الأمصار ذوات الآثار

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

الأمصار ذوات الآثار

المؤلف:

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي


المحقق: قاسم علي سعد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

المدخل

ويشتمل على عدة موضوعات هي :

١ ـ ترجمة موجزة للحافظ الذهبي.

٢ ـ الأصول المعتمدة في تحقيق هذه الرسالة.

٣ ـ موضوع هذه الرسالة ومحتواها.

٤ ـ كلمة بين الأمصار ذوات الآثار للذهبي ، والإرشاد في علماء البلاد للخليلي.

٥ ـ طبعة سقيمة لرسالة الذهبي هذه.

٦ ـ عملي في الرسالة.

٧ ـ صورة عن النسخة المحمودية ، ونسخة مكتبة الحرم المدني الشريف.

١٢١
١٢٢

ترجمة موجزة للحافظ الذهبي

هو الإمام الكبير ، الحافظ الجهبذ ، والمؤرخ المحقق ، والمقرىء المجود ، نسيج وحده ، وقريع دهره ، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله التّركماني الفارقي (١) الأصل (٢) ، الدمشقي ، الشافعي ، المعروف بالذهبي (٣).

ولد بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة ٦٧٣ ، وطلب العلم في حداثته ، ثم رحل فيه إلى مدائن الشام ، ومصر ، والحجاز ، فسمع من جماعة كبيرة من الأئمة ، ثم عاد إلى بلده (دمشق) ، فأقام فيها ، وتصدر للتحديث ، والإقراء ، والإفادة ، والتدريس. وولي مشيخة عدد من المدارس. واشتغل بالتصنيف ، والتخريج ، وتآليفه كثيرة وحفيلة من أجلّها ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، وتذكرة الحفاظ ، وسير أعلام النبلاء ، وتاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام ، ومعرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار ، وغيرها.

__________________

(١) نسبة إلى ميّافارقين أشهر مدن ديار بكر.

(٢) يبدو أن جد الذهبي عثمان هو أول من سكن دمشق من أجداد الذهبي ، وذلك لأن الذهبي لما ترجم لوالد جده في رسالة أهل المئة فصاعدا ص ١٣٧ لم ينسبه إلى دمشق خلافا لجده.

(٣) اشتغل الحافظ الذهبي في بادىء أمره بصناعة الذهب ، قال سبط ابن حجر في رونق الألفاظ ٢ / ورقة ٣٥ أ: «وتعلّم صناعة الذّهب كأبيه ، وعرف طرقها». ثم ترك الذهبي هذه الصنعة وانصرف للعلم ، فبقيت الشهرة بها لأبيه ، لذا كان يعرّف نفسه في كتبه بابن الذهبي ؛ والعلماء من بعده عرّفوه بالأمرين.

١٢٣

وقد أعجب بالذهبي الأئمة من بعده فلهجت ألسنتهم وأقلامهم بالثناء عليه ، وإليك جملة يسيرة من ذلك تظهر مكانته العلمية ، ومنزلته العليّة :

قال تلميذه الإمام تاج الدين السبكي : «إمام الوجود حفظا ، وذهب العصر معنى ولفظا ، وشيخ الجرح والتعديل ، ورجل الرجال في كل سبيل ، كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها ، ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها» (١).

وقال تلميذه المؤرخ صلاح الدين الصفدي : «حافظ لا يجارى ، ولافظ لا يبارى ، أتقن الحديث ورجاله ، ونظر علله وأحواله ، وعرف تراجم الناس ، وأزال الإبهام في تواريخهم والإلباس ... ولم أجد عنده جمود المحدثين ، ولا كودنة (٢) النقلة ، بل هو فقيه النظر ، له دربة بأقوال الناس ، ومذاهب الأئمة من السلف ، وأرباب المقالات» (٣).

وقال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي : «مفيد الشام ، ومؤرخ الإسلام ، ناقد المحدثين ، وإمام المعدلين والمجرحين ... وكان آية في نقد الرجال ، عمدة في الجرح والتعديل» (٤).

وقال الحافظ ابن حجر : «مهر في فن الحديث ، وجمع فيه المجاميع المفيدة الكثيرة ، حتى كان أكثر أهل عصره تصنيفا ... ورغب الناس في تواليفه ، ورحلوا إليه بسببها ، وتداولوها قراءة ، ونسخا ، وسماعا» (٥).

وقال أيضا : «هو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال» (٦).

__________________

(١) طبقات الشافعية الكبرى ٩ / ١٠١.

(٢) يعني بلادة.

(٣) نكت الهميان ٢٤١ ـ ٢٤٢ ؛ والوافي بالوفيات ٢ / ١٦٣.

(٤) الرد الوافر ٣١.

(٥) الدرر الكامنة ٣ / ٤٢٦ ـ ٤٢٧.

(٦) نزهة النظر شرح نخبة الفكر ٧٥.

١٢٤

وقال الحافظ السيوطي : «إن المحدثين عيال الآن في الرجال ، وغيرها من فنون الحديث على أربعة : المزي ، والذهبي ، والعراقي ، وابن حجر» (١).

ولله درّ الإمام العلّامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الكريم بن الموصلي الأطرابلسي حيث يقول فيه :

«ما زلت بالسمع أهواكم وما ذكرت

أخباركم قط إلا ملت من طرب

وليس من عجب أن ملت نحوكم

فالناس بالطّبع قد مالوا إلى الذّهب» (٢)

وقد أضر الإمام الذهبي قبل موته ببضع سنين ، وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ذي القعدة من سنة ٧٤٨ ، ودفن في مقابر باب الصغير بدمشق.

__________________

(١) طبقات الحفاظ ٥١٨.

(٢) الرد الوافر ٣٢ ؛ فهرس الفهارس ١ / ٤٢٠ ، المنهل الصافي ٣ / ورقة ٧٠ أ.

١٢٥

الأصول المعتمدة

في تحقيق هذه الرسالة

(١) نسخة المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة ، وهي ضمن مجموع برقم ٢٦٧٨ ، وتقع في خمس صفحات وخمسة أسطر ، وتشتمل كل صفحة على ٢٥ سطرا ، وقد نسخت سنة ١٢٢٠ على يد سعيد بن مرجية باقديم.

ورمزت لها ب «المخطوط».

وهذه النسخة (١) كثيرة التحريف ، والتصحيف ، مما يدل على عدم معرفة ناسخها بهذا الفن.

__________________

(١) وتوجد نسخة أخرى من هذه الرسالة في مكتبة الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة ضمن مجموع برقم ٨ / ٢ وتقع في ٧ صفحات وسطرين ، وتشتمل كل صفحة على نحو عشرين سطرا ، وقد قام بنسخها محمد بن عبد القادر السندي المدني في سنة ١٣١٥.

ولم أعتمد على هذه النسخة لأنها منقولة عن نسخة المحمودية ، أو عن أصل اعتمد عليه ناسخ المحودية ، ولم يكن عند كاتبها من العلم ما يدفعه إلى تصحيح شيء من الأخطاء الموجودة في النسخة المحمودية ، بل إنه زادها تحريفا وتصحيفا.

وإليك أمثلة من اشتراكهما في الأخطاء ، وزيادة نسخة مكتبة الحرم في التغيير والتبديل :

ـ الأمر الأول : الاشتراك في الوهم :

(١) «كعبد الله بن عمرو بن أبي ذئب». والصواب : «كعبيد الله ـ (أو كعبد الله) ـ وابن أبي ذئب».

(٢) «والمربي». والصواب «والمزي».

(٣) «وسعيد بن أبي حمزة». والصواب : «وشعيب بن أبي حمزة».

(٤) «وما زال بها بهذا الشأن». والصواب : «وما زال بها هذا الشأن».

(٥) «وشهاب بن نخلة». والصواب : «وسهل بن زنجلة».

(٦) «ويحيى بن عبدل». والصواب : «ويحيى بن عبدك».

(٧) «وعبد الله بن هاشم الذهلي». والصواب : «وعبد الله بن هاشم ، والذهلي».

(٨) «ويحيى بن أحمد». والصواب : «ويحيى بن يعمر».

١٢٦

(٢) كتاب الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التّوريخ : حيث إن السخاوي ضمن رسالة الذهبي فيه ، مع التصرف فيها ، وقد صرح بذلك عقب ذكره لها بقوله : «وهذا الفصل كله جزء أفرده الذهبي ، وصدر بالأمصار ذوات الآثار ، وهو مفتقر لقليل تذييل سوى ما ألحقته في أثنائه إما مميزا أو مدرجا» (١).

وقد اعتمدت على طبعتي الترقي بدمشق من صفحة ١٣٦ إلى صفحة ١٤٤ ، ورمزت لها ب (ع) ، وفي الطبعة المنشورة ضمن كتاب علم التاريخ عند المسلمين لروزنثال ترجمة الدكتور صالح العلي من صفحة ٦٥٩ إلى صفحة ٦٦٨ ، ورمزت لها ب (ق).

__________________

(٩) «كعمرو بن هارون». والصواب : «كعمر بن هارون».

(١٠) «وصالح بن محمد جرارة». والصواب : «وصالح بن محمد جزرة».

فهذه الأمثلة تدل على أن نسخة مكتبة الحرم منقولة عن النسخة المحمودية ، أو عن أصلها المحرف ، وخلاصة القول أنه لا يوجد وهم ولا سقط ولا تحريف في النسخة المحمودية إلا وهو موجود في نسخة مكتبة الحرم ، اللهم إلا حرفا أو حرفين.

ـ الأمر الثاني : تفرد نسخة مكتبة الحرم بأوهام وسقط لا يوجدان في النسخة الأخرى :

(١) ففيها : «سنة وخمسين وثلاث مئة». والصواب : «سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة».

(٢) وفيها : «جرير بن عثمان». والصواب : «حريز بن عثمان».

(٣) وفيها : «الحسن البصيري». والصواب : «الحسن البصري».

(٤) وفيها : «والقرطني». والصواب : «والغطريفي».

(٥) وفيها : «الشامي». والصواب : «السامي».

وغير ذلك كثير ، والذي أوقعه في بعض الأخطاء هو محاولته نقط كثير من الحروف التي أهملت من النّقط في النسخة المحمودية.

ومما ألفت النظر إليه أنه يوجد في هذه النسخة زيادة اسم لم يرد في النسخة المحمودية ، ولا في الإعلان بالتوبيخ وهو «محمد بن إدريس» فقد ذكر في هراة بين «الحسين بن إدريس» و «محمد بن المنذر» ، وأظن أن ذكره كان على سبيل الوهم وسبق الذهن ، وذلك أن كاتب النسخة لما مر أمام نظره اسم الحسين بن إدريس ، واسم محمد بن المنذر متتاليين تكون في ذهنه اسم ثالث وهو «محمد بن إدريس» فكتبه ، ويؤكد هذا أنه لا يوجد في كتب الأعلام من اسمه محمد بن إدريس وهو من هراة ، بل يوجد محمد بن إدريس أبو لبيد السّامي السّرخسي ، وسرخس بعيدة عن هراة.

(١) ص ٦٦٨.

١٢٧

موضوع هذه الرسالة ومحتواها

تناول الذهبي رحمه الله تعالى في هذه الرسالة القيّمة النادرة ، ذكر المدن الكبيرة ، والأمصار ، والأقاليم التي كان يوجد فيها علم الحديث والأثر.

فقد أورد اسم تسع (١) وعشرين مدينة وإقليما ، وذكر تحت كل (٢) واحدة منها بعض مشاهير أئمتها ، وأعلام حفاظها ، وأعيان محدثيها ، وعني في معظم هذه البلدان بذكر أزمنة ابتداء العلم ، وذيوعه ، وشيوعه ، ونقصه ، وعدمه منها ، وكان يشير في كثير من الأحيان إلى سبب ضعف العلم وعدمه. وقد تعرض في مكانين فقط لذكر بعض التواريخ الرجالية المختصة بهمذان ، وخوارزم ، وليته فعل ذلك في جميع البلاد ، لأنه أمر نافع ومفيد. كما ضمن كلامه بعض الفوائد التاريخية والجغرافية كزمن بناء ، وفتح المدن ، ومدة استيلاء الكفار عليها ، وصفتها ككونها أكبر مدائن أحد الأقاليم ، وشبهها لمدينة ما في السّعة.

ثم ذكر عدة مدن وأقاليم وجد فيها الحديث بقدر يسير ، لكنه لم يسم أحدا من علمائها ، وهي شيراز ، وكرمان ، وسجستان ، والأهواز ، وتستر ،

__________________

(١) هي : المدينة المشرفة ، ومكة ، وبيت المقدس ، ودمشق ، ومصر ، والإسكندرية ، وبغداد ، وحمص ، والكوفة ، والبصرة ، واليمن ، والأندلس ، والمغرب ، والجزيرة ، والدّينور ، وهمذان ، والرّي ، وقزوين ، وجرجان ، ونيسابور ، وطوس ، وهراة ، ومرو ، وبلخ ، وبخارى ، وسمرقند ، والشاش ، وفرياب ، وخوارزم.

(٢) عدا إقليم الجزيرة.

١٢٨

وقومس ، وقهستان ، وقد صرح في شيراز بقلة حديثها ، وفي قومس بخروج جماعة من المحدثين فيها ، واكتفى في كرمان ، وسجستان ، والأهواز ، وتستر بذكر أسمائها فقط ، واهتم عند ذكره لقومس وقهستان بالإشارة إلى بعض مدنهما الكبيرة والصغيرة والمتوسطة ، وبيان جهتهما وحدودهما ، وقد كان دقيقا في تحديده لموقع إقليم قهستان الذي أراده ، مما يدل على إلمامه بعلم الجغرافية.

ولم يقنع الذهبي بما سبق بل أضاف إليه تسمية معظم الأقاليم التي لم تعرف بالحديث.

ثم أشار إلى ما آل إليه الحال في زمنه من فقدان وضعف هذا العلم في كثير من الأمصار التي كانت مشتهرة ومعروفة به ؛ وأتبع ذلك بذكر الأقاليم والمدن التي بقي ـ أي في زمنه ـ الحديث فيها ولو بقلة.

وختم هذه الرسالة المفيدة بذكر العلوم الشرعية الأخرى التي راج أمرها في العصور المتأخرة ، وانتشرت في شرق الأرض وغربها ، لكنه نبه إلى الزّغل الذي أصابها في بعض البلاد بسبب ما داخلها من علوم فاسدة ومبتدعة.

١٢٩

كلمة بين الأمصار ذوات الآثار للذهبي

والإرشاد في علماء البلاد للخليلي

يبدو أن الذهبي رحمه الله تعالى استقى أصل رسالته «الأمصار ذوات الآثار» من كتاب «الإرشاد (١) في علماء البلاد» للإمام الحافظ أبي يعلى الخليل بن عبد الله القزويني المعروف بالخليلي والمتوفى سنة ٤٤٦.

ومن ألقى نظرة فاحصة في الكتابين انقدح في نفسه صدق هذه الدعوى ، وتبين له صحتها ، ولا أريد الإطالة باستيعاب البراهين على ذلك ، بل أكتفي بذكر دليلين واضحين قويين هما :

(١) تقارب ترتيب البلدان في الكتابين :

ففي كتاب الأمصار ذوات الآثار رتبت على هذا النحو : المدينة ، مكة ، بيت المقدس ، دمشق ، مصر ، الإسكندرية ، بغداد ، حمص ، الكوفة ، البصرة ، اليمن ، الأندلس ، المغرب ، الجزيرة ، الدّينور ، همذان ، الرّي ، قزوين ، جرجان ، نيسابور ، طوس ، هراة ، مرو ، بلخ ، بخارى ، سمرقند ، الشاش ، فرياب ، خوارزم.

وفي كتاب الإرشاد سيقت على الشكل التالي : المدينة ، مكة ، مصر ، الشام ، البصرة ، الكوفة ، واسط ، المدائن ، بغداد ، الموصل ، حلوان ،

__________________

(١) رتب الخليلي كتابه هذا على البلدان ، وذكر تحت كل بلد مشاهير أئمته ، وكبار علمائه وحفاظه ومحدثيه ، وأورد لهم تراجم يغلب عليها الإيجاز.

١٣٠

الدّينور ، همذان ، الري ، قزوين ، أبهر ، زنجان ، أذربيجان ، قمّ ، ساوة ، جرجان ، آمد ، نيسابور ، طوس ، هراة ، مرو ، بلخ ، سرخس ، بخارى ، سمرقند ، الشاش.

فقد افتتحا بالمدينة المنورة ، ثم ذكرا مكة ، ثم مصر والشام ، ثم العراق ، لكن الذهبي أدخل حمص بين مدن العراق ، وقدم الشام على مصر.

ولو حذف الزائد من البلدان بين الدّينور والشاش من كتاب الخليلي لتماثل الترتيب بين الكتابين في ثلاثة عشر بلدا.

(٢) اعتماد الذهبي على الخليلي في إيراد أسماء العلماء ضمن البلدان : فالذهبي قصد في رسالته «الأمصار ذوات الآثار» عند ذكره للبلدان تسمية بعض أكابر ومشاهير العلماء والحفاظ في كل بلد ، لذا ترى معظمهم مذكورين في كتابيه سير أعلام النبلاء ، وتذكرة الحفاظ. إلا أنه أبعد النّجعة عندما أورد رجالا خفيت أمورهم ، وضنت الكتب بتراجمهم ، ولم يشتهروا عنده في كتبه ، وهؤلاء جميعا مذكورون في كتاب الإرشاد للحافظ الخليلي مما يدل على أصالة هذا الكتاب في عمل الذهبي.

وإليك نماذج من ذلك تثبت قوام ما أجملته :

لما ذكر الذهبي مدينة هراة أورد تحتها اسم الفضل بن عبد الله الهروي ، ولم أجد ترجمة هذا الرجل إلا في كتاب الإرشاد.

وعندما ذكر مدينة الدّينور أورد اسم محمد بن عبد العزيز الدّينوري ، ولم أقف على ترجمة هذا الرجل إلا في كتاب الإرشاد ، وكتب الضعفاء كميزان الاعتدال.

وعند ذكره لجرجان سمى عددا من العلماء ، منهم إسحاق بن إبراهيم الطلقي ، ومحمد بن عيسى الدّامغاني ، فالأول توجد ترجمته في الإرشاد ، وفي مستدرك السهمي على تاريخ جرجان ، وكتاب الجرح والتعديل ، ولسان

١٣١

الميزان ، والثاني لم أقف على ترجمته إلا في كتابي الإرشاد ، والجرح والتعديل. ومن نظر ترجمة هذين الرجلين في كتاب الجرح والتعديل لم ير فيهما ما يدل على مكانتهما ، مما يؤكد أن الذهبي تبع الخليلي في ذكرهما ، والله أعلم.

فهذان برهانان قائمان يثبتان أصالة كتاب الإرشاد للخليلي في عمل الذهبي. وليس معنى هذا أن الذهبي اكتفى بهذا الكتاب عن غيره ، بل إنه أضاف فوائد كثيرة ، وزيادات وفيرة ، وبلدانا لم يتعرض لها الخليلي على الإطلاق.

١٣٢

طبعة سقيمة

لرسالة الذهبي هذه

لقد عم البلاء في هذا الوقت بإخراج كتب العلم ونشرها في صور مشوّهة ومزيّفة ، يعتريها التحريف والتبديل ، ويشوبها الزّغل والدّخل ، ولعل السبب في ذلك ينحصر في أمرين :

(١) التسرع والعجلة : وقد أحسن القائل :

قد يدرك المتأني جلّ مقصده

وقد يكون مع المستعجل الزّلل

(٢) الجهل : ولله درّ القائل :

ما كل من نال المعالي ناهضا

فيها ولا كل الرجال فحول

وقال آخر :

احفظ لسانك أن تقول فتبتلى

إن البلاء موكل بالمنطق

وقال آخر :

ما تفعل الأعداء في جاهل

ما يفعل الجاهل في نفسه

وأمر التصنيف والتأليف والتحقيق خطير ، فهو أمانة يسأل الإنسان يوم القيامة عن حسن أدائها ، كما أنه شهادة على صاحبه في الدنيا ، فإن أحسن شكره الناس ، وإن كثرت إساءته أغمضوا فيه ، وقد قال الجاحظ : «من صنّف فقد استهدف ، فإن أحسن فقد استعطف ، وإن أساء فقد استقذف» (١).

__________________

(١) الإعجاز والإيجاز للثعالبي ١١٤.

١٣٣

وقد سمعت منذ مدة يسيرة بأن رسالة الذهبي هذه قد حققت ، ونشرت في دمشق ، فبحثت عنها في مكتبات الرياض التجارية فلم أجدها ، إلى أن وقفت عليها منذ بضعة أيام فلما تصفحتها وجدتها كثيرة الأوهام والأخطاء ، ومدعاة للانتقاد والاعتراض ، سواء في أصلها المحقق (١) أو في التعليقات عليها ، علما بأني لم أقرأ من التعليقات إلا القليل.

ورأيت من الأمانة أن أشير إلى بعض تلك الأوهام والمؤاخذات منظمة ليتنبّه لها ولما خلفها ، وإليك هذا الأمر :

(أ) ضبط البلدان والتعريف بها :

ففي صفحة ١١١ من المطبوعة «والخطى» : كتبها المحقق بالألف المقصورة ، وشكل الخاء بالضم ، وعرفها بأنها موضع بين الكوفة والشام. وكل هذا خطأ ، والصواب «الخطا» بكسر الخاء ، وألف ممدودة ، والخطا جنس من التّرك تقع بلادهم شرقي نهر سيحون ، والذهبي أورد ذكر هذه الناحية في الأقاليم التي لا حديث بها ، والموضع الذي بين الكوفة والشام ليس إقليما. ولفظ «الخطا» بالألف الممدودة موجود في الأصول المعتمدة عند المحقق.

وفي صفحة ١١٢ «وسراة» : كتبها بالتاء المربوطة ، وارتبك في تعريف هذا البلد ، فنقل عن ياقوت عدة أقوال تدور حول كونها ناحية جبلية تقع في الجزيرة العربية وتمتد شمالا أو جنوبا. وكل هذا خطأ أيضا ، والصواب «سراي» بالياء ، وهي بلاد تقع شمال بحر الخزر. وقد ضبطت بالياء أيضا في نسخة مكتبة الحرم المدني التي اعتمد عليها المحقق.

وفي صفحة ١١٣ «والبجاوة» : ذكرها بالواو ، وعلق عليها في الحاشية بقوله : «قلت : في الأصل ، والإعلان بالتوبيخ للسخاوي ص ١٤٣ : والبجاه ؛ وهو خطأ من النساخ والصواب ما أثبته» ا ه. قلت أنا : أخطأ المحقق في

__________________

(١) اعتمد المحقق في إخراج الكتاب على أصلين فقط هما : نسخة مكتبة الحرم المدني الشريف ؛ وكتاب الإعلان بالتوبيخ للسخاوي.

١٣٤

ضبطه للباء بالفتح ، وفي تخطئته للنساخ ، وذلك أن الصواب في الباء ضمها ، وأنه يصح البجاوة والبجاه.

كما أنه أخطأ في ضبط بعض البلدان الأخرى :

ففي صفحة ٥٥ «بجاية» بفتح الباء والصواب كسرها.

وفي صفحة ٥٥ أيضا «تلمسان» بتسكين اللام وكسر الميم ، والصواب عكس ذلك أي «تلمسان».

وفي صفحة ١٠٦ «الدامغان» بتسكين الميم ، والصواب فتحها.

وفي صفحة ١١٢ «قرم» بفتح القاف وتسكين الراء ، والصواب كسرهما.

وفي صفحة ١١٢ أيضا «النّوبة» بفتح النون ، والصواب ضمها.

وقد غفل المحقق عن ضبط بعض البلدان (١) :

ففي صفحة ٥٤ «إفريقيّة» لم يضبط الياء الثانية.

وفي صفحة ٥٤ أيضا «القيروان» لم يضبط الراء.

وفي صفحة ١١٢ «القفجاق» لم يضبط حروفها ، وجعل جيمها حاء.

وفي صفحة ١١٣ «أسوان» لم يضبط الألف.

وفي صفحة ١١٣ أيضا «الزّنج» لم يضبط الزاي ، مع أن الشائع نطقها بالكسر ، فالضبط ضروري.

(ب) ضبط الأسماء والأنساب والتعريف بها :

لقد ادعى المحقق في مقدمته أنه ترجم للأعلام الذين دعت الضرورة إلى ترجمتهم ، وليس الأمر كما قال ، فقد أغفل تراجم أسماء كثيرة تدعو إليها الضرورة في نظر الناس جميعا :

ففي صفحة ١٤ «كعبد الله بن عمرو بن أبي ذئب» : فالمحقق تبع وهم

__________________

(١) ضبط أسماء البلدان في هذه الفقرة ليس من المحقق كما هو واضح.

١٣٥

النسخة المخطوطة في هذا الأمر ، ولو ترجم للرجل لعرف أنه رجلان ، وصواب العبارة «كعبيد الله ـ (أو كعبد الله) ـ وابن أبي ذئب».

وفي صفحة ٤٨ «قدامة بن منبّه» : وليت المحقق ترجم لهذا الرجل كي يعرف ، لأنني بحثت في عشرات الكتب فلم أعثر على من اسمه قدامة في بني منبّه ، وغالب ظني أنه تصحف عن همام بن منبّه.

وفي صفحة ٦٧ «كثير بن هشام» : هكذا ذكره المحقق اعتمادا على الأصول التي عنده ، ولو ترجم للرجل لعرف أن الصواب فيه «كثير بن شهاب».

بل إن المحقق لم يحالفه الصواب في بعض التراجم التي عقدها :

ففي صفحة ٢٠ ترجم للأزرقي بأنه محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد صاحب كتاب أخبار مكة. وهذا خطأ والصواب أنه جدّ المذكور.

وفي صفحة ٨١ أحال على مصادر ترجمة الفضل بن عبد الله الهروي بما يجانب الصواب ، لأن الذي أحال عليه ليس هو الذي قصده الذهبي والله أعلم.

وفي صفحة ٩٧ أثبت في الأصل كلام الذهبي التالي : «خوارزم : بلد كبير ، رأيت المجلد الأول من تاريخها لرجل معاصر لأبي القاسم بن عساكر من ثمان مجلدات». وقد علق عليه في الحاشية بقوله : «قلت : جاء في كشف الظنون لحاجي خليفة ١ / ٣٩٣ ، ٣٩٤ ما نصه : تواريخ خوارزم : منها الكافي ... وتاريخ محمد محمود بن محمد أرسلان العباسي الخوارزمي الحافظ ، المتوفى سنة ثمان وستين وخمس مئة ، بسط الكلام في وصف خوارزم وأهلها حتى بلغ إلى ثمانين مجلدا ...» ثم قال المحقق عقب هذا : «ولعل المعني بكلام الذهبي هو تاريخ الخوارزمي الأخير ... ولعل لفظة ثمان مجلدات التي في كتابنا محرفة على يد الناسخ من ثمانين مجلدة والله أعلم» انتهى كلام المحقق.

١٣٦

قلت : أخطأ في عدة أمور ، فاسم الخوارزمي ليس كما ذكر ، بل الصواب «أبو محمد محمود بن محمد بن العباس بن أرسلان العباسي» ، كما أن ابن أرسلان المذكور هو الذي قصده الذهبي يقينا لا شكا ، وكتابه في ثمان مجلدات لا في ثمانين مجلدة ، والناسخ لم يحرف بل نقل الصواب.

ومن أخطاء المحقق في هذا الباب أيضا :

أنه في صفحة ١٩ شكل «الزنجي» بكسر الزاي ، والصواب فتحها.

وفي صفحة ٦٩ شكل «الدامغاني» بتسكين الميم ، والصواب فتحها.

ومن تسرعات المحقق وعثراته أيضا :

أنه في أول سطر من كتاب الذهبي أسقط بضع كلمات ، مع أنها موجودة في الأصول التي اعتمدها.

وفي صفحة ٢٧ بدّل قول الذهبي «ثم كثر بعد ذلك» وجعله «ثم تكاثر بعد ذلك» مع أن القول الأول مذكور في الأصول التي اعتمدها.

وفي صفحة ٢٩ أسقط كلمة «وخمسين» من قول الذهبي «سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة» وهذه اللفظة موجودة في الأصول التي اعتمدها.

ومن أوهامه أيضا :

أنه في صفحة ١٠١ لم يستطع فهم كلام الذهبي ، حيث وضع كلامه التالي : «كرمان ، سجستان ، الأهواز ، تستر ، قومس في سطر واحد وبخط عريض ـ كما هي عادته في البلدان التي يكون للذهبي كلام عليها ـ ثم ذكر تحت هذه الأسماء قول الذهبي «إقليم واسع ...» ، فدل هذا الصنيع على أن قول الذهبي «إقليم واسع ...» يعود إلى البلدان الخمسة المذكورة ، والصواب أنه يعود إلى قومس وحدها.

وفي صفحة ١٠٦ أسقط لفظة «منه» من نص المخطوط ، وادعى أنها خطأ ، مع أنه لا يصح الكلام إلا بها.

١٣٧

وفي صفحة ١٠٨ ـ ١٠٩ أثبت المحقق كلام الذهبي التالي : «قهستان : أكبر مدائن هذا الإقليم ، ثم زنجان ...» وعلق في الحاشية على لفظة «الإقليم» بقوله : «أي إقليم الجبال» وهذا خطأ لأن الذهبي يتكلم عن إقليم قهستان لا الجبال ، وأمر آخر وهو أن العبارة التي أثبتها فيها سقط ، وصوابها كما في الإعلان بالتوبيخ : «أكبر مدائن هذا الإقليم الرّيّ ، ثم زنجان ...».

وفي صفحة ١١٠ أثبت قول الذهبي : «فالأقاليم التي لا حديث بها يروى ، ولا عرفت بذلك الصين ، أغلق الباب. والهند والسند ...» وصورة ذلك عنده أنه وضع نقطة بعد قوله «أغلق الباب» وابتدأ الكلام التالي بسطر جديد موهما أن الكلام غير مرتبط بسابقه ارتباطا تاما ، والأمر خلاف ما فعل.

كما أن المحقق أدخل في أصل رسالة الذهبي جملا من كلام السخاوي.

أما الحاشية فقد أثقلها المحقق بالتراجم الطويلة المملة ؛ والمخلة في بعض الأحيان ، كما يلاحظ اعتماده في تراجم كثيرة على الكتب الحديثة كالأعلام للزّركلي ، ويلاحظ عليه أيضا إثقال الحواشي بما لا فائدة منه عند التعريف بالبلدان ، وقد ولع فيها بالنقل دون تحقيق وتدقيق.

وأما المقدمة فلم تسلم من بعض الأوهام الشديدة ، حيث قال فيها : «ثبت لنا من خلال المقابلة التي أجريناها بين نسختنا من الكتاب ، وما أثبته السخاوي في كتابه ، بأن السخاوي رحمه الله اعتمد على نسخة فيها الكثير من النقص والزيادة ...». وهذه دعوى فاسدة لأن السخاوي صرح عقب ذكره لرسالة الذهبي هذه بأنه تصرف فيها.

هذا ومن وراء ما ذكرته أمور كثيرة أغمض الطرف عنها خشية الإسهاب في الإطالة ، متمثلا قول بعضهم :

فكان ما كان مما لست أذكره

فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر

١٣٨

عملي في الرسالة

قمت بنسخها من مصوّرة المحمودية ، وقابلت المنسوخ بها ، ثم عارضته بما نقله السخاوي في الإعلان بالتوبيخ ، وأثبت ما غلب على ظني أن الذهبي أراده ، دون التزام نص معين.

ثم قمت بترجمة جميع الأعلام الواردة ـ سواء أكانت صريحة أو مهملة أو مبهمة ـ بإيجاز واف بالغرض ، يظهر مكانة الرجل العلمية ، ومنزلته العدلية ، مع ذكر كنيته ، واسمه ، واسم أبيه ـ وجده في كثير من الأحيان ـ ونسبته ، وسنة وفاته (١) ، كما ذكرت في كثير من التراجم بعض مصنفات أصحابها.

وقمت بعد ذلك بالتعريف بالبلدان عدا المدينة المشرفة ، ومكة المكرمة ، وبيت المقدس ، ودمشق ، والإسكندرية ، وبغداد ، وحمص ، والكوفة ، والبصرة ، والأندلس ، لأنها مشهورة الآن ومعروفة ، إلا أنني عرفت ببعض

__________________

(١) فإن كان الذهبي رحمه الله تعالى ذكر وفاة الرجل أو اسمه أو كنيته أو نحو ذلك ، فإني أهمل المذكور من الحاشية إلا إذا دعت الحاجة. كما أني لم أقف في بعض التراجم اليسيرة على جميع ما تحتاج إليه الترجمة ، وبالنسبة للوفيات فلم أتعرض لذكر الاختلاف فيها إلا إذا لم يتبين لي الصحيح أو الراجح.

١٣٩

البلدان المشتهرة لكون حدودها تختلف في عرفنا اليوم عما كانت عليه سابقا ، وذلك كمصر واليمن والبحرين.

وقد بذلت غاية الجهد في تحديد البلدان ، وتعيين جهتها وموضعها ، حتى كنت أحيانا أجلس اليوم واليومين في تعريف البلد الواحد ، مع مراعاتي للنظر في الخرائط الجغرافية ، واستخلاص بعض الفوائد منها مما لم يذكر في معاجم البلدان لعدم الحاجة إليه في الزمن السابق.

ولم يقتصر عملي في البلدان على ذلك ، بل ذكرت بعض الكتب المؤلفة في علماء ومحدثي كل بلد استطعت الوقوف على شيء من التصانيف المفردة (١) فيه.

ونهضت أيضا لخدمة ما تبقى من النص فوضحت مبهمه ، وبينت مشكله ، وشرحت مختصره ، ونبهت على بعض فوائده.

كما حرصت على ضبط جميع (٢) الأعلام والبلدان المشكلة ـ الواردة في الأصل والحاشية ـ بالشكل ، لأنه كما قيل : «إعجام الكتب يمنع من استعجامها ، وشكلها يصونها عن إشكالها».

هذا ولا أدعي الصحة في جميع ما كتبته ، وإنما هو جهد المقل ، ووسع المزجى البضاعة ، القليل العلم بهذه الصناعة.

والحمد لله أولا وآخرا ، والصلاة والسلام على رسوله سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه.

__________________

(١) لم أتعرض لذكر الكتب المشتملة على تراجم علماء عدة بلاد كطبقات ابن سعد ؛ وتاريخ ابن أبي خيثمة ؛ ومشاهير علماء الأمصار لابن حبان ؛ والإرشاد للخليلي.

(٢) إلا ما لم أقف على ضبطه وهو يسير جدا.

١٤٠