رحلة إلى الحجاز

المؤلف:

شارل ديدييه


المترجم: الدكتور محمد خير البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفيصل الثقافية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-677-14-1
الصفحات: ٣٩٩

أن جبلا ضخما من الجرانيت يتداعى بسبب هزة أرضية مخيفة ، أو بسبب اصطدام بجرم سماوي ، ويغطي بأنقاضه المهاوي السحيقة حوله ، ويحمل على جانبيه المهدّمين الآثار التي لا تمحى لذلك الاهتزاز المخيف. ونظن أنه منذ الكارثة لم يتغير شيء ؛ ولو أنها حدثت في اليوم السابق لما كان المنظر أكثر جمالا. أما الصخور فإنها متكسرة ، ومحطمة ، ومن كل الألوان والأشكال ، وهي عارية كما كانت في أول يوم بعد خلقها ، ومرت القرون دون أن تترك عليها مثقال ذرة من التراب الصالح للزراعة ، ولم يستطع أبدا أي شيء حي ، أن يمدّ جذوره في إمبراطورية الموت والكآبة والعقم هذه ؛ غير أن بعض قطع النبات تطلّ برأسها بصعوبة هنا وهناك بين تشققات الصخور. ونلمح / ٦١ / في الأفق البعيد على مدى النظر شجرتين وحيدتين هما : نخلة تمر هزيلة ، وشجرة تين أكثر هزالا. وكان هناك بعض الكهوف المحفورة في قلب الجرانيت ، أما الكتل السفلية التي تصدعت ، وتكسرت في أثناء سقوطها ، فإنها مملوءة بخروق عريضة ، لا زالت نتوءاتها حادة كما لو أنها في أيام سقوطها الأولى. وقد حفر بعض منها كوى مربعة الزوايا ، تظهر وكأن يدا بشرية حفرتها لهدف غير معلوم ؛ وربما كانت يد العبرانيين الذين كان عليهم بالضرورة أن يعبروا هذا الممر المخيف يقودهم موسى عليه‌السلام.

إن الصوت البسيط يتحول في هذا المكان المخيف إلى صدى ، وعلى الرغم من أن ذلك لا يحدث إلّا نادرا ، ولكنه حينئذ يصبح شيئا فظيعا ، يتكرر آلاف المرات ، حتى لتحسب الطلق الناري صوت مدفع ، حينئذ يرتجف الجبل من أساسه ، ثم يعود

١٠١

كل شيء إلى الصمت أياما وشهورا كاملة. كان الدير (١) على بعد خطوات من هنا ، احتاج وصولنا إليه ثلاث ساعات. إن أسواره الجرانيتية العالية ، والأعلام الثلاثة التي ترفرف على ذروته : علم موسى ، والقديس جورج ، والقديسة كاترين ، تجعلنا نظن أنه قلعة أكثر منه ديرا. وهو في الحقيقة قلعة أقيمت في حضن الصحراء ، وعلى أرض إسلامية ، وهي تتعرض لخطر عدوين هما : التعصب والطمع ؛ فقد هاجمه / ٦٢ / البدو الذين تغريهم ثرواته عدة مرات ، وكان على سكانه أن يتخذوا عدة إجراءات عسكرية لصدهم ؛ يملك الدير ، ناهيك عن مدفعين ، ترسانة مملوءة بالأسلحة من كل نوع : وليس هذا بقليل من أجل رجال سلام. إن الباب الكبير والوحيد لهذا الصرح الضخم مغلق منذ ما يقارب قرنين ، ولا يفتح إلّا في المناسبات الكبرى في أثناء زيارة الشخصيات الكبرى في الكنيسة اليونانية ؛ وهذا لا يكاد يتم إلّا كل ثلاث أو أربع سنوات. أما في الأوقات الأخرى ، فإن الباب مغلق بإحكام ، ولا يمكن حينئذ الدخول إلى ساحة الدير ، إلّا عبر كوة نقبت في الحائط على علو أربعين مترا من الأرض ، يرفع من يريد الدخول إليها بواسطة الحبال ، بعد أن يتحدث مع الرهبان ، ويعلن اسمه ومركزه.

__________________

(١) دير طور سيناء للروم الأرثوذكس ، وقد بني على اسم القديسة كاترينا لذلك يدعى أيضا دير القديسة كاترينا (كاترين) ، وله راية بيضاء ترفع على قبة كنيسته الكبرى في أيام المواسم والأعياد ، وهو واقع في سفح قمة من قمم طور سيناء على أحد فروع وادي الشيخ ويعلو نحو ٥٠١٢ قدما عن سطح البحر. انظر وصفا مفصلا للدير في كتاب : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٢٠٥ ـ ٢٣٠.

١٠٢

ولما وصلنا إلى أسفل السور ، وترجلنا عن الهجن ، قرع الناقوس معلنا وصولنا ، وأطل راهب البوابة برأسه من الكوة ، وألقى إلينا حبلا لنربط فيه رسالة تعريف زودنا بها كوستا لكبير رهبان الدير. وطال انتظارنا الجواب الذي وصل بعد وقت طويل. ودخلنا الدير ليس عبر البرج الذي أعفونا من الصعود إليه وإنما عبر باب سري تم فتحه مؤخرا في الجانب الآخر من البناء خلافا للأوامر والحذر ، ولا يستغرق سدّ هذا الباب في حالة التعرض للهجوم إلا بضع دقائق. ولما تجاوزت الباب السري الذي كان منخفضا حتى إنني لم أتمكن من الدخول إلّا بعد انحناء شديد / ٦٣ / مررت بعدد من الأفنية ، غير متساوية ، وغير منتظمة ، ثم عبر نفق مغلق بسياج من الحديد ، ثم فناء آخر أيضا ، حتى وصلت أخيرا عبر درج خشبي إلى رواق الدير المخصص للأجانب ، والذي كان قد سبقني إليه سائحان من العالم الجديد.

أما المساكن المخصصة للمسافرين ، فقد كانت تطل على ممر يمتد النظر منه ليشمل الصرح كله : ويخيل إلينا أننا نرى قرية كبيرة تحيط بها الجدران. ولا ينبغي أن نبحث عن نظام معماري ، أو مخطط لهذه القرية : إنها متاهة من الأبنية المكدسة المتداخل بعضها فوق بعض ، حسب طبيعة الأرض وراحة السكان ، إنها الفوضى بعينها. وإن أول ما يلفت النظر وجود مسجد تعلو منارته وسط المكان ، وإن هذا الأمر الذي يصعب على المسيحي تقبله فرضه السلطان سليم على الرهبان لكي يقبل بوجود الدير ، ومقابل بعض الميزات الدنيوية التي خصّ بها جماعة الرهبان التي تعيش في الدير ، وإن الفرمان الذي يضمن لهم تلك الميزات ، موجود لديهم في أرشيف الدير ، لكنهم لم يطلعوني عليه ، وسواء كان موجودا أم لا ، فإن أحدا لم يره حسب علمي.

١٠٣

ويذكر أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى رهبان الدير عهد أمان ، وليس ذلك الأمر تاريخيا بمستحيل. أسس هذا الدير الإمبراطور يوستينيانوس Justinien وزوجته تاضورة (١) Thodora في عام ٥٢٧ ميلادية / ٦٤ / وهذا يعني أن بناءه كان قبل التاريخ الهجري الإسلامي بقرن من الزمن : وليس هناك ما يمنع أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاء لزيارة الدير ؛ ونؤكد ذلك كتب الأخبار العربية ، وتضيف أن عروجه إلى السماء تمّ من على قمة جبل سيناء (٢).

__________________

(١) كتبنا الاسمين كما هما منقوشان على الحجر فوق باب الدير ، حسبما ذكر نعوم شقير في كتاب : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٢٠٨ ، والنقش بتمامه : " أنشأ دير طور سيناء وكنيسة جبل المناجاة الفقير لله الراجي عفو مولاه الملك المهذب الرومي المذهب يوستينيانوس تذكارا له ولزوجته تاضورة على مرور الزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وتم بناؤه بعد ثلاثين سنة من ملكه ، ونصب له رئيسا اسمه ضولاس. جرى ذلك سنة ٦٠٢١ لآدم الموافق لتاريخ السيد المسيح ٥٢٧". وعلق نعوم بك شقير بقوله : إن النقش يعود إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر وفيهما غلطتان تاريخيتان : الأولى أن أول رئيس سمي للدير هو الأب لونجينيوس وليس ضولاس ، والثانية أن الملك يوستينيانوس لا يمكن أن يكون قد أتم بناء الدير سنة ٥٢٧ لأن هذه السنة هي بدء ملكه ، وكان إذ ذاك مشغولا بالحروب كما هو ثابت في التاريخ. وإذا صح أنه أتمه بعد ٣٠ سنة من ملكه كما في هذا الأثر فيكون قد تم سنة ٥٥٧. ورجح شقير أن يكون قد تم بناء الدير في نحو سنة ٥٤٥ معقلا لرهبان سيناء. تاريخ سيناء ... ، ص ٢٠٩. ويوستنيانوس الأول ؛ جوستنيان الأول (٤٨٣ ـ ٥٦٥ م) : إمبراطور بيزنطي (٥٢٧ ـ ٥٦٥ م) جمع الشرائع الرومانية ودونها.

(٢) يذكر نعوم شقير في : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٢٢٠ : " والعهدة النبوية : وهي في تقاليد الرهبان كتاب العهد الذي كتبه لهم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنة الثامنة ـ

١٠٤

وإذا كان وجود المسجد (١) في هذا المكان يدهش ويلفت النظر ، فإن الكنيسة لا تظهر من النظرة الأولى ، وليس لها ما يميزها من السقوف والشرفات التي تغرق الكنيسة في وسطها : ولكنها تعوّض عن بساطة شكلها الخارجي بروعتها الداخلية.

إنها وعاء فائق الجمال نصف بيزنطي ، ونصف روماني ، يقوم على أعمدة من الجرانيت التي طليت للأسف بالكلس ، وقد تمّ في جذوع تلك الأعمدة حفر صلبان يونانية ، ممّا يفسد النسق ويتلف بهاءه. إن جمال العمود أن يكون عاريا ومستويا تماما ، ومع أن تضليع الأعمدة اختراع قديم ، فإنني أرى أنه تشويه للبساطة البدائية للفن ، وعلامة من علامات انحطاطه ؛ إلّا أنه لا ينبغي أن تبحث في الكنائس اليونانية لا عن البساطة ولا عن الفن. وإن هذه الكنيسة ينقصها الشيئان المذكوران. إن البريق الخداع ، وفساد الذوق يصدمك في كل خطوة تخطوها فيها.

كان السقف أزرق ذهبيا ، يمثل قبة السماء المملوءة بالنجوم ، وتتدلى منه ثريات مفرطة في الحداثة ، ولا تتناسب ، على الرغم من أبهتها ، مع بساطة المعبد المسيحي. وينطبق الوصف نفسه على المذبح الرئيسي الذي تزدحم عليه الأصداف / ٦٥ /

__________________

ـ للهجرة. قالوا وقد كان الأصل محفوظا في الدير إلى فتح السلطان سليم مصر سنة ١٥١٧ م فأخذ الأصل وأعطاهم نسخة منه مع ترجمتها التركية. وفي المكتبة الآن عدة نسخ منها بعضها على رق غزال ، وبعضها على ورق متين ، وبعضها في دفتر خاص ..." وانظر حديثا مفصلا عن العهدة النبوية في ص ٤٩٥.

(١) انظر حديثا مفصلا عن المسجد وبنائه في كتاب : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٢١٤ ـ ٢١٧ ، وص ٥١٠ ـ ٥١٢.

١٠٥

والحراشف التزينية والصلبان المزينة بالأحجار الكريمة ، أو المزعومة كذلك ، والتي يعرضونها بفخر لتثير الإعجاب أكثر مما تدفع المؤمنين للالتزام الورع. والواقع أن تلك التحف هي هدايا من أحد النبلاء الأثرياء الروس الذين ينتمون إلى الكنيسة المنشقة (عن الكنيسة الرومانية). ولما ادعى الإمبراطور نقولا (١) أنه حامي أبناء دينه الذين يعيشون في أراضي الإمبراطورية العثمانية ، فإنه لم ينس هؤلاء الرهبان ، بل إنهم تلقوا منه هدايا سخية ، تدل على كرمه واهتمامه. وإن كل تلك التحف ، كثيرة كانت أم قليلة ، هي مزية جيدة ، وليس بينها ما هو قديم ، كما يبدو عليها ذلك. واستثني الباب الرئيسي للدخول الذي تبدو عليه علامات القدم ، وهو مرصع بزخارف على المعدن صنعت بمهارة عجيبة ، وإخال أنني قرأت عليه تاريخا يعود إلى القرن السابع الميلادي.

لن أستطيع هنا ، ولا أريد أن أذكر كل شيء ، ولكنني أشير على سبيل الذكرى إلى عدد من اللوحات البيزنطية التي لا تكتسب إلا أهمية عادية ، وإلى لوحات ذات أهمية بسيطة أيضا ، تمثل صورة بعض الوجهاء المجهولين ، أو صور بعض قديسي التقويم الإغريقي (اليوناني) ، وصورة كبيرة لمشهد تجلي السيد المسيح عليه‌السلام ، وأخيرا هناك رصيعتان كبيرتان لمؤسسي الدير الإمبراطور يوستينيانوس وزوجته الإمبراطورة تاضورة. ولا يمكنني أن أمضي دون الإشارة إلى الموزاييك الذي يكسو أطراف قبة

__________________

(١) نقولاNicolas ويكتب Nicholas الأول (١٧٩٦ ـ ١٨٥٥) قيصر روسيا من عام (١٨٢٥ ـ ١٨٥٥) عرف برجعيته الشديدة ، وسحق ثورة الديسمبريين (١٨٢٥ م).

١٠٦

صدر الكنيسة التي نرى فيها موسى راكعا على ركبتيه أمام العليقة المشتعلة ، وفي الأسفل نراه ممثلا وهو يتلقى ألواح الوصايا العشر (١). ومن الملاحظ أن نبي بني إسرائيل (موسى عليه‌السلام) لا يبدو في اللوحات الشرقية / ٦٦ / بالهيئة القاسية والرهبانية التي تمثله بها في أوروبا ، والتي أرسى دعائمها ميكيل أنجلو (٢) Michel Ange في رائعته (٣) الموجودة في كنيسة القديس بيير (في روما ـ الفاتيكان) Saint ـ Pierre Aux liens ، ولكنهم يمثلونه بصورة شاب بلا لحية ، يرتدي جلبابا أزرق وعباءة بيضاء ، وهناك مصلى يحمل اسمه يقع على يسار المذبح الرئيسي ، في الساحة التي توجد فيها العليقة المشتعلة ، على الأقل حسب ما يقوله الرهبان اليونانيون. ولا يسمح لأحد بأن يطأ هذه الأرض المقدسة إلّا بعد أن يخلع نعليه ويضعهما على الباب كما هو الحال على باب المسجد. لنتأمل بإعجاب قوّة المحاكاة والعدوى بالمجاورة (٤). إن الممارسات الإسلامية وجدت طريقها هنا لتصل إلى كهنة المسيح عليه‌السلام. كان هذا الدير الكبير النائي في الشرق يسمّى في الماضي ، وربما تم تأسيسه بهذا الاسم ، دير التجلّي ،

__________________

(١) انظر : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) Michel ـ Ange ,Michelangelo ـ ميكيل آنجلو (١٤٧٥ ـ ١٥٦٤ م) نحات ورسام ومهندس معمار إيطالي ، يعدّ أحد أعظم الفنانين في جميع العصور.

(٣) نحت ميكيل أنجلو تمثالا لموسى عليه‌السلام ، موجودا في كنيسة القديس بيير في الفاتيكان ، وتبدو على التمثال معالم العنف والقسوة والشدة.

(٤) ليس الأمر كما يقول ديدييه وإنما خلع النعل التزاما بخطاب الله تعالى لموسى عليه‌السلام في قوله في سورة طه ، الآيات من ٩ ـ ١٢ : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

١٠٧

وهو اليوم يسمى باسم القديسة كاترين Sainte Catherine التي تحميه ، ويحتوي على رفاتها ؛ كان اسمها في حياتها دوروتي Dorothe ، تنصرت في القرن الرابع الميلادي ، أما اسم كاترين الذي سميّت به بعد موتها فإنه مشتق من الكلمة السريانيةCethar التي تعني التاج ، وقد منحت هذا الاسم لأنها جمعت كما يقول القديس جيروم (١) Saint JerOme تاجا ثلاثيا من العذرية والشهادة والعلم ؛ لأنها كانت عالمة قبل أن تكون قديسة ، كانت تحاول هداية الفلاسفة الذين كانوا يحاولون بدورهم أن يثنوها عن معتقدها ، وظلت زمنا طويلا رئيسة المدارس الفلسفية ، كما كانت أيضا رئيسة مدارس الفتيات. / ٦٧ / لقد وضع رفاتها في ضريح فخم ، تشتعل حوله أضواء الشموع ليل نهار ، ويأتي إليه في كل سنة عدد كبير من الحجاج.

ولكي أنتهي من الحديث عن كنيسة القديسة كاترين ، ولكي أكون صادقا في نقل الحقيقة ، ينبغي القول : إنها موضع عناية كبيرة ، ولا يمكن إبداء أي ملحوظة على نظافتها ، ولكن نواقيسها صغيرة جدا ، ولا تليق بمعبد له شهرة كبيرة ، ويتمتع بإجلال عظيم. وهي تمتلك عوضا عن ذلك مجموعة من الأجراس (مصلصلة (Carillon التي ليست كما أعتقد إلا صفيحة من الحديد يضرب عليها بمطرقة ، ومصلصلة أخرى من الخشب تشبه الأولى في بدائيتها ، والتي يقرعها قارع الأجراس طوال النهار ، كما يستخدم في إيطاليا الناقوس الخشبي Crecelle في يوم الجمعة العظيمة.

__________________

(١) أحد أكبر آباء الكنيسة اللاتينية ولد في عام ٣٣١ م وتوفي في بيت لحم عام ٤٢٠ م اشتهر بمؤلفاته التفسيرية ، راجع الترجمة الإغريقية للعهد القديم ، ووضع ترجمة لاتينية له عن النسخة العبرية.

١٠٨

أمّا مكتبة الدير ، فهي فقيرة بالكتب المهمة ، وتعالج كل الكتب الموجودة فيها موضوعات دينية ، ولكنها في مقابل ذلك غنية بالمخطوطات العربية واليونانية ، والسلافية أيضا. ولا شك أنه بالإمكان استخراج معلومات مفيدة منها. ولكن الرهبان حريصون عليها دون أن يقرؤوها. ولم يعودوا ينسخونها ، إنهم يكتفون بإظهارها للزوار لإشباع فضولهم ؛ ومن تلك المخطوطات نسخة من مزامير داود مكتوبة بخط صغير ، كتبتها القديسة كاسياني Sainte Cassine ، ونسخة من الإنجيل مكتوبة بماء الذهب أهداها إلى مكتبة الدير الإمبراطور ثيودوسيوس Thodose تقربا وتعبيرا عن الإخلاص (١).

إن الرهبان اليونانيين لا يضعون أقدامهم في مكتبتهم أبدا ، ولكنهم يذهبون راغبين إلى حديقتهم الواقعة خارج أسوار الدير / ٦٨ / وقد لاحظت في الحديقة عند وصولنا بعض أشجار الزيتون ، وسروة رائعة ، وشجرات لوز مزهرة ، وتنتج الحديقة فضلا عما ذكرناه تينا وعنبا وإجاصا (كمثرى) مشهورة بجودتها في القاهرة. ويمتلك الدير حديقة أخرى ، بل عدة حدائق كما أظن في بعض الأودية المجاورة. وإن البئر داخل الدير هي البئر التي قابل عليها موسى عليه‌السلام ، قبل أن يبعث ، وفي أثناء هربه من مصر بسبب قتله رجلا ، ابنتي النبي شعيب المبعوث إلى مدين ، وكانتا قد أتيتا البئر لسقاية مواشي والدهن ، ولما وصلتا أراد بعض الرعاة إبعادهما عن البئر ، ولكن موسى عليه‌السلام ساعدهما ، واستخرج الماء لهما من البئر ، وعندما علم

__________________

(١) انظر حديثا مفصلا عن مكتبة الدير ومحتوياتها في كتاب : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٢١٨ ـ ٢٢٠.

١٠٩

والدهما بالأمر زوّجه إحداهما صفورة (١) Sphora ، وأصبح موسى راعيا لمواشي والد زوجته (٢).

__________________

(١) Sphora ـ صفورة ابنة شعيب عليه‌السلام ؛ وهي التي جاءت موسى عليه‌السلام تمشي على استحياء كما وصفها القرآن الكريم ، سورة القصص ، الآية ٢٥.

(٢) سفر الخروج ، الفصل II ، ١٦ والتي تليها (المؤلف).

هذه رواية العهد القديم ، أما القول الحق ، فهو ما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة القصص ، الآيات من ١٥ إلى ٢٨ : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)).

١١٠

إن هذه القلعة الدينية الضخمة محاطة بعدد من القمم ، ومحصورة بينها ، وإن لكل واحدة من تلك القمم اسما خاصا : في الشمال جبل اليهود وجبل حوريب ، وفي الجنوب جبل القديس ابيستيموس Episteme ، ونحو الشرق جبل موسى (١) ، الذي تروي الأخبار أن مخلص بني إسرائيل (موسى) رعى أغنام شعيب عند سفوحه ، مع أننا لا نجد أي عشب في سفوحه. ويتسع الوادي من الغرب ، وتتباعد الجبال تباعدا ملموسا لتخلي المكان لسهل واسع كل الاتساع ، وهو المكان الواسع الوحيد في تلك الأنحاء الذي يتسع / ٦٩ / لعدد كبير من الناس : وربما أقام العبريون معسكرهم في هذا المكان ، ويشار في هذا المكان حقا إلى حجر هارون (مقام النبي هارون) الذي يزعم أنه استخدم قاعدة للعجل الذهبي. إن المشهد الطبيعي في هذه الأنحاء ذو قسوة فظيعة وجلال لا نظير له. وإن قمم الجبال ومنحدراتها عارية تماما ، شأنها شأن القمم والمنحدرات التي رأيناها حتى الآن ، ولكن الشمس تلقي عليها في كل ساعات النهار ، وفي المساء على وجه الخصوص ، وفي الصباح بشكل أجمل ، أطيافا ضوئية متنوعة كل التنوع ، ورائعة كل الروعة ، حتى إنها لتعوض تعويضا تاما قحط المكان الذي لا نودّ رؤيته على أي هيئة أخرى. إن في هذه اللوحة السحرية تدرجا في الألوان لا يمكن محاكاته ، ولا يمكن وصفه.

أما جبل موسى الذي ظل مظلما ومغلفا بالضباب زمنا طويلا بعد طلوع الشمس التي تشرق من ورائه ، فإنه يشكل خلفية اللوحة ، فبينما كانت أسافله لا زالت تغوص في الظل ، كانت أعاليه مضاءة بالشمس.

__________________

(١) في تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا. ، ص ٢٢٣ أنها أربع قمم وهي : جبال موسى ، والصفصافة ، والمناجاة ، وكاترينا.

١١١

أما جبلا حوريب والقديس ايبيستيموس فإنهما يصطبغان في ذلك الوقت باللون الأحمر والمعدني ، وتعكس تعرجات الصخور فيها ظلالا سوداء ظاهرة بوضوح كبير حتى إننا نخال أن الألق لا يزال يشع منها : حتى لنظن أن سيلا من الحمم البركانية ، يخرج من الفوهة يتهيأ لإحراق الدير والمنطقة كلها.

تبدأ طلعة جبل سيناء أمام باب الدير : فيمر الطريق في شعب ضيق بين جبل حوريب وجبل اليهود ، ويستعمل في صعوده / ٧٠ / من أجل راحة الحجاج الذين ينبغي أن يصعدوه زحفا ، نوعا من الدرجات التي تسهّل عملية الصعود لو أنها لقيت عناية أفضل. وإن أول ما يلقانا في الصعود نبع الإسكافي (١) الذي يذكّر اسمه بحكاية أسطورية محلية. ثم نجد بعد ذلك كنيسة صغيرة (٢) مهداة إلى العذراء (مريم) التي أتت إلى هذا المكان حسب حكاية أخرى.

__________________

(١) انظر ، تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٢٢٤.

(٢) هي كنيسة الأقلوم كما جاء في كتاب تاريخ سيناء ، موثق سابقا ، ص ٢٢٤. يقول : " وفي تقاليد الرهبان الروائية : أنه في إحدى السنين اشتد الجوع في الجزيرة وانقطع الزاد عن الرهبان فاتفقوا على ترك الدير والالتجاء إلى مدينة الطور فرارا من الجوع فصعدوا إلى قمة جبل موسى لأداء الزيارة قبل الرحيل ، وتأخر الأقلوم في الدير فأقفل الأبواب وسلّم المفاتيح إلى شيخ أولاد سعيد بحضور مشايخ الجزيرة كلهم وسار في طريق قمة جبل موسى لاحقا بإخوانه. فلما وصل هذا المكان تجلت له مريم العذراء وابنها الطفل على يدها وقالت له : " اذهب وتمم زيارتك لقمة الجبل وعد بإخوانك إلى الدير فإن الفرج قد جاءكم" قالت ذلك وغابت عن نظره. فعاد بإخوانه إلى الدير فوجدوا إبلا كثيرة محملة حبوبا فسألوا أصحاب الإبل عمن أتى بهذه الحبوب فقالوا أتى بها شيخ جليل علاه الشيب وفتاة في منتهى الجمال وقد رافقانا إلى هذا المكان ثم اختفيا عن الأبصار. قال الرهبان : إن الشيخ والفتاة هما موسى النبي والقديسة كاترينا وقد شادوا هذه الكنيسة على اسم مريم العذراء تذكارا لتلك الحادثة العجيبة!

١١٢

ونصعد بعض الدرجات أيضا فنصل إلى سهل مغلق من كل الجهات ، تحيط به قمم هائلة ، منها قمة القديسة كاترين التي ترتفع إلى ما لا يقل عن ٨٥٠٠ قدم عن سطح البحر الأحمر. ولا تقل قمتا حوريب وسيناء عن هذه ارتفاعا ؛ وإن هذا الارتفاع هو الحد الذي تظل بعده الثلوج موجودة أبدا ، على المرتفعات في المناطق الشمالية. ومن أي جهة نظرنا ، وإلى أبعد ما يستطيع النظر الوصول ، لا نرى إلا كتلا من الجرانيت الأمغر ، والوعر ، والأجرد ؛ كما لو أنها احتفظت تماما بشكلها يوم أن خرجت من أمعاء الكون ؛ لم تنم أية نبتة في هذه الأنحاء ، ولا يمكن لأي منها أن تنمو في المستقبل ، مع ذلك فإن هناك شجرة ، ولكنها وحيدة تنتصب في وسط المكان القاحل ، إنها شجرة سرو ضخمة ضخامة غير معتادة ، تشبه قمتها هرما ضريحيا يقاوم منذ قرون كل العواصف. ونجد عند جذور الشجرة بئرا ماؤها عذب وصاف ، ولا يشرب منها أحد ، لأنه لا أحد يسكن ، ولا أحد يعبر هذه الأرض الموحشة وحشة مخيفة عدا بعض المسافرين. / ٧١ / لقد قضيت استراحة طويلة بجوار تلك البئر المهجورة ، في ظل شجرة السرو العملاقة ، متوغلا ومتحديا ، إن صح القول ، تلك الطبيعة القاسية ، العظيمة ، والموحشة ، والمنعزلة كل العزلة ، والمفعمة بالأمجاد ، والعامرة بكم هائل من الذكريات ، والتي تبدو للبصيرة والبصر أنها أرض أمجاد خالدة. إن من يرى تلك الطبيعة المؤثرة يشعر أن أحداثا عظيمة وهائلة جرت بين أحضانها ، وأنّها خلقت وتكوّنت لتكون مسرحا لأسرار جليلة ، ولمعجزات فائقة ، ونشعر أن الله اختارها ليوحي فيها إلى أنبيائه. كم هناك من أحداث ، وكم من القرون

١١٣

التي لم نلق عليها ولو نظرة واحدة! ذلك هو بادئ ذي بدء جبل سيناء الذي يخطف الأبصار ، والذي أوحي إلى موسى على قمته الرسالة السماوية وسط البرق والرعد ، تلك الرسالة التي ما زالت حية بعد أن مرّت عليها قرون عديدة ؛ وإلى الأسفل قليلا نجد المغارة التي قضى فيها موسى عليه‌السلام أربعين يوما وليلة في الصحراء بين يدي الله وبحمايته الحانية بعد أن أوحى إليه ، وفي الأمام هناك حوريب حيث تلقى موسى رسالته السماوية ، وهو جاث على ركبتيه أمام العليقة المشتعلة ، وكنت أرى على بعد خطوات مغارة أخرى رأى فيها إيلياElie أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل ، رؤياه التي تعد إحدى أكثر الرؤى التي تتحدث عنها الكتب المقدسة رعبا. لنستمع إلى المؤرخ الجليل الذي يحكي تلك الرؤيا ، ولن نعرف كيف نعبر عن الإحساسات / ٧٢ / المؤثرة التي تسيطر على النفس في أثناء ذلك ، دون أن نستشهد بعبارات المؤرخ نفسه ؛ لأننا هنا نكتشف ونشعر أن تلك العبارات موحاة ، إن لم تكن قد كتبت في هذا المكان ، وأن كلا منها يحمل سمة هذا المكان الرائع." مشى إيليا أربعين يوما ، وأربعين ليلة ، حتى وصل إلى جبل حوريب ، الجبل الذي تجلت عليه الذات الإلهية ، وهناك دخل مغارة في الجبل ، حيث بات الليلة فيها ، ثم أوحى إليه الباقي ، وقال له : " أخرج وقف على الجبل أمام الرب. وإذا بالرب عابر ، وريح عظيمة وشديدة قد شقّت الجبال ، وكسرت الصخور أمام الرب ، ولم يكن الربّ في الريح. وبعد الريح زلزلة ، ولم يكن الربّ في الزلزلة. وبعد الزلزلة نار ، ولم يكن الربّ في النار. وبعد النار صوت منخفض خفيف. فلمّا سمع إيليا لفّ وجهه بردائه ، وخرج ، ووقف في باب المغارة. وإذا

١١٤

بصوت إليه يقول : ما لك ههنا يا إيليا". (١) ألا نتخيل ونحن نقرأ هذا الكلام الرائع أننا نشهد ثورات جيولوجية هزت بعنف هذه الأرضين المختارة منذ الأزل؟

ذلك الزلزال الرهيب الذي يحرك الجبال ، وتلك العاصفة الهوجاء التي تجعل الجبال تميد وتتداعى ، تلك النار المتأججة التي تحرقها وتجعلها عقيمة / ٧٣ / أي شيء هذا إن لم يكن تعبيرا عن عوامل في باطن الأرض أو خارجها ، لذلك الاضطراب العظيم للمادة كما يتصوره العلم ويشرحه في أيامنا هذه؟

إذا ، ليست رؤيا إيليا إلّا حدسا ، بل كأنما هي رؤية ثانية للاضطراب الفيزيائي الذي تحمل كل صخرة هنا آثاره التي لا يمكن إنكارها. وإن تلك النسمة الرقيقة والناعمة التي تلت اضطراب العناصر ، والتي شعر معها النبي بتجلي الذات الإلهية ؛ إنها حقا الذات الإلهية ؛ أي العلم المطلق الذي ما إن استقر الكون بأمره حتى بسط عليه هيمنته ، وخلق ظواهره ، وقدّر قواه ، وسبر غور أسراره ، وتعالى عن الحياة المادية ، فقدر العلل والأسباب ، وحاز مع الحكمة القدرة على الخلق الذي اختص وحده بفهم أسراره. إن البحث في مثل هذه الأمور يكتسب هنا أهمية لا يكتسبها في أي مكان آخر ؛ لأننا لا نجد في الكون مكانا مثله احتفظ بمعالمه نفسها ، ناهيك عن روعة التاريخ والتقاليد ، مما يوقظ المشاعر ويأسر الروح.

__________________

(١) سفر الملوك الأوّل ، الإصحاح ١٩ ، عدد ٨ وما بعدها (المؤلف). وجاء في كتاب : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٢٩" ... والجبل الذي جاءه إيليا النبي بعد سفر شاق من" بئر سبع" دام أربعين نهارا وأربعين ليلة فبات في مغارة وكلمه الرب بعد زلزلة عظيمة" بصوت منخفض خفيف".

١١٥

إن لشبه جزيرة سيناء شكلا مثلثا ، يربطها أحد أضلاعه بالقارة ، في حين أن الزاوية المقابلة تتوغل في البحر على شكل نتوء صخري ، أما الضلعان الآخران فإنهما محاطان بخليجين ؛ خليج السويس في الشمال ، وخليج العقبة في الجنوب ، وباستثناء بعض المصاطب الكلسية في المناطق المنخفضة / ٧٤ / فإن أرضها ظلت على تكوينها الأول ، تعج بالقمم والنتوءات الصخرية التي تتبع كلها تنظيما واحدا ، وتنطلق من مركز مشترك. تتلوى في المنخفضات وديان ضيقة ، ورملية ، ليس فيها زرع إلّا ما في بعض واحات نخيل التمر قرب عيون الماء والآبار.

أما مرتفعات سيناء فتجثم وسط البرزخ ، وتشرف على شبه الجزيرة كلها. ولنا أن نتخيل المنظر الرائع الذي نتمتع به من أعلى مشهد كهذا المشهد. يقع النظر من كلا الجانبين على خليجين ، ويتابع تعرجاتهما كما لو أنه يشاهدها على الخريطة ، وتقع جزيرة تيران (١) في قاعدة خليج العقبة (٢). ويبدو من الغرب ، فضلا عن الأودية والمرتفعات التي تمتد عند أقدامنا ، البحر الأحمر الذي يظهر من هنا وكأنه نهر ، وليس بحرا واسعا لا نتمكن لاتساعه من رؤية الساحل الإفريقي الذي يبدو للعيان بجباله

__________________

(١) هذه الجزيرة هي الآن تابعة للمملكة العربية السعودية ، وتكتب في الخرائط : ثيران والصحيح أنها : تيران.

(٢) يحد سيناء الجنوبية من الشرق ، وطوله من رأس محمد إلى قلعة العقبة نحو مئة ميل ، وعرضه من سبعة أميال إلى أربعة عشر ميلا. وفيه ثلاث جزر إحداها تيران التي تقع عند قاعدته تجاه رأس محمد ، وبينهما مضيق حرج لمرور المراكب. تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ١٦.

١١٦

الضخمة التي توجد وراءها صحراء أخرى ذات أهمية كبرى لدى النساك المسيحيين الأوائل ؛ إنها مكان معزول كانوا يذهبون إليه ليبحثوا في العزلة والتأمل والوحدة ، عن شعور أولي بالسلام الأبدي.

أما من ناحية الشرق أخيرا ، باتجاه سورية فإن النظر يتيه في أعماق صحراء بلا حدود ، إنها الصحراء نفسها التي تاه فيها بنو إسرائيل خلال أربعين سنة قبل أن يدخلوا بلد كنعان. / ٧٥ /

وقد لاحظت عرضا أننا نصادف العدد (٤٠) عدة مرات على طريقنا ، إنه يتكرر بكثرة في العهد القديم والعهد الجديد : فاليهود تاهوا أربعين سنة في الصحراء ، موسى عليه‌السلام اعتزل أربعين يوما قبل أن يبلغ رسالته ، إيليا سار أربعين يوما وأربعين ليلة قبل أن يستقر في كهف حوريب ، صام المسيح عليه‌السلام في عزلته أربعين يوما ، وظل أربعين ساعة في قبره قبل أن يبعث من جديد.

ويبدو أن لهذا العدد عند اليهود شيئا من القداسة ، بل شيئا من السحر ، وإن له فضيلة خفية ، ضاع معناها ؛ مع أنه لا يدخل في تركيبه لا (٣) ولا (٧) وهما رقمان مقدسان (عند الساميين).

يوجد في قمة جبل سيناء مصلى مسيحي يحمل اسم النبي موسى عليه‌السلام ؛ وإن المسلمين الذي يجلون هذا النبي كما يجله المسيحيون أقاموا له في هذه القمة مسجدا يحمل اسمه ، ناهيك عن أنهم أطلقوا اسمه على الجبل ؛ جبل موسى.

١١٧

ويروى أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم زار هذا الجبل ، ومنه عرج به إلى السماء. وما زال الناس يشيرون إلى أثر قدم ناقته على إحدى الصخور (١) هناك. تقوم في قلب أحد الأودية المجاورة واحة صغيرة خصبة تعرف باسم بستان الأربعين شهيدا (٢) ؛ لأن أربعين مسيحيا ، الرقم أربعون أيضا ، استشهدوا فيها أيام اضطهاد المسيحيين. / ٧٦ / وفي مكان ليس ببعيد توجد صخرة موسى (٣) التي يذكّر اسمها أتباع الديانات السماوية الثلاث ، اليهودية والمسيحية ، والإسلام ، بالوثنية التي كانوا عليها (قبل نعمة التوحيد) ،

__________________

(١) جاء في تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٢٢٥ : " ... ويوجد هناك (في قمة جبل موسى) كنيسة صغيرة وجامع صغير ... وقبل وصولك إلى قمة الجبل بنحو ٥ دقائق تجد على الطريق أثرا في صخره كأثر قدم الجمل يدل البدو عليه أنه الأثر الذي تركه جمل النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما زار الجبل ...".

(٢) جاء في تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٢٢٧ :(" فاللجاة العليا" في رأس الوادي. وهناك بستان عظيم من شجر الزيتون وبعض أشجار الفاكهة. وخمس عيون ماء. منزل قديم للرهبان وكنيسة" الأربعين شهيدا" وهم الشهداء الأربعون الذين قتلوا لأجل إيمانهم بالمسيح في سبسطية بكبدو كية في ٩ آذار سنة ٣٢٠ م.)

(٣) سماها نعوم شقير في تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٢٢٧" صخرة موسى" بين اللجاة السفلى واللجاة العليا. وهي صخرة جرانيتية علوها نحو ١٢ قدما وطولها وعرضها نصف ذلك. يدل عليها الرهبان أنها الصخرة التي أخرج منها موسى عليه‌السلام الماء لبني إسرائيل. قال تعالى : البقرة ، الآية ٦٠ : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)). وقد سماها ديدييه Belphegor وهو اسم أحد الآلهة عند اليونان مركب من Bel أوBel بعل ، السيد وهو شكل يوناني لاسم أحد الآلهة عند المؤابيين ، كان يعبد على جبل Phegore وكان اليونان يقدمون له طقوسا إباحية ، واستمرت عبادته حتى العصر الروماني. وهي عنوان قصة لميكيافيللي.

١١٨

باعتبار أن تلك الديانات نزلت في أمكنة متقاربة ، ويمكن القول : إن لها مهدا مشتركا واحدا. إن صعود جبل سيناء صعب ومرهق ؛ لأن المكان ما زال كما كان في بدايته منحوتا على شكل درج ، وسيظل كذلك حتى النهاية. ولكن ذلك الدرج الذي يفترض أن يسهل عملية الصعود ، أصبح نصف مهدم ؛ مما يجعل الصعود مرهقا ، والنزول محفوفا بالمخاطر. وفي طريق العودة إلى سهل إيليا عدنا إلى الدير عبر طريق أخرى ، وأدهشني أن الطريق من هذه الناحية جيدة ، وهي في بعض الأحيان محفورة في الصخر القاسي ، وتكاد تكون صالحة لمسير السيارات. إن هذه الطريق التي هي صورة مصغرة عن ممر سيمبلون (١) Simplon تم إنجازها منذ وقت قريب من أجل عباس باشا ذلك الأمير الأفريقي الذي قام مؤخرا بزيارة سيناء ، وبانتظار إنشاء القصر المعلق الذي سبق لي الحديث عنه ، والذي دللت على المكان الذي سيقام فيه على قمة يصعب الوصول إليها (٢). لقد رافقني في رحلتي عدد من رهبان الدير ، وأراد الأخ بيير أن يرافقني ؛ كان شخصا غريبا كل الغرابة ، يلبس جلبابا أزرق ، وقلنسوة أسطوانية ، ويقاسم الرهبان حياة التقشف ، مع أنه ليس برجل دين. كان يوناني

__________________

(١) أحد ممار جبال الألب الرئيسية المستخدمة منذ العهد القديم وربما منذ ما قبل التاريخ بفضل ارتفاعه البسيط (٢٠٠٠ م) ، وهو شرق الحدود بين سويسرا وإيطاليا.

(٢) جاء في كتاب : تاريخ سيناء ... ، موثق سابقا ، ص ٥٤٥ : " ... وبعد وفاة إبراهيم باشا تولى مصر عباس باشا أكبر أولاد الأسرة العلوية. وقد زار سيناء ، واهتم بها اهتماما كبيرا ، وظهر أنه نوى أن يجعلها مصيفا له ، فبنى فيها الحمام فوق النبع الكبريتي قرب مدينة الطور. ومهّد طريقا من دير طور سيناء إلى قمة جبل موسى. وشرع في بناء قصر جميل على جبل" طلعة" غربي جبل موسى. وشرع في مد طريق للعربات من مدينة الطور إلى القصر ، ولكن عاجلته المنية قبل أن يتمها ...".

١١٩

الولادة ، درس في / ٧٧ / الجامعات الأجنبية ، وكان يتحدث بسهولة عجيبة عددا من اللغات إحداها الفرنسية. ويبدو عليه أنه يمتلك ثقافة متنوعة ، وكان يعنى على وجه الخصوص بالفلك والموسيقى ، حتى أسند إليه مسؤولو الدير أن يعلم الرهبان المستجدين في الدير الموسيقى على الأقل. ولكنني فوجئت ، بعد أن تحدثت معه ، بما لاحظته من اضطراب في معارفه ، ومن تشوش في أفكاره ، وقد زالت دهشتي عندما أخبرت أنه مجنون ، وأن أسرته التي عرفت بعض أفرادها في القاهرة ، تعد وجوده في الدير كما لو أنه في مصحة ، لقد كان جنونه خفيفا جدا ، وإنني أعرف عددا من الناس الذين يقال : إنهم عاقلون والذين كانت بالتأكيد صحبتهم أشد علي من صحبته. وليس من شك أن هذا المجنون المسالم والمجدّ يمكن أن يصبح في يوم من الأيام بطل حكاية أسطورية ، بذورها موجودة في الروايات المتناقضة التي يتداولها الناس بشأنه.

يسمى جبل سيناء في المنطقة جبل الشريعة ، وإن اسم القديس ايبستيموس Saint Episteme الذي يلامس الجبل المسمى باسمه الدير من الجهة المقابلة ، يعني باليونانية : المعرفةSavoir مما جعلني أقول للرهبان : إنه لّما كان ديرهم يقع بين العلم والشريعة ، فإنه من غير المستغرب أن يكونوا قديسين وعلماء. لقد كنت أصانعهم بالطبع بما قلت ؛ لأنهم لا نصيب لهم من هذا أو ذاك ؛ إن لدي عموما القليل من الأشياء الجيدة لأقولها عنهم ، ولن أتمكن على الخصوص ، وأنا صادق ، من إطراء تخليهم عن مكاسب الدنيا المؤقتة : / ٧٨ / لقد بدا لي أن الجشع هو السمة المميزة في طبعهم ؛ وقد تجاوزوا بها معنا حدود المعتقد والخجل.

١٢٠