الأمصار ذوات الآثار

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

الأمصار ذوات الآثار

المؤلف:

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي


المحقق: قاسم علي سعد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

والأمير علم الدين سنجر الدّويدار بنى مدرسة ودار حديث بدمشق.

والأمير سيف الدين منكوتمر الحسامي نائب السلطنة بمصر بنى مدرسة ، وجعل فيها خزانة كتب.

والأمير سعد الدين بشير أنشأ مدرسة بالقاهرة ، ووقف عليها خزانة كتب.

والأمير الطّواشي سابق الدين أنشأ مدرسة بالقاهرة ، ووضع فيها خزانة كتب.

والأمير علاء الدين طيبرس أنشأ مدرسة بالقاهرة ، وضم إليها خزانة كتب.

والأمير شرف الدين عيسى الهكّاري أنشأ دارا للحديث بالقدس.

كما وقف عدد آخر من أمراء المماليك مدارس في مصر ، ودمشق. فممن وقف بدمشق الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير مبارك ، والأمير نائب الشام قجماس الإسحاقي ، والأمير سيف الدين منجك ، وغيرهم. وفي مصر الأمير علاء الدين أقبغا عبد الواحد ، والأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة بمصر ، والأمير شمس الدين قراسنقر نائب السلطنة بمصر ، والأمير صلاح الدين خليل بن عرّام نائب المماليك بالإسكندرية ، والأمير سيف الدين طغجي ، والأمير علم الدين سنجر الجاولي ، والأمير شمس الدين الفارقاني ، وغيرهم.

وقد أنشأت تتر الحجازية ابنة السلطان الناصر محمد بن قلاوون مدرسة بمصر ، ووقفت عليها خزانة كتب حسنة.

وكان يوجد بدمشق في عهد المماليك دورا للحديث (١) كثيرة أوقفها العلماء ، والتجار ، والأغنياء وغيرهم كدار الحديث السكرية ودار الحديث القوصية ـ وقد بقيت من عهد الأيوبيين ـ ودار الحديث السّامريّة ، ودار الحديث الحمصية ، ودار الحديث الشقيقية ، ودار الحديث العروية وبها خزانة كتب ، ودار الحديث النّفيسيّة ، ودار الحديث البهائية.

__________________

(١) جمع ابن طولون جزءا ذكر فيه دور الحديث بدمشق.

١٠١

ـ العلماء : ليس ذكر اهتمام العلماء بإقامة المراكز العلمية من شرطي ـ كما سبق ـ ولكنني أذكر منهم هنا رجلين فقط عاشا في عهد الدولة الأيوبية ، وكان لهما دور بارز في هذا المضمار وهما :

(١) الشيخ أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي أخو الإمام موفق الدين ، الذي أنشأ مدرسة بصالحية دمشق ، وقد اعتنى بهذه المدرسة العلماء والناس من بعده فكانوا يزيدون في بنائها وأثاثها حتى صارت من أعظم المدارس في بلاد الإسلام ، ووقف أبو عمر عليها مكتبة عظمت كثيرا من بعده أيضا لأن العلماء كانوا يكثرون من وقف الكتب عليها.

وقد بقي من هذه المكتبة جملة كبيرة توجد الآن في المكتبة الظاهرية بدمشق.

(٢) والحافظ الكبير ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي الذي أنشأ بصالحية دمشق المدرسة الضيائية ، ووقف عليها خزانة كتب جليلة ، كثير منها بخطه.

(٣) دول المغرب والأندلس :

ـ الخلفاء والملوك :

(أ) الأندلس : عني الخلفاء والملوك الأندلسيون عناية فائقة بنشر العلم والمعرفة في ربوع جزيرتهم الواسعة ، فبنوا المعاهد العلمية ، وأنشئوا المكتبات العظيمة ، وشجعوا العلماء.

فالأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي شغف بجمع الكتب ، وبعث الرسل إلى المشرق لانتقائها ، وابتياعها ، واستنساخها ، حتى أنشأ في قصر قرطبة مكتبة كبيرة كانت حينئذ أجل مكتبات الأندلس ، ويعتبر ابن الحكم هذا أول أمراء الأندلس الذين اعتنوا بجمع الكتب.

وقد سار على منواله في هذا الشأن الخليفة الناصر عبد الرحمن بن

١٠٢

محمد بن عبد الله ، فأثرى مكتبة القصر بمجموعات كبيرة من الكتب جمعت له من الآفاق.

ثم تولى الملك من بعده ابنه الخليفة الحكم المستنصر بن عبد الرحمن بن محمد فتقدمت في عهده الحركة العلمية تقدما عظيما لم يعهد من قبل في الأندلس ، فقد أنشأ المدارس الكثيرة ، حتى صار معظم أهل قرطبة متعلمين ، وشغف بجمع الكتب شغفا لم يبلغه أحد من أسلافه ، فقد أرسل الوفود الكثيرة إلى دمشق ، وبغداد ، والقاهرة ، وخراسان وغيرها من البلاد ينتقون له الكتب ، ويشترونها ، كما كان له وراقون في كثير من مدن المشرق يستنسخون له الكتب النفيسة ، والأسفار الثمينة ، حتى استطاع أن يجعل مكتبة القصر في قرطبة من أعظم مكتبات الدنيا ، وكان كثير من علماء الشرق والغرب يهدون كتبهم للحكم المستنصر لما يرون من علمه ، وحبه للكتب ، وقد قدر عدد الأسفار في مكتبة القصر القرطبي ب ٤٠٠٠٠٠ وقيل ٦٠٠٠٠٠ مجلد.

وقد أشار القلقشندي إلى عظم هذه المكتبة فقال : «ويقال إن أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث خزائن :

إحداها : خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد ...

الثانية : خزانة الخلفاء الفاطميين بمصر ...

الثالثة : خزانة خلفاء بني أمية بالأندلس ، وكانت من أجل خزائن الكتب أيضا ، ولم تزل إلى انقراض دولتهم باستيلاء ملوك الطوائف على الأندلس ، فذهبت كتبها كل مذهب» (١).

أما ملوك الطوائف فقد اهتموا كثيرا بإنشاء المراكز العلمية ، وخاصة المكتبات.

ففي إشبيلية كانت مكتبة بني عبّاد العظيمة.

وفي بطليوس كانت مكتبة المظفر بن الأفطس الزاخرة بنفائس الأسفار.

__________________

(١) صبح الأعشى ١ / ٤٦٧.

١٠٣

وفي طليطلة كانت مكتبة بني ذي النون الجليلة.

وفي منطقة المريّة وجدت المكتبات القيمة ، وكذلك في سائر مدائن الأندلس.

واهتم بهذا الأمر أيضا بنو الأحمر ملوك غرناطة.

(ب) المغرب : حرص الخلفاء والملوك في المغرب على إقامة المعاهد والمكتبات ، فأبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن صاحب الدولة الموحدية أنشأ في مرّاكش مكتبة عظيمة. وملوك المرينيون بنوا المدارس الكثيرة ، وشجعوا الحركة العلمية.

ـ الوزراء والأمراء : لقد قيض الله سبحانه وتعالى لبلاد الأندلس وزراء نابهين ، وحجابا صالحين ، وأمراء نجباء ، ساعدوا على رفع المستوى العلمي في بلادهم ، ومن أجلّ هؤلاء الحاجب المنصور (محمد بن أبي عامر) أعظم وزراء الأمويين في الأندلس ، الذي أنشأ دور العلم بقرطبة ، وبالغ في الإنفاق عليها ، وتكريم أهلها من علماء وطلبة ، وكان رحمه الله تعالى محبا للعلم والمعرفة ، يؤثر علوم الشرائع والعربية ، ويبغض علوم الأوائل ، وقد استخرج من مكتبة القصر كتب الفلسفة التي جمعها الحكم المستنصر وأحرقها فجزاه الله خير الجزاء ، وكان مغرما بجمع الكتب ، له خزانة كتب عظيمة تشتمل على أمهات الأسفار ونفائسها.

وقد تنافس الأمراء والأعيان في قرطبة ، وخاصة في عهد الحكم المستنصر ، في تأسيس المكتبات في دورهم ، حتى غدت أسواق الكتب في قرطبة من أعظم الأسواق الكتبية وأحفلها في العالم.

وقد قيل إنه كان يوجد في الأندلس حوالي ٧٠ مكتبة عامة.

وكان يوسف بن نغرالة اليهودي أحد وزراء بني مناد البربر في غرناطة جمّاعة للكتب ، أنشأ لنفسه مكتبة عظيمة.

١٠٤

الفقرة الثانية :

أسباب ضعف الحركة العلمية في ديار الإسلام

تختلف وجهات نظر الباحثين في تحديد بدء ضعف الحركة العلمية في ديار الإسلام لاختلاف مشاربهم ، فالباحثون المسلمون الواعون يرجعون ذلك إلى عهد المأمون العباسي الذي نشر علوم الزنادقة والفلاسفة في قلب المجتمع الإسلامي. أما الباحثون الآخرون فإنهم يجعلون بدء الضعف من وقت تدمير المنشآت العلمية من معاهد ، ومدارس ، ومكتبات ، وقتل العلماء على يد الصليبيين ، والتتار ، وغيرهم.

والرأي الثاني لا يرفضه بكامله أصحاب المذهب الأول ، إنما يرفضون منه جعله قاعدة البدء ، ولا أريد الخوض في جميع عوامل ضعف الحركة العلمية عند المسلمين ، وإنما أتكلم عن عاملين أساسيين فقط ـ مضت الإشارة إليهما ـ وهما :

(١) جلب علوم الأوائل الفاسدة إلى ديار المسلمين ، وانصراف كثير من العلماء إليها.

(٢) نكبة المسلمين في أنفسهم ، وبلادهم ، ومراكزهم العلمية من أعدائهم الكفرة ، والمنتسبين للإسلام ، ونكبتهم في ذلك أيضا عند تغيّر دولهم ، ونكبتهم أيضا عند حلول قوارع الزمن.

فالعامل الأول : كان له أثر كبير في وهن البنيان السليم للحركة العلمية

١٠٥

في بلاد المسلمين ، لأنه أراد تغيير مسارها الطبيعي إلى حيث الجدليات العقيمة ، والمخاضات المهلكة ، والغياهب المتلفة التي شتتت أفكار المسلمين ، وأوقعت بينهم العداوة والبغضاء. فبدل أن ينصرف جميع طلبة العلم إلى تعلم العلوم الشرعية ، والعربية ، والتاريخية ، وعلوم الطب ، والهندسة وما إلى ذلك من علوم نافعة تقيم الحضارة ، وترفع من شأن المجتمعات ، راح الكثير منهم يتخبطون في دراسة نظريات أرسطو ، وأفلاطون المظلمة التي تفسد العقائد ، وتضل الأذهان.

وقد حكي أن ملوك الروم لما دخلوا في النصرانية جمعوا كتب الفلاسفة من نواحي ممالكهم ، ووضعوها في مخازن سرية موصدة كي لا يطلع عليها أحد من الناس ، خوفا من فساد المعتقد ، وذهاب الدين ، لكن يحيى بن خالد البرمكي الفارسي الزنديق أحد وزراء العباسيين طلب من ملوك الروم تلك الكتب فبذلوها إليه ، وإلى المأمون من بعده ، لا يريدون بذلك إلا إضلال المسلمين ، وتحويلهم عن دينهم القويم.

أما العامل الثاني : فيمكن تفصيل الكلام فيه من خلال تقسيمه إلى عدة نقاط ، وهي : نوائب التتار ، وقواصم الصليبيين ، وقوارع الباطنيين ، ومهالك العابثين المفسدين ، وتبدل دول المسلمين ، وحوالك الزمان.

(١) نوائب التتار :

لم ترزأ أمة من أمم الأرض قاطبة بمثل تلك الرّزيئة المهولة التي فجع بها المسلمون عند دخول التتار إلى بلادهم ، فقد أهلك هؤلاء الكفرة الحرث والنسل ، وعم فسادهم السهل والوعل ، وجعلوا مدن الإسلام المشرقية خرابا يبابا ، بعد أن كانت آمنة مطمئنة ، وعامرة مخضرة ، فدمروا عمرانها ، ونهبوا أموالها وثرواتها ، وقتلوا رجالها ، واسترقوا صبيانها ، واستحيوا نساءها ، وجعلوها كأن لم تكن.

وكان ياقوت الحموي ممن عاين هذه الفاجعة المروّعة ، وشاهد

١٠٦

شدائدها ، وعايش وقائعها حيث كان بخوارزم ، ولما وصل إلى الموصل هاربا ، كتب إلى الوزير في حلب القاضي جمال الدين أبي الحسن القفطي رسالة بليغة طويلة ، يصف فيها حاله ، وحال البلاد التي عدا عليها التتار ، وعاثوا فيها الفساد ، ومن جملة ما فيها : «... إلى أن حدث بخراسان ما حدث من الخراب ، والويل المبير والتّباب ، وكانت لعمر الله بلادا مونقة الأرجاء ، رائعة الأنحاء ، ذات رياض أريضة ، وأهوية صحيحة مريضة ، قد تغنت أطيارها ، فتمايلت طربا أشجارها ، وبكت أنهارها ، فتضاحكت أزهارها ، وطاب روح نسيمها ، فصح مزاج إقليمها ... وجملة أمرها أنها كانت أنموذج الجنة بلامين ، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ العين ، قد اشتملت عليها المكارم ، وارجحنّت في أرجائها الخيرات الفائضة للعالم ، فكم فيها من حبر راقت حبره ، ومن إمام توّجت حياة الإسلام سيره ، آثار علومهم على صفحات الدهر مكتوبة ، وفضائلهم في محاسن الدنيا والدين محسوبة ... أطفالهم رجال ، وشبابهم أبطال ، ومشايخهم أبدال ، شواهد مناقبهم باهرة ، ودلائل مجدهم ظاهرة ... فجاس خلال تلك الديار أهل الكفر والإلحاد ، وتحكم في تلك الأبشار أولو الزّيغ والعناد ، فأصبحت تلك القصور ، كالممحوّ من السطور ، وآضت تلك الأوطان ، مأوى الأصداء والغربان ، تتجاوب في نواحيها البوم ، وتتناوح في أراجيها الريح السّموم ... فإنا لله وإنا إليه راجعون من حادثة تقصم الظهر ، وتهدم العمر ، وتفت في العضد ، وتوهي الجلد ، وتضاعف الكمد ، وتشيب الوليد ... وجملة الأمر أنه لولا فسحة في الأجل ، لعز أن يقال سلم البائس ـ (يقصد ياقوت نفسه) ـ أو وصل ، ولصفق عليه أهل الوداد صفقة المغبون ، وألحق بألف ألف ألف ألف ألف هالك بأيدي الكفار أو يزيدون ...» (١) انتهى.

فهذه صورة وجيزة صادقة عن حال تلك البلاد قبل خروج التتار ، وما آلت

__________________

(١) وفيات الأعيان ٦ / ١٣٤ ـ ١٣٧.

١٠٧

إليه بعد هجمتهم البئيسة ، وانقضاضهم عليها كانقضاض الذئب على الفريسة.

وقد أسهب أيضا المؤرخ عز الدين بن الأثير في وصف هول هذه الوقعة التي عاصرها ، ولابس أخبارها ، وشافه عددا ممن ذاق مرارتها ، وإليك بعض وصفه المجمل : «فلو قال قائل : إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم ، وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا ، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها ... ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم ، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج ، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ، ويهلك من خالفه ، وهؤلاء لم يبقوا على أحد ، بل قتلوا النساء ، والرجال ، والأطفال ، وشقوا بطون الحوامل ، وقتلوا الأجنّة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (١).

وقد سبق في هذه المقدمة شرح حال التتار ، ودخولهم المهيل إلى بلاد الإسلام ، وما اقترفوا فيها من عظائم ، وما اجترحته أيديهم من سيئات ، فلا داعي لإعادته ، إلا ما تمس حاجة البحث إليه من بيان إعدامهم للعلماء ، وتدميرهم للمعاهد العلمية ، وإحراقهم للمكتبات ، وإتلافهم لها.

فعندما تمكن جنكيز خان من بلاد ما وراء النهر ، وضع السيف في رقاب أهلها حتى استأصلهم ، وفيهم ما لا يحصى من الأئمة ، والعلماء الأفذاذ الذين طار ذكرهم في الآفاق ، وضربت إليهم آباط الإبل من كل مكان.

ولم يقنع جنكيز خان وقبيله بهذا الأمر ، بل أرادوا أن يمحوا كل أثر للإسلام في تلك الديار ، ويزيلوا منها كل معلم يشهد بحضارة المسلمين ، وينطق بمآثرهم ، فعمدوا إلى المدارس ، والمساجد ، ودور العلم فطمسوا آثارها ، وخربوا عمرانها ، وجعلوها قاعا صفصفا ، ثم أضرموا النار في خزائن الكتب العامرة حتى صارت رمادا تذروه الرياح.

__________________

(١) الكامل ١٢ / ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

١٠٨

وتقدم التتار بعد ذلك ـ بأمر من ملكهم جنكيز خان ـ إلى بلاد خوارزم ، وبلاد خراسان الواسعة ، وبلاد الجبال ، وبلاد أذربيجان ، وبلاد أرّان ، وغيرها ففعلوا فيها مثل ما فعلوه في بلاد ما وراء النهر. ولا يشعر بعظم هذه المصيبة القاصمة إلا من علم ما كانت تشتمل عليه تلك البلاد من مدن وقرى كثيرة عامرة ، وما كانت تحويه هذه المدن والقرى من خلق عظيم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، وما كان في هذا الخلق من علماء الدين ، وأئمة المسلمين ، وأحبارهم الذين تعجز الأسفار العظيمة عن الوفاء بأسمائهم فضلا عن تراجمهم.

وليست هذه وحدها حادثة التتار ، بل إنهم لعنهم الله تقدموا في عهد ملكهم هولاكو إلى عاصمة الإسلام ، وقاعدة الدنيا ، وموئل الأنام ، بغداد ، فجاسوا خلال ديارها ، وقضوا على قضاتها وفقهائها وعلمائها ـ وناهيك بهم جلالة وكثرة ـ ودمروا مدارسها ، ومساجدها ، وربطها ، وجعلوا من خزائنها العظيمة ، ودور كتبها الحافلة طعمة للنيران ، ومعابر لخيولهم على دجلة ، ومرابط لحمرهم ، وقد ذكر ابن خلدون ، وابن الساعي ، والقلقشندي صورا من جرائمهم ، وعبثهم في مكتبات بغداد الضخمة وبخاصة بيت الحكمة ، فقال ابن خلدون : «وألقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعها في دجلة ، وكان شيئا لا يعبر عنه» (١). وقال ابن الساعي : «بنوا إسطبلات الخيول ، وطوالات المعالف بكتب العلماء عوضا عن اللبن» (٢). وقال القلقشندي : «خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد : فكان فيها من الكتب ما لا يحصى كثرة ، ولا يقوم عليه نفاسة ، ولم تزل على ذلك إلى أن دهمت التتر بغداد ، وقتل ملكهم هولاكو المستعصم آخر خلفائهم ببغداد ، فذهبت خزانة الكتب فيما ذهب ، وذهبت معالمها ، وأعفيت آثارها» (٣).

__________________

(١) تاريخ ابن خلدون ٣ / ٥٣٧.

(٢) خزائن الكتب القديمة في العراق لكوركيس عواد ١٠٢ نقلا عن مختصر أخبار الخلفاء المنسوب لابن الساعي.

(٣) صبح الأعشى ١ / ٤٦٦.

١٠٩

ولما تحقق لهولاكو مراده من بغداد ، توجه إلى بلاد الشام ، وقصد مدينة حلب ، فدخلها ، ووضع السيف في جميع أهلها ، ودمر مراكزها العلمية ، ثم استولى على سائر مدن الشام.

وبعد فترة من الزمن أرسل طائفة من جنده إلى مدينة الموصل من بلاد الجزيرة ، ففعلوا فيها مثل ما فعله في حلب.

وفي سنة ٦٩٤ تولى غازان التتري ملك المشرق ، ودخل في الإسلام مع جماعة كبيرة من قومه ، لكن انتسابه لهذا الدين لم يمنعه من الاعتداء على البلاد الإسلامية ، ففي سنة ٦٩٩ زحف بجنده إلى الشام ، واستولى على جميع مدائنها ، وإليه تنسب الوقعة الشهيرة في كتب التاريخ بوقعة غازان ، وفي هذه الوقعة الأليمة نهبت مكتبات دمشق ، كمكتبة الرباط الناصري ـ نسبة إلى الملك الناصر بن قلاوون ـ ومكتبة المدرسة الضيائية ، وخزانة ابن البزوري ، وغيرها من مكتبات المدارس والمساجد في دمشق والصالحية ، كما أحرقت دار الحديث الأشرفية ، وذهب كل ما فيها.

ولم يقتصر أمر التتار على هذا ، ففي سنة ٨٠٣ توجه ملكهم وطاغيتهم تيمور لنك لعنة الله عليه إلى بلاد الشام ، فاستولى على حلب ، وحماه ، ودمشق وغيرها من مدن الشام ، وقام بقتل جميع أهلها ، ودمر مساجدها ، ومدارسها ، ومكتباتها ، وأضرم النار في دورها ، وأسواقها ، حتى عفت رسومها.

وكانت وقعة تيمور لنك هذه أعظم ، وأقسى ، وأشد وقائع التتار على بلاد الشام.

ثم توجه تيمور لنك إلى بغداد ، فأهلك كل من لم يمكنه الهرب من أهلها ، ثم قضى على كل أثر للعلم والحضارة والحياة فيها ، حيث خرب المدارس ، والمساجد ، والربط ، والدور ، والأسواق ، وكان لعنه الله قد ورد بغداد سنة ٧٩٥ فقتل ، ونهب ، وخرّب.

١١٠

(٢) قواصم الصليبيين :

لقد نعم النصارى بالأمن والطمأنينة في ظل دولة الإسلام قرونا طويلة ، حفظت لهم فيها الحقوق ، وسلموا من الظلم والجور اللذين عاملهم ملوكهم قبل الإسلام بهما.

فأهل الذمة منهم لقوا من المسلمين سماحة وعدلا لم يعهدوهما في سابق أيامهم فلم تهدم كنائسهم ، ولم يمنعوا من أداء عباداتهم ، ولم يمس أحد من قساوستهم بأذى ، بل شاهدوا بأم أعينهم أن حكم الإسلام العادل كان يردع كل من سولت له نفسه ظلمهم.

وكان حقا على النصارى أن يعاملوا المسلمين بما عوملوا به ، لكنهم لما ظهرت دولتهم ، وتمكنوا من بلاد الإسلام ، جازوا المسلمين جزاء سنمّار ، فأرخوا عنان ظلمهم وبغيهم على المسلمين ، فلم يرحموا في بلاد الإسلام التي دخلوا عليها شيخا أو وليدا ، ولم يتركوا فيها للإسلام ركنا مشيدا ، بل وضعوا السيف في المسلمين ، وأعدموا العلماء والعابدين ، وهدموا المساجد على المصلين ، ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم من أموال وثروات ، هذا إلى جانب هتكهم للأعراض والحرمات.

لقد وهنت الحركة العلمية وعدمت في البلاد التي دخلها النصارى ، لأنهم قتلوا العلماء ، وهدموا المدارس ، وأحرقوا المكتبات ، بعد أن نهبوا منها ما أرادوا.

ـ ففي طرابلس الشام : كانت مكتبة بني عمار الفريدة التي ضاهت بل وفاقت أعظم مكتبات الدنيا كثرة ونفاسة ، وقد قدر البعض أعداد أسفارها بثلاثة آلاف ألف مجلد ، فلما دخل النصارى طرابلس أضرموا النار في هذه المكتبة العظيمة ، ولم يسلم منها إلا ما أرادوا نهبه.

وقد صور ابن الأثير دخول الصليبيين الفرنجة إلى طرابلس بقوله : «فهجموا على البلد ، وملكوه عنوة وقهرا ، ونهبوا ما فيها ، وأسروا الرجال ،

١١١

وسبوا النساء والأطفال ، ونهبوا الأموال ، وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة ، وكتب دور العلم الموقوفة ما لا يحد ولا يحصى فإن أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالا وتجارة ، وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات ، وأخذت دفائنهم وذخائرهم في مكامنهم» (١).

ـ وفي بيت المقدس : لما دخل النصارى إليه قتلوا من أهله مقتلة عظيمة ، وهدموا المساجد ، وأحرقوا المكتبات ، قال السيوطي : «وفيها ـ (أي في سنة ٤٩٢) ـ أخذت الفرنج بيت المقدس بعد حصار شهر ونصف ، وقتلوا به أكثر من سبعين ألفا ، منهم جماعة من العلماء ، والعباد ، والزهاد ، وهدموا المساجد ...» (٢).

وقال ابن الأثير : «وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا ، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين ، وعلمائهم ، وعبادهم ، وزهادهم ممن فارق الأوطان ، وجاور بذلك الموضع الشريف» (٣).

وقد فعل النصارى في مدائن الشام الأخرى مثل ما فعلوه في طرابلس ، وبيت المقدس.

ـ وفي الأندلس : لما سقطت غرناطة سنة ٨٩٧ بيد الأسبان الصليبيين ، فرّ كثير من علمائهم إلى بلاد المغرب ، وكان أصحاب السلطان في غرناطة قد اتفقوا مع النصارى المحاصرين لبلدهم ، على تسليم المدينة بشروط منها : عدم التدخل في شئون المسلمين ، ومنحهم الحرية المطلقة في أداء شعائر دينهم ، والاحتفاظ بأملاكهم ، ومراكزهم العلمية ومعاهدهم ، لكن الأسبان الحاقدين لما تمكنوا من المدينة خرقوا كل المواثيق ، ونقضوا جميع العهود ، وقد أمر أحد كبرائهم وهو الكاردينال خمنيس سنة ٩٠٥ بجمع الكتب من

__________________

(١) الكامل ١٠ / ٤٧٦.

(٢) تاريخ الخلفاء ٢٨٣.

(٣) الكامل ١٠ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

١١٢

جميع المكتبات الإسلامية الخاصة والعامة بغرناطة ـ مع إيعاده لكل من تستّر على كتاب بالعذاب الشديد ، والقتل ـ ولما جمعت له انتقى منها بعض الكتب الطبية ، والهندسية وغيرها وأرسلها إلى إحدى الجامعات ، ثم أضرم النار في البقية التي تعد بمئات الآلاف في أحد ميادين غرناطة.

ولم يقتصر الحقد الصليبي الدفين على هذا العمل المشين بل ضيقوا على المسلمين ، وهدموا مساجدهم ، ومدارسهم ، وأجبروهم على التنصر تحت العذاب الأليم ، ومنعوهم من التكلم بالعربية.

وكان النصارى الأسبان قد ارتكبوا مثل هذه الجرائم في المدن الأندلسية الأخرى التي استولوا عليها من قبل ، لكن عملهم في غرناطة كان أشد وأقسى لأن هذه المدينة كانت آخر معقل للمسلمين في جزيرة الأندلس.

ولم يبرح النصارى منذ الحروب الصليبية وإلى الآن يظهرون كل عداء للمسلمين ، ويعملون على القضاء على حضارتهم بكل وسيلة ممكنة ، فعندما استولى الفرنجيون (الفرنسيون) على قسنطينية إحدى مدن الجزائر في منتصف القرن الثالث عشر ، أحرقوا كل ما وقفوا عليه من كتب فيها ، كما أن منظمة التحرير الفرنسية السرية التي تشكلت في الجزائر قبيل استقلالها قامت بحرق مكتبة جامعة الجزائر التي كانت تحتوي على أكثر من خمس مئة ألف كتاب.

فهذا هو حال النصارى في القديم والحديث ، فما أحرى المسلمين اليوم أن يتنبهوا لمكايد هذه الفئة الضالة ، التي بدلت دينها ، وتنكبت عن جادة طريقها ، ودأبت على تدبير الدسائس ، وتحيّن الفرص للنيل من المسلمين ، والانتقاص من دينهم ، لكن الله ربنا لهم بالمرصاد إن استقمنا على هديه ، واحتكمنا لشرعه (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ ، وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)(١).

__________________

(١) الأنفال ٣٠.

١١٣

(٣) قوارع الباطنيين :

لقد ابتلى الله سبحانه وتعالى المسلمين بأعداء أشداء ، قلوبهم كالحجارة بل أشد قسوة ، فجاسوا خلال الديار ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، فكم من دماء سفكوا ، ومن أعراض هتكوا ، ومن معالم أزالوا.

وكان من ألد هؤلاء الأعداء ، وأعتاهم ، الباطنيون ، وأعوانهم من غلاة الرافضة.

فالعبيديون حاربوا أهل السنّة ، وقتلوا كثيرا من أئمتهم ، وعلمائهم ، فعبيد الله المهدي المجوسي الذي نصب نفسه خليفة «كان باطنيا خبيثا ، حريصا على إزالة ملة الإسلام ، أعدم العلماء ، والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق ، وجاء أولاده على أسلوبه» (١).

والقائم بأمر الله بن المهدي ثاني ملوكهم كان «زنديقا ملعونا ، أظهر سب الأنبياء ... وقتل خلقا من العلماء» (٢).

والحاكم بأمر الله لعنه الله كان من أشد ملوكهم إيذاءا للمسلمين ، وعلمائهم.

والمستنصر بالله بالغ في محاربة السنّة وأهلها قال ابن تغري بردي : «وفي دولته كان الرفض والسب فاشيا مجهرا ، والسنّة والإسلام غريبا» (٣).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٢) المصدر السابق ٢٦٥.

(٣) النجوم الزاهرة ٥ / ٣. وفي عهد المستنصر المذكور منع الإمام الحافظ أبو إسحاق الحبّال المصري من التحديث قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٨ / ٤٩٧ : «وكانت الدولة الباطنية قد منعوه من التحديث ، وأخافوه ، وهدّدوه فامتنع من الرواية ولم ينتشر له كبير شيء ... قلت : قبّح الله دولة أماتت السنة ورواية الأثارة النبوية ، وأحيت الرفض والضلال ، وبثّت دعاتها في النواحي تغوي الناس ويدعونهم إلى نحلة الإسماعيلية».

وكان بعض علماء أهل السنّة يدارون هذه الدولة خوفا من بطشها وسطوتها قال الذهبي في ترجمة الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري في سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢٧١ :

١١٤

ولم يسلم من الإفساد أحد من ملوك العبيديين إلا من لم يقدر عليه ، فعندما ذكر السيوطي بعض الفتن التي أصابت أمة الإسلام قال : «ومن جملة ذلك ابتداء الدولة العبيدية ، وناهيك بهم إفسادا وكفرا ، وقتلا للعلماء والصلحاء» (١).

ومن أخطر وأقبح الأمور المنسوبة إليهم أنهم حرضوا النصارى على الدخول إلى بلاد الشام ، قال السيوطي : «فقيل : إن صاحب مصر لما رأى قوة السّلجوقية واستيلاءهم على الشام كاتب الفرنج يدعوهم إلى المجيء إلى الشام ليملكوها» (٢).

هذا شيء من خبر باطنيي المغرب ، أما أهل المشرق منهم فلم يكونوا أحسن من سابقيهم ، حيث لقي المسلمون منهم كل سوء وبلاء ، ومن جرائمهم المروّعة أنهم كمنوا سنة ٥٥٢ لحجاج خراسان وكانوا خلقا عظيما فيهم الأئمة ، والعلماء ، والصالحون ، فقتلوهم إلا يسيرا منهم ، قال ابن الأثير :

«في هذه السنة سار حجاج خراسان ، فلما رحلوا عن بسطام أغار عليهم جمع من الجند الخراسانية قد قصدوا طبرستان ، فأخذوا من أمتعتهم ، وقتلوا نفرا منهم ، وسلم الباقون ، وساروا عن موضعهم ، فبينما هم سائرون إذ طلع عليهم الإسماعيلية ، فقاتلهم الحجاج قتالا عظيما ، وصبروا صبرا عظيما ، فقتل أميرهم ، فانخذلوا ، وألقوا بأيديهم واستسلموا ، وطلبوا الأمان ، وألقوا أسلحتهم مستأمنين ، فأخذهم الإسماعيلية ، وقتلوهم ، ولم يبقوا منهم إلا شرذمة يسيرة ، وقتل فيهم من الأئمة ، والعلماء ، والزهاد ، والصلحاء جمع

__________________

«قلت : اتصاله بالدولة العبيدية كان مداراة لهم ، وإلا فلو جمح عليهم لاستأصله الحاكم خليفة مصر ... وأظنه ولي وظيفة لهم ، وقد كان من أئمة الأثر ، نشأ في سنة واتباع قبل وجود دولة الرفض ، واستمر هو على التمسك بالحديث ، ولكنه دارى القوم ، وداهنهم».

(١) تاريخ الخلفاء ٣٥١.

(٢) المصدر السابق ٢٨٣.

١١٥

كثير ، وكانت مصيبة عظيمة عمت بلاد الإسلام ، وخصت خراسان ، ولم يبق بلد إلا وفيه المأتم» (١).

وقد ساعد الإسماعيليون (الباطنيون) التتار على المسلمين ، وأرشدوهم إلى مواطن ضعفهم ، فكان ذلك من أسباب ظهور التتار وغلبتهم.

كما أن ابن العلقمي الرافضي وزير المستعصم بالله العباسي هوّن لهولاكو دخول بغداد ، وصرف كثيرا من جند المسلمين عن قتال التتار.

ولما دخل التتار إلى بغداد ، قام نصير الدين الطوسي الرافضي منجم هولاكو بإتلاف الكتب الشرعية الموجودة في مكتبات بغداد العظيمة ، قال ابن تيمية : «لما استولى التتار على بغداد ، وكان الطوسي منجما لهولاكو استولى على كتب الناس الوقف والملك ، فكان كتب الإسلام مثل التفسير ، والحديث ، والفقه ، والرقائق يعدمها ، وأخذ كتب الطب ، والنجوم ، والفلسفة ، والعربية ، فهذه عنده هي الكتب المعظمة» (٢).

فهذه نتف من عظائم الباطنيين ، وغلاة الرافضة ، تدل على زندقة أصحابها ، وخبثهم ، وعدائهم للإسلام والمسلمين.

(٤) جرائم العابثين المفسدين :

لقد كان لتلك الجرائم أثر كبير في ضعف الحركة العلمية ، وتأخرها ، قال ابن الأثير عند ذكره لحوادث سنة ٥٥٦ : «ذكر الفتنة بنيسابور وتخريبها : كان أهل العبث والفساد بنيسابور قد طمعوا في نهب الأموال ، وتخريب البيوت ، حيث خربوا نيسابور بالكلية ، ومن جملة ما خرب مسجد عقيل كان مجمعا لأهل العلم ، وفيه خزائن الكتب الموقوفة ، وكان من أعظم منافع نيسابور ، وخرب أيضا من مدارس الحنفية ثماني مدارس ، ومن مدارس الشافعية سبع

__________________

(١) الكامل ١١ / ٢٢٥.

(٢) مجموع الفتاوى ١٣ / ٢٠٧.

١١٦

عشرة مدرسة ، وأحرق خمس خزائن للكتب ، ونهب سبع خزائن كتب» (١).

ومن أعظم فتن هؤلاء المفسدين ، فتنة الغزّ (٢) الأتراك المسلمين ، الذين قاموا سنة ٥٤٨ بغارات واسعة على مدن وقرى خراسان ، فنهبوها ، ووضعوا السيف في أهلها ، وقتلوا جماعة لا تحصى من القضاة والأئمة والعلماء ، وسبوا النساء والذرية ، وأحرقوا المكتبات العظيمة في مرو ، ونيسابور ، وطوس ، وغيرها ، وهدموا دور العلم ، ولم يسلم من خراسان في هذه الفتنة إلا هراة ودهستان.

وكان من خبرهم في نيسابور أنهم لما دخلوا البلد اجتمع الناس في الجامع الكبير ، وطلبوا الأمان ، فدخل عليهم الغز وقتلوهم عن آخرهم ، وفيهم عدد كبير من الأئمة.

ولم تقتصر غارات الغز على بلاد خراسان بل تقدموا غربا إلى الرّيّ ، وأذربيجان ، والجبال ، والعراق ، فنهبوا ، وقتلوا ، وسبوا ، وارتكبوا كل كبير (٣).

ومن فتن المفسدين التي ضيعت جملة كبيرة من تراثنا المكتبي العظيم ، ما حدث في البصرة سنة ٤٨٣ عندما دخلها رجل ادعى أنه المهدي ، وحارب أهل البصرة ، وشجع عليهم أهل العبث والفساد فنهبوا المدينة ، وأحرقوا أعظم مكتباتها قال ابن الجوزي : «ورد البصرة رجل كان ينظر في علوم النجوم ، يقال له تليا ، واستغوى جماعة ، وادعى أنه الإمام المهدي ، وأحرق البصرة ، فأحرقت دار كتب عملت قبل عضد الدولة وهي أول دار كتب عملت في الإسلام» (٤).

__________________

(١) الكامل ٩ / ٧٤.

(٢) كان الغز يسكنون بلاد تركستان فلما ملك الخطا بلادهم ، أخرجوهم منها ، فقصدوا خراسان ، وكانوا خلقا كثيرا.

(٣) ينظر تفصيل خبر الغزّ في الكامل ٩ / ٣٧٧ ـ ٣٩١ و ١١ / ١٧٦ ـ ١٨٣ ؛ كما أشار السمعاني في مواطن كثيرة من كتاب التحبير إلى قتلهم للعلماء ، وإفسادهم في البلاد ، ينظر مقدمة تحقيق التحبير ١ / ٦١ ـ ٦٢.

(٤) المنتظم ٩ / ٥٣.

١١٧

وقال ابن الأثير : «ودخل العرب حينئذ البصرة ... وملكوها ، ونهبوا ما فيها نهبا شنيعا ... وأحرقوا مواضع عدة ، وفي جملة ما أحرقوا داران للكتب إحداهما وقفت قبل أيام عضد الدولة بن بويه ... وهي أول دار وقفت في الإسلام ، والأخرى وقفها الوزير أبو منصور بن شاه مردان وكان بها نفائس الكتب وأعيانها» (١).

(٥) تبدل دول المسلمين :

شهد المسلمون حروبا كثيرة ومريرة ، كانت تحدث عند تغيّر دولهم ، وتبدل ملوكهم وأمرائهم ، ولو أراد الإنسان أن يسرد تلك الوقائع ، ويصور ما فيها من الشدائد والفظائع ، لطال الأمر كثيرا ، ولخرج البحث عن مساره السليم ، وإني أكتفي هنا بذكر بعض الحوادث التي كان لها أثر مباشر في ضعف الحركة العلمية.

فالخليفة المقتدر بالله بن المعتضد بالله العباسي لما اعتلى كرسي الخلافة بعد خلعه عنها أمر بقتل الذين خلعوه ، ومنهم قاضي القضاة ، وجماعة من العلماء والفقهاء ، قال السيوطي وهو يعدد الفتن التي ابتلي بها المسلمون : «ثم فتنة المقتدر لما خلع ، وبويع ابن المعتز ، وأعيد المقتدر ثاني يوم ، وذبح القاضي ، وخلقا من العلماء ، ولم يقتل قاض قبله في ملة الإسلام» (٢).

ولما ضعف أمر الخلافة الأموية في الأندلس تمكن الثوار البربر في سنة ٤٠٠ من دخول عاصمة الخلافة قرطبة ، وكان من أعظم مفاسدهم فيها نهبهم لمكتبة القصر العظيمة التي كانت تشتمل على نحو من ٤٠٠٠٠٠ مجلد ، وقيل ٦٠٠٠٠٠.

وعندما خرج الأمير يونس بلطا نائب المماليك على طرابلس الشام من

__________________

(١) الكامل ١٠ / ١٨٤.

(٢) تاريخ الخلفاء ٣٥١ ؛ وانظر أيضا ص ٢٥٢ من نفس الكتاب.

١١٨

بلده ، خرج عليه نائب الغيبة ، فتوجه (١) بلطا إلى قتاله ، ولما تمكن من دخول طرابلس ، سام أهلها سوء العذاب ، فقتل منهم خلقا كثيرا فيهم نحو العشرين من الأعيان ، والقضاة ، والعلماء ، وصادر أموال الناس ، وسبى الحريم.

ومن الحوادث التي أودت ببعض المكتبات ، أن بعض البغداديين دخلوا الكرخ عندما قدم طغرل بك السّلجوقي إلى بغداد لاستعادة مجد الخلافة العباسية عقب ثورة البساسيري ، وقام هؤلاء البغداديون بحرق دور الكرخ وأسواقها ، وكان من جملة ما احترق مكتبة الوزير سابور قال ياقوت : «بين السّورين : اسم لمحلة كبيرة كانت بكرخ بغداد ، وبها خزانة الكتب التي وقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتبا منها ، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة ، وأصولهم المحررة ، واحترقت فيما أحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك أول ملوك السّلجوقية إلى بغداد سنة ٤٤٧» (٢).

وقال ابن الجوزي : «ثار الهاشميون ، وأهل باب البصرة إلى الكرخ فنهبوها ، وطرحوا النار في أسواقها ودورها ، واحترقت دار الكتب التي وقفها سابور بن أردشير الوزير في سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة ، وكان فيها كتب كثيرة» (٣).

(٦) حوالك الزمان :

فجع المسلمون بحوادث أليمة ، أدت إلى ضعف في حضارتهم العظيمة ، ونقص في تراثهم العريق ، فمن تتبع كتب التواريخ رأى أمثلة كثيرة من ذلك ، كاحتراق مكتبات بعض العلماء ، أو غرقها ، أو تلفها بالعفونة والرّطوبة ونحو ذلك ، وأقتصر هنا على ذكر مثالين لذهاب مكتبتين عامتين ، وعظيمتين :

__________________

(١) ينظر خبره في النجوم الزاهرة ١٢ / ١٩١.

(٢) معجم البلدان ١ / ٥٣٤.

(٣) المنتظم ٨ / ٢٠٥.

١١٩

فقد قال المقريزي عند ذكره للمدرسة الفاضلية التي بناها القاضي الفاضل بالقاهرة : «ووقف بهذه المدرسة جملة عظيمة من الكتب في سائر العلوم ، يقال إنها كانت مئة ألف مجلد ، وذهبت كلها ، وكان أصل ذهابها أن الطلبة التي كانت بها لما وقع الغلاء بمصر في سنة أربع وتسعين وست مائة ، والسلطان يومئذ الملك العادل كتبغا المنصوري مسّهم الضر ، فصاروا يبيعون كل مجلد برغيف خبز حتى ذهب معظم ما كان فيها من الكتب ، ثم تداولت أيدي الفقهاء عليها بالعارية ، فتفرقت» (١).

وقال أيضا متحدثا عن مصير خزانة الكتب الكبيرة التي كانت في القلعة بالقاهرة في عهد المماليك : «وقع بها الحريق ... سنة إحدى وتسعين وست مائة فتلف بها من الكتب في الفقه والحديث ، والتاريخ ، وعامة العلوم شيء كثير جدا كان من ذخائر الملوك ، فانتهبها الغلمان ، وبيعت أوراقا محرقة ، ظفر الناس منها بنفائس غريبة ما بين ملاحم وغيرها ، وأخذوها بأبخس الأثمان» (٢).

__________________

(١) المواعظ والاعتبار ٢ / ٣٦٦.

(٢) المصدر السابق ٢ / ٢١٢.

١٢٠