الأمصار ذوات الآثار

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

الأمصار ذوات الآثار

المؤلف:

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي


المحقق: قاسم علي سعد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

مستمرة وضارية ، حتى استرجع منهم معظم البلاد الشامية وخاصة بيت المقدس ، فتوسعت دولته بذلك بحيث شملت الديار المصرية ، والشامية ـ ما عدا أجزاء يسيرة ـ والجزرية ، والموصلية ، واليمنية ، والحجازية ، ثم توفي إلى رحمة الله سنة ٥٨٩ ، فتقاسم دولته خلفاؤه من بعده ، ثم زالت الدولة الأيوبية من مصر سنة ٦٥٢ على يد المماليك البحرية.

* دولة المماليك البحرية : المماليك البحرية هم الترك الذين اشتراهم (١) الملك الصالح أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر ـ أخي صلاح الدين ـ بن أيوب ملك مصر ، وبنى لهم قلعة بجزيرة الروضة في النيل وأسكنهم فيها ـ فلذا سموا البحرية ـ واتخذهم أمراء ، وأعوانا ، وجندا ؛ ثم توفي الصالح سنة ٦٤٧ ، فتولى الملك من بعده ابنه المعظم توران شاه فلم يلبث فترة يسيرة حتى قتل على يد مماليك أبيه سنة ٦٤٨ ، فأقام المماليك بعده زوجة أبيه الصالح شجرة الدر ، ثم عزلوها ، وولوا مكانها المعز (٢) أيبك التّركماني المملوكي سنة ٦٤٨ وبه بدأت دولة المماليك البحرية ، ثم ولوا مع المعز أحد الأيوبيين وهو الأشرف موسى بن يوسف ، لكن المعز عزله بعد ذلك ، وتفرد بالسّلطنة ، ثم قتل المعز ، فتولى مكانه ابنه المنصور علي الذي خلعه مملوك المعز الملك المظفر سيف الدين قطز وتولى مكانه عرش مصر ، وفي عهد هذا السلطان العظيم انتصر المسلمون بقيادته على جحافل التتار في موقعة عين جالوت الشهيرة فأفنى المسلمون التتار المحاربين قتلا ، وأخرجوهم من بلاد الشام كلها بعد أن أحكموا سلطانهم فيها ، وتعتبر هذه المعركة أول معركة يهزم فيها التتار هزيمة مؤثرة ، ثم تتالت عليهم الهزائم بعد ذلك ولله الحمد والمنّة ، وقد اشترك في هذه المعركة العظيمة قائد جند قطز بيبرس البندقداري حيث أبلى فيها بلاء حسنا ، وتتبع فلول التتار حتى أخرجهم من

__________________

(١) المماليك الترك هم الذين أوصلوا الملك الصالح إلى كرسي السلطنة ، لذا أكثر من شرائهم ، والعناية بهم.

(٢) لم يكن المعز ، ولا ابنه ، ولا قطز من المماليك البحرية.

٢١

الديار الشامية ومن دولة الروم السّلجوقية ، وضم تلك البلاد إلى حكم سلاطين مصر ، ثم قتل المظفر قطز فتولى سدّة الملك بعده الملك الظاهر بيبرس أعظم سلاطين المماليك ، وأول المماليك البحرية الذين علوا كرسي السلطنة ، وقد قام الظاهر باسترداد بعض الحصون الشامية التي بقيت بيد الفرنجة كأنطاكية ، والقليعات ، وحلبا ، وعرقة ، وصفد ، ويافا ، وقيساريّة الشام ، وأرسوف ، وغيرها. وقد أخزى الله على يديه التتار والفرنجة ، كما تمكن هذا السلطان من فتح بلاد النّوبة بأكملها.

وكان من أعمال بيبرس المحمودة أن نصب سنة ٦٥٩ أحد العباسيين خليفة في مصر بعد أن زالت الخلافة في بغداد على يد التتار سنة ٦٥٦ ، وانقطعت أكثر من ثلاث سنين ، ثم توفي الظاهر رحمه الله تعالى سنة ٦٧٦ بعد أن دام حكمه سبع عشرة سنة.

فتولى بعده ابنه بركة ، ثم ابنه الآخر سلامش ، ثم قام سيف الدين قلاوون بخلع الأخير ، وتولى مكانه ، وتلقب بالمنصور ، وكان هذا السلطان كسلفه بيبرس من أعظم سلاطين المماليك ، ففي عهده حقق المسلمون نصرا مؤزّرا على التتار بظاهر حمص ، حيث أفنى المسلمون التتار المهاجمين ؛ كما تمكن من فتح حصن المرقب من الفرنجة وهو من أمنع الحصون ، وقد حقق الله على يديه أيضا فتح طرابلس الشام ، وقتل من فيها من الفرنجة ، وكان هؤلاء لعنهم الله قد استولوا عليها سنة ٥٠٣ ، ولم تفتح إلا سنة ٦٨٨ على يد قلاوون.

وفي السنة التالية لهذا النصر ـ أي سنة ٦٨٩ ـ توفي قلاوون رحمة الله عليه فتولى بعده ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل.

وكان عهد الأشرف عهدا ميمونا ، حيث قام هذا السلطان بفتح عكا ، وقتل فيها ما لا يحصى من النصارى ، وكان هؤلاء قد أخذوها من صلاح الدين الأيوبي سنة ٥٨٧ ، وظلت تحت أيديهم إلى سنة ٦٩٠ حيث فتحها الأشرف ،

٢٢

ولما علم الفرنجة بهذا الفتح وهي الحصن الحصين ، والدرع المنيع ، دخل الرعب في قلوبهم ، وعلموا أن لا قرار لهم في سواحل الشام ومدنه ، ففروا على وجوههم من بيروت ، وصيدا ، وصور ، وأنطرطوس ، وغيرها ، فعادت بلاد الشام كاملة إلى المسلمين ، والحمد لله رب العالمين.

كما قام الأشرف بفتح قلعة الروم ، وفتك بمن فيها من الأرمن ، ثم قتل رحمه الله تعالى.

وفي عهد خليفة الأشرف وهو أخوه الملك الناصر بن قلاوون هجم التتار بجموع حاشدة على بلاد الشام ، واستولوا على دمشق ، وكانت بينهم وبين السلطان وجيشه حروب ضارية كان النصر فيها دولا ، لكن الخاتمة الخيرة كانت للمسلمين حيث قتلوا من التتار الجموع التي تفوق الحصر.

ومن محاسن عهد الناصر فتح جزيرة أرواد ، وقتل وأسر جميع أهلها من الفرنجة ، وكذلك فتح ملطية وقتل من بها من النصارى ، ثم توفي الملك الناصر ، وكان قد عزل مرتين عن الملك ثم أعيد إليه ، وقد خطب له ببغداد ، والعراق ، وديار بكر ، والموصل ، والروم إلى جانب بلاده.

وكان الناصر قد تابع ما ابتدأه أسلافه ، بيبرس ، وقلاوون ، والأشرف خليل من غزو بلاد النّوبة ، وتعيين حكامها من قبله ، حتى أصبحت حاكميتها مسلمة.

ثم ضعفت الدولة المملوكية البحرية ، وزالت على يد الدولة المملوكية البرجية سنة ٧٨٤ ، وكان للبحرية فضل عظيم في دحر التتار ، وقتل مئات الآلاف منهم ، وفي القضاء على جميع ما تبقى من سلطان للنصارى في بلاد الشام ، وفي الوقوف في وجه الحملات الصليبية على الشّمال المصري ، وقتلهم لكثير من جند تلك الحملات.

* الدولة المملوكية البرجية الجركسية : لما رأى السلطان المنصور قلاوون ازدياد نفوذ المماليك الأتراك ، وكثرة شغبهم ، أراد أن يقوي أمره ،

٢٣

ويستعين بأمراء يوالونه دون غيره ، فأكثر من شراء المماليك الجراكسة الذين يقطنون في المناطق الواقعة على بحر نيطش (البحر الأسود) من شرقيّه.

وأسكنهم أبراج القلعة في القاهرة ـ فلذا سموا بالبرجية.

ومن ثم قوي نفوذ هؤلاء المماليك ، حتى استطاعوا سنة ٧٨٤ أن يخلعوا آخر سلاطين البحرية السلطان الصالح أمير حاج بن شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون ، ويولوا مكانه الظاهر سيف الدين برقوق الجركسي ، وبتوليته بدأت دولة المماليك البرجية الجركسية.

وقد تم في عهد أحد سلاطين هذه الدولة وهو السلطان الأشرف برسباي فتح جزيرة قبرص.

وكانت هذه الدولة تعيش في دوامة من الثورات الداخلية ، مما استنزف كثيرا من قوتها ، ثم زالت في مستهل سنة ٩٢٣ على يد السلطان سليم العثماني ، وأصبحت مصر والشام تابعة لحاضرة العثمانيين (إستنبول).

* الدولة العثمانية : أسسها بنو عثمان ، وهم ينحدرون من أصل عربي كما يرى بعض العلماء ، فقد قام جدهم الأول عثمان بالهجرة من موطنه في الحجاز إلى بلاد الروم السّلجوقية ، فعظم شأنه عند حكامها ، وتقدم في المناصب ، حتى استطاع بعد ذلك أن يضع البذور الأولى للدولة العظيمة الواسعة التي استوت على سوقها في عهد أولاده وأحفاده.

وكان أحد ملوك هذه الدولة ـ وهو السلطان سليم بن بايزيد بن محمد بن مراد خان بن بايزيد ـ وهو الذي أسره تيمور لنك كما سيأتي ـ بن أورخان بن أردن بن عثمان الثاني ـ قد تطلع إلى توسعة رقعة دولته على حساب الصفويين الرافضة ملوك العراقين وغيرهما الذين لا يؤمن جانبهم ، فتمكن في سنة ٩٢١ من هزيمة إسماعيل الصفوي ، وأباد معظم جنده ، وتملك غالب بلاده.

٢٤

ثم عزم على الاستيلاء على بلاد المماليك في الشام ومصر ، زاعما أن السلطان الملك الأشرف قانصوه الغّوري المملوكي كان يمالىء الصفويين عليه ، ويؤوي الخارجين من أمراء العثمانيين ، فتقدم نحو بلاد الشام سنة ٩٢٢ ، وكان المصاف العظيم بينه وبين السلطان الغوري في مرج دابق ، فقد جرت بين الفريقين وقعة شديدة هزم على أثرها المماليك ، وقتل من الفريقين ما لا يوصف كثرة ، وكان من بين القتلى السلطان الغوري رحمه الله ثم سلّم أمراء الشام بلادهم للسلطان سليم فملك تلك الديار دون ممانعة.

ثم تقدم العثمانيون نحو مصر ، وكان اللقاء بينهم وبين المماليك وعلى رأسهم سلطانهم الجديد الأشرف طومان باي عند الريدانية في آخر سنة ٩٢٢ ، فهزم المماليك في هذه الوقعة ، ودخل العثمانيون مصر ، ووضعوا السيف في الجراكسة حتى أهلكوا منهم العدد الكثير ، هذا ولم يسلم المصريون من إيذائهم ونهبهم وفسادهم وظلمهم الشديد ، ثم قبض السلطان سليم على طومان باي وقتله شنقا.

ولما صفت الديار المصرية للسلطان العثماني ، عين نائبا له عليها ، وتوجه إلى حاضرة ملكه إستنبول بعد أن وضع يده على جميع أموال وذخائر المماليك التي تفوق الحصر ، بل نقل إلى بلاده كثيرا من علماء وقضاة وأمراء وفقهاء مصر ، وكذلك بعض أرباب الوظائف ، والمهن ، والحرف ، كما انه نقل المكتبات النفيسة في مصر ، واقتلع كثيرا من رخام وأعمدة القصور والمدارس والمجالس في القلعة وسيرها إلى إستنبول ، ولم يقنع بهذا كله حتى أمر الخليفة العباسي بالإقامة في الديار الرومية. ثم توفي السلطان سليم سنة ٩٢٦. فتولى بعده ابنه السلطان سليمان فأظهر العدل في الرعية ، وعفا عن كثير من أسرى المصريين ، وعن الذين أجبرهم والده على المسير إلى مصر ، وأعاد للمماليك الجراكسة حريتهم واعتبارهم بعد أن ظلموا ظلما شديدا ، وأوذوا إيذاءا أليما.

٢٥

(٣) دول المغرب والأندلس :

فتح الأمويون بلاد المغرب والأندلس ، وأخضعوها لسلطانهم النافذ ، لكن لما ضعفت الدولة الأموية في آخر عهدها ذهب ذلك النفوذ ، وأصبحت تلك البلاد شبه مستقلة عن الدولة الأم.

ولما انتقلت الخلافة إلى بني العباس ، حدث في عصرهم الأول خروج بلاد الأندلس عن أيديهم ، على يد عبد الرحمن الداخل الأموي وذلك سنة ١٣٨ مؤسسا دولة أموية قوية ، أعادت للأمويين بعض سلطانهم المسلوب ، وكانت هذه الدولة من محاسن الدول ، حيث حرصت على جهاد الصليبيين ، والفرنجة ، ونصارى الأندلس ، وأوقعت بهم الهزائم في وقائع عديدة ، وفرضت عليهم الجزية ، كما أنها أقامت حضارة أندلسية عريقة ، وكانت حاضرة هذه الدولة «قرطبة».

ثم زالت الدولة الأموية سنة ٤٢٢ على أيدي ملوك الطوائف الذين أسسوا في الأندلس دولا صغيرة متنازعة ، بعد أن كانت تلك الدولة قوية متماسكة ، بل إنها أقامت في ديار الأندلس خلافة ، عندما أعلن أحد ملوكها وهو عبد الرحمن الناصر الذي حكم بين سنتي ٣٠٠ ـ ٣٥٠ نفسه خليفة ، وسار على منواله من جاء بعده من حكام الأمويين (١).

ولما ضعف أمر الأمويين ، وبني حمّود في الأندلس وثب الأمراء على الجهات فقامت ممالك الطوائف التي زالت على يد الدولة المرابطية ثم زالت الدولة المرابطية على يد الدولة الموحدية ثم زالت دولة الموحدين في الأندلس على يد محمد بن يوسف بن هود الجذامي ، ثم زال حكم بني هود ، وحكم البقية الباقية من بلاد الأندلس بنو نصر ، ثم انتهى حكم المسلمين في تلك الديار سنة ٨٩٧ عند سقوط غرناطة بيد الصليبيين.

__________________

(١) وقد نازع بنو حمّود الأدارسة ملوك الغرب ، الأمويين على الخلافة في الأندلس ، حيث إنهم ملكوا قرطبة سنة ٤٠٧ ، وحكموا الأندلس لكن ما لبث أن عاد الأمر إلى الأمويين بقرطبة.

٢٦

وكانت قد تأسست في بلاد المغرب الأقصى سنة ١٧٢ دولة الأدارسة المناهضة للدولة العباسية ، وقد امتد سلطانها من وهران شمالا ، إلى بلاد السّوس الأقصى جنوبا ، ثم زالت هذه الدولة سنة ٣٧٥ على يد الأمويين في الأندلس ، والعبيديين في إفريقيّة ، وكانت قد خضعت ـ في فترات من قبل ـ للعبيديين ، والأمويين.

وقامت في إفريقيّة دولة الأغالبة التي أسسها إبراهيم بن الأغلب سنة ١٨٤ ، وكانت حاضرتها القيروان ، ثم زالت هذه الدولة سنة ٢٩٦ على يد العبيديين ؛ ثم لم يلبث أن زال حكم العبيديين عن بلاد المغرب كلها.

وفي سنة ٤٤٨ تأسست في المغرب الدولة المرابطية ـ وحاضرتها مرّاكش ـ على يد الأمير يحيى بن إبراهيم اللّمتوني ، ويرجع الفضل الكبير في تأسيسها إلى الشيخ الفقيه عبد الله ياسين المالكي ، وقد قامت هذه الدولة على الإيمان والتقوى ، وكانت من خيار الدول ، ويكفيها شرفا أنها نشرت مذهب أهل السنّة في تلك البلاد التي حكمها وأفسدها العبيديون.

وقد اتسعت الدولة المرابطية في عهد أميرها يوسف بن تاشفين رحمه الله تعالى فامتدت من حدود تونس شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا ، ومن جبال البرانس في الجنوب الفرنسي شمالا إلى السّودان جنوبا ، وعملت على نشر الإسلام بين قبائل المغرب ، والصحراء ، وبلاد السنغال وغيرها ، وقضت على آمال ملوك نصارى أوروبا ، والأندلس الذين استطاعوا في عهد ملوك الطوائف أن يتوغلوا في بلاد الأندلس ، ويستولوا على كثير من مدنها ، وأقاليمها ، وحصونها ، فخرجت جحافل المرابطين المنصورة من بلاد المغرب نحو الأندلس ، فاسترجعت كل ما ملكه النصارى من بلاد الإسلام في تلك الناحية ، بعد حروب ضارية ، ووحدت بلاد الأندلس تحت رايتها بعد أن كان يحكمها ملوك كثيرون دب بينهم الخلاف والشقاق ، كما وحدت بلاد المغربين الأقصى والأوسط وغيرهما من البلاد.

٢٧

ولما ضعفت هذه الدولة في أواخر أيامها ، عاد النصارى إلى بلاد المسلمين في الأندلس فملكوها ، وأوقعوا بأهلها ، وساموهم سوء العذاب.

ثم زالت دولة المرابطين بالكلية على أيدي الموحدين سنة ٥٤١.

وقد تأسست الدولة الموحدية في المغرب سنة ٥٢٤ على يد عبد المؤمن بن علي الزّناتي ، وكان للمهدي محمد بن تومرت فضل عظيم في قيامها ، وكانت حاضرتها مرّاكش كما هو حال الدولة المرابطية ، وامتدت رقعة هذه الدولة حتى شملت المغربين الأقصى والأوسط ، وإفريقيّة ، وكثيرا من بلاد الأندلس ، وكانت لهم مع نصارى الأندلس جولات وصولات ، ثم زالت هذه الدولة سنة ٦٦٧ على يد الدولة المرينيّة في المغرب ، ودولة بني هود في الأندلس ، وقامت في إفريقيّة الدولة الحفصية ، والحفصيون من أتباع الموحدين ، كما قامت في المغرب الأوسط الدولة الزيانية ، وبزوال الدولة الموحدية ضعفت بلاد المغرب ، والأندلس.

٢٨

ذكر خبر التتار

لا بد قبل الخوض في شرح الحالة العلمية في العصور المتعاقبة من ذكر أمر التتار الذين زالت بهم حضارة الشرق الإسلامية ، وعدمت بعد أن بلغت أوج مجدها وعزها.

فالتتار هم عالم كثير من التّرك ، كانوا يقطنون في المناطق الواقعة شمالي صحراء جوبي في منغوليا ، وفي مناطق من سيبيريا ، وكانوا قبائل متناحرة ، لا تخضع لقانون ، ولا تلتزم بنظام ، ولا تمتثل لخلق ، وكانوا يعبدون الكواكب ، ويسجدون للشمس.

فأراد أحد ملوكهم وهو «جنكيز خان» أن يجمع شمل تلك القبائل ، ويوحد بينها ، ويخضعها كلها لسلطانه ، فمكث عشرات السنين يعمل على تحقيق هذا الغرض ، ولم يصف له إلا بعد حروب ضارية ، ووقعات متتالية ؛ ثم قام بوضع قانون اجتماعي سارت على نهجه أمم التتار ؛ وبعد أن استتب له الأمر ، ودانت لسلطانه معظم القبائل ، رغب في توسعة رقعة مملكته على حساب الآخرين ، فاستولى على معظم بلاد الصين ، ثم أكمل ولده وخليفته من بعده «أجتاي» السيطرة على تلك البلاد.

وكان يفصل بين مملكة «جنكيز خان» وبلاد الإسلام في خراسان ، وما وراء النهر ، بلاد تركستان التي يحكمها قبائل من التّرك الكفرة تسمى بالخطا ، وهم عالم كثير ، كانوا يكثرون من الإغارة على بلاد الإسلام ، حتى

٢٩

دانت لهم ملوك ما وراء النهر ، وبعض بلاد خراسان ، إلى أن استطاع علاء الدين محمد خوارزم شاه صاحب الدولة الخوارزمية استئصال تلك الأمة الباغية ، وعمل على ضم بلادهم إليه.

وكان جنكيز خان لعنه الله ـ بعد أن ثبّت أمر ملكه في الداخل ، وقضى على مناوئيه من التتار ، وأخضع معظم بلاد الصين ـ يرغب في التوجه غربا نحو بلاد الإسلام ليضمها إلى مملكته. وعجل بتحقيق هذه الرغبة ، قيام علاء الدين خوارزم شاه بقتل جماعة من تجار التتار ، وغزوه لبلادهم ، فسار جنكيز خان بجموعه إلى بلاد تركستان ، فأباد فيها أقوام التتار التي لا تخضع له ، ثم عبر نهر سيحون إلى بلاد الإسلام ، وعندها كانت الطامة الكبرى ، والمصيبة العظمى على المسلمين ، فقد فعل هذا الملك الملعون ، وخلفاؤه من بعده ، في ديار الإسلام من القتل ، والنهب ، والفساد ، والتخريب ما لم يسمع بمثله في قديم الأيام ، ولا ما تعاقب من الأزمان.

فلما عبر جنكيز خان نهر سيحون ، توجه في أواخر ٦١٦ إلى بخارى ، فحاصرها حصارا محكما ، وقاتلها قتالا شديدا ، حتى تمكن من دخولها ، ثم قتل جميع من كان بقلعتها ، وأمر جنده بنهب البلد ، وتخريبه ، حتى جعلوه هباء منثورا ، فأحرقوا مساجده ، ومدارسه ، ومكتباته ، وقتلوا معظم الرجال ، وسبوا النساء والذرية ، وفعلوا من الفحش ما لا يوصف. واستصحبوا معهم من بقي من رجال بخارى ليكونوا عونا لهم على أخذ سمرقند ـ وكانت هذه عادة التتار ، إذا غصبوا بلدة ، أمروا أهلها بمساعدتهم على دخول قلعتها ، أو دخول بلد آخر ـ وقد وصلوا إلى هذه المدينة العريقة المنيعة في المحرم من سنة ٦١٧ ودارت رحى الحرب بينهم وبين أهل سمرقند ، وجندها الذين يعدون بمئات الآلاف ، وبعد معارك شديدة يشيب من هولها الولدان استطاع التتار أن يدخلوا المدينة ، فأفنوا رجالها ، وسبوا النساء والذرية ، ونهبوا الأموال ، وأحرقوا المساجد والمدارس والمكتبات ، ولم ينج من أهل هذا البلد إلا النفر اليسير.

٣٠

وبذا يكون قد تم للتتار السيطرة على بخارى وسمرقند ، وهما قصبتا بلاد ما وراء النهر.

واتخذ جنكيز خان من سمرقند قاعدة له ، وأمر طائفة من فرسان جنده أن يطلبوا علاء الدين خوارزم شاه ـ ملك خراسان ، وما وراء النهر ، وغيرهما من البلاد ـ الذي يعسكر بجيوشه في نواحي بلخ ، فعبرت تلك الطائفة نهر جيحون ، وتوجهوا نحو علاء الدين فلما شعر بدنوهم فر أمامهم ، فجعلوا يتتبعونه ، ويقصون أثره في البلدان الكثيرة ، حتى دخل بحر طبرستان «بحر الخزر» حيث فر إلى قلعة له في إحدى جزره ، فيئسوا حينئذ من اللّحاق به ، وتركوه وشأنه.

وكانوا لعنهم الله لا يمرون ـ عند تتبعهم لخوارزم شاه ـ ببلدة إلا عملوا على قتل رجالها ، وسبي نسائها ، واسترقاق صبيانها ، ونهب أموالها ، وتخريب ديارها ، وحرق عمرانها ، وطمس آثارها ، وجعلها أطلالا بالية ورسوما خاوية ، هذا عدا بعض البلدان التي صالحوها كهمذان ، فلم تسلم منهم الرّي ، ولا زنجان ، ولا قزوين ، ولا غيرها ، وقد عدّ القتلى في قزوين وحدها فبلغوا (٤٠٠٠٠) وكان أهل قزوين قد قاوموا التتار ، وقتلوا منهم العدد الكثير.

ثم سلكت تلك الطائفة ـ تساعدهم الإسماعيلية وأهل الفساد ـ شمالا إلى بلاد أذربيجان ففعلوا بمدنها وقراها مثل ما فعلوه في بلاد الجبال ، ولم تسلم منهم إلا تبريز التي صالحهم صاحبها ، ثم تقدموا أيضا نحو الشّمال فوصلوا إلى بلاد الكرج الكفرة فقاتلوهم وهزموهم شر هزيمة ، ثم عادوا نحو الجنوب إلى بلاد أذربيجان لشدة وعورة بلاد الكرج ، وقد تم لهم كل ما سبق في سنة ٦١٧ ، ووصلوا في مستهل السنة التالية إلى مدينة مراغة من بلاد أذربيجان فملكوها بعد مقاومة شديدة ، وفعلوا فيها الأفاعيل ، وتوجهوا بعد ذلك إلى همذان من بلاد الجبال ، وكانوا قد صالحوا أهلها كما تقدم ، واستنفدوا أموالهم ، فاجتمع رأي الهمذانيين على قتال التتار ، وتحصنوا

٣١

بالبلد ، فوصل التتار ، وأحكموا حصارهم على المدينة ، وجرت وقائع شديدة قتل فيها من التتار خلق كثير ، ثم تمكن المحاصرون من دخول المدينة في رجب من سنة ٦١٨ ووضعوا السيف في أهلها حتى أفنوهم ، ثم أحرقوا البلد حتى عفا رسمه.

وبعد ذلك عاد التتار شمالا إلى بلاد أذربيجان فملكوا بعض مدنها ، ثم تقدموا إلى بلاد أرّان شمال أذربيجان فملكوا كثيرا من مدنها وقراها وفعلوا فيها مثل ما فعلوا في قزوين. ثم تقدموا إلى بلاد الكرج الكفرة ، ونشبت بين الجانبين معارك قاسية قتل فيها عشرات الآلاف من الكرج ، ونهبت التتار كثيرا من بلادهم.

ثم توجه التتار إلى دربند شروان وأهلها مسلمون ، فحاصروا مدينة شماخي ، وملكوها بعد مقاومة شديدة من أهلها ، وعبروا بعد ذلك مضايق الدربند إلى جهة الشّمال حيث تقطن قبائل اللّان النصرانيين ، وقبائل اللّكز ـ ومنهم المسلمون والكفار ـ فقاتلوهم ، ونهبوهم ، وسبوا نساءهم ؛ ثم توجهوا إلى بلاد القفجاق ففر أهلها ، واعتصموا بالجبال ، ولحق الكثير منهم ببلاد الرّوس ، واستقرت تلك الطائفة العادية من التتار في تلك البلاد لكثرة مراعيها في الصيف والشتاء ، ثم توجهوا نحو بلاد الروس النصارى سنة ٦٢٠ فقاومهم أهلها بمساعدة القفجاق الهاربين مقاومة عنيفة ، لكن التتار انتصروا عليهم ، ودخلوا بلادهم ، فعملوا فيها مثل عملهم في ديار الإسلام ، وقد استطاع الكثير من الروس الفرار من بلادهم ، ثم توجه التتار غربا فملكوا كثيرا من البلاد ، وفي عودتهم كمن لهم البلغار في آخر سنة ٦٢٠ فقتلوا الكثير منهم ، وعادت بقيتهم إلى ملكهم جنكيز خان.

فهذا هو خبر التتار المغرّبة الذين أرسلهم جنكيز خان ليتتبعوا آثار خوارزم شاه.

وكان جنكيز خان لعنه الله لما علم بفرار خوارزم شاه من بلاد خراسان ،

٣٢

أراد أن يخضع جميع بلاد ما وراء النهر لحكمه وسلطانه ، فسيّر ـ وهو في سمرقند ـ جيشا إلى فرغانة ، وآخر إلى ترمذ ، وآخر إلى قلعة كلانة ، وإلى غيرها من تلك النواحي ، فاستولت تلك الجيوش على هذه المناطق ، فقتلوا ، ونهبوا ، وأحرقوا ، وخربوا ، كما فعل أصحابهم المغربة ، ثم عادوا إلى ملكهم.

وجهز جنكيز خان أيضا جيشا كبيرا إلى خوارزم ، وآخر إلى بلاد خراسان غربي جيحون.

فأما الجيش الموجه إلى خوارزم فقد لاقى في حصار هذه المدينة عناء شديدا ، وذلك لكثرة جند هذا البلد ، ومناعته ، وشجاعة أهله ، فقد قتل من الفريقين ما لا يحصى ، وكان قتلى التتار أكثر ، عندها طلبت تلك الطائفة التتارية النجدة والعون من ملكهم جنكيز خان ، فأمدهم بجنود وفيرة ، واشتد الحصار على خوارزم ، وتفانى أهلها المسلمون في الدفاع عنها إلى أن دخلها التتار ، فأعمل هؤلاء المجرمون السيف في أهلها ، ونهبوا ثرواتها ، ثم فتحوا السّكر الذي يمنع ماء جيحون عنها ، فدخلها الماء ، وغرق كل ما فيها ، وتهدمت مبانيها ، ولم يسلم منها أحد البتة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأما الجيش الموجه إلى خراسان ، فقد عبر نهر جيحون إلى مدينة بلخ فدخلوها صلحا سنة ٦١٧ ، ثم قصدوا عدة مدن في ناحيتها فملكوها صلحا أيضا ، لكن أخذوا الرجال ليكونوا عونا لهم على من يمتنع عليهم ، فقصدوا بلاد الطّالقان ، وبها قلعة حصينة ، فحاصروها ستة أشهر ، فلما عجزوا عن نيل مأربهم منها استنجدوا بملكهم جنكيز خان ، فأجابهم بنفسه ، ومعه خلق كثير من أسرى المسلمين ، فمكث في حصار هذه القلعة ، ومقاتلة جندها أربعة أشهر ، ثم تمكن من دخولها فنهبت ، وقتل من فيها ممن لم ينجه الفرار ، لكن ذهب الكثير من جنده عند حصارها.

وقد قام جنكيز خان بعد ذلك بجمع المقاتلة المسلمين من البلاد التي

٣٣

صالح أهلها ، وسيرهم إلى مدينة مرو العظيمة ، وكانت من أمنع البلاد ، وكان يرابط بظاهرها فقط ما يزيد على ٠٠٠ ، ٢٠٠ من المسلمين الذين نجوا من بلادهم المصابة ، والتقت الفئتان ، وصمد الفريقان ، ولما اشتد على المسلمين القتال ولوّا هاربين ، فتتبعتهم جيوش جنكيز خان فقتلت وأسرت العدد الكبير ، ولم ينج إلا القليل.

وجاء دور مرو نفسها في الحصار ، فجمع التتار إلى جموعهم أناسي كثيرا من البلاد المجاورة ، وأحكموا الحصار ، وتفانوا في القتال ، ولم يتمكنوا من دخولها ـ لقوة منعتها ـ إلا بعد أن أغروا أهلها بالسلامة وطلب الأمان ، فلما طلبوه ، غدر التتار بهم ، ووضعوا السيف في رقابهم حتى أفنوهم جميعا بعد أن سبوا من شاءوا من النساء والأطفال ، وقدرت القتلى في هذه المدينة بنحو ٠٠٠ ، ٧٠٠ ، ولم ينج إلا الشريد ، فعادت تلك الديار العامرة بلقعا كأن لم تغن بالأمس.

ثم توجهوا إلى نيسابور ، فضيقوا عليها الحصار ، حتى تمكنوا من دخولها عنوة ، فسبوا نساءها ، وقتلوا سائر أهلها ، ونهبوا خيراتها ، وخربوا ديارها ، ثم قطعوا رءوس القتلى لئلا يسلم أحد ، وتوجهوا بعد ذلك إلى طوس فلم تكن أحسن من سابقتها ، ثم توجهوا إلى هراة وهي من أحصن البلاد فملكوها بعد حصار شديد ، وقتلوا بعض أهلها ، وأمنوا الباقين.

وسلكوا بعد ذلك إلى غزنة ، فأوقع بهم جلال الدين بن علاء الدين خوارزم شاه هزيمة منكرة ، قتل فيها كثير من جند التتار ، فاستبشر أهل هراة بهذا النصر ، وحملوا على حامية التتار في بلدهم فقتلوهم ، فعادت جنود التتار إلى هراة ، ودخلوها ، وأعملوا في جميع أهلها السيف ، بعد أن سبوا من شاءوا ، ثم أحرقوا البلد.

ولما تم لهم كل ذلك عادوا (١) إلى ملكهم جنكيز خان وهو بالطّالقان يبعث

__________________

(١) خرجت هذه الطائفة من عند ملكها في سنة ٦١٧ ، وعادت في نفس السنة.

٣٤

الجيوش إلى جميع بلاد خراسان ، حتى لم يسلم بلد من شرهم وفسادهم.

وقد وجه جنكيز خان بعد ذلك طائفة كبيرة جدا من جنده لمحاربة جلال الدين ، فالتقى الفريقان في «كابل» ودارت رحى الحرب ، واشتدت وزخرت ، وأسفرت عن هزيمة التتار ، وقتل الكثير منهم ، وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة ، وأنقذوا الأسرى المسلمين من أيديهم ، لكن حدث خلاف في صفوف جند جلال الدين ما لبث أن استحكم ، وأدى إلى الاقتتال بين المسلمين أنفسهم ، وفر أحد كبار الأمراء إلى بلاد الهند ب ٠٠٠ ، ٣٠ مقاتل ، فاستعطفه جلال الدين وذكره الله والجهاد فلم يرجع ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

وبينما المسلمون على هذه الحال ، إذ فاجأهم جنكيز خان بجيش عظيم لا قبل لهم به ، فآثر جلال الدين النجاة ببقية جنده ، وفر نحو السّند ، فجد جنكيز خان في طلبه ، حتى تلاقيا عند ماء السّند ـ حيث لم يتمكن جلال الدين من العبور بمن معه لعدم وجود السفن ـ واستعرت الحرب ، والتحم الفريقان في معركة لم تشهد حروب المسلمين والتتار قبلها مثلها حدة ، وضراوة ، وصدقا في القتال ، وسقط من الفريقين عدد كبير من القتلى ثم انهزم التتار ولله الحمد ، وعبر جلال الدين بمن معه النهر بعد وصول السفن ، فلما كان الغد عاد التتار إلى غزنة وفعلوا فيها وفي سوادها مثل ما فعلوه في بلاد خراسان حتى عادت غزنة كأن لم تغن بالأمس.

وفي مستهل سنة ٦٢١ وجه جنكيز خان طائفة من جنده إلى الري ـ وهم غير الطائفة المغربة ـ فوضعوا السيف في من بقي من أهلها حتى قتلوهم عن آخرهم ، ودمروا ما كان عمر منها بعد وقعة التتار المغربة ، ثم ساروا في البلاد مفسدين ومهلكين الحرث والنسل فدخلوا ساوة وقمّ ، وقاشان وغيرها من البلاد ، ثم قصدوا همذان فخربوها ، وقتلوا من كان سلم من أهلها في الوقعة الأولى ، ولم ينج من قتلهم إلا الأسير.

٣٥

وكان جلال الدين قد قدم من بلاد الهند إلى خوزستان والعراق ، فملك أصبهان وغيرها من البلاد الواسعة ، وخاصة بلاد أذربيجان ، ومدينة تفليس التي استولى عليها الكرج في سنة ٥١٥ ، وأوقع بهؤلاء الكفرة هزيمة ساحقة ، قضى فيها على معظمهم ، وكان هؤلاء الكرج يكثرون من الإغارة على بلاد المسلمين حولهم كخلاط ، وأذربيجان ، وأرّان ، وأرزن الروم ، ودربند شروان ، والمسلمون معهم في ذل.

ولم يقدر أحد من سلاطين وملوك الشرق المسلمين عليهم بمثل ما فعله فيهم جلال الدين رغم فناء كثير من جنده ، فقد كاد أن يبيد أفرادهم ، ويستأصلهم.

وقام جلال الدين بعد ذلك بحرب الباطنية ـ الإسماعيلية ـ فنهب بلادهم ، وخربها ، وقتل أهلها ، وسبى واسترق كثيرا من نسائها وغلمانها ، انتقاما منهم لقيامهم بعون التتار على المسلمين ، ولقتلهم أحد أمرائه المقدمين.

ولما فرغ جلال الدين من أمر الإسماعيلية لقيته فئة عظيمة من التتار جهة الري فهزمهم ، ووضع السيف فيهم ، وأقام بنواحي الري فلاقته طائفة كبيرة من التتار أيضا أرادوا سكن تلك الديار بعد أن طردهم جنكيز خان فالتحم الفريقان في وقائع كثيرة كانت الحرب فيها دولا.

وفي هذه الفترة وقع خلاف شديد بين جلال الدين وبعض الملوك المسلمين ، فزين الإسماعيليون الملاحدة لإخوانهم التتار سوء فسادهم ، وأعلموهم بضعف جلال الدين ، فتقدمت جموع التتار في سنة ٦٢٨ من بلاد ما وراء النهر التي فيها عاصمة ملكهم ، إلى بلاد أذربيجان ، فمروا ببلاد خراسان وكانت خرابا ثم توجهوا إلى الري وهمذان فاستولوا عليهما ، ثم قصدوا أذربيجان فخشي جلال الدين من منازلتهم لضعف جنده ، وخروج الكثير منهم عن طاعته ، ففر أمامهم ، وهم يتبعونه ، من بلد إلى آخر حتى تمزق جنده من التعب والنصب ، وكان التتار عند قصّهم أثره لا يمرون على

٣٦

بلد من بلاد أذربيجان والروم والجزيرة إلا ساموها سوء العذاب ، ينهبون ، ويقتلون ، ويخربون ، ولم تنته سنة ٦٢٨ إلا وبلاد أذربيجان جميعها تحت سلطانهم.

وقد أكثروا في هذه السنة وما بعدها ، من غاراتهم ، واعتداءاتهم على بلاد العراق والجزيرة والروم وديار بكر ، وأكثروا فيها من القتل والنهب.

ولما رأى التتار من ظهور أمرهم ، وعظم سلطانهم ، قام ملكهم تولي بن جنكيز خان في سنة ٦٣٨ بدعوة ملوك الإسلام إلى طاعته.

ولم يتوقف التتار عن اعتداءاتهم على البلاد الإسلامية ، بل واصلوا ذلك ، حتى جرت بينهم وبين جيش الخليفة العباسي وقعة عظيمة في سنة ٦٤٣ كسر فيها جند التتار ، ولاذوا بالفرار. ومع هذا فقد ظلوا يعيثون الفساد في الأرض ، وقد استحكم هذا الفساد في سنة ٦٥٦ عندما ارتكبوا جريمتهم الكبيرة ، وجريرتهم الشنيعة ألا وهي دخولهم حاضرة الخلافة العباسية بغداد بعد أن حاصرها ٢٠٠٠٠٠ مقاتل منهم حصارا محكما ، وضيقوا عليها الخناق ، وقاتلوا جندها قتالا شديدا ، فقد وضعوا السيف في رقاب أهلها ولم يسلم منهم عظماؤها وكبراؤها ، فقد قتلوا الخليفة الشهيد أبي أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المستنصر بالله آخر خلفاء بني العباس بالعراق وقتلوا العلماء والقضاة والأئمة والأمراء ، وارتكبوا الفواحش ، وظلوا على هذه الحال أربعين يوما حتى خوت بغداد على عروشها ، وسالت دروبها بدماء القتلى ، وأنتنت الجيف حتى حل بهذه البلدة العظيمة وباء شديد ، سرت عدواه إلى بلاد الجزيرة والشام.

وقد قدرت أعداد القتلى في حاضرة الخلافة ب ٨٠٠٠٠٠ ، وقيل ب ١٨٠٠٠٠٠ ، وقيل ب ٢٠٠٠٠٠٠ ، وكان الذي تولى كبر ما حل ببغداد من مصائب هو الرافضي الخبيث ابن العلقمي وزير الخليفة المستعصم بالله ، فهو الذي دعى ملك التتار هولاكو لدخول بغداد ، بعد أن عمل على تقليص عدد جيش الخلافة ، فكان لعنه الله كما كان أسلافه الباطنيون من قبله ، عونا ويدا على المسلمين.

٣٧

ولما تم لهولاكو إخضاع بغداد ، أخذ يعد العدة لضم البلاد الجزرية ، والشامية إلى مملكته ، فقد تمكن في سنة ٦٥٧ من السيطرة على البلاد الجزرية ، وفي السنة التالية جاز الفرات إلى بلاد الشام ، فذعر الناس ، وفر الكثير منهم إلى الديار المصرية وكان ذلك في زمن الشتاء فلحقهم أذى شديد ، ومات منهم خلق كثير.

وقد قصد هولاكو مدينة حلب ، فحاصرها ، ثم دخلها بالأمان ، لكنه كعادة قومه آثر الغدر ، ووضع السيف في رقاب أهلها ، فقدرت قتلاها ب ٥٠٠٠٠ إنسان ، واقترف جنده فيها كل رذيلة ، وسبوا من شاءوا من نسائها وأطفالها ، ونهبوا خيراتها وثرواتها ، وخربوا أسوارها ، فلما علم أهل حمص وحماة ما حل بصاحبتهم طلبوا الأمان فأجيبوا إليه.

ثم أرسل هولاكو طائفة من جنده إلى دمشق فدخلوها دون ممانعة ، وكتبوا الأمان لأهلها ، لكن حامية قلعتها أبوا الاستسلام فحاصرتهم التتار وقاتلتهم حتى تملكوا القلعة ثم خربوها.

وقد تولى إمرة دمشق رجل تتري فيه ميل إلى النصارى ، فعمل على رفع مكانة هؤلاء الضالين ، فراحوا يعلنون عداءهم للمسلمين ، فذموا شرائع الإسلام ، ورفعوا صلبانهم ، ونشروا الخمور ، وأسرفوا في الفساد.

ولما تمكن التتار من دمشق ، واصلت طائفة منهم السير إلى نابلس وغزّة فملكوهما ، ونهبوا ما مروا عليه من الديار ، وفي عزمهم مواصلة التقدم إلى مصر ، عندها أراد الله سبحانه أن يكرم الأمة الإسلامية بنصر مؤزّر من عنده يذل به أمة التتار الظالمة التي جاست خلال الديار ، وجعلت أعزة أهلها أذلة ؛ فقام سلطان مصر الملك المظفر سيف الدين قطز بإعداد العدة ، وتعبئة الجيوش ، ثم زحف إلى جهة الشام ، والتقى مع جيش التتار ـ بقيادة أميرهم الكبير كتبغانوين الذي فتح لهولاكو أقصى بلاد العجم إلى الشام ـ في عين جالوت وذلك في سنة ٦٥٨ ، واشتد القتال بين الفئتين ، وصبر المسلمون

٣٨

والتتار ، وتفانوا في الدفاع عن أنفسهم وديارهم ، ثم انجلت المعركة عن هزيمة التتار ، وقتل قائدهم ، ومعظم جندهم.

وقد أبلى الملك المظفر قطز ، وقائد جيشه بيبرس البندقداري بلاء حسنا ، وقد تولى بيبرس مع طائفة من الشجعان تتبع فلول التتار في بلاد الشام والروم فأخرجوهم من حلب ، واستردوا منهم مملكة الروم السلجوقية في آسيا الصغرى ، وأصبحت تلك الديار تابعة لسلطان مصر الملك المظفر الذي جعله الله سبحانه قذى في أعين التتار ، وشجا في حلوقهم.

وبعد مقتل قطز عند عوده من الشام إلى مصر ، تولى زمام الملك ، الملك الظاهر بيبرس البندقداري.

وفي هذا الوقت أخذ ملك التتار هولاكو يعد العدة للانتقام من المسلمين لما حل بجنده ، ولاسترداد بلاد الشام إليه ، فأرسل طائفة من جنده ، فدخلت حلب ، وقتلت معظم أهلها ، لكن الملك الظاهر حال دون تقدمهم.

كما أرسل حملة أخرى ، فالتقى معهم أصحاب حلب ، وحماة ، وحمص بجنودهم في شمالي حمص ، فكانت الدائرة على التتار ، حيث هزموا ، وارتدوا على أعقابهم خاسئين ، بعد قتل وأسر الكثير منهم.

ثم أرسل هولاكو طائفة إلى الموصل ، فحاصرتها ، ثم دخلتها ، ووضعت السيف في رقاب أهلها.

وقد أوقع الله سبحانه وتعالى العداوة والبغضاء بين ملوك (١) التتار

__________________

(١) لقد كان للتتار ثلاث ممالك ودول ، فدولة في أقصى الشرق وحاضرتها بكين ؛ ودولة في الشّمال وحاضرتها سراي وملكها في عهد هولاكو هو ابن عمه بركه خان بن صائن بن دوشي بن جنكيز خان المتوفى سنة ٦٦٥ الذي دخل في دين الإسلام ؛ ودولة في بلاد الإسلام الشرقية وهي تمتد من خراسان شرقا إلى ديار بكر غربا ، وتضم خراسان ، وبلاد الجبال ، والعراق ، وأذربيجان ، وخوزستان ، وفارس وبلاد الروم ، وغيرها ، وكان هولاكو هو ملك تلك الديار بعد آبائه ، ودام حكمه ١٠ سنين ، حتى أهلكه الله على دينه الفاسد سنة ٦٦٣.

٣٩

أنفسهم ، فقد أحل ملك التتار الشّماليين بركة خان بهولاكو وجنده هزيمة فظيعة في معركة فني فيها معظم جند هولاكو ، ثم هلك هولاكو ، ومات بعده ابن عمه بركه خان ، فخلف الأول ابنه أبغا ، وخلف الثاني ابن عمه منكوتمر وقد سار هذا الأخير على نهج سلفه في الإسلام.

وقد حدثت وقعة شديدة بين أبغا ، وبركه بعد هلاك هولاكو سنة ٦٦٣ هزم فيها أبغا ، ومزقت جموعه ، ثم جرت وقعة أخرى بين أبغا ، ومنكوتمر بعد وفاة بركه خان سنة ٦٦٥ هزم فيها منكوتمر.

وبذلك يكون الله سبحانه قد جعل بأس التتار بينهم شديد.

ولما كان عهد الملك المنصور السلطان قلاوون ، تقدم التتار بجحافلهم سنة ٦٨٠ لحرب المسلمين ، وكان المصاف العظيم بين الفئتين بظاهر حمص ، وقد أسفرت المعركة عن دحر التتار حيث قتل معظم رجالهم ، وشرد الباقون ، ولم يتقدم على التتار هزيمة أشد من هذه.

ثم هلك أبغا بن هولاكو ، فخلفه أخوه بكدار الذي دخل في الإسلام ، وتسمى بأحمد سلطان ، فنقم منه التتار إسلامه وقتلوه ، فتولى بعده أرغون بن أبغا ، فما لبث أن هلك ، فتولى مكانه رجل من التتار ، وبعد هذا رجل آخر ثم تولى غازان بن أرغون سنة ٦٩٤ ودخل في دين الإسلام ، وأسلم (١) معه خلق كثير من التتار.

وقد جهز غازان جيشا كبيرا من التتار ، وزحف بهم إلى الشام في

__________________

(١) ذكر الذهبي في معجم شيوخه الكبير ورقة ١٠٤ أحادثة ، أسلم بسببها أربعون ألفا من التتار ، وذلك أن كلبا لأمير تتري تنصر ، افترس أحد كبار النصارى لتنقصه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في مجلس الأمير صاحب الكلب ، وحضر هذه الواقعة بعض علماء المسلمين. والقصة طويلة تنظر في الكتاب المشار إليه.

ولا يفوتني في هذه التعليقة أن أذكر أن أول من أسلم من ملوك التتار في بلاد الترك والصين هو «ترماشيرين» وذلك سنة ٧٢٥ ، وحسن إسلامه ، وأمر أمراءه بذلك حتى فشا الإسلام في بلاده.

٤٠