الأمصار ذوات الآثار

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

الأمصار ذوات الآثار

المؤلف:

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي


المحقق: قاسم علي سعد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

والسلطان محمود بن محمد بن ملكشاه صاحب الدولة السّلجوقية ، كان غزير العلم ، وخاصة في النحو والتاريخ والسير.

والسلطان محمد بن أنوشتكين صاحب الدولة الخوارزمية كان عالما جليلا ، وخاصة في التفسير.

والسلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد ـ وهو الذي لحقه التتار في بلاد خراسان ـ كان عالما متفننا ، يجيد الفقه ، والأصول ، وعرف بكثرة مجالسة العلماء ومناظرتهم.

(٢) دول الشام ومصر في عهد الخلافة العباسية البغدادية والمصرية :

* فالدولة الطّولونية : كان أول ملوكها وهو أحمد بن طولون حافظا للقرآن ، يطلب الحديث. كما كان خمارويه بن أحمد بن طولون ثاني ملوك هذه الدولة يطلب الحديث.

* الدولة الحمدانية : اهتم أصحابها بالعلوم ، وخاصة الآداب ، ومهر عدد منهم فيها.

* الدولة النّورية : كان سيدها ، وسلطانها العظيم الملك العادل نور الدين محمود عالما بالفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وسمع الحديث كثيرا ، وأسمعه طلبا للأجر والثواب ، ومما يحكى عنه من قصص جليلة ما ذكره أبو شامة فقال : «بلغني من شدة اهتمام نور الدين رحمه الله بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط أنه قرىء عليه جزء من حديث كان له به رواية فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم ، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يتبسم لتتم السلسلة على ما عرف من عادة أهل الحديث ، فغضب من ذلك وقال : إني لأستحي من الله تعالى أن يراني متبسما والمسلمون محاصرون بالفرنج» (١).

__________________

(١) كتاب الروضتين ، ج ١ ق ٢ ص ٤٥٩.

٦١

* الدولة الأيوبية : لم يعتن ملوك دولة من دول مصر والشام بالعلم كاعتناء الأيوبيين به ، وحرصهم على التزوّد منه ، ومن محاسنهم أنهم ابتعدوا عن علوم الأوائل ، وآثروا علوم الشرائع ، وخاصة الآثار ، إلا أن أحد ملوكهم وهو الناصر داود بن المعظم ملك دمشق اهتم بعلم الفلاسفة ، وشجعه ، وناصره ، لكن سرعان ما أزيل ذلك بعد عزله عن دمشق.

فأول ملوك هذه الدولة وهو السلطان المجاهد صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب كان حريصا على طلب العلم ، فقد رحل في (١) زمن ملكه ومعه إخوانه ، وامراؤه إلى الإسكندرية ، فسمعوا الحديث من الحافظ السّلفي وغيره ، وكان رحمه الله ملما ببعض العلوم كالحديث ، والفقه ، والأنساب ، والتواريخ ، وقد قرىء عليه الحديث في ساعات الوغى ، ولم ينقل عن غيره مثل ذلك ، وآثر سماع الحديث بالأسانيد ، وأسمعه بها ، قال ابن شدّاد : «كان رحمه الله شديد الرغبة في سماع الحديث ، ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية ، وسماع كثير ، فإن كان ممن يحضر عنده استحضره ، وسمع عليه ، فأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده ، ومماليكه المختصين به ، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالا له ، وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ، ويتجافى عن الحضور في مجالسهم ، سعى إليه ، وسمع عليه ، تردد إلى الحافظ الأصفهاني ـ (أي السّلفي) ـ بالإسكندرية حرسها الله تعالى وروى عنه أحاديث كثيرة» (٢).

وقال أيضا : «لقد قرىء عليه جزء من الحديث بين الصفين ، وذلك أني قلت له : قد سمع الحديث في جميع المواطن الشريفة ، ولم ينقل أنه سمع بين الصفين ، فإن رأى المولى أن يؤثر عنه ذلك كان حسنا ، فأذن في ذلك ، فأحضر جزءا ، وهناك أحضر من له به سماع فقرىء عليه ونحن على ظهور

__________________

(١) ينظر قول القاضي الفاضل الذي سبق ذكره في ص ٥٦.

(٢) النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية ٩.

٦٢

الدواب بين الصفين ، نمشي تارة ، ونقف أخرى» (١).

وقال أيضا : «لقد مر بنا رجل جمع بين العلم والتصوف ، وأنه يؤثر زيارة السلطان ، فعرّفت السلطان رحمة الله عليه تلك الليلة وصول هذا الرجل ، فاستحضره ، وروى عنه حديثا» (٢).

وقال أيضا إنه كان : «حافظا لأنساب العرب ووقائعهم ، عارفا بسيرهم وأحوالهم ، حافظا لأنساب خيلهم ، عالما بعجائب الدنيا ، ونوادرها ، بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره» (٣).

وكذلك كان كثير من خلفاء صلاح الدين أهل علم ، ودراية ، ورواية ، وفقه :

فالملك المعظم عيسى ابن الملك العادل محمد ملك دمشق والشام ـ وهو ابن أخي صلاح الدين ـ حفظ القرآن ، وبرع في الفقه على مذهب أبي حنيفة ، ودرس العربية ، والحديث ، وغيرهما من العلوم ، وصنف التصانيف المفيدة ، منها السهم المصيب في الرد على الخطيب ـ ذب فيه عن الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه ـ وشرح الجامع الكبير في الفقه بمعاونة غيره ؛ وسمع مسند الإمام أحمد ، وأمر بترتيبه ، وكان يبحث ، ويناظر ، ويفتي.

والملك الكامل محمد ابن الملك العادل محمد ملك مصر والشام وغيرهما ـ وهو أخو المعظم ـ كان عالما بالحديث ، يحرص على حفظه ونقله ، وقد شغف بسماعه ، وله تعليقات حسنة على صحيح مسلم ، وخرّج له الشيخ أبو القاسم بن الصّفراوي أربعين حديثا سمعها منه جماعة ، وكان يناظر العلماء ، ويكثر من مجالستهم.

__________________

(١) النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية ٢٠.

(٢) المصدر السابق ٣١ ـ ٣٢.

(٣) المصدر السابق ٣٤.

٦٣

والملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر صاحب حماه كان عالما بالتواريخ ، والآداب ، له إلمام بالحديث ، يكثر من المطالعة والبحث ، وله تصانيف حافلة منها : التاريخ الكبير ، وطبقات الشعراء.

والملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء إسماعيل ابن الملك الأفضل علي صاحب حماه ، كان عالما متقنا ، متفننا ، له تصانيف نافعة منها المختصر في أخبار البشر ، وتقويم البلدان.

والملك ظهير الدين أحمد بن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان عالما ، محدثا ، سمع وكتب الكثير.

هذا وقد اهتم الملوك الأيوبيون برواية الحديث وسماعه ، وقد ظهر شيء من ذلك فيمن مر ذكره منهم ، وأضيف إليهم : الملك العادل محمد ملك مصر والشام وغيرهما ـ وهو أخو صلاح الدين ـ الذي طلب الحديث ، وحدث بالجزء السابع من المحامليات عن السّلفي رواه عنه ابنه الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق.

والملك الأشرف موسى ابن الملك العادل صاحب دمشق روى عن جماعة ، وروى عنه آخرون ، وسمع صحيح البخاري في ثمانية أيام من ابن الزّبيدي ، وكان له ميل إلى المحدثين والحنابلة ، وقد كان لهذا الملك دور في نشر العلوم الشرعية ، وإقصاء العلوم الفاسدة ، فلما ملك دمشق رغب الناس في العلوم الشرعية كالتفسير ، والفقه ، والحديث ، ونهاهم عن الاشتغال بعلم الأوائل ، وكان أخوه الملك الناصر داود بن المعظم ملك دمشق قبله قد اهتم بتلك العلوم الضارة ، وروّج أمرها.

والملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب سمع الحديث كثيرا ، وأسمعه.

والملك الأفضل علي ابن السلطان صلاح الدين صاحب الشام سمع الحديث بالإسكندرية وغيرها.

٦٤

والملك العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين ملك مصر والشام سمع الحديث كثيرا.

والملك المعظم تورانشاه ابن السلطان صلاح الدين سمع الحديث وأسمعه ، وانتخب له الدّمياطي جزءا.

والملك السعيد عبد الملك بن الصالح إسماعيل بن العادل روى الموطأ.

والملك أبو المحاسن يوسف ابن الملك الناصر داود بن المعظم سمع الحديث ، وروى عنه الدمياطي في معجمه.

والملك المنصور محمود ابن الملك الصالح إسماعيل بن العادل سمع الحديث كثيرا.

* الدولة المماليكية : كان فيها عدد من السلاطين الذين عنوا (١) بسماع الحديث ، وحرصوا على تلقي بعض العلوم الشرعية ، والمساعدة لها ، ولم يبرز فيهم أحد يمكن أن يعد من العلماء.

فالسلطان الناصر بن قلاوون سمع على قاضي القضاة ابن جماعة عشرين حديثا ، وحضر معه الأمراء.

والسلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين سمع الحديث.

والسلطان الملك الأشرف برسباي الدّقماقي سمع الحديث أيضا.

والسلطان الملك الظاهر سيف الدين جقمق العلائي الظاهري كان متفقها.

والسلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري كان مغرما بقراءة التواريخ ، والسير ، ودواوين الأشعار ، وكان يعقد المجالس العلمية في القلعة كل أسبوع ، ويجمع إليه العلماء.

__________________

(١) جرت العادة في زمن المماليك بقراءة صحيح البخاري مرة كل عام في حضرة السلطان ، انظر : النجوم الزاهرة ١٤ / ٢٦٧.

٦٥

* الدولة العبيدية : كان لبعض ملوكها عناية بالعلم ، لكنه علم السوء والضلال ، والفلسفة والزندقة ، وقد أخرت ذكر هذه الدولة عن مكانها الطبيعي لأنها دولة خبيثة مفسدة.

(٣) دول المغرب والأندلس :

(أ) دول الأندلس : لقد حكم الأندلس عقب زوال الدولة الأموية ، ودولة بني حمّود الأدارسة ، ملوك الطوائف الذين أحبوا العلم ، ونالوا منه قسطا صالحا ، وخاصة الآداب والشعر.

فملك إشبيلية القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عبّاد كان عالما أديبا ، وشاعرا مطبوعا ، وكذلك حفيده المعتمد محمد بن عبّاد.

وملك بطليوس أبو بكر المظفر بن الأفطس كان أديبا مجيدا ، صنف كتابا عظيما في الأدب.

وملك سرقسطة والثغر الأعلى المقتدر أحمد بن سليمان بن محمد بن هود الجذامي نظم الشعر ، وبرع في الأدب ، ومهر في العلوم العقلية كالرياضة ، والفلك ، والفلسفة. كما أن خليفته وابنه المؤتمن يوسف أتقن علم الرياضة ، وصنف فيه تصانيف مهمة ، واهتم بهذه العلوم أيضا عدد آخر من ملوك بني هود.

وحاكم المريّة وأعمالها أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح الملقب بالمعتصم بالله كان شاعرا ، ومحبا للعلوم الشرعية كالتفسير والحديث يجلس يوما كل أسبوع للفقهاء والعلماء فيتناظرون بين يديه.

ولما ضعف أمر الأندلس ، واستولى النصارى على معظم نواحيه ، بقيت منه بقية في أيدي المسلمين وهي مملكة غرناطة التي حكمها بنو نصر (بنو الأحمر) ، وكان هؤلاء الملوك يميلون إلى العلم ، وقد ظهر فيهم علماء وفقهاء.

٦٦

فمحمد بن محمد بن يوسف بن نصر المعروف والده بابن الأحمر كان عالما أديبا ، عرف بالفقيه لعلمه وتقواه.

وأبو الحجاج يوسف بن إسماعيل كان ذا علم وأدب أيضا.

(ب) دول المغرب : لم يبلغ ملوك المغرب في العلوم ما بلغه نظراؤهم في المشرق ، ولعل ذلك يعود إلى كثرة الاضطرابات في بلدهم.

فدولة الأدارسة العلويين نبغ في العلم من ملوكها يحيى بن إدريس بن عمر بن إدريس الأصغر ، حيث كان فقيها ، حافظا للحديث والآثار.

ودولة المرابطين كان مؤسسها الأول ـ وإن لم يكن من ملوكها ـ الشيخ عبد الله بن ياسين أحد العلماء الفقهاء.

ودولة الموحدين كان مؤسسها الأول أيضا ـ وإن لم يكن من ملوكها ـ المهدي بن تومرت إماما في علوم الشريعة ، فقيها ، حافظا للحديث ، متمكنا في العربية ، متعمقا في أصول الدين.

كما كان أول ملوك هذه الدولة وهو عبد المؤمن بن علي عالما باللغة ، والنحو ، والأدب ، والقراءات ، حافظا للقرآن ، والحديث ، يجيد نظم الشعر ، وله إلمام بعلم التاريخ ، وعلم أصول الدين ، وقد طلب العلم من صغره.

وكان ابنه وخليفته من بعده أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ذا علم وفقه ، له إلمام بكلام العرب يحفظ أيامهم ومآثرهم وجميع أخبارهم في الجاهلية والإسلام ، كما كان عارفا بالفقه ، حافظا للغة ، متبحرا في النحو ، وكان يحفظ الصحيحين ويملي أحاديث الجهاد على جنده ، ثم عكف على دراسة الفلسفة والفلك والطب ، وقد لقي جماعة كثيرة من العلماء واستفاد منهم.

وكان ابنه وخليفته من بعده أبو يوسف يعقوب المنصور بن يوسف عالما ، يحفظ القرآن والحديث ، ويتكلم ويناظر في الفقه ، ويفتي ، وعنده ولع

٦٧

بمجالسة العلماء وخاصة أهل الحديث منهم ، وكانت مجالسه تفتتح بالتلاوة ، ثم بقراءة بعض الأحاديث ، ثم بدعائه ، وقد صنف كتابا في العبادات.

دولة بني زيري في إفريقيّة : وإفريقيّة من أقاليم المغرب ، وقد كان بنو زيري في بادىء أمرهم ولاة من قبل العبيديين على إفريقيّة إلى أن خلع أحد ملوكهم وهو المعز بن باديس بن المنصور طاعة هؤلاء الزنادقة ، وأظهر الدعوة للعباسيين ، وأدخل إلى إفريقيّة مذهب مالك رضي الله عنه في الفروع ، ومذهب أهل السنّة في الأصول بعد أن كانت تلك الناحية تغلي بالتشيع والرفض فقها واعتقادا ، كما قام بمحاربة الشيعة أتباع العبيديين ، ووضع السيف فيهم حتى استأصلهم ، وقد سار على منواله ابنه تميم ، لكن يحيى بن تميم عاد إلى طاعة العبيديين.

وقد كان تميم بن المعز عالما من فحول الشعراء. وكان ابنه يحيى عالما باللغة ، والعربية ، والأدب ، والأخبار ، وأيام الناس ، والطب ، يجيد نظم الشعر ، ويكثر من مطالعة كتب السير والأخبار.

هذا وقد اقتصرت في كلامي السابق على بيان اهتمام الخلفاء ، والملوك ، والسلاطين بالعلم والتعلم ، دون غيرهم من الحكام كالوزراء ، وكبار الأمراء ، لأنهم هم الأصل وغيرهم تبع ، ولما كان كثير من الوزراء ، والكبراء ، ممن برع في العلم ، ونال منه نصيبا كبيرا ، أحببت أن أذكر جانبا من أخبارهم حتى لا يستدرك عليّ فيها :

ففي الدولة العباسية ظهر وزراء علماء ، ذوو معرفة ودراية ، ففي العهد الأول كالبرامكة ، ويحيى بن أكثم وهو القائل : «وليت القضاء ، وقضاء القضاة ، والوزارة ، وكذا وكذا ، ما سررت بشيء كسروري بقول المستملي :

من ذكرت رضي الله عنك» (١). وفي العهد الثاني كوزير المقتفي لأمر الله

__________________

(١) شرف أصحاب الحديث ١٠٤.

٦٨

العالم ، الفقيه ، المحدث ، المتفنن يحيى بن محمد بن هبيرة ، صاحب التصانيف الحافلة ، والتآليف البديعة ، ومن أهمها كتاب الإفصاح عن معاني الصحاح ، وهو شرح على صحيحي البخاري ومسلم ، وكان ابن هبيرة يحب علم الحديث ، ويكثر من سماعه ومذاكرته ، وتصنيف الشروح عليه (١).

وفي الدولة الأموية في الأندلس : كان الحاجب المنصور محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عامر بارعا في العلوم الشرعية ، والأدبية ، واللغوية ، وخاصة علم الحديث ، فقد طلبه منذ حداثته ، وأكثر من سماعه ، وقراءته على أئمة عصره.

أما باقي الدول فقد ظهر في وزرائها من له علم ، ومعرفة ، وطلب :

ففي الدولة الإخشيدية كان الوزير أبو المسك كافور له نظر في الفقه والنحو ، وكان وزيره ابن حنزابة عالما يروي الحديث ، ويمليه في حال الوزارة.

وفي الدولة البويهية كان محمد بن الحسين بن محمد المعروف بابن العميد وزير ركن الدولة البويهي ، عالما ، أديبا ، لغويا ، شاعرا ، حكيما. وكان إسماعيل بن عباد المعروف بالصاحب ـ لصحبته الوزير ابن العميد ـ وزير مؤيد الدولة بن ركن الدولة البويهي عالما ، له تصانيف جليلة.

وفي الدولة السّلجوقية كان نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطّوسي وزير ألب أرسلان ، وملكشاه من أعظم وزراء الدنيا علما ودينا ، فقد حفظ القرآن ، وطلب الفقه في حداثته حتى برع فيه ، كما أتقن علم العربية ، وأكثر من سماع الحديث ، وإملائه ، فقد أملاه في بغداد ، ونيسابور ، وغيرهما من بلاد المشرق.

وفي الدولة الخوارزمية كان شهاب الدين أبو سعد بن عمران الخيوقي

__________________

(١) وانظر عن اهتمام كثير من الوزراء بالعلوم كتاب وفيات الأعيان ٥ / ٩٤ ـ ١٤٧.

٦٩

مستشار السلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه ، ومقدم دولته ، فقيها ، مفتيا ، عنده إلمام بالطب ، واللغة ، والخلاف ، وسائر العلوم.

وفي الدولة الأتابكية بالموصل : كان الأمير الكبير مجاهد الدين قايماز بن عبد الله الزيني الذي فوض إليه حكم هذه الدولة عالما فهما ، قال ابن الأثير :

«وكان ... يعلم الفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ويحفظ من الأشعار والحكايات والنوادر والتواريخ شيئا كثيرا ، إلى غير ذلك من المعارف الحسنة» (١).

وفي الدولة الأيوبية : برز في العلم والأدب وزيرها القاضي الفاضل العلامة عبد الرحيم بن علي البيساني العسقلاني المصري ، الذي يعد أبلغ وأفصح أهل زمنه ، وقد سمع الحديث من كبار محدثي عصره كالحافظ السّلفي ، والحافظ أبي القاسم بن عساكر. وكان وزير الأيوبيين أيضا القاضي الأشرف أحمد ابن القاضي الفاضل ممن طلب العلم والحديث ، واهتم بسماعه وإسماعه.

كما كان جمال الدين علي بن يوسف بن إبراهيم القفطي أحد وزراء الأيوبيين في حلب عالما أديبا متفننا في العلوم كالنحو ، واللغة ، والفقه ، وعلم القرآن ، والحديث ، والأصول ، والتاريخ ، والجرح والتعديل ، والمنطق ، والرياضة ، والنجوم ، والهندسة ؛ وله تصانيف عظيمة نافعة في عدد من الفنون الشرعية ، والتاريخية ، والأدبية ، وغيرها.

وكان القاضي مجد الدين البهنسي أحد وزراء الأيوبيين عالما ، نحويا ، ولغويا.

كما كان ضياء الدين بن الأثير صاحب المثل السائر ووزير الأيوبيين عالما مشهورا.

__________________

(١) التاريخ الباهر ١٩٣.

٧٠

ونبغ في العلم من وزراء الأيوبيين أيضا أمين الدولة بن غزال السامري وزير الملك الصالح إسماعيل بن العادل. وصفي الدين عبد الله بن علي المعروف بابن شكر وزير الملك العادل ، الذي صنف كتابا في الفقه على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه.

وفي الدولة المماليكية : كان أحد أمرائها وهو علم الدين سنجر الدّويدار من العلماء الأجلاء المفتين ، له مشاركة في الفقه والحديث ، صنف شرحا كبيرا على مسند الشافعي ، وقد خرّج له المزّي جزأين عوالي ، كما خرّج له غيره. وكان نائب الشام من قبل المماليك سيف الدين تنكز يكثر من طلب الحديث وسماعه ، وقد عمل على إسماعه أيضا. وكان نائب الإسكندرية الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام مشاركا في عدة علوم ، وله تصنيف في التاريخ. كما أن الأمير الكبير بيبرس المنصوري الدّوادار كان مولعا بسماع الحديث ، والبحث ، وقد صنف تاريخا كبيرا بمعاونة غيره.

وفي مملكة غرناطة بالأندلس : برع الوزير الكبير أبو عبد الله محمد بن عبد الله السّلماني المعروف بلسان الدين بن الخطيب بالعلم والأدب ، فقد كان كاتبا ، شاعرا ، أديبا ، مؤرخا ، طبيبا ، فيلسوفا ، له إلمام ببعض العلوم الشرعية ، بل إن السّخاوي عده من المتكلمين في الرجال (١).

ثانيا ـ تشجيع الحكام للعلماء :

فمن ألقى نظرة عامة في سير وتواريخ حكام المسلمين عبر العصور الطويلة ، يجد الكثير منهم يميل إلى العلماء ، ويقربهم ، ويغدق عليهم في العطاء.

ولا حاجة لبيان تشجيع الخلفاء الأمويين في دمشق ، والعباسيين في عصرهم الأول ببغداد للعلماء ، لأنه أمر واضح وجلي.

__________________

(١) الإعلان بالتوبيخ ٤٤٦.

٧١

أما الذي يحتاج إلى توضيح فهو تشجيع العلماء من قبل الخلفاء العباسيين في العهد الثاني ، والأمويين في الأندلس ، وكذا ملوك الدول المستقلة التي عاشت في العهد الأول والثاني لبني العباس.

وأبدأ بخلفاء العباسيين في العهد الثاني فأقول : لقد وجد في هؤلاء الخلفاء من وصف بحبه للعلماء ، وحرصه على رفع مكانتهم كالقادر بالله بن المقتدر ، والمستظهر بالله بن المقتدي بالله ، والمسترشد بالله بن المستظهر بالله ، والراشد بالله بن المسترشد ، والمقتفي لأمر الله بن المستظهر بالله ، والمستضيء بأمر الله بن المستنجد بالله ، والناصر لدين الله بن المستضيء بأمر الله ، والمستنصر بالله بن الظاهر بأمر الله ، والمعتضد بالله بن المستكفي بالله ، والمعتضد بالله بن المتوكل على الله ، والأخيران كانا بمصر.

أما ملوك وخلفاء الأمويين في الأندلس فقد فاقوا خلفاء العصر الثاني لبني العباس ، في حبهم للعلماء ، والمبالغة في إكرامهم ، وذلك مثل : عبد الرحمن الدّاخل ، وابنه هشام ، وابنه الحكم بن هشام ، وابنه عبد الرحمن بن الحكم ، وابنه محمد بن عبد الرحمن ، وابنه عبد الله بن محمد ، والخليفة عبد الرحمن الناصر ، والخليفة الحكم المستنصر بن الناصر.

وكان ملوك دول المشرق والشام ومصر من أكثر الناس ميلا للعلماء ، كإسماعيل بن أحمد السّاماني صاحب الدولة السامانية ، وأحمد بن طولون صاحب الدولة الطولونية ، وابنه خمارويه ، ومحمود بن سبكتكين صاحب الدولة الغزنوية ، وابنه السلطان مسعود ، وشهاب الدين محمد بن حسام صاحب الدولة الغورية ، وأخيه غياث الدين ، وملكشاه صاحب الدولة السّلجوقية ، وحفيده محمود بن محمد ، بل وسائر سلاطين السّلاجقة ، وعلاء الدين خوارزم شاه محمد صاحب الدولة الخوارزمية ، ونور الدين محمود ، ومظفر الدين كوكبوري صاحب إربل ، وبدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وغيرهم.

كما حرص الأيوبيون كل الحرص على تشجيع العلماء ، وذلك كالأمير

٧٢

نجم الدين أيوب والد صلاح الدين ، والسلطان صلاح الدين بن نجم الدين ، والملك المعظم عيسى بن العادل ملك دمشق والشام ، والملك الكامل محمد بن العادل ملك مصر والشام أيضا ، والملك الأشرف موسى بن العادل ملك دمشق ، والملك المؤيد إسماعيل بن الأفضل علي صاحب حماه ، والملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر صاحب حماه ، والملك ظهير الدين أحمد ابن السلطان صلاح الدين ، والملك المنصور محمود ابن الملك الصالح إسماعيل بن العادل ، وغيرهم.

وكان لمعظم السلاطين المماليك يد طولى في الاهتمام بالعلماء ، والاحتفال بهم ، حتى إن الملك الظاهر سيف الدين برقوق الجركسي كان إذا أتاه أحد من العلماء قام إليه ، قال ابن تغري بردي : «ولم يعرف أحد قبله من الملوك الترك يقوم لفقيه» (١) ، وممن تبع برقوق على هذا الأمر الملك الظاهر سيف الدين جقمق الظاهري.

ومن السلاطين المماليك الذين اشتهروا بحب العلماء ، والأنس بمجالسهم ، الملك الظاهر بيبرس البندقداري ، والملك الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون ، والملك المؤيّد شيخ المحمودي ، والملك الأشرف برسباي ، والملك الأشرف إينال ، والملك الظاهر خشقدم ، وغيرهم.

كما كان لبعض الملوك العبيديين في مصر دور كبير في تشجيع العلم وأهله ، كالمعز لدين الله ، والعزيز بالله ، وغيرهما ، لكنهم حاربوا علوم الشريعة والآثار ، وعملوا على إبعاد أو قتل من نسب إليها من العلماء.

هذا بالنسبة لملوك المشرق ، أما ملوك المغرب فقد وجد فيهم من أولى العلماء عنايته ، وبالغ في إكرامهم ، فمن ملوك الموحدين عبد المؤمن بن علي ، وابنه يوسف الذي جعل من مرّاكش منارة للعلم ، والمنصور يعقوب بن

__________________

(١) النجوم الزاهرة ١١ / ٢٩١.

٧٣

يوسف. ومن ملوك المرابطين يوسف بن تاشفين ، وابنه علي ، ومن بني زيري أصحاب إفريقيّة المعز بن باديس ، وتميم بن المعز ، ويحيى بن تميم. وفي الأندلس كان بنو حمّود ، وملوك الطوائف ، وملوك غرناطة ممن اشتهر بالميل إلى العلماء ، والرغبة في مجالسهم.

وقد وجد في وزراء ، وأمراء بعض الدول المذكورة من عمل على تشجيع العلماء ، والإنفاق عليهم ، والاهتمام بهم ، والحرص على إكرامهم ، ورفع شأنهم ، ففي الدولة الإخشيدية كأبي المسك كافور ، وفي الدولة الأموية في الأندلس كالحاجب المنصور محمد بن أبي عامر ، وفي الدولة السّلجوقية كالوزير العظيم نظام الملك ، وفي الدولة المماليكية كالأمير علم الدين سنجر الجاولي.

ثالثا ـ إنشاء الحكام للمراكز العلمية كالمدارس والمكتبات :

لقد حرص الخلفاء ، والملوك ، والسلاطين ، والأمراء المسلمون على تهيئة الأسباب اللازمة لانتشار العلوم في بلادهم ، وكان من أهم ما قاموا به لتحقيق هذا الهدف إنشاؤهم للمراكز العلمية كالمدارس والمكتبات.

ولم يكن العلماء والأثرياء أقل رغبة منهم في هذا السبيل الخير ، بل إن العلماء هم الذين شجعوا أصحاب السلطان على عملهم المذكور.

والمدارس والمكتبات العامة لم تكن موجودة في الصدر الأول ، وذلك لأن المساجد كانت تعمل عمل المدارس المتأخرة في نشر العلم ، قال المقريزي : «والمدارس مما حدث في الإسلام ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين ، وإنما حدث عملها بعد الأربع مئة من سني الهجرة ، وأول من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور» (١). كما كانت معظم علوم القوم محفوظة في صدورهم ، ومخزونة في أذهانهم ، مما جعلهم

__________________

(١) المواعظ والاعتبار ٢ / ٣٦٣.

٧٤

يستغنون عن المكتبات ، أو عن الاعتماد على الكتب ، قال الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ عقب ذكره لتراجم حفاظ الطبقة الرابعة الذين شرع في عهدهم بتدوين السنن ، وجمع الفروع ، وتصنيف العربية : «ثم كثر ذلك ـ (أي التصنيف) ـ في أيام الرشيد ، وكثرت التصانيف ، وألّفوا في اللغات ، وأخذ حفظ العلماء ينقص ، ودوّنت الكتب ، واتكلوا عليها ، وإنما كان قبل ذلك علم الصحابة والتابعين في الصدور فهي كانت خزائن العلم لهم رضي الله عنهم» (١).

وسأقوم في هذا المبحث إن شاء الله تعالى بإلقاء الضوء على تلك الجهود الخيّرة التي قام بها حكام المسلمين ، وعلماؤهم ، خدمة للعلم وأهله ، ورغبة في نشره وإذاعته.

ولا يخفى ما في هذا الموضوع من سعة ، وتشعب ، يضطران الباحث فيه إلى جعله أقساما أو فصولا تمنع من التداخل ، وتساعد على التنظيم والترتيب.

والتقسيم الذي يتناسب مع ما سبق من بحوث هذه المقدمة هو تنظيم المعلومات الواردة في هذا المبحث على الدول الإسلامية في المشرق ، وفي الشام ومصر ، وفي المغرب والأندلس.

(١) دول المشرق :

وأبدأ بذكر اهتمام الخلفاء بإنشاء المراكز العلمية ، وأتبعه ببيان اهتمام الملوك والسلاطين ، ثم الوزراء والأمراء والكبراء ، ثم العلماء بهذا الأمر.

(أ) حرص الخلفاء على تشييد المراكز العلمية : لقد شهدت مدينة السلام (بغداد) منذ تأسيسها تقدما حضاريا ، ونهضة علمية رفيعة ، فكانت منارة ، وقبسا لذوي النّهى والألباب ، ولم يكن ذلك متحققا لولا عناية الخلفاء بالعلوم ، وارتشافهم من معينها العذب ، وتطلعهم إلى نشرها بكل وسيلة نبيلة ،

__________________

(١) ١ / ١٦٠.

٧٥

وطريقة حسنة ، ومن أعظم تلك الوسائل والطرائق إقامتهم للمراكز العلمية العظيمة من مدارس ومكتبات ، ولم أر بعد تتبع دقيق ذكرا لمدرسة بنيت في العهد الأول لبني العباس ، أما المكتبات فقد وجدت واشتهرت ، فقد كان للخليفة المنصور خزانة كتب كبيرة ، وهي لا تذكر أمام المكتبة العظيمة التي أسسها هارون الرشيد ـ فيما قيل ـ وعمل ابنه المأمون على توسعتها ، وجلب المجموعات الكبيرة من الكتب إليها ، وكانت تسمى ببيت الحكمة ، وقد حرص المأمون على تزويدها بكل كتاب يعلم وجوده على ظهر البسيطة ، سواء كان في علوم الشريعة ، أو العلوم الأخرى المفيدة ، والمذمومة ، ويقول القلقشندي في هذه المكتبة : «ويقال إن أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث خزائن : إحداها : خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد ، فكان فيها من الكتب ما لا يحصى كثرة ، ولا يقوّم عليه نفاسة ، ولم تزل على ذلك إلى أن دهمت التتر بغداد ، وقتل ملكهم هولاكو المستعصم آخر خلفائهم ببغداد ، فذهبت خزانة الكتب فيما ذهب ، وذهبت معالمها ، وأعفيت آثارها» (١).

كما كان للمأمون خزانة كتب خاصة به.

أما في العصر الثاني لبني العباس فقد كان للخليفة المعتضد بالله ، والخليفة المقتدي بأمر الله ، والخليفة الراضي (٢) بالله ، والخليفة الناصر لدين الله خزائن كتب.

وكان الخليفة الناصر لدين الله قد أنشأ من خزانته المذكورة ثلاث خزائن ، فوقف واحدة منها على المدرسة النّظامية ببغداد ، وأخرى على الرباط (٣) الخاتوني السّلجوقي ببغداد ، وثالثة على دار المسنّاة (٤) ببغداد أيضا ؛ كما أنشأ خزانة كبيرة في رباط بناه بالحريم الطاهري ببغداد.

__________________

(١) صبح الأعشى ١ / ٤٦٦.

(٢) وكان عند الأمير هارون بن المقتدر أخي الراضي بالله وعامل فارس مكتبة عظيمة.

(٣) بنى هذا الرباط الخليفة الناصر عند تربة زوجته سلجوقة خاتون.

(٤) بنى هذه الدار الخليفة الناصر أيضا.

٧٦

كما كان للخليفة المستنصر بالله خزانة كتب خاصة غير الخزانة العظيمة ، العديمة المثل التي وقفها (١) على المدرسة المستنصرية ، وقد بنى المستنصر هذه المدرسة العظيمة الجامعة سنة ٦٣١ ، ووقف عليها أوقافا عظيمة جدا ، وجعل فيها دروسا في الفقه على المذاهب الأربعة ، وهو أول من ابتكر هذه الفكرة ، كما جعل فيها دورا للقرآن ، والحديث ، والعربية ، والفرائض ، والطب ، والرياضة.

وكان لآخر خلفاء العباسيين في بغداد ، وهو المستعصم بالله الشهيد خزانتان عظيمتان من الكتب ، وقد بنى مدرسة للحنابلة ببغداد.

(ب) عناية ملوك وسلاطين المشرق ببناء المراكز العلمية : عرفت المكتبات في المشرق منذ زمن بعيد ، أما المدارس فقد حدثت في وقت متأخر عنها ، وكان أهل المشرق أول من حفظ عنهم بناء المدارس ، قال المقريزي : «والمدارس مما حدث في الإسلام ، ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين ، وإنما حدث عملها بعد الأربع مئة من سني الهجرة ، وأول من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور ، فبنيت بها المدرسة البيهقية ، وبنى بها أيضا الأمير نصر بن سبكتكين مدرسة ، وبنى بها أخو السلطان محمود بن سبكتكين مدرسة ، وبني بها أيضا المدرسة السعيدية ، وبني بها أيضا مدرسة رابعة ، وأشهر ما بني في القديم المدرسة النّظامية ببغداد» (٢).

ففي بلاد ما وراء النهر أنشأ نوح بن نصر صاحب الدولة السامانية مكتبة كبيرة ببخارى ، كانت من عجائب مكتبات الدنيا ، وكانت بخارى في عهد السامانيين أعظم المراكز العلمية في المشرق الإسلامي الأقصى.

__________________

(١) كان المستنصر من أشد الخلفاء رغبة في جمع الكتب ، ووقفها ، حتى بيعت كتب العلم في زمنه بأغلى الأثمان.

(٢) المواعظ والاعتبار ٢ / ٣٦٣ ، وانظر : علماء النّظاميات ومدارس المشرق الإسلامي ٤ ـ ٥.

٧٧

وقد عمل السلطان محمود بن سبكتكين صاحب الدولة الغزنوية مكتبة عريقة في غزنة ، جلب إليها مجموعات كبيرة من الكتب.

وأنشأ السلطان مغيث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن ملكشاه السّلجوقي مدرسة كبيرة للحنفية ببغداد.

وأنشأ ملك الغوريين السلطان غياث الدين محمد بن سام الغوري عدة مدارس في غزنة.

وأنشأ عضد الدولة بن ركن الدولة البويهي في قصره بشيراز خزانة كتب زاخرة ، ضمت بين جنباتها كل ما سمع به من كتب الدنيا ، مما تيسر له الحصول عليه ، وقد كان عضد الدولة هذا محبا للعلوم وأهلها ، دنى منه العلماء ، وصنفوا له تصانيف حافلة ، كما أمد العضد الخزانة الحيدرية في النّجف بكتب كثيرة.

وأنشأ الملك السعيد نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود صاحب أتابكية الموصل مكتبة عظيمة ، ومدرسة للشافعية كلاهما بالموصل ، وقد قال ابن الأثير في هذه المدرسة : «وهي من أحسن المدارس» (١).

وأنشأ الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل مكتبة كبيرة ، وعدة مدارس في بلده ، وكان هذا الملك محبا للعلم ، مقرّبا للعلماء ، يحب قراءة كتب التواريخ والسير ، وقد جمع له عز الدين بن الأثير تاريخه المشهور.

وقد بنى السلطان خوارزم شاه علاء الدين تكش بن أرسلان صاحب الدولة الخوارزمية مدرسة عظيمة للحنفية في خوارزم ، وجعل فيها دارا للكتب. كما بنى آخر سلاطين الخوارزمية جلال الدين منكبرتي مدرسة كبيرة بأصبهان.

وبنى الملك المعظم أبو سعيد مظفر الدين بن زين الدين كوكبوري صاحب إربل ، والملك مبارز الدين أبو بكر كك صاحب إربل والجبال مدرستين.

__________________

(١) التاريخ الباهر ٢٠١.

٧٨

وبنى زين الدين علي بن بكتكين صاحب إربل ووالد صاحبها مظفر الدين كوكبوري عدة مدارس بالموصل.

وأنشأ الملك الصالح ابن الملك المنصور صاحب ماردين مدارس كثيرة في بلاده.

وبنى السلطان شاه أرمن ناصر الدين محمد بن إبراهيم صاحب خلاط مدرسة في بلده.

وبنى الملك عز الدين أبو الحارث أرسلان آبه بن أتابك صاحب مراغة مدرسة.

وكان يوجد في مدينة تبريز أعظم مدن الشرق في عهد التتار عدة مدارس أنشأها السلطان محمود غازان التتاري.

وكان سيف الدين غازي بن عماد الدين زنكي صاحب الموصل قد بنى مدرسة عظيمة في بلده ، قال فيها ابن الأثير : «وهي من أحسن المدارس وأوسعها ، وجعلها وقفا على الفقهاء الشافعية والحنفية» (١).

وأنشأ عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي صاحب الموصل مدرسة في بلده جعلها للحنفية والشافعية ، وقد قال فيها ابن خلّكان : «وهي من أحسن المدارس» (٢).

وبنى القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي مدرسة بالموصل.

وأنشأ الملك العادل نور الدين محمود مدرسة بالجامع الذي بناه في الموصل.

__________________

(١) التاريخ الباهر ٩٣.

(٢) وفيات الأعيان ٥ / ٢٠٧.

٧٩

(ج) اهتمام الوزراء والأمراء والكبراء بإنشاء المراكز العلمية : عني الخلفاء ، والملوك ، والسلاطين باختيار وزرائهم ، وكبار دولتهم ، من أهل العلم والشرف والنباهة ، وقد حرص هؤلاء الرؤساء على التزود من العلم ، ونشره ، والتقرب من أهله ، فبنوا المدارس والمكتبات الخاصة والعامة ، ووقفوا عليها الأوقاف الجليلة.

فوزير الخليفة هارون الرشيد يحيى بن خالد البرمكي الفارسي كانت له ببغداد خزانة كتب حافلة ، وقد كان هذا الوزير زنديقا فهو أول من أدخل كتب الفلسفة إلى ديار الإسلام ، وأمر بتعريبها ، وتبعه على فعلته هذه الخليفة المأمون عفا الله عنه.

ووزير الخليفة المعتصم العالم الكبير محمد بن عبد الملك الزيات كانت له خزانة كتب نفيسة في سرّ من رأى.

ووزير الخليفة المتوكل العالم الفتح بن خاقان كان مغرما بالتقرب من العلماء ، وبالمطالعة ، وجمع الكتب ، وقد عمل له أبو الحسن علي بن يحيى المنجّم خزانة كتب كبيرة جدا ، لكن الكثير من كتبها كان في علوم اليونان الفلاسفة.

ووزير الخليفتين المعتضد ، والمكتفي ، أبو الحسين القاسم بن عبيد الله كانت له خزانة كتب ، ضم إليها مكتبة الإمام أبي العباس أحمد بن يحيى النّحوي المعروف بثعلب.

ووزير الخليفتين المقتفي ، والمستنجد ، العالم ، المتفنن ، أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة ، كانت له خزانة كتب حافلة وقفها على مدرسته ببغداد.

ووزير الخليفة الناصر لدين الله العالم مؤيد الدين أبو المظفر بن القصاب أنشأ مكتبة عظيمة في بغداد.

٨٠