الأمصار ذوات الآثار

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

الأمصار ذوات الآثار

المؤلف:

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي


المحقق: قاسم علي سعد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الافتتاحية

الحمد لله مسدي المنح والمواهب ، ومغدق النّعم على خلقه من كل جانب ، والصلاة والسلام على سيدنا المصطفى ، وإمامنا المجتبى ، وأسوتنا المرتضى محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحابته الذين حملوا دعوة الإسلام إلى أصقاع الأرض ، فآتت أكلها ، واستقام في النفوس عودها ، وجعلت من بلاد الإسلام صرح الحضارة ، وقلعة التمدن ، ومجمع العلوم (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ، كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)(١).

أما بعد فإن خزائن الكتب الإسلامية المتبقية التي سلمت من عوادي الزمان ، ونجت من مصارع الأيام ، لتزخر بنفائس الأسفار ، وأمهات الكتب ، ونوادر الرسائل. غير أنها تحتاج إلى من يكشف اللّثام عنها ، وينزع السّتر دونها ، ويخرجها إلى الناس في حلّة قشيبة سيراء ، وبردة حبيرة زهراء.

ومن تلك النوادر الجليلة رسالة «الأمصار ذوات الآثار» للحافظ الذهبي ، التي ظن الناس أن الضّياع قد غشّاها (٢) فيما غشّى ، وكنت ممن يزعم هذا المزعم ، إلى أن عثرت عليها ضمن أحد المجاميع في المكتبة المحمودية

__________________

(١) الأعراف ٥٨.

(٢) عدا ما أورده السخاوي منها في كتاب الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ أهل التّوريخ.

٥

بالمدينة المنورة منذ أربع سنين ، فسررت بها غاية السرور ، وبادرت إلى تصويرها ونسخها أملا في إخراجها وطبعها ، لكن حالت دون ذلك عوائق وصوارف أرجأت الشروع في خدمتها إلى غرّة شهر ربيع الآخر من سنة ١٤٠٥ حيث بدأت في تحقيقها ، والتعليق عليها ، وصنع مقدمة مسهبة لها تساعد على فهمها ، حتى تمت على هذه الصورة المتواضعة التي أرجو أن تحظى بالقبول في الدنيا والآخرة ، والله ولي التوفيق.

وكتبه

قاسم علي سعد

في مدينة الرياض ١٢ ربيع الأول سنة ١٤٠٦

٦

المقدمة (١)

النهضة العلمية في ظل الدولة الإسلامية

ومواطن ضعفها

قصدت من عقد هذا المبحث بيان أسباب قوة وضعف الحركة العلمية في بلاد الإسلام ، لكن لما كان الخوض في هذا الأمر يحوج المتصدي له إلى كثرة الاعتراض والاستطراد في ذكر تواريخ نشوء الدول وزوالها ، والإشارة إلى نبذ من أحوالها وأخبارها ، اخترت الاستهلال بمدخل تاريخي يشتمل على عرض صور موجزة للدول الإسلامية المتعاقبة ، مع الإسهاب في ذكر خبر التتار خاصة. ومن ثمّ أشرع في الموضوع الذي قصدت إليه.

المدخل التاريخي

تعد الأمة الإسلامية سيدة الأمم في مجال العلم ، ورائدتها في إقامة الحضارة المتوازنة التي طالما كان يتطلع إليها عقلاء الأمم ، لتنقذهم من غياهب الظّلم والظّلم ، إلى نور العدل ، وشريعة الحق.

والعلم الذي أقام تلك الحضارة المشرقة ، هو العلم المؤسّس على الفطرة السليمة التي فطر الله سبحانه وتعالى الناس عليها.

فالإسلام دعا إلى العلم ، وحثّ عليه ، وأرشد إليه ، وليس أدلّ على هذا من أن البعثة النبوية افتتحت بتلك الآيات المباركات : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي

__________________

(١) اعتمدت في جمع وتصنيف هذه المقدمة على أمهات الكتب التاريخية القديمة والحديثة ، ولم أتعرض فيها لعزو المعلومات إلى مصادرها إلا عند ذكر النصوص ، والضرورة.

٧

خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ...) ولا يخفى على ذي بصيرة أن هذه الآيات فيها دعوة إلى العلم الموافق لفطرة الإنسان ، المقرّة بوجود رب خالق قاهر ، ومربوب مخلوق مقهور.

وهذا الارتباط بين العلم والفطرة التي غذتها الرسالة النبوية أدى إلى نجاح الحركة العلمية عند المسلمين نجاحا باهرا لم تعهده أمة من الأمم.

فقد قامت قديما وحديثا حركات ومذاهب تدعو إلى العلم على غير هدى ، حيث أهملت جانب الفطرة ، وانطلقت من نقطة فارغة ، وأخذت تتعثر بنفسها لأنها أرادت الخوض في أمور هي أوسع من دائرة العقل الإنساني ، فأجهدت نفسها ، وأعدمت قوتها دون طائل ، ومن هنا نرى أن معظم المذاهب الفلسفية لم تجد نفعا ، ولم تحقق غرضا ، إلا بث الجدليات العقيمة التي حالت دون تقدم العلم.

فالحضارة لا تكون سوية إلا إذا نشأت في ظل دين سماوي ، لأن هذا الدين يرسم للإنسان السبيل القويم ، ويسلك به إلى شاطىء النجاة واليقين ، ويضعه أمام واقع يتجاوب عقل الإنسان معه.

لقد تأخر العرب قبل الإسلام عن مسايرة ركب الحضارة ـ مع شدة تقبّل نفوسهم لها ـ لتلك الغشاوة التي أطبقت على فطرتهم ، فلما بعث سيد البشر ، وخاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أزال تلك الغشاوة فانطلقوا من عقالهم ، ونشطوا من سكرتهم ، فأصابت الدعوة إلى العلم شغاف قلوبهم ، وحركت مكامن نفوسهم ، وخاصة عندما رأوا التناسب الظاهر بينها وبين صلاح طبائعهم ، وصفاء أذهانهم ، وجودة قرائحهم ، وبعد مداركهم ، فرأيتهم ينهلون من منابع العلم ، ويغرفون من عيونه ، حتى كانوا بعد فترة من الزمن سادة عصرهم ، ونسيج وحدهم في هذا المجال ، فأقاموا حضارة عظيمة آذنت بأفول الحضارات السابقة ، ومثلها كمثل الشمس إذا طلعت ، لا تبقي أثرا لسائر الكواكب.

٨

إنها الحضارة المتوازنة التي تناسب طبيعة الأبدان والأكوان ، وشفافية الأرواح والأذهان.

ولما كان أتباع هذا الدين الحنيف خلفاء لله في أرضه ، ومستعمرين فيها ، تطلعوا إلى إنقاذ البشرية كلها من مفاسد الانحراف عن الفطرة ، وهدايتها إلى الطريق السوي ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى سادة الأرض وملوكها يدعوهم إلى الحق الواضح ؛ وكان في طليعة هؤلاء المدعويين كسرى ملك الفرس ، وقيصر سيد الروم ، وكانت دولتاهما أعظم الدول قوة ، وأوسعها رقعة ، وأعتاها حكما ، تقومان على إذلال الإنسان ، واستعباده ، وظلمه ، لكن تلك الدعوة المباركة لم تجد في نفسي كسرى وقيصر أثرا صالحا ، لأنهما رأيا فيها ذهاب ملكهما ، وضياع عظمتهما.

فلما لم تفلح حكمة اللسان معهما ، جاءت موعظة السّنان لتفهم هذين الجبارين في الأرض ، أن الجبروت كله لله ، يعطي ويمنع ، ويرفع ويضع ، ويعز ويذل ، ويؤتي الملك من يشاء ، وينزعه عمن يشاء.

فلم ينته عصر الراشدين المهديين إلا وبلاد الفرس والروم بأيدي المسلمين ، بل اتسعت تلك الفتوحات في عهدهم ، فشملت بلاد خراسان شرقا إلى أطرابلس الغرب ، وباب الأبواب (الدّربند) ومناطق من آسيا الصغرى شمالا إلى جنوب جزيرة العرب ؛ وبعض الجزر كقبرص ورودس ، هذا إلى جانب غزوهم لمناطق كثيرة كجرجان ، وطبرستان ، وأذربيجان ، وبلاد ما وراء النهر في الشرق ، وبلاد النّوبة في الجنوب المصري.

ولم تقف تلك الفتوحات في عهد خلفاء بني أمية ، بل امتدت لتشمل كافة بلاد السّند ، وبعض بلاد الهند ، وبلاد ما وراء النهر كبخارى وسمرقند والشاش والصّغد وفرغانة إلى حدود الصين ، وبلاد المغربين الأوسط والأقصى ، وبلاد الأندلس وجنوب فرنسة ـ فرنجة ـ كما قاموا بحصار حاضرة البيزنطيين «القسطنطينية».

٩

ثم أفل نجم بني أمية ، وبزغ فجر بني العباس ، فكان الخلفاء في هذا العهد يعملون على تثبيت ملك الإسلام للبلاد المفتوحة قبلهم ، وعلى ضبط النظام في الداخل ، وقمع الخارجين ، كما قاموا بفتح بعض البلاد ، وبغزو بلاد الهند والنّوبة باستمرار.

لكن حدث في هذا العهد ـ أعني العصر الأول (١) لبني العباس ـ خروج (٢) بعض البلاد عن حكمهم ، واستقلالها عن سلطانهم ، فاستأثر عبد الرحمن الداخل الأموي بالأندلس ، وأسس فيها الدولة الأموية ، وكانت حاضرتها قرطبة ، وأسس الأدارسة دولة في المغرب وحاضرتها مرّاكش ثم فاس ، وكذا فعل الأغالبة في إفريقيّة ، وكانت حاضرتهم القيروان ، كما قامت في اليمن الدولة الزّيادية وحاضرتها زبيد ، إلا أن الدولتين الأخيرتين لم تكونا تامة الاستقلال عن الدولة العباسية.

ثم كان العصر الثاني للعباسيين ، الذي ضعفت فيه الخلافة ضعفا شديدا ، واستبد الجند (٣) الأتراك بأمور الحكم ، فلم يبق للخليفة في معظم هذا العهد إلا ذاك المظهر الديني والمركز الصوري ، من إقامة الخطبة له ، ونقش اسمه على السّكة ، ونحو ذلك من ألقاب وشعارات خاوية ؛ بل راح كثير من الخلفاء ضحية لأهواء هؤلاء الجند ، فكم خليفة قتل ، أو ضرب ، أو سملت عيناه ، أو عزل ، أو أهين.

وقد أدى هذا الضعف إلى استقلال الولايات الكثيرة ، وقيام الدول ،

__________________

(١) وينتهي هذا العصر بوفاة الخليفة الواثق سنة ٢٣٢.

(٢) لم تسلم الدولة الأموية من مثل هذا الخروج ، لكن كان ذلك في زمن ضعفها وفي آخر أيامها.

(٣) اعتمد العباسيون في بادىء أمرهم على الفرس ، فمنحوهم المناصب العالية في الدولة ، كالوزارة ، وإمرة الجيوش ، فلما قوي أمرهم ، واشتد نفوذهم ، رأى الخليفة المعتصم أن من السلامة إقصاءهم وعزلهم ، وقد تم له ذلك ، لكنه أبدلهم بالعنصر التركي الذي أصبح في وقت من الأوقات أسوأ حالا من سابقه.

والأمويون قد استراحوا من الفريقين ، وسلموا قبل اللّدغ من الجحرين ، فقدموا العرب دون غيرهم وأسندوا لهم الوظائف الكبيرة.

١٠

ونشوء المذاهب والدعوات الفاسدة كالإسماعيلية ، والقرمطية ، والعبيدية «الفاطمية».

كما قامت بعض الدول الخارجة بالاستبداد بالحكم في حاضرة الخلافة بغداد ، وتصريف الأمور دون الخليفة.

لكن كان لكثير من تلك الدول المنفصلة عن جسم الدولة الأم ، فضل في نشر العلم ، وتثبيت ملك الإسلام في المناطق المفتوحة ، وفتح بلاد جديدة ، ونشر الإسلام بين أهلها ، ومحاربة الكفرة الذين يتضرر المسلمون منهم.

وأعرض الآن صورا مختصرة لأهم الدول التي نشأت في هذا العصر ، أو كانت امتدادا لدول نشأت في العصر العباسي الأول.

ويمكن تقسيم هذا الأمر إلى ثلاث نقاط :

(١) دول المشرق.

(٢) دول الشام ومصر.

(٣) دول المغرب والأندلس.

وبذلك يسهل تناول تعاقب الدول بالبحث ، لأن كثرة تلك الدول تحجب الدقة عن البحث ما لم تنظم هذا التنظيم أو ما يشاكله ، وأبدأ بالحديث عن دول المشرق فأقول :

(١) دول المشرق :

لقد قامت في بلاد المشرق دول كثيرة على أيدي الفرس والأتراك وغيرهم ، وكانت معظم هذه الدول تعترف بسلطان الخليفة العباسي ، وتعلن ولاءها الظاهري له.

فقد قامت الدولة الطّاهرية على يد طاهر بن الحسين سنة ٢٠٥ في بلاد خراسان ، وكانت حاضرتها نيسابور ، ثم زالت تلك الدولة سنة ٢٥٤ على يد يعقوب بن الليث الصفّار مؤسس الدولة الصفّارية التي اتسعت رقعتها فشملت

١١

بلاد خراسان ، وفارس ، وأصبهان ، وسجستان ، والسّند ، وكرمان ، وهمت بدخول بغداد لكنها لم توفق ، ثم زالت الدولة الصفارية سنة ٢٩٨ على يد الدولة السامانية التي أسسها نصر بن أحمد الساماني الفارسي سنة ٢٦١ في بلاد ما وراء النهر وكانت حاضرتها بخارى ثم استولت هذه الدولة على بلاد خراسان ، وجرجان ، وطبرستان ، وسجستان ، والجبال.

ثم انقرضت هذه الدولة على يد الغزنويين ، وخانات تركستان ـ الذين تمتد بلادهم من حدود الصين شرقا إلى حدود الدولة السامانية غربا ـ والبويهيين.

وكانت قد قامت الدولة الزيارية سنة ٣٢٢ على يد مرداويج بن زيار الدّيلمي ، وشملت بلاد الجبال ، وطبرستان ، والرّي ، وجرجان ، وغيرها ؛ وهمت بدخول بغداد لإعادة مجد الدولة الفارسية ، لكن سرعان ما زالت دولتهم على يد الدولة البويهية الفارسية الشيعية التي أسسها عماد الدولة علي بن بويه ، وأخواه ركن الدولة حسن ، ومعز الدولة أحمد وذلك سنة ٣٢٣ وشملت بلاد الجبال ، والرّي ، وفارس ، والعراق ، والموصل ، وديار بكر وغيرها ، وقد استطاعت هذه الدولة أن تمد نفوذها إلى حاضرة الخلافة بغداد ، فحكمت فيها أكثر من قرن ، واستأثر سلاطينها بالسلطة فيها دون الخلفاء ؛ وكان عهد بني بويه من أسوأ العهود ، حيث حرضوا الشيعة على أهل السنة ، وهموا بإقامة خلافة علوية ، وناصبوا الخلفاء العداء فقتلوا ، وعذبوا ، وأهانوا ، وعزلوا من شاءوا منهم ، وشجعوا في آخر عهدهم دعاة الباطنية ، والمذاهب الملحدة حتى دمر الله عليهم ملكهم على يد الغزنويين والسلاجقة.

وكانت الدولة الغزنوية ـ وحاضرتها غزنة ـ قد أخذت في الظهور سنة ٣٥٢ على يد ألبتكين التركي أحد ولاة السامانيين ، لكن المؤسس الفعلي لها هو سبكتكين أحد مماليك إسحاق بن ألبتكين وذلك سنة ٣٦٦ ، واتسعت رقعة هذه الدولة فشملت بلاد ما وراء النهر ، وخراسان ، وفارس ، وسجستان ،

١٢

والري ، والجبال ، وأصبهان ، وطبرستان ، وخوارزم ، والسّند ، والبنجاب ، وإقليم جوجرات ، وكشمير.

وكانت هذه الدولة من محاسن الدول ، وسلاطينها من مفاخر السلاطين ، فقد توغلت في بلاد الهند فتحا ، فقتلت وأسرت وغنمت ما لم يسمع بمثله ، وأزالت من تلك الديار المعابد والأصنام ، واستولت على الحصون ، ولم يتهيأ لسلطان مسلم قبلهم فتح ما فتحوه من تلك البلاد ، كما عملوا على نشر الإسلام بين الهنود ، وبين الغوريين الكفرة الذين تقع بلادهم بين غزنة وهراة ، ومن أعظم محاسنهم أيضا قضاؤهم المبرم على سلطان البويهيين الشيعة في الري وبلاد الجبال ، واستردادهم لبلاد ما وراء النهر من خانات تركستان الكفرة ، ومحاربتهم أهل البدع والفساد من معتزلة ، ورافضة ، وإسماعيلية ، وقرامطة ، ومشبهة ، وإظهارهم للسنة.

ثم قامت الدولة السّلجوقية ، ومؤسسها الأول هو سلجوق بن تقاق أحد ملوك الأتراك الذي فر مع قبيلته وقومه من بلاد الترك ، إلى بلاد الإسلام ، حيث أسلم هو ومن معه ، وحسن إسلامهم ، وأخذ يكثر من الإغارة على بلاد الترك الكفرة ، ويساعد المسلمين عليهم ، وكان يقيم بنواحي جند ، ثم ملك أبناؤه من بعده ، وفتحوا البلاد ، واستولوا على مناطق كثيرة من بلاد الغزنويين بعد معارك شديدة ، وأصبحت دولتهم من أعظم الدول ، حيث كانت أوسع رقعة ، وأقوى سلطانا ، وأكثر ازدهارا من الدولة الغزنوية ، وكانت حاضرة السّلجوقيين مدينة الرّي.

وقد امتدت هذه الدولة من حدود الصين شرقا إلى أقاصي الشام غربا ، ومن بلاد آسيا الصغرى شمالا إلى جنوب بلاد اليمن ، وكانت لهم مع الروم وقائع شديدة ، حققوا فيها انتصارات عظيمة ، ودفع لهم إمبراطور الروم الجزية ، كما أنهم أزالوا حكم البويهيين عن بغداد وغيرها ، وحكموا في حاضرة الخلافة العباسية ، وأزالوا حكم العبيديين «الفاطميين» عن الحجاز

١٣

وكثير من مدائن الشام ، وقضوا على ثورة البساسيري الرافضي أحد أمراء جند بني بويه ، الذي خطب للعبيديين في بغداد نفسها ، وحاربوا الباطنية «الإسماعيلية» وصلحت البلاد في أيامهم ، وأمنت الطرق ، وهنأت الرعية ، وانتشر العدل ، لكن سنّة الله في مداولة الأيام بين الناس أصابتهم كما أصابت غيرهم ، فضعفت دولتهم ، وقام في وجهها الخوارزميون والغوريون من الشرق ، والصليبيون والروم في آسيا الصغرى وبلاد الشام وفلسطين ، ومن ثم زالت وتفرع عنها بعض الدول الصغيرة.

وكان من أخطر الأحداث في عهد هذه الدولة ، خروج الصليبيين الفرنجة ، واجتماعهم على الاستيلاء على ديار المسلمين ففي سنة ٤٧٨ استولوا لعنهم الله على مدينة طليطلة أكبر وأحصن مدائن الأندلس ، وعلى غيرها من المدن في تلك الناحية وذلك في عهد ملوك الطوائف. وفي سنة ٤٨٤ استولوا على جميع جزيرة صقلّيّة وكانت تابعة لسلطان العبيديين في مصر. وفي سنة ٤٩٠ توجهوا بجحافلهم نحو بلاد الشام والجزيرة فاحتلوا الرّها وأنطاكية وبيت المقدس ، وطرابلس ، وأسسوا في كل واحدة منها إمارة لاتينية ، كما ملكوا كثيرا من مدائن الشام والجزيرة كعكا ، وحيفا ، ويافا ، واللّاذقيّة ، وبيروت ، وصيدا ، وصور ، وجبيل ، وبانياس ، وغيرها الكثير ، فقتلوا فيها مئات الآلاف من رجال المسلمين ، وسبوا نساءهم ، ونهبوا ديارهم وأموالهم ، وعاثوا في تلك الديار التي كان يحكمها السّلاجقة والعبيديون الفساد ، وذلك لما رأوا ضعف هاتين الدولتين ، وما تعانيانه من حروب داخلية قاتلة.

ومع ذلك فقد قامت تلك الدولتان بالوقوف في وجه الصليبيين ، ومقاومتهم رغم ضعف إمكانياتهما ، إلا أن الفضل الأكبر في ردع حملات الصليبيين الحاقدة ، واسترداد البلاد الإسلامية منهم ، كان للدولة الأتابكية في الموصل وحلب ، والدولة الأيوبية ، ومن ثمّ دولة المماليك.

وقد سبق أن الدولة الغورية قامت في وجه الدولة السّلجوقية ؛ والدولة

١٤

الغورية قامت على أيدي الغور الأفغانيين ، وكانت حاضرتهم «فيروزكوه» وهي من أعمال غزنة ، ويعتبر المؤسس الحقيقي لهذه الدولة هو علاء الدين الحسين بن الحسين الغوري وذلك في سنة ٥٤٧ أو قبل ذلك ، وقد اتسعت رقعة هذه الدولة فشملت بعض بلاد خراسان ، والسّند ، والهند ، وقد فاقوا الغزنويين كثيرا في فتوحاتهم في بلاد الهند ، ودانت لهم ملوك تلك الناحية ، وغنموا منها المغانم التي تفوق الحصر ، وقتلوا من الهنود الكفرة العدد الكبير ، ونشروا الإسلام في تلك الديار ، وكانت دولتهم من أحسن الدول سيرة.

كما كان على يد هذه الدولة زوال الدولة الغزنوية.

ثم زالت الدولة الغورية على يد الدولة الخوارزمية التي يعتبر أصل تأسيسها سنة ٤٧٠ على يد أنوشتكين أحد موظفي بلاط السّلاجقة ، ومن ثم استقلت الدولة الخوارزمية عنهم ، وضاهت (١) دولتهم ، حيث إنها جاءت على أنقاض الدولة السّلجوقية ، والدولة الغورية ، وامتدت بلادهم من حدود الفرات غربا إلى حدود الهند وإلى بلاد ما وراء النهر ، وتركستان شرقا ومن باب الأبواب ، وتفليس ، وبحر آرال شمالا إلى الخليج الفارسي ، وبحر العرب جنوبا ، وقد دارت بينهم وبين السّلاجقة والغوريين حروب ضارية.

ومن محاسن هذه الدولة قضاؤها المبرم على الخطا الكفرة الذين كانوا يسكنون بلاد تركستان ـ الواقعة بين الصين وبلاد ما وراء النهر ـ والذين كانوا يسومون المسلمين سوء العذاب حيث إنهم سيطروا على بلاد ما وراء النهر ، وأخضعوا المسلمين فيها لسلطانهم ، وأجبروهم على بذل المال لهم ، بل إنهم عبروا جيحون إلى بلاد خراسان فعاثوا فيها فسادا.

كما كان للدولة الخوارزمية الفضل في قتل معظم الكرج الكفرة ، ونهب

__________________

(١) إلا أن شاهات خوارزم لم يستطيعوا الحكم في حاضرة خلافة بني العباس كما فعل السلاجقة والبويهيون.

١٥

بلادهم الواقعة شرق البحر الأسود ، وقد كان هؤلاء الكرج أهل بطش وظلم وعدوان ، لم يسلم من إيذائهم أحد من جيرانهم قبل الإسلام ولا بعده ، فقد تضررت منهم مملكة فارس قبل الإسلام ، ومن ثم راحوا يصبون النقمة والظلم على المسلمين من حولهم في بلاد أذربيجان ، وأرّان ، ودربند شروان ، وأرزن الروم ، وخلاط ، ولم يجسر أحد على الإيقاع بهم كما فعل جلال الدين بن علاء الدين خوارزم شاه آخر سلاطين الخوارزمية رغم ضعف دولته ، وقضاء التتر على معظم جنده.

كما قامت الدولة الخوارزمية بمحاربة الإسماعيليين الباطنيين ، ووضعوا السيف في جموع كبيرة جدا منهم.

ثم زالت الدولة الخوارزمية في آخر سنة ٦٢٨ ، ومحيت آثارها ، ونسفت ديارها ، وأبيدت جنودها على يد التتار الكفرة لعنهم الله فإنهم فعلوا في بلاد المسلمين من القتل والفحش والسبي والنهب والتخريب والفساد ما لم يسمع بمثله في تاريخ البشرية كلها.

وقد ذكرت من ذي قبل أن الدولة السّلجوقية تفرع عنها دويلات ، وذلك كدولة سلاجقة الروم ، وشاهات إرمينية ، ودول الأتابكة ، وسأتحدث فيما بعد إن شاء الله تعالى عن بعض دول الأتابكة ودورهم الفريد في محاربة الصليبيين ، وتمهيدهم الطريق للأيوبيين ومن ثم للمماليك في محو آثار الصليبيين من بلاد الشام ومصر.

(٢) دول الشام ومصر :

لم يحظ بلد من البلدان بما حظيت به بلاد مصر والشام من موقع جغرافي ، وسوقي ، وروحي مميز ، فكانت مهد النبوات ، ومهبط الحضارات ، وملتقى التجارات ، لذا تطلعت إليها الأنظار ، وتأسست فيها الدول الكبار ، وكانت أولى البلاد التي فتحها المسلمون في زمن الراشدين ، وظلت تحت

١٦

سلطة الخلافة الإسلامية المركزية ، إلى أن دب الضعف في جسم تلك الخلافة ، وتفككت روابطها ، في العصر العباسي الثاني ، فاستقلت الولايات الكثيرة ، ومنها بلاد مصر والشام.

ففي سنة ٢٥٩ ولي أحمد بن طولون التركي مصر من قبل الخليفة ، ومن ثم ضم إليه الشام ، واستقل بتلك البلاد مؤسسا بذلك الدولة الطولونية التي امتدت من العراق شرقا إلى برقة غربا ، ومن آسيا الصغرى شمالا إلى بلاد النّوبة جنوبا ، وقد أكثر ملوكها من غزو بلاد الروم حتى خافهم أباطرتها ، وكانت أيام هذه الدولة أيام ازدهار للبلاد ، ورخاء للعباد ، ثم زالت رسوم هذه الدولة سنة ٢٩٢ على يد الخلافة العباسية.

وبعد أن خضعت تلك البلاد لسلطان الخليفة فترة من الزمن ، قامت فيها الدولة الإخشيدية سنة ٣٢٣ على يد محمد الإخشيد بن طغج ـ أحد أولاد ملوك فرغانة ـ نائب العباسيين في تلك الديار ، وكان لملوك هذه الدولة موقف جليل في صد حملات العبيديين الحربية لدخول مصر ، كما دانت لها بلاد الحجاز ، وقد قامت هذه الدولة بإصلاحات كثيرة ، ثم سقطت على يد العبيديين سنة ٣٥٨.

وكان الحمدانيون قد استولوا على حلب من الإخشيديين ، ودولة بني حمدان تأسست في بلاد الموصل سنة ٣١٧ على يد ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان الذي تولى إمرة الأمراء في بغداد ؛ كما أنها تأسست في حلب وتوابعها على يد سيف الدولة الحمداني أخي ناصر الدولة ، وقد امتاز عهد السيف هذا بكثرة وقائعه مع البيزنطيين الذين استولوا على كثير من المناطق الإسلامية الشمالية في بلاد الروم ، والجزيرة ، وغيرها ، ثم زالت الدولة الحمدانية في الموصل على يد البويهيين ، وفي حلب على يد العبيديين.

ودولة العبيديين قامت سنة ٢٩٧ في إفريقيّة ، والمغرب الأوسط على يد

١٧

أول خلفائها وهو عبيد الله المهدي ، بعد أن مهد الطريق له داعية الباطنية أبو عبد الله الشيعي ، ثم اتسعت رقعة هذه الدولة فشملت المغرب الأقصى ومصر وفلسطين والشام والموصل والحجاز واليمن ، وجزيرة صقلّيّة إلى جانب إفريقيّة والمغرب الأوسط ، وكانت حاضرة هذه الدولة القاهرة بعد أن كانت القيروان ، والمهدية ، والمنصورية على التوالي ، وقد نشر العبيديون في البلاد التي امتدت أيديهم إليها المذاهب الشيعية الغالية ، وناصبوا أهل السنة العداء ، وضيقوا عليهم. ثم زال حكمهم في المغرب وإفريقيّة على يد دويلات ، وزال في الشام على يد السّلاجقة ، وبعض دول الأتابكة ، والصليبيين ، وزال في مصر على يد صلاح الدين الأيوبي أحد قواد نور الدين محمود.

وأنتقل الآن للكلام عن بعض دول الأتابكة فأقول :

إن سلاطين السّلاجقة كانوا يعهدون لبعض الأتراك النابهين بالوزارة لهم ، أو بتربية أولادهم ، وكان السلاطين يولون أولادهم الصغار بعض الأقاليم والولايات ، ويرسلون معهم الأتابك ـ أي الأمير الوالد ـ ليدير شئون تلك البلاد عنهم ، ريثما يتأهلون للحكم بأنفسهم ، وكان السّلاجقة أيضا يسندون إدارة بعض الأقاليم أو الولايات ، لبعض الأتابكة ، فلما ضعفت الدولة السّلجوقية ، وآذنت بالأفول استقل كثير من الأتابكة بولاياتهم ، واستأثروا فيها دون سلاطينهم ، ومن ثم أطلق على دولهم تلك ، دول الأتابكة.

وقد كثرت هذه الدول : كأتابكية الموصل ، وأتابكية دمشق ، وأتابكية حلب ، وأتابكية الجزيرة ، وأتابكية سنجار ، وأتابكية كيفا وماردين ، وأتابكية أذربيجان وغيرها.

ومن أهم هذه الأتابكيات : أتابكية دمشق ، وأتابكية الموصل ، وأتابكية حلب. فأتابكية دمشق : أسسها طغتكين أحد قواد السّلاجقة ، واستمرت هذه الدولة تحت نفوذ أسرة طغتكين إلى سنة ٥٤٩ حيث استولى عليها الملك العادل نور الدين محمود رحمه الله تعالى.

١٨

وأما أتابكية الموصل : فقد أسسها عماد الدين زنكي أحد ولاة السّلاجقة المقربين ممن تولوا أرفع المناصب في هذه الدولة ، ففي سنة ٥٢١ صدر قرار من السلطان السّلجوقي محمود بن محمد بن ملكشاه بإقطاع عماد الدين الموصل ، وسائر البلاد الجزرية ، مع تسليمه ولدي السلطان ليكون أتابكا لهما ، ومنذ ذلك الحين أطلق على زنكي لقب «أتابك» ، ثم ضم زنكي إلى إقطاعه مدينة حلب ، وغيرها من مدائن الشام.

وقد تسلم الملك الشهيد زنكي هذه البلاد في أصعب الأوقات وأحلكها ، حيث كان الفرنج النصارى يعيثون في بلاد الإسلام الشامية والجزرية الفساد ، واتخذوا فيها مملكة واسعة الأطراف تمتد من نواحي ماردين شمالا إلى عريش مصر ، وليس بيد المسلمين من مدن تلك الناحية سوى حلب ، وحمص ، وحماه ، ودمشق ، وكانت جميع البلاد الشامية والجزرية تتعرض لغاراتهم ، وفسادهم ، ونهبهم ، وقتلهم.

فقام الملك الشهيد زنكي بمحاربة الفرنجة والروم ، واشتبك معهم في وقائع شديدة ، واستعاد منهم الحصون المنيعة ، ومن أهمها «الرّها» ، وأعاد لمناطق المسلمين أمنها واستقرارها ، ثم توفي رحمه الله تعالى في سنة ٥٤١ بعد أن نشر العدل ، وبث الأمن ، وأرهب الأعداء. وتولى مكانه الملك ولداه الملك سيف الدين غازي في الموصل وبلاد الجزيرة ، والملك العادل نور الدين محمود في حلب ونواحيها ، وكانت دولة نور الدين من أعظم الدول حيث قامت بجهاد الفرنجة ، والاستيلاء على كثير من حصونهم في ديار الإسلام ، وأسر وقتل عدد من كبار ملوكهم حتى ذلوا ووهنت عزائمهم ، وخارت قواهم ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت.

وبعد موت سيف الدين غازي ملك البلاد الجزرية ، وخليفته من بعده أخيه قطب الدين مودود قام الملك العادل بضم الموصل وبلاد الجزيرة إليه ، وكذلك فعل بدمشق وغيرها من مدن الشام وذلك في سنة ٥٤٩ ولم يحمله على هذا

١٩

إلا فعل الخير بتقوية البلاد الإسلامية وتوحيدها لمواجهة الأعداء الحاقدين من الفرنجة وغيرهم ، وقد قرر على بلاد الجزيرة ابني أخيه قطب الدين ، وهما سيف الدين وعماد الدين ، كما بسط في جميع البلاد التي يحكمها الأمن والعدل والإحسان فمالت إليه القلوب ، وأنست بعهده النفوس.

ولما تم للملك العادل نور الدين محمود توحيد تلك البلاد أرسل أحد قواده العظام وهو أسد الدين شيركوه وبرفقته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي إلى مصر ففتحاها ، وطردوا الفرنجة من ثغورها ، لكن سرعان ما توفي أسد الدين رحمه الله ، فتولى مكانه ابن أخيه صلاح الدين الذي كانت على يديه الكريمتين زوال معالم الخلافة العبيدية الرافضية ، وفتح بلاد اليمن بواسطة أخيه في سنة ٥٦٩ وتوحيدها بعد أن كانت مفككة تحكمها عدة دويلات.

وفي العام نفسه توفي الملك العادل نور الدين رحمة الله عليه ، بعد حياة حافلة بالجهاد والإصلاح والصلاح ، وكانت رقعة ملكه قد اتسعت لتشمل الموصل وبلاد الجزيرة ، وبلاد الشام ، والديار المصرية ، واليمنية ، والحجازية ، وأطاعه أصحاب ديار بكر ، وبذلك مهد العادل الطريق للسلطان الشهم المجاهد صلاح الدين الأيوبي ليسترد معظم مدن الشام من الفرنجة لعنهم الله.

* الدولة الأيوبية : قامت هذه الدولة الفتية على يد البطل الشهير ، والسلطان الكبير صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب ، وذلك أن هذا السلطان كان يحكم مصر نيابة عن الملك العادل نور الدين محمود ، فلما مات العادل نور الدين رحمه الله ضعفت الدولة الزّنكية ، فرأى صلاح الدين من الحكمة ضم جميع ولايات هذه الدولة تحت سلطانه ، ليتيسر له استرداد البلاد الشامية من الفرنجة ، وقد تحقق لصلاح الدين هذا الأمر ، فدانت له البلاد الجزرية ، والموصلية ، والشامية التي بأيدي المسلمين ، ثم كشف عن ساق الجد وراح يحارب الفرنجة ، ويدفعهم عن بلاد الإسلام ، فخاض معهم معارك

٢٠