الأمصار ذوات الآثار

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

الأمصار ذوات الآثار

المؤلف:

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي


المحقق: قاسم علي سعد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

سنة ٦٩٩ ، وكان المصاف بينهم وبين المسلمين بقيادة الملك الناصر بن قلاوون ، عند حمص ، وأسفرت المعركة عن هزيمة الناصر ، ففر بجنده نحو مصر فتتبعته جنود التتار.

ثم دخل غازان إلى دمشق ، وخطب له فيها مئة يوم بدل السلطان المملوكي ، وهذه هي وقعة غازان الشهيرة التي نهبت فيها دمشق ، ومكتباتها.

ثم تقدم التتار إلى غزة ، والقدس ، والكّرك ، فنهبوا ، وغنموا الكثير ، ثم عادوا مع ملكهم إلى ديارهم في الشرق.

ثم توجهوا مرة أخرى إلى بلاد الشام ، وذلك في سنة ٧٠٠ ، لكنهم رجعوا على أعقابهم لشدة المطر.

ولما كانت سنة ٧٠٢ عادوا إلى بلاد الشام ، فذعر الناس ، وفر الكثير منهم إلى بلاد مصر ، والكّرك ، والحصون ، فالتقى معهم جيش مصر والشام بقيادة السلطان الناصر في شقحب ، وجرت بين الفريقين وقائع شديدة ، واستبسل المسلمون ، وصبروا في ساعات القتال ، فأنزل الله سبحانه وتعالى عليهم النصر ، وتم لهم قتل التتار المهاجمين عن آخرهم.

ولما علم غازان بهزيمة جماعته ، وجه إلى الشام حملة كبيرة بقيادة نائبه ، فالتقى معهم السلطان الناصر أيضا ، وأوقع بهم الهزيمة ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، لا تدخل تحت الحصر ، والذين تمكنوا من الفرار أهلكهم الجوع والغرق ؛ فلله الحمد على منّه.

ثم توفي غازان سنة ٧٠٣ كمدا على ما حل بجنده ، فتولى الملك بعده أخوه خربنده ، الذي ترفض بعد أن كان في أول ملكه سنيا ، وأظهر بدعته في البلاد ، فقويت الرافضة على أهل السنّة ، واشتطوا في ظلمهم لهم وشدتهم عليهم ؛ وكان خربنده قد أراد غزو مكة لكن الله أهلكه قبل تحقق أمنيته ، وذلك في سنة ٧١٦. فتولى بعده ابنه بو سعيد.

٤١

وكان بو سعيد بن خربنده من خيار ملوك التتار في الشرق ، وأحسنهم طريقة ، حيث أذل الرافضة ، وأظهر أهل السنّة ، خلاف ما فعله أبوه ، ثم توفي سنة ٧٣٦ فضعف أمر التتار بعده ضعفا شديدا.

وفي عهد بو سعيد ، وبالتحديد في سنة ٧١٩ جرى اقتتال عظيم بين التتار أنفسهم فقتل منهم ما يربو على ٣٠٠٠٠ رجل ، حتى كاد يزول ملكهم.

وبو سعيد بن خربنده هو آخر من ملك من بني هولاكو ، وبموته تفرقت المملكة بأيدي أقوام.

ثم ظهر أمر التتار في عهد تيمور لنك ملك الشرق ، حيث ضم لسلطانه كثيرا من بلاد ملوك التتار الآخرين ، وتمكن من الاستيلاء على ممالك كثيرة ، منها العراقين ، وأقاليم ديار بكر وقام بتخريب بلاد عراق العرب ، وبعض بلاد ديار بكر ، ثم قصد البلاد الشامية في سنة ٧٩٨ لكنه سرعان ما عاد منها إلى بلاده خوفا من السلطان الملك الظاهر سيف الدين برقوق الجركسي الذي رابط بجنده عند حلب ، وزاد من خوف تيمور لنك اتفاق ملك التتار الشّماليين طقتمش خان ، وملك بلاد الروم بايزيد بن عثمان ، وصاحب سيواس القاضي برهان الدين أحمد ، مع السلطان برقوق على نصرته في حرب التتار.

وبينما تيمور لنك في سمرقند بلغه خبر وفاة ملك الهند ، وحدوث نزاع شديد بعده ، فتوجه إلى تلك البلاد ، وملك حاضرة مملكتها مدينة دلهي (١) وذلك في سنة ٨٠٠ ، بعد وقائع استعمل فيها الخديعة والمكر ، ثم قام جنده فجاسوا خلال ديارها فقتلوا وأسروا وسبوا ونهبوا وخربوا.

ولما كان تيمور لنك ينظم أمر تلك الناحية ، ورده الخبر بموت الملك الظاهر برقوق ، وصاحب سيواس القاضي برهان الدين ، فغمرته الفرحة ، واستبشر بملك بلاد الشام والروم ، فخرج إلى حاضرة ملكه سمرقند ، ثم قطع

__________________

(١) لما ملك تيمور لنك مدينة دلهي كان غالب أهلها مسلمين ، وسلطانها كذلك.

٤٢

البلاد حتى وصل إلى سيواس في بلاد الروم ، فحاصرها ، ثم دخلها عنوة ، وأهلك جميع مقاتلتها حيث دفنهم وهم أحياء ؛ ثم قصد عدة مناطق من بلاد المماليك الشمالية فنهبها وخربها وسفك فيها الدماء.

عندها أصاب الناس في بلاد الشام ذعر شديد ، وازداد خوفهم لما علموا برفض الأمراء المصريين لطلب ملك بلاد الروم بايزيد بن عثمان الذي دعى فيه إلى جمع الشمل لمقاتلة التتار ، ولما رأوا من تخاذل السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق ، وتباطئه عن المسير إلى الشام.

وكان نواب المماليك في الشام قد قرروا أن يخرجوا بجموعهم لمقاتلة التتار ، فتوجهوا إلى حلب ، حيث انضم إليهم أهل حلب جميعهم ، ثم خرجوا إلى ظاهر المدينة ، فزحف عليهم تيمور لنك بجنود كثيرة ، كالجراد المنتشر ـ وذلك في سنة ٨٠٣ ـ واشتد القتال بين الفريقين ، وأبلى نواب الشام بلاء حسنا ، لكن لم تمض فترة وجيزة من اللقاء إلا وجنود الشام يفرون إلى حلب ، فتتبّعهم التتار بشدة حتى هلك من المسلمين من شدة الزّحام وتحت حوافر الخيل ما لا يدخل تحت الحصر.

ثم دخل تيمور لنك بقبيله حلب ، فاستباحوها ، وكثر منهم القتل ، والسبي ، والنهب ، والتخريب ، فقتلوا الرجال والأطفال ، وسبوا النساء ، وارتكبوا فيهن العظائم ، وهدموا الدور ، وقطعوا الأشجار ، وأحرقوا المساجد والمدارس والمكتبات ، وأشعلوا النار في حلب كلها حتى صارت أطلالا بالية.

وفي هذه الفترة كان ابن تيمور لنك قد ملك حماه ، وسار فيها سيرة أبيه في حلب.

ثم مضى تيمور لنك لعنه الله إلى دمشق ، وكان أهلها ، ومقاتلتها قد أتموا تحصينها ، واستعدوا لملاقاة التتار ، وبينما هم كذلك وصل السلطان فرج بن برقوق إلى دمشق ، وعسكر مع جنده في ظاهرها ، ومن ثم أخذت جموع التتار

٤٣

تتقدم نحوهم ، حتى كان المصاف بين الفريقين في سنة ٨٠٣ ، وحمي بينهم وطيس القتال ، واشتد الأمر على المسلمين.

وفي ساعة العسرة هذه ، أشيع بين صفوف جند السلطان أن أحد الجراكسة في مصر نصب نفسه ملكا ، فخرج بعض الأمراء بالسلطان سرا نحو مصر ، ولما علم كبار الأمراء والقواد بذلك تبعوا سلطانهم ، فضعفت عندها العزائم ، وخارت القوى ، وتراجع المسلمون حتى دخلوا دمشق ، وأغلقوا أبوابها ، وعزموا على القتال حتى ينالوا إحدى الحسنيين.

ثم تقدم تيمور لنك إلى دمشق ، فأحكم حصارها ، وقاتلها قتالا شديدا ، لكنه لم يتمكن من دخول ، أو نقب شيء من أسوارها لشدة حصانتها ، وتفاني أهلها في الدفاع عن أنفسهم ، وبلدهم ؛ عندها أعمل تيمور لنك الخديعة ، فقد دعى أهل دمشق إلى طلب الأمان ، فطلبوه بعد خلاف بينهم ، وأرسلوا أحد القضاة إلى تيمور لنك ، فأغراه ملك التتار ، وأحسن له في الكلام ، وتلطف معه في القول ، وهو يكثر الذكر والتسبيح مكرا وخدعة ، ولله در القائل :

قد بلينا بأمير

ظلم الناس وسبح

فهو كالجزار فيهم

يذكر الله ويذبح

فرجع القاضي إلى دمشق ، وراح يسرد على الناس محاسن تيمور لنك ، وأنه رجل عاقل يريد الصلح ، حتى أقنع كثيرا من الناس بحسن نية الخبيث تيمور لنك ، ثم فتحت بعض أبواب دمشق ، وأخذ ملك التتار يشتط في طلب الأموال والذخائر حتى عدمت الأقوات ، وغلت الأسعار ، ووقع الناس في بلاء شديد.

ثم قسم تيمور لنك دمشق على أمرائه ، فراحوا يسومون أهلها سوء العذاب عند استخراج الأموال منهم ، حتى هلك بالعقوبة الشديدة القاتلة ، والجوع خلق لا يعلم عددهم إلا الله.

٤٤

كما قام التتار باقتراف العظائم بالنساء أمام ذويهن ، ولم ينج أحد من القتل والأسر إلا الأطفال الذين لم يبلغوا الخامسة من أعمارهم الذين هلك معظمهم جوعا ، بل يذكر بعض المؤرخين أنه جمع لتيمور لنك أطفال دمشق الذين هم دون الخامسة وكانوا نحو عشرة آلاف طفل فأمر جنده أن يسوقوا الخيل عليهم ، حتى ماتوا أجمعين.

وقد أخرج التتار الأسرى من الرجال والنساء والأولاد من دمشق ، وأضرموا النار في المنازل والمساجد والمدارس والمتاجر والأسواق ، حتى أصبحت دمشق بلاقعا كأن لم تغن بالأمس.

ثم خرج تيمور لنك نحو حلب ، فوصلها وأهلك من كان قد عاد إليها ، ثم زحف إلى بغداد فوضع السيف في أهلها حتى بلغ عدد قتلاها في ذلك اليوم نحو مئة ألف إنسان. ثم عطف إلى بلاد الروم ، وكان المصاف بينه وبين صاحبها بايزيد بن عثمان ـ وذلك في سنة ٨٠٤ ـ فاستطاع تيمور لنك بمكره أن يشتت جند ملك بلاد الروم ، حتى انضم الكثير منهم إلى فئته الباغية ، ثم نشبت الحرب بينه ، وبين ما تبقى من جند بايزيد الذي قتل معظمهم ظمأ ، فهزموا ، وأسر بايزيد ، وظل في الأسر حتى مات رحمه الله.

وبعد أن تم للتتار القضاء على جند بلاد الروم راحوا يعيثون فيها الفساد ، فقتلوا ، وسبوا ، ونهبوا ، وخربوا كما هي عادتهم.

ثم توجه تيمور لنك نحو بلاد الصين يريد الاستيلاء عليها ، فهلك إلى غير رحمة الله سنة ٨٠٧ قبل الوصول إليها ، فتولى بعده حفيده.

وبذا ينتهي المدخل التاريخي الذي جعلته مقدمة لموضوع أسباب قوة الحركة العلمية وضعفها في بلاد الإسلام.

٤٥
٤٦

أسباب قوة الحركة العلمية وضعفها

في بلاد الإسلام

لقد بعث الإسلام في أرجاء الأرض نهضة علمية فريدة وعظيمة ، بدّد نورها ظلام الجهل ، وعمّ ضياؤها الحزن والسهل ، فأنس الناس بحسن رونقها ، واستعذبوا طيب حلاوتها ، وقرّت عيونهم ببهاء نضرتها ، فلم يمض عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعصر الراشدين المهديين من بعده ، حتى انتشر العلم في جميع ديار المسلمين ، فأولاه الناس عظيم عنايتهم ، وتوجهوا إليه بكليتهم ، فعشقته النفوس ، وشغفت بحبه القلوب ، وشنفت لسماعه الآذان ، وودّ كل ذي علم أن ينال منه القسط الأوفى ، والقدح المعلّى ، ولكن هيهات أن يحاط بجملته ، لأنه غائر الأعماق ، واسع الآفاق ، فهو بحر تنقطع الآجال دون بلوغ ساحله ، وفضاء تقصر الأبصار عن درك آخره ، هذا فيما مكننا الله من علمه ، فكيف بما وراء ذلك! وصدق ربنا حيث يقول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(١).

ويمكنني أن أشرع في معالجة هذا الموضوع «أسباب قوة الحركة العلمية وضعفها في بلاد الإسلام» من خلال تقسيمه إلى فقرتين رئيستين تبرزان في عنوانه ، ألا وهما :

(١) أسباب قوة الحركة العلمية في بلاد الإسلام.

(٢) أسباب ضعفها.

__________________

(١) الإسراء ٨٥.

٤٧

فالفقرة الأولى : وهي أساس هذا الباب ، وصلبه ، يمكن تناولها بدقة من خلال عرض تلك الأسباب ، وتوضيح مقاصدها ، وإليك هذا العرض والتوضيح :

السبب الأول : دعوة القرآن الكريم والسنة المشرفة إلى التعلم ، وحثّهما الناس على طلب العلم ، وبيانهما لفضيلته ، وإشادتهما بأهله.

فقد قال الله تعالى في كتابه الحكيم : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(١) ، وقال أيضا : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ)(٢) ، وقال أيضا : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(٣) ، كما أمر سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن ثمّ عباده بالاستزادة من العلم فقال سبحانه : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(٤).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (٥) ، وقال أيضا : «من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله له طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ، ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد ، كفضل القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» (٦).

__________________

(١) الزمر ٩.

(٢) المجادلة ١١.

(٣) فاطر ٢٨.

(٤) طه ١١٤.

(٥) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم ، باب ١٣ ، حديث ١ ، وفي كتاب الاعتصام بالسنّة ، باب ١٠ ، حديث ١.

(٦) أخرجه الترمذي في جامعه ـ واللفظ له ـ في كتاب العلم ، باب ١٩ ، حديث ٢ ، وأبو داود في سننه في كتاب العلم ، باب ١ ، حديث ١ ، وابن ماجه في سننه في المقدمة باب ١٧ ، حديث ٤ ، وأحمد في مسنده ٥ / ١٩٦.

٤٨

السبب الثاني : العمل بالعلم : لا شك أن الالتزام العملي بما يعلم ، يرسخ المعلومات في الأذهان ، ويثبتها ، وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن بعدهم من أئمة الدين ، يقرنون العلم بالعمل (١) ، والقول بالفعل ، ومن الأدلة على هذا قول ابن مسعود رضي الله عنه : «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ، والعمل بهن» (٢) وقول أبي عبد الرحمن السلمي التابعي : «حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ، أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلّفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن ، والعمل جميعا» (٣).

وأمر آخر وهو أن الله سبحانه يهب عباده المؤمنين العاملين قوة في علمهم ، وثباتا في ذهنهم فضلا منه ورحمة ، فقد حكي عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال : «من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم» (٤) فهذا القول ولو لم نعلم صحة نسبته إلى عيسى عليه السلام فإنه صحيح المعنى ، أما العصاة المذنبون فإنهم يحرمون بركة العلم ، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور

ونور الله لا يهدى لعاص (٥)

السبب الثالث : ترغيب الشارع في تبليغ العلم ، وترهيبه من كتمه : فقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في تبليغ العلم عنه ، فقال صلى الله عليه وسلم : «نضّر الله امرءا سمع

__________________

(١) لا يفهم من هذا أنهم كانوا يفعلونه لأجل تقوية الحافظة ، فحاشاهم من ذلك ، بل قصدهم الطاعة ، والخضوع لله تعالى ، لكن هذا المقصد يلزم منه ذلك.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره ١ / ٨٠ ، وذكره القرطبي في التفسير ١ / ٣٩ عن عثمان ، وأبيّ أيضا.

(٣) أخرجه الطبري في تفسيره ١ / ٨٠.

(٤) نسب هذا القول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي نسبة باطلة ، انظر الحلية لأبي نعيم الأصبهاني ١٠ / ١٥ ، والمغني عن حمل الأسفار في الأسفار للحافظ العراقي ١ / ٧١.

(٥) ديوان الإمام الشافعي ص ٥٤.

٤٩

منا حديثا فحفظه حتى يبلّغه ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه» (١) ، وقال أيضا : «نضّر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمع ، فرب مبلّغ أوعى من سامع» (٢).

بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته رضوان الله عليهم بتبليغ ما يتلقونه عنه إلى من خلفهم ، كيما يشيع العلم ، ويفيض الخير ، فقال عليه الصلاة والسلام في خطبته بعد الفتح بمكة : «وليبلّغ الشاهد الغائب» (٣) ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : «ليبلغ العلم الشاهد الغائب» (٤).

وقد حذر الله سبحانه ، ورسوله صلى الله عليه وسلم من كتم العلم ، وحجبه ، فقال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٥).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» (٦).

فهذا الترهيب ، وذاك الترغيب كان لهما وقع شديد في نفوس أهل العلم ، فقد حملاهم على الاعتناء بتبليغ علوم الشريعة إلى الناس كافة ، وهم يرجون

__________________

(١) أخرجه أبو داود في سننه ، في كتاب العلم ، باب ١٠ ، حديث ٢ ؛ والترمذي في جامعه ، في كتاب العلم أيضا ، باب ٧ ، حديث ١ ـ واللفظ لهما ـ وابن ماجه في سننه ، في المقدمة باب ١٨ ، حديث ٢ و ٧.

(٢) أخرجه الترمذي في جامعه في كتاب العلم ، باب ٧ ، حديث ٢.

(٣) أخرجه البخاري في صحيحه ، في كتاب العلم ، باب ٣٧ ، حديث ١ ، مطولا.

(٤) هذا من معلقات البخاري في صحيحه التي جزم بها ، كتاب العلم ، باب ٣٧.

(٥) البقرة ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٦) أخرجه أبو داود في سننه ، في كتاب العلم ، باب ٩ ، حديث ١ ـ واللفظ له ـ والترمذي في جامعه ، في كتاب العلم أيضا ، باب ٣ ، حديث ١ ، وابن ماجه في سننه ، في المقدمة ، باب ٢٤ ، حديث ١ ، ٤ ـ ٦.

٥٠

لأنفسهم صفة النّضارة التي وعدوا بها ، ويخشون من لعنة الله ، ومن لجام النار يوم القيامة إن هم كتموا ما أمروا بتبليغه.

ومع هذا فلم ينسق العلماء في الرواية ، بل احتاطوا فيها كل حيطة ، خشية من التّقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله ، لأنهم يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : «من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار» (١) ، وقوله أيضا : «من يقل عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار» (٢) ، وقوله أيضا : «من حدث عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» (٣).

وقد صرح بعض الصحابة بأنهم ما حدثوا حديثا لولا تلك الآيتان اللتان أوعدتا كاتم العلم ، وصرح بعضهم أيضا بأن الذي حملهم على التقليل من الرواية حديث من كذب عليّ ... وإليك إثبات ذلك : فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : «إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ، ثم يتلو : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ـ إلى قوله ـ الرحيم» (٤).

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال : «قلت للزبير : إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان ، وفلان قال : أما إني

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه ، في كتاب العلم ، باب ٣٨ ، حديث ٢ ـ واللفظ له ـ وحديث ٣ ؛ وفي كتاب الجنائز ، باب ٣٤ ، حديث ١ ؛ وفي كتاب الأنبياء ، باب ٥٠ ، حديث ٩ ؛ وفي كتاب الأدب ، باب ١٠٩ ، حديث ٤ ؛ ومسلم في صحيحه ، في المقدمة ، باب ٢ ، حديث ٢ ـ ٤ ؛ وفي كتاب الزهد ، باب ١٦ ، حديث ٢. وهذا الحديث متواتر ، وفي بعض روايات البخاري المذكورة زيادة «متعمدا» بعد قوله : «من كذب عليّ» ، كما أنها في جميع روايات مسلم المذكورة مع اختلاف الصيغة في بعض تلك الروايات.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه ، في كتاب العلم ، باب ٣٨ ، حديث ٤.

(٣) أخرجه الترمذي في جامعه ، في كتاب العلم ، باب ٩ ، حديث ١ ؛ وابن ماجه في سننه ، في المقدمة ، باب ٥ ، حديث ١ و ٢ ـ واللفظ له فيهما ـ وحديث ٣ و ٤.

(٤) أخرجه البخاري في صحيحه ، في كتاب العلم ، باب ٤٢ ، حديث ١.

٥١

لم أفارقه ، ولكن سمعته يقول : من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار» (١).

لذا سار أئمة الهدى في تبليغهم طريقا عدلا وسطا ، فلم يحدثوا إلا بما اطمأنت إلى صحته نفوسهم ، ولم يجرءوا على كتم العلم ، حتى إن أبا هريرة رضي الله عنه قال : «لو وضعتم الصّمصامة (٢) على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها» (٣).

السبب الرابع : بناء الأمصار والمدن : لا ريب أن ينبوع الحضارة الزاهرة ، والنهضة العامرة ، يتفجر حيث الأمن ، والجماعة ، والاستقرار ، وهذه العناصر كانت تتفرد بالاتصاف بها المدن ، وحواضر البلدان.

فقد قام الراشدون المهديون رضوان الله تعالى عليهم وكذلك الخلفاء ، والملوك ، والسلاطين من بعدهم ، ببناء الأمصار ، والمدن في مختلف أصقاع الأرض ، لتكون مركزا صالحا لتجمع الجند ، وانطلاقهم للفتوحات ، ولتكون أيضا مجمعا للناس ، ومأمنا لهم من أهل العبث والفساد.

وعندما يأمن الناس من الشرور ، ويكفون مؤونة النفير لرد العدوان ، يتطلعون إلى الغذاء الروحي العظيم الذي هو العلم ، فكانت المدن والأمصار موئلا للعلوم ، ومنارا للفنون ، وكانت كثرتها باعثة على النهضة العلمية العريقة التي تميزت بها الأمة الإسلامية.

ومن أهم تلك المدن والأمصار : مكة ، والمدينة ، والبصرة ، والكوفة ، وبغداد ، ودمشق ، والفسطاط ، والقاهرة ، والقيروان ، وفاس ، وقرطبة ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه ، في كتاب العلم ، باب ٣٨ ، حديث ٢.

(٢) هي السيف الصارم الذي لا ينثني ، وقيل : الذي له حد واحد. فتح الباري ١ / ١٦١.

(٣) أخرجه الدارمي في سننه ، في المقدمة ، باب ٤٦ ، حديث ٤ ؛ وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم ، في كتاب العلم ، باب ١٠.

٥٢

وبخارى ، ونيسابور ، ومرو ، والرّيّ ، ومرّاكش ، وغرناطة ، وغيرها من المدن التي كان لها دور بارز في نشاط الحركة العلمية.

السبب الخامس : سكن الخلفاء والملوك والسلاطين في المدن والأمصار : فمن تأمل تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين ، وجدها في أوج نشاطها ، وكامل نموها ، في حواضر الدول التي كان يسكنها الحكام الكبار.

فحاضرة العباسيين بغداد ، وحاضرة الأمويين في الأندلس قرطبة ، وحاضرة السامانيين بخارى ، وحاضرتا السّلاجقة مرو والرّيّ ، وحاضرة الموحدين مرّاكش ، وحاضرة الدولتين الصلاحية والمماليكية القاهرة ، لم يبلغن الدرجة العلمية الرفيعة لولا حلول حكامها العظام فيها ، وقد أحسن ياقوت في قوله : «إنما تعمر البلدان بسكنى السلطان» (١).

السبب السادس : فشو العلم في الحكام ، واهتمامهم به ، وتشجيعهم للعلماء ، وإنشاؤهم للمراكز العلمية كالمدارس ، والمكتبات.

وأجد لزاما عليّ قبل الدخول في صلب هذا الموضوع ، أن أذكر لمحة موجزة عن نوعية الحركة العلمية في البلاد الإسلامية فأقول : كانت العلوم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر عهد الأمين العباسي لا تخرج عن العلوم النقلية ، والمساعدة لها ، وعن بعض العلوم العقلية النافعة المفيدة ، فكانت علوم القوم في هذه الفترة : القراءات ، والتفسير ، وعلوم القرآن ، والحديث ، وعلومه ، والتاريخ ، والأنساب ، والسير ، واللغة ، والنحو ، والأدب ، والطب ، والهندسة ، ونحو ذلك.

فلما كان عهد المأمون العباسي فرط عقد هذا النظام ، حيث شغف هذا الخليفة بعلوم الأوائل ، وصبت نفسه إليها ، فناصرها ، وأمر بترجمة ونشر كتب كثيرة منها ، فكان ذلك مبدأ فساد العلوم في ديار الإسلام ، إلى أن أذن الله

__________________

(١) معجم البلدان ٤ / ٤٥٤.

٥٣

بخلافة المتوكل فأبطل هذا الأمر ، وأعاد الأمة إلى سبيل الخير والرشاد ، ونصر العلوم النقلية ، فشكره الناس على فعلته الحميدة هذه.

ولما ضعفت الدولة العباسية ، ووهنت قواها ، واستقلت ولاياتها ، اختلط الأمر ، فدولة تراها تميل إلى العلوم النقلية ، ودولة تراها تجنح إلى العلوم العقلية البحتة ، ومنهم من يتوسط بين الأمرين. ومجمل القول في ذلك أن الدولة الإسلامية التي كان يحكمها أهل السنّة تنتشر فيها العلوم النقلية ، وخاصة علم الحديث ، أما الدول التي حكمها الرافضة ، وأهل البدع فتراها منغمسة في علوم الأوائل ، ومحاربة لبعض العلوم الإسلامية ، وأصدق مثال على هذا دولة بني بويه في المشرق ، وبغداد ، والدولة العبيدية في المغرب ، ومصر.

وأعود الآن إلى أصل الموضوع ، وأتناوله فقرة فقرة :

أولا ـ فشو العلم في الحكام ، وعنايتهم به : فقد كان الراشدون رضوان الله تعالى عليهم أهل علم وفقه ، وكان كثير من الخلفاء بعدهم على شاكلتهم ، كمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعبد الملك بن مروان ، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأبي جعفر المنصور ، والمهدي بن المنصور ، وهارون الرشيد بن المهدي ، والمأمون بن الرشيد ، والواثق بالله بن المعتصم.

كما برز في العصر الثاني للدولة العباسية خلفاء علماء كالقادر بالله بن المقتدر ، والمستظهر بالله بن المقتدي بالله ، والمسترشد بالله بن المستظهر بالله ، والراشد بالله بن المسترشد بالله ، والمقتفي لأمر الله بن المستظهر بالله ، والناصر لدين الله بن المستضيء بأمر الله.

بل كان من خلفاء العباسيين بمصر من له اشتغال بالعلم ، ومشاركة للعلماء كالمستكفي بالله بن الحاكم بأمر الله ، والمعتضد بالله بن المتوكل على

٥٤

الله ، والمتوكل على الله بن يعقوب بن المتوكل على الله (١).

وقبل الانتقال إلى بيان فشو العلم وشيوعه في باقي الملوك ، والخلفاء ، والحكام في ديار الإسلام أجدني مضطرا لإظهار وبيان اهتمام الخلفاء الأمويين ، والعباسيين بعلم الحديث خاصة ، لأنه هو لب هذه المقدمة ، وأساسها ، وسأفعل مثل ذلك إن شاء الله تعالى في كل دولة يتيسر لي معلومات عن اهتمام أصحابها بعلم الحديث.

فالأمويون برز فيهم علماء كبار في الحديث ، وهم معاوية بن أبي سفيان ـ وناهيك به ـ وعبد الملك بن مروان ، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، ولا حاجة لتفصيل أمرهم في ذلك لأنهم عاشوا في عهد كان هذا العلم فيه رأس العلوم.

وأما العباسيون فقد اهتم كثير من خلفائهم بعلم الحديث ، وأولوه عظيم عنايتهم : فأبو جعفر المنصور كان طلّابة للعلم ، والحديث قبل الخلافة ، قال الصولي : «كان المنصور أعلم الناس بالحديث ، والأنساب ، مشهورا بطلبه» (٢) ، وقال ابن كثير : «كان المنصور في شبيبته يطلب العلم من مظانه ، والحديث ، والفقه ، فنال جانبا جيدا ، وطرفا صالحا ، وقد قيل له يوما : يا أمير المؤمنين هل بقي شيء من اللذات لم تنله؟ قال : شيء واحد ، قالوا : وما هو؟ قال : قول المحدث للشيخ : من ذكرت (٣) رحمك الله؟ فاجتمع وزراؤه وكتابه ، وجلسوا حوله وقالوا : ليمل علينا أمير المؤمنين شيئا من الحديث ، فقال : لستم بهم ، إنما هم الدّنسة ثيابهم ، المشققة أرجلهم ،

__________________

(١) من رام تفصيل ذلك فلينظر تاريخ الخلفاء للسيوطي.

(٢) تاريخ الخلفاء ١٧٩.

(٣) كان من عادة أئمة الحديث إذا جلسوا للإملاء أن يستفتح المستملي المجلس بالبسملة والحمدلة ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يقبل على المحدث ويقول : من ذكرت رحمك الله ، أو نحوه فيبدأ الشيخ بالإملاء. انظر علوم الحديث لابن الصلاح ٢١٩.

٥٥

الطويلة شعورهم ، رواد الآفاق ، وقطاع المسافات ، تارة بالعراق ، وتارة بالحجاز ، وتارة بالشام ، وتارة باليمن ، فهؤلاء نقلة الحديث» (١).

وقال محمد بن سلّام الجمحي : «قيل للمنصور : هل بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله؟ قال : بقيت خصلة أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث ، يقول المستملي : من ذكرت رحمك الله قال : فغدا عليه الندماء ، وأبناء الوزراء بالمحابر ، والدفاتر ، فقال : لستم بهم ، إنما هم الدّنسة ثيابهم ، المشققة أرجلهم ، الطويلة شعورهم ، برد الآفاق ، ونقلة الحديث» (٢).

بل إن المنصور أوصى ابنه المهدي بتلقي الحديث ونقله ، ومجاورة أهله فقال : «يا بني لا تجلس مجلسا إلا وعندك من أهل الحديث من يحدثك ، فإن الزهري قال : علم الحديث ذكر لا يحبه إلا ذكران الرجال ، ولا يكرهه إلا مؤنثوهم ، وصدق أخو زهرة» (٣).

والمهدي بن المنصور روى الحديث ، وروي عنه.

وهارون الرشيد طلب العلم ، واهتم به قبل الخلافة ، وبعدها ، قال القاضي الفاضل في بعض رسائله : «ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد ، فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله ... ثم رحل لسماعه السلطان صلاح الدين بن أيوب إلى الإسكندرية ... ولا أعلم لهما ثالثا» (٤).

والمأمون طلب العلم من صغره ، وسمع الحديث من جماعة من الأئمة ، وكان أعلم خلفاء بني العباس ، فصيحا ، فقيها ، بارعا في العربية ، وأيام الناس ، وعني بعلوم الأوائل ، وكانت عنده حافظة قوية مستحضرة ، فقد قال

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠ / ١٢٦.

(٢) تاريخ الخلفاء ١٧٧.

(٣) البداية والنهاية ١٠ / ١٢٦.

(٤) تاريخ الخلفاء ١٩٥.

٥٦

محمد بن المنذر الكندي : «حج الرشيد فدخل الكوفة ، فطلب المحدثين فلم يتخلف إلا عبد الله بن إدريس ، وعيسى بن يونس ، فبعث إليهما الأمين والمأمون فحدثهما ابن إدريس بمئة حديث ، فقال المأمون : يا عم ، أتأذن لي أن أعيدها من حفظي؟ قال : افعل ، فأعادها ، فعجب من حفظه» (١).

وقال الخطيب : «كان المأمون أعظم خلفاء بني العباس عناية بالحديث ، كثير المذاكرة به ، شديد الشهوة لروايته ، مع أنه قد حدث أحاديث كثيرة لمن كان يأنس به من خاصته ، وكان يحب إملاء الحديث في مجلس عام يحضر سماعه كل أحد ، فكان يدافع نفسه بذلك حتى عزم على فعله ـ ثم ساق الخطيب بسنده إلى ـ يحيى بن أكثم القاضي قال : «قال لي المأمون يوما : يا يحيى أريد أن أحدث ، فقلت : ومن أولى بهذا الحديث من أمير المؤمنين؟! فقال : ضعوا لي منبرا بالحلبة ، فصعد وحدث ، فأول حديث حدثنا به عن هشيم ، عن أبي الجهم ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار ، ثم حدث بنحو من ثلاثين حديثا ، ثم نزل فقال : يا يحيى كيف رأيت مجلسنا؟ فقلت : أجل مجلس يا أمير المؤمنين تفقه الخاص والعام ، فقال : لا ، وحياتك ما رأيت لكم حلاوة ، وإنما المجلس لأصحاب الخلقان ، والمحابر ـ يعني أصحاب الحديث» (٢).

وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : «لما فتح المأمون مصر ، قال له قائل : الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي كفاك أمر عدوك ، وأدان لك العراقين ، والشامات ، ومصر ، وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : ويحك إلا أنه بقيت لي خلّة وهو أن أجلس في مجلس ويستملي يحيى فيقول لي : من ذكرت رضي الله عنك؟ فأقول ـ وساق الحديث» (٣).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ٢١٧.

(٢) شرف أصحاب الحديث ١٠١.

(٣) تاريخ الخلفاء ٢٢٠.

٥٧

ومما يدل على عناية المأمون بالحديث ، وحفظه له ، ما ذكره محمد بن سهل بن عسكر قال : «وقف المأمون يوما للأذان ، ونحن وقوف بين يديه إذ تقدم إليه رجل غريب بيده محبرة فقال : يا أمير المؤمنين صاحب حديث منقطع به ، فقال له المأمون : أيش تحفظ في باب كذا؟ فلم يذكر فيه شيئا ، فما زال المأمون يقول : حدثنا هشيم ، وحدثنا حجاج ، وحدثنا فلان حتى ذكر الباب ، ثم سأله عن باب ثان فلم يذكر فيه شيئا فذكره المأمون ثم نظر إلى أصحابه فقال : يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ثم يقول : أنا من أصحاب الحديث أعطوه ثلاثة دراهم» (١).

كما اهتم كثير من الخلفاء العباسيين في العصر الثاني للدولة العباسية بعلم الحديث ، وإليك جانبا من ذلك :

فالمسترشد بالله بن المستظهر بالله سمع الحديث من جماعة من الأئمة ، وسمع جزء بن عرفة مع أخيه المقتفي لأمر الله.

والمقتفي لأمر الله بن المستظهر بالله سمع الحديث ، وروى عنه جماعة ، قال السيوطي : «كان محبا للحديث وسماعه ، معتنيا بالعلم» (٢).

والناصر لدين الله بن المستضيء بأمر الله اشتغل في وسط ولايته برواية الحديث ، وأجاز له جماعة ، وكتب للملوك والعلماء إجازات ، وصنف كتابا في الحديث فيه أسانيد صحيحة عالية رواها عن أكابر المحدثين ، وسماه «روح العارفين» وأجازه لجمع من العلماء.

والظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله روى الحديث عن والده بالإجازة ، وقرىء عليه في مسند الإمام أحمد بإجازته من والده.

والمستعصم بالله بن المستنصر بالله الشهيد آخر خلفاء بني العباس في

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ٢٢٠.

(٢) المصدر السابق ٢٩٢.

٥٨

بغداد ، استجاز له الحافظ ابن النجار من جماعة من مشايخ خراسان ، وحدث عنه جماعة ، وخرج له الدمياطي أربعين حديثا.

كما اهتم بعض الخلفاء العباسيين في مصر بعلم الحديث : فالحاكم بأمر الله بن المستكفي بالله بن الحاكم بأمر الله سمع الحديث ، وأسمعه.

والمعتضد بالله بن المستكفي بالله بن الحاكم بأمر الله لما قدم إلى دمشق جلس في المدرسة الدماغية ، فقرأ الحافظ ابن كثير بين يديه جزءا فيه ما رواه أحمد بن حنبل عن الشافعي في مسنده.

وأتحول الآن إلى الحديث عن عناية ملوك وخلفاء الأمويين في الأندلس بالعلم ، فأقول : إن عددا من هؤلاء الملوك والخلفاء كانوا أهل علم وأدب ، يؤثرون العلوم النقلية ، والمساعدة لها ، ولم يخرجوا عن ذلك إلا في بعض الأزمنة الضيقة.

فأول ملوكهم وهو عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام كان عالما جليلا ، بل هو أول من نهض بالحركة العلمية في الأندلس ، لأن من قبله من الولاة كانوا مشتغلين بأمور الحرب والفتوح.

وكان ابنه هشام له اشتغال بالعلوم الشرعية والأدبية ، وفي عهده ذاع مذهب مالك في الأندلس بعد أن كانوا على مذهب الأوزاعي.

كما أن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام كان عالما بعلوم الشريعة والفلسفة ، وهو أول من أدخل كتب الحكماء إلى تلك الديار ، وهذا من المآخذ العظام عليه.

وكان عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم من علماء ملوك الأندلس الأمويين ، متفننا في ضروب العلوم الشرعية ، والمساعدة لها.

وإن الخليفة الناصر عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن

٥٩

عبد الرحمن ـ وهو أول من تسمى بالخلافة في الأندلس ـ كان بارعا في بعض العلوم الشرعية والأدبية.

كما أن ابنه الخليفة الحكم المستنصر كان عالما ، محبا للقراءة ، شغفا بالمطالعة ، وامتازت مكتبته العظيمة بتعليقاته الحافلة على كثير من كتبها ، وكان له ميل إلى أهل الحديث ، استدعى كثيرا منهم من الآفاق ، وجالسهم ، وذاكرهم.

ولم يكن ملوك وخلفاء بني أمية في الأندلس أقل عناية بالحديث من خلفاء بني العباس ، فقد كان هشام بن عبد الرحمن ثاني ملوك الأندلس يؤثر مجالس الحديث ، وكان الإمام مالك يعجب بسيرته ، ويشيد بخلاله ، وكذلك فإن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام سمع الحديث ، وأسمعه للطلبة ، وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم كان ولعا بحضور مجالس المحدثين ، والخليفة الناصر سمع الحديث ودرسه ، كما أن الخليفة الحكم المستنصر ابن الخليفة الناصر سمع الحديث كثيرا ، وعين لولده الخليفة هشام المؤيد كبير المحدثين بقرطبة ليسمعه الحديث.

أما باقي ملوك وسلاطين الدول الإسلامية في الشرق والغرب ، فأتناول الحديث عن اهتمامهم بالعلم ، وسماعه ، وطلبه من خلال تقسيم دولهم إلى ثلاثة أقسام : دول المشرق ، ودول الشام ومصر ، ودول المغرب ، وبذا يسهل الحديث عنهم.

(١) دول المشرق :

عني بعض ملوك هذه الدول بالعلم ، فنالوا منه نصيبا يختلف باختلاف رغباتهم.

فالسلطان العظيم محمود بن سبكتكين صاحب الدولة الغزنوية ، وفاتح بلاد الهند ، كان عالما ، كلفا بدراسة العلوم الشرعية ، وخاصة الحديث ، وقد صنّفت له كتب كثيرة في فنون العلم ، وقصده العلماء من أصقاع البلاد.

٦٠