر وسورية. وينبع محاطة بسور مهدم في كثير من المواضع ، يوشك أن يسقط في كل أجزائه ، ومحصن بأبراج هي في حالة تشبه حالة السور سوءا. ويقسم خور الخليج المدينة إلى قسمين غير متساوين ، ويشكل أصغر القسمين ما يشبه الربض (الضاحية) تسمى القعد ويسكنها البحارة (١). وإن سوق ينبع كثير السلع ، ويباع فيها التمر ذو النوعية الجيدة ؛ وإن تمور المدينة مشتهرة بأنها أفضل تمور العالم. والتمر هو الغذاء المفضل لدى البدو ، وهم يطعمونه / ١٠٩ / أحصنتهم أيضا. لقد باركه النبي (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويتكرر ذكره في آلاف المواضع في كتب الشرق المقدسة أو غيرها. ويؤدي دورا رئيسيا في الروايات الشفوية في الصحراء.

لقد قمت بجولة طويلة عبر شوارعها ، ولكنني لم أستفد من ذلك شيئا ذا بال.

رأيت عددا من البيوت الخربة التي لا يكلف الناس أنفسهم ، كما هي العادة في البلاد الإسلامية ، عناء إصلاحها أو إزالة أنقاضها التي تضفي على تلك المدن المهدمة هيئة كئيبة.

__________________

(١) أما القسم الكبير فيسمّى : ينبع. انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨٣.

(٢) ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الشأن هو حديث عائشة رضي‌الله‌عنها من قولها : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : " لا يجوع أهل بيت عندهم التمر" ، وحديث آخر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " يا عائشة! بيت لا تمر فيه ، جياع أهله ، يا عائشة! بيت لا تمر فيه ، جياع أهله ـ أو جاع أهله ـ " قالها مرتين أو ثلاثا ، انظر : صحيح مسلم ، ج ٣ ، كتاب الأشربة ، حديث رقم ١٥٢ ، وحديث رقم ١٥٣.

١٥٤

كان فوق بعض الأبواب نقوش محفورة في الحائط ، ومخصصة لدفع شر العين الشريرة (١) ، وهذا معتقد عالمي نجده في الشرق والغرب معا. وبينما كنت مشغولا بالنظر إلى أحد تلك النقوش الخرافية محاولا تفسيره ، أطلت إحدى العجائز برأسها ، وبدا أنها تظن أنني لم آت إلى هنا إلّا بقصد إصابة منزلها بالعين ؛ لذلك نظرت إليّ نظرة ملؤها الحقد والخوف والرعب ، حتى إنني كنت سأصعق لو كانت النية تكفي لذلك. في الشرق لا نحدق في الأشياء أيا كان نوعها ، بيتا أم حيوانا ، أم شخصا ، أو حتى شجرة ، دون أن يصبح من يحدق مشكوكا فيه ، ويتّهم بأنه عائن.

كان حمالة القاهرة ينزعجون عندما كنت أتوقف أمام البيوت التي كانت أبوابها أو شرفاتها تلفت نظري ، وقد جرّ علي فضولي الكثير من لعناتهم. / ١١٠ / أما في ينبع فقد رأيت مشهدا معاكسا لذلك المشهد الصامت مع العجوز ، كان هناك فريق من الأولاد ، وكانوا عراة ، وأكبرهم لا يتجاوز الرابعة من عمره ، وكانوا يقيمون حفلة صاخبة لم يقطعها وجودي بينهم. كان أحد الأولاد يقرع بضربات مزدوجة على دربوكة أكبر منه ، وكان الآخرون يرقصون وقد تحلقوا وسط الغبار. ولو أنني كنت بارعا في الرسم براعة ديكام (٢) Decamp ، لكان باستطاعتي أن أرسم هنا لوحة تكون نظيرة لوحته المسماة : لحظة الانصراف من المدرسة العربيةLa Sortie d\'ecole arabe.

__________________

(١) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٥.

(٢) الكسندر ـ غابرييل ديكام Alexandre ـ Gabriel Decamp رسام فرنسي ولد في باريس عام ١٨٠٣ م ، ومات في فونتين بلو (قرب باريس) عام ١٨٦٠ م ، قام برحلة إلى الشرق تركت آثارها في إنتاجه الفني ، وجعلته يتأثر بأضواء الشرق وألوانه وقسماته المميزة حتى أصبح يعد بين الرومانسيين ، وتناول موضوعات شرقية مثل المدرسة والسوق والجبال ، ويدين للشرق بأجمل لوحاته ومنها : لحظة الخروج من المدرسة.

١٥٥

إن الدربوكة المستخدمة في مثل هذه الحفلات هي عبارة عن صحيفة مجوفة ، بيضوية الشكل أكثر منها دائرية ، مصنوعة من الطين الخشن الذي مدوا فوقه رقعة من الجلد. وإن هذه الآلة البدائية هي المرافق الذي لا يمكن الاستغناء عنه ، ووجودها أساسي في كل الحفلات العربية : نسمع صوتها في كل مكان ، لقد سبق لي أن سمعتها في أثناء اليوم على متن مركب محلي عائد من القصير ، وقد خرج أقارب القادمين الجدد وأصدقاؤهم للاحتفال بعودتهم احتفالا عامرا يستمر طوال النهار (١).

لقد ابتليت ينبع بأعداد هائلة من الذباب ، يغزو كل شيء ، أماكن البيع ، والبيوت والمساجد ، ويصل إلى المراكب التي ترسو في الميناء ، ويكثر في السوق على وجه الخصوص ، حتى إن السوق يكتسي باللون الأسود ، يهجم على الطعام والشراب والأشخاص. إنه كارثة يمكن مقارنتها بكوارث مصر السبع (٢). ويكثر الذباب في

__________________

(١) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٩.

(٢) جاء في الكتاب المقدس (العهد القديم ، سفر الخروج ، الإصحاح ٧ ، ١٢) أن فرعون رفض السماح لبني إسرائيل بمغادرة" أرض العبودية" للذهاب نحو الأرض الموعودة.

وأخذ موسى عليه‌السلام على عاتقه بأمر ربه أن يخالف رغبة فرعون ، وأن يحاول ثنيه عن ذلك ودعا ربه فسلط على فرعون وشعبه كوارث هي حسب العهد القديم عشر : تغير ماء النيل إلى دماء وأصبح غير قابل للشرب خلال عدة أيام ، الثانية والثالثة والرابعة تعرض مصر لغزو الضفادع والبعوض والذباب ثلاث مرات. وخامسا حل بالمواشي مرض جعلها تموت بأعداد كبيرة ، وحل بالناس سادسا مرض غامض جعلهم يصابون بالقرحة ، وهبت سابعا عاصفة شديدة أتلفت قسما كبيرا من المواسم. وأتلفت سحابات الجراد ما بقي منها ثامنا ، وخيم ظلام دامس على مصر تاسعا ، وأصبح المواليد الجدد يموتون جميعا عاشرا ، ويظن الباحثون أن ذلك حدث في عهد منفتاح الأول Mnephtah ler خليفة رعمسيس الثاني حوالي سنة ١٢٣٠ ق. م. وقد تحدث القرآن الكريم بالقول الحق في ذلك ، إذ قال تعالى : سورة الأعراف ، الآيات من ١٣٠ ـ ١٣٤ ـ

١٥٦

البلاد التي تنتج التمر ؛ لأن كل ما هو حلو المذاق يجذبه ، ولكن / ١١١ / أشجار النخيل بعيدة عن المدينة ، ولا يمكن القول : إنها سبب مثل هذا الغزو ؛ وينبغي البحث عن سبب آخر : وإن سألت السكان الأصليين فإنهم يجيبونك جادين ، وهم يعتقدون ذلك ، أن ملك الذباب وملكته يسكنان في ينبع ، وأن الذباب يأتي من كل أنحاء العالم ليؤدي لهما فروض الطاعة (١). ليس في المدينة إلّا بئر واحدة ، ماؤها أجاج ، والناس مجبرون للحصول على مياه الشرب على حفظ ماء المطر وسيول الشتاء في خزانات تم بناؤها لهذه الغاية ، وعندما ينقصهم الماء ، فإن عليهم الذهاب بعيدا جدا للبحث عنه في آبار عسيليّة مما يجعل ثمنه مرتفعا جدا. وليس في داخل المدينة إلّا شجرة أو شجرتان من النخيل منفردتان أمام المسجد ، وليس هناك أكثر من ذلك خارجها.

__________________

ـ (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤)).

(١) يقول بوكهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨٨ : " وتعد ينبع أرخص مدن الحجاز من حيث أسعار المؤمن. ولأن ينبع فيها ماء طيب وتتبوأ موقعا يبدو أكثر ملاءمة من الناحية الصحية ، من موقع جدة ، لذا فقد كان المقام بها محتملا لو لا أسراب الذباب الهائلة التي تتخذ لها من هذا الساحل مأوى ، فلا أحد يخرج من بيته دون أن يحمل مروحة من الخوص في يده ليذب عن نفسه هذه الحشرات. ومن المحال أن يتناول إنسان طعامه دون أن يبتلع بعضا من هذه الحشرات التي تندفع إلى فمه لحظة فتحه.

وتشاهد سحب منها تحوم فوق المدينة ، وهي تتخذ من السفن التي ترسو خارج الميناء مأوى لها ، وتظل على السفينة طوال الرحلة".

١٥٧

وقد خرجت من باب المدينة المنورة للقيام بجولة في الريف فلم أر شجرة واحدة ، ولم أكتشف إلّا الصحراء العقيمة التي تمتد قاحلة وعارية من البحر إلى الجبال. ولا نجد بعض المزروعات والمساحات الخضراء إلّا على بعد ست أو سبع ساعات من المسير ، وذلك في ينبع النخل ؛ وهي تقع في واد كبير مزروع بنخيل التمر والقمح ، ويملك فيها السكان الأغنياء حدائق ومنازل ريفية ، يذهبون إليها على الحمير لأنه ليس فيها إلا عدد قليل من الخيول ، ويقضون فيها شهرا في السنة إبان موسم التمر. إن في ذلك الوادي الواقع في أسفل الجبال عددا / ١١٢ / من القرى يقارب اثنتي عشرة قرية ، بيوتها مبنية من الحجارة ، وهي ، إن صح التعبير ، أحسن بناء من بيوت المدينة نفسها ، ولكن ليس بدرجة كبيرة ، ويسكن في إحدى تلك القرى كبير مشايخ قبيلة جهينة الكبيرة ، التي ينتمي إليها سكان ينبع (١). لقد ظلت قبيلة جهينة متمسكة بالبداوة ، مع

__________________

(١) قال بوكهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨٤ ـ ٣٨٥ : " ... وأهل ينبع أقل تحضرا من أهل مكة المكرمة وجدة ، وفي طباعهم خشونة ، ويسلكون بعض الأحيان سلوكا فظا ، إلا أنهم من ناحية أخرى أكثر انضباطا وأقل ممارسة للرذائل. وهم يحظون بشكل عام في الحجاز ، بسمعة طيبة. ورغم أن ينبع لا تضم أفرادا ذوي ثروات كبيرة ، إلا أن كل فرد فيها يبدو مطمئن البال وثريا أكثر من أهل مكة المكرمة. ومعظم الأسر المحترمة في ينبع تمتلك منازل ريفية في واد مثمر يقال له ينبع النخل ، أو قرى ينبع (قرايا ينبع) أو ينبع البر ، وهي تبتعد عن ينبع بحوالي ست ساعات أو سبع ، عند سفوح الجبال صوب الشمال الشرقي. إن ينبع النخل مشابهة لأودية الجديدة والصفراء ، حيث ينمو النخيل وتزرع الحقول ، وتمتد ينبع النخل مسيرة سبع ساعات طولا ، وتشتمل على اثنتي عشرة قرية صغيرة متناثرة على جانب الجبل ، وأكبر هذه القرى سويقة ؛ وهي مكان عقد السوق ، حيث يقيم كبير مشايخ جهينة ، ويعترف بسلطته بدو جهينة وأهل ينبع على حد سواء."

١٥٨

أنها كانت تسكن المدينة ، لقد حافظت على زي جيرانها في الصحراء ، مع أنها أصبحت مستقرة ، ويتكوّن زي الصحراء : من ثوب من الكتان ، أو الحرير ، حسب الحالة المادية لصاحبه ، مشدود إلى الخصر بحزام من الجلد ، وفوق الثوب عباءة بيضاء فضفاضة على الجسد قصيرة الأكمام. وأما الرأس فهو مغطى بكفّيّة ؛ وهي منديل من القطن المصبوغ باللون الأحمر ، أطرافه موشاة بالحرير الأصفر ، وتسقط أطرافها المزدانة بالأهداب على الكتفين ، ويمسكها على الرأس حبل من صوف الإبل يسمى : عقال ، وهو ملفوف عدة لفات حول الرأس.

ويحمل الرجال أسلحة مخفية ، وفي أيديهم عوضا عن الخيزرانة هراوة تكفي ضربة واحدة منها لأن تصرع ثورا (١). وما دمنا في صدد الحديث عن اللباس ، فإنني أقول : إنني في هذا اليوم ، وللمرة الأولى استبدلت بالقبعة الأوروبية التي يمقتها المسلمون طربوشا تجويفه أحمر اللون ، وطرفه أزرق ، ولم أخلعه إلّا عندما عدت إلى القاهرة ، وقد وضعت مع الطربوش كفية كانت / ١١٣ / ذات فائدة جلّى إبّان رحلتي إلى السودان ، وحصلت بعد ذلك على عباءة لم تكن فائدتها بأقل من فائدة الكفية.

إن سكان ينبع بدو في ملابسهم ، وهم بدو في عاداتهم الخاصة أيضا ، باستثناء أنهم يعملون مختارين بالتجارة والملاحة ، وهم يذهبون يوميا لهذا الغرض إلى القصير والسويس. إنهم مهربون بارعون ، وبطريقة علنية غالبا ، وهم في نزاع دائم مع رجال الجمارك الأتراك. لقد انتشر صيتهم في الحجاز كله بحسن الأخلاق ، مما يميزهم من

__________________

(١) قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٤.

١٥٩

سكان المدن المقدسة ، التي انحدرت فيها القيم الأخلاقية وخصوصا في مكة المكرمة. إنهم يحتقرون أي عمل يدوي ، وأي وظيفة خدمية ، ولا يرضى أحد منهم أن يكون خادما ، ولكنهم في مقابل ذلك اشتهروا بخشونة طباعهم ، وأنهم يسلكون في بعض الأحيان سلوكا فظا. إن كل ما أستطيع قوله عبر تجربتي : إنني وجدت حظهم من المدنية قليل ، ولكنني لم أتعرض لأي إهانة منهم. وإذا حكمنا عليهم من خلال عاداتهم فيمكن القول : إنهم كثيرو التطير : فقد كانوا عندما بلغ انتشار الطاعون ذروته في ينبع ، يطوفون أحياء المدينة ، وهم يقودون جملا ، لكي يحمّلوه الوباء كله ويركزونه عليه ، ثم يذبحونه في مكان مخصص ، وهم يتخيلون أنهم بقتله إنما يقتلون في الوقت نفسه انتشار الوباء (١). / ١١٤ / وبعد أن جبت المدينة في كل الاتجاهات ، ولما كنت لا أود الإبحار ثانية إلّا عند غروب الشمس فإنني بانتظار حلول موعد الإبحار استقر بي المطاف على باب أحد المقاهي الواقعة في أكثر شوارع المدينة سكانا ، وبالقرب من

__________________

(١) جاء في : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٣٨٢ ـ ٣٨٣ : " ... وسوف أذكر هنا عادة خاصة بالعرب فعندما بلغ انتشار الطاعون ذروته في ينبع ، قاد السكان العرب ناقة في موكب عبر البلدة وقد غطّوها بكل أنواع الزينة والريش والأجراس وما إلى ذلك ، وعندما وصلوا إلى المقابر ؛ قاموا بذبحها ونثروا لحمها للنسور والكلاب ، آملين بذلك أن ينقشع الطاعون المنتشر في البلدة (ينبع) متخذا من بدن الناقة ملجأ ، وأنهم بذبح الناقة سوف يتخلصون من المرض في الحال ، إلّا أن كثيرين من العرب الأكثر تعقلا سخروا من ذلك ، لكن هذه العادة حتى الآن ـ لها بعض الفائدة إذ إنها ترفع الروح المعنوية لدى الطبقات الدنيا" ، قارن بما في كتاب : التراث الشعبي ... ، موثق سابقا ، ص ٦٨.

١٦٠