ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-387-1
الصفحات: ٣٠٥
الجزء ١ الجزء ٢

من أنه كان مواطنا من مواطنى إسطنبول ، وإما من خلال اللغة الإيطالية ، بواسطة بوسارى الذى كان مواطنا أرمينيا ، لكنه اكتسب اللغة الإيطالية فى القاهرة ، بعد هذه الساعات الثلاث أو الأربع استأذنت فى الانصراف وأبلغنى الباشا أنه يتوقع حضورى فى الغد فى الموعد نفسه.

اليوم التاسع والعشرون من شهر أغسطس ، زرت القاضى قبل غروب الشمس ، ووجدته مع رفيقه وسكرتيره ، الذى هو أحد العلماء من إسطنبول. كان القاضى صادق أفندى أحد أفراد الحاشية الشرقية حقا وحقيقة ، وسلوكياته وحديثه شيق جدا ، ويمتلك كل طلاوة التعبير التى يتميز بها مواطنو إسطنبول الحقيقيون. بعد أن تبادلنا بعض عبارات التحية ، أعربت عن دهشتى من أن الباشا أعرب عن شكوكه فى حقيقة إسلامى ، بعد أن أصبحت تابعا لهذا الدين منذ سنوات عدة ، وردّ علىّ الرجل أنه (القاضى) أفضل حكم فى مثل هذه الأمور ، وأردف الرجل أنه يتطلع إلى أن نكون على معرفة أوثق بعضنا ببعض ، وبدأ الرجل يسألنى عن أسفارى فى بلاد النوبة ، وخلال الحوار الذى دار بيننا تطرقنا إلى بعض المواضيع الأدبية ، سألنى القاضى عن الكتب العربية التى قرأتها ، وما التفاسير التى قرأتها للقرآن والشريعة ، ويحتمل أن يكون قد عرف أنى على معرفة لا بأس بها بهذه الأمور ، وبخاصة عناوين بعض الكتب المهمة فى هذه المجالات ، ولكننا لم نتعمق فى هذا الموضوع ، وبينما كنا نتحاور انطلق أذان المغرب منهيا صيام ذلك اليوم. تناولت الإفطار مع القاضى ، وذهبت بصحبته لأداء صلاة العشاء ، وحرصت على قراءة سورة طويلة قدر المستطاع من القرآن الكريم ، وبعد أداء صلاة العشاء ذهبنا إلى الباشا الذى أمضى بدوره جزءا من الليل فى حوار خاص معى ، وبخاصة فى الشئون السياسية دون التعرض لأمورى الشخصية.

بعد مقابلة ثانية درجت على أن أذهب كل مساء أولا إلى القاضى ، ثم بعد ذلك إلى الباشا ، لكن على الرغم من ذلك الاستقبال الطيب الذى لقيته فى القلعة لاحظت أن تصرفاتى كانت مراقبة مراقبة لصيقة. سألنى بوسارى إن كنت أدون يومياتى ،

١٠١

لكنى أجبته أن الحجاز ليست كمصر ، مليئة بالآثار ، وقلت له أيضا إنى لم أر فى هذه الجبال الجرداء أى شىء جدير بالملاحظة. لم يسمحوا لى أن أنفرد بنفسى ولو للحظات قليلة ، وكانت لدىّ شكوك مفادها أن بوسارى ، وعلى الرغم من كل تأكيده للصداقة التى بيننا ، لم يكن شيئا سوى جاسوس. وهكذا توصلت إلى أن بقائى فى الطائف لفترة غير محدودة ، فى ظل الظرف الذى أنا فيه حاليا ، يعد أمرا غير مرغوب فيه وغير مستحب أيضا ، ومع ذلك لم أستطع تحديد نوايا الباشا قبلى. كان واضحا أنه ينظر إلىّ من منظور واحد فقط وهو أنى جاسوس موفد إلى هذا البلد من قبل الحكومة الإنجليزية ، للتأكد من الحال الراهن ، وأن أكتب تقريرا عن هذا الأمر وأنا فى جزر الهند الشرقية. هذا فى تقديرى هو رأى الباشا ، كان يعرفنى على أنى من الإنجليز ، وقد انتحلت هذا الاسم أثناء أسفارى (وآمل ألا يكون فى ذلك إساءة لهذا البلد) ، على أمل أن أبدو أوروبيا إذا ما دعت الضرورة ، وسبب ذلك هو أن رعايا إنجلترا وفرنسا دون غيرهم ، كانوا هم الوحيدين الذين يتمتعون بالأمن والسلامة فى الشرق ؛ كانوا يعدون محميين حماية تامة من قبل حكوماتهم فى بلادهم من ناحية ومن قبل وزرائهم فى إسطنبول من ناحية ثانية ، الأمر الذى كان يحول دون تلاعب الحكومات الإقليمية بهم أو الإساءة إليهم. يزاد على ذلك أن الباشا كان يعدنى من أصحاب المقام الرفيع ، ذلك أن واحدا من الإنجليز الذين يترحلون فى الشرق يقولون له «سيدى» : وكان الباشا مقتنعا بذلك تمام الاقتناع ، فى ضوء تلك الحالة من الاحترام التى أحطت بها نفسى فى هذا البلاط التركى ، الذى فيه التواضع السلوكى وعذوبة المعاشرة والأنس أمور لا محل لها من الإعراب. وربما كان تخوفه من بريطانيا العظمى هو الذى حدا به إلى عدم إساءة معاملتى ، وذلك على الرغم من عدم فعل أى شىء فى أمورى المعروضة عليه ، وعلى قدر معرفته ، أنا لا يمكن أن آخذ سوى خمسمائة قرش التى أمر لى بها فى جدة ، والتى لم تكن كافية لسداد مصروفاتى فى الحجاز إلا لمدة قليلة جدا ، ولم يقل لى الباشا أو بوسارى عن مسألة سحب حوالتى على القاهرة ، كما سبق أن عرضت ، ولم أعاود التطرق إلى هذا الموضوع ، إذ كان معى ما يكفينى من النقود فى الوقت الراهن ، فضلا عن أنى كنت أتوقع وصول مبالغ إضافية من مصر.

١٠٢

لم ترق لى مسألة البقاء فترة طويلة فى الطائف فيما يمكن أن أسميه السجن المؤبد ، ومع ذلك كنت عاجزا عن الحض على التعجيل برحيلى دون أن تتزايد الشكوك من حولى ، وقد أصبح ذلك أمرا شديد الوضوح بعد لقائى الأول مع كل من الباشا والقاضى ، وعرفت أيضا أن تقارير بوسارى يمكن أن تؤثر تأثيرا كبيرا فى ذهن محمد على. فى ظل هذه الظروف رأيت أن أفضل السبل إلى تحقيق ما أبتغيه هو أن أجعل بوسارى يمل منى ويسأمنى ، الأمر الذى يقنعه بعرض وجهات نظرى على محمد على باشا ، ومن ثم بدأت التصرف فى منزله تصرفات العثمانيين الوقحة ، ونظرا لأننا كنا فى رمضان فقد صمت النهار ، وفى الليل كنت أطلب عشاء مستقلا ، وفى ساعة مبكرة من صبيحة اليوم التالى طلبت إفطارا كبيرا ، قبل أن أبدأ الصيام ، وخصصت لنفسى أفضل الغرف فى منزل الرجل ، إضافة إلى أن خدم الرجل كانوا يقومون دوما على تلبية طلباتى. الكرم الشرقى يحظر التبرم من السلوك الذى يكون من هذا القبيل ، يضاف إلى ذلك أنى كنت واحدا من الرجال العظام ، وأنى كنت أقوم بزيارة للباشا. فى حوارى مع بوسارى أكدت له أنى مرتاح للغاية لوجودى فى الطائف ، وأن مناخها يناسب حالى الصحى تماما ، وأعربت له عن عدم رغبتى فى ترك المكان فى الوقت الراهن. مسألة إعاشة شخص له شخصيتى مدة طويلة فى الطائف التى تعد المؤن والتموينات بكل أنواعها شحيحة على نحو أكثر مما هى عليه فى لندن نفسها ، لم تكن أمرا سهلا أو يسيرا ، يزاد على ذلك أن الضيف الثقيل يكون مكروها فى كل مكان. مبلغ علمى أن الخطة نجحت تماما ، وحاول بوسارى إقناع الباشا بأنى مخلوق لا حول له ولا قوة ولا ضرر منه ، وذلك تمهيدا لإرسالى إلى حال سبيلى.

مكثت ستة أيام فى الطائف لم أغادر المنزل خلالها إلا عندما كنت أذهب إلى القلعة فى المساء ، إلى أن سألنى بوسارى ما إذا كان عملى مع الباشا سيمنعنى ويؤخرنى إلى وقت طويل قبل أن أستأنف أسفارى وأزور مكة. رددت عليه أنى ليس لى أى عمل مع الباشا ، على الرغم من مجيئى إلى الطائف بناء على رغبته ، لكنى كنت سعيدا جدا بموقفى ، وبخاصة فى وجود صديق كريم وصدوق مثل بوسارى مضيفى.

١٠٣

فى اليوم التالى جدد بوسارى الموضوع نفسه ، وأبدى ملاحظة مفادها أن العيش بين الجنود أمر يصيب الإنسان بالسأم والملل ، فى غياب وسائل الراحة أو التسلية أو التعارف على الناس ، أو حتى معرفة اللغة التركية ، كما هو الحال بالنسبة لى. وافقت على ما قاله الرجل ، لكنى أضفت قائلا : إن جهلى بما يريده الباشا ، هو الذى يجعلنى عاجزا عن اتخاذ أى قرار أو البت فى أى أمر من الأمور. وقد أوصل ذلك بوسارى إلى ما أبتغيه وأريده أنا ، قال بوسارى : إذا كان هذا هو الحال فسوف أكلّم جلالته ، إذا ما كانت هذه هى رغبتك فى هذا الأمر. وفعل بوسارى ذلك فى المساء قبل ذهابى إلى القلعة ، وهنا أبلغنى الباشا خلال حوارنا ، أنى مادمت أود تمضية الأيام الأخيرة من رمضان فى مكة (هذا الاقتراح كان نابعا من بوسارى نفسه) فالأفضل لى هو اللحاق بجماعة القاضى الذى قرر الذهاب إلى مكة إلى حلول العيد ، وأنه سوف يسعد برفقتى له. كان ذلك على وجه التحديد الظرف الذى كنت أتمناه وأنتظره ، وتحدد سفر القاضى اليوم السابع من شهر سبتمبر ، وهنا استأجرت حمارين ـ وهذه هى طريقة النقل المعتادة فى هذا البلد ـ لكى أتبع القاضى.

لما كنت انتويت المضى قدما بعد ذلك إلى المدينة [المنورة] التى كان طوسون باشا ولد محمد على حاكما عليها ، فقد التمست إلى بوسارى أن يطلب من الباشا فرمانا أو جواز سفر ، يرخص لى بالتجوال فى سائر أنحاء الحجاز ، فضلا عن خطاب تزكية لولده طوسون ، وردا على هذا الطلب أبلغنى بوسارى أن الباشا لا يود التدخل شخصيا فى مسألة أسفارى ، وأنى بوسعى التصرف كما أشاء وعلى مسئوليتى الخاصة ، وأن معرفتى للغة العربية تجعل الفرمان غير ذى بال. هذا القول كان كما لو كان الباشا يقول لى : «افعل ما تشاء ، وأنا سوف لا أعرفك أو أسهّل مخططاتك». وجاء ذلك فى واقع الأمر كما كنت أريده أو أبتغيه فى الوقت الراهن.

فى اليوم السادس من شهر سبتمبر ، استأذنت الباشا الذى أبلغنى عند الرحيل ، أننى إذا ما حملتنى أسفارى إلى الهند ، فإننى يتعين علىّ إبلاغ الشعب الإنجليزى هناك أنه مرتبط ارتباطا وثيقا بمصالح تجارة الهند. وفى صبيحة اليوم السابع من

١٠٤

شهر سبتمبر ، أرسل القاضى إلىّ من يبلغنى أنه يجب ألا يتحرك إلا فى المساء ، أى أنه سيسافر أثناء الليل ، وأنه يتطلع إلى لقائى عند جبل قورة فى منتصف الطريق إلى مكة. وهنا رأيت أن أغادر الطائف بمفردى ، مثلما دخلتها بمفردى أيضا ، بعد إقامة فيها دامت عشرة أيام. عند مغادرة الطائف أبلغنى بوسارى بولائه الشديد لصالحى ، وبعد أن غادرت حدود الطائف رحت أشكر الله على حظى السعيد ، وعلى نجاتى من الإقامة فى بلاط تركى ، كان من الصعب علىّ فيه تحاشى الخطر ، كما لو كنت بين البدو غير المتحضرين فى بلاد النوبة.

طوال مقامى فى الطائف التقيت الباشا خمس مرات أو ست مرات ، والمقتطفات التالية من مفكرتى اليومية توضح النتائج العامة التى أسفرت عنها تلك المقابلات :

سؤال : أتمنى أن تكون بخير يا شيخ إبراهيم.

جواب : أنا بخير تماما ، وأنا فى غاية السعادة لأنى ألقاك مرة ثانية.

سؤال : لقد ترحلت كثيرا منذ آخر مرة رأيتك فيها فى القاهرة. ما هو المدى الذى وصلت إليه فى بلاد الزنوج؟

[جواب :] رددت على هذا السؤال بأن أوردت ملخصا لأسفارى فى بلاد النوبة.

سؤال : خبرنى كيف حال المماليك فى دنقلة؟

[جواب :] حكيت له ذلك الذى سيجده القارئ فى كتابى المعنون «الأسفار النوبية».

سؤال : أنا أفهم أنك تعاملت فى إبريم مع اثنين من المماليك؟ هل هذا صحيح؟

[جواب :] أدهشتنى الكلمة «تعاملت» (إذا كان المترجم قد ترجم الكلمة التركية حقيقة) ، ذلك أن الباشا عندما كان فى مصر بلغه وأنا فى طريقى إلى دنقلة أنى التقيت اثنين من المماليك فى بلدة «در» ونظرا لأن الباشا كان لا يزال يشك فى محاباة الإنجليز لقضية أو مصلحة المماليك ، فلربما ظن أنى كنت أحمل رسالة إليهما من الحكومة. وهنا أكدت للباشا أن لقائى بالمملوكين كان طارئا تماما ، وأن الاستقبال السيئ الذى

١٠٥

لقيته فى المحاس كان بسببهما ، كما أبلغته أيضا أنى أخشى على حياتى منهما ، ويبدو أن الباشا اقتنع بهذا التفسير.

سؤال : دعنا هنا نسوى أمورنا مع الوهابيين ، وبعدها سوف أتخلص من المماليك على وجه السرعة. كم فى رأيك عدد الجنود اللازمين لإخضاع البلاد حتى منطقة سنار؟

جواب : خمسمائة رجل من القوات الجيدة يمكن أن يصلوا إلى تلك النقطة ، لكنهم لا يستطيعون التمسك بالأرض ، كما أن النفقات لا يمكن استعاضتها من الغنائم.

سؤال : ما الذى يمكن الحصول عليه من تلك البلاد؟

جواب : الإبل والعبيد ، والذهب من نواحى سنار ، إذ يجرى جلبه من الحبشة ، لكن ذلك كله مملوك لبعض الأفراد. ملوك هذه البلدان أو رؤساؤها ليست لهم ثروات.

سؤال : ما حال الطريق من مصر إلى سنار؟

جواب : لقد وصفت الطريق بين أسوان وشندى ، ووصفته أيضا من سواكن إلى شندى.

سؤال : كيف أزجيت وقتك بين السود؟

[جواب :] رويت له بعض القصص المضحكة ، الذى بدا لى أنه انشرح صدره لها.

سؤال : الآن ، إلى أين تود الذهاب يا شيخ إبراهيم؟

جواب : أود أداء فريضة الحج ، ثم العودة إلى القاهرة ، ثم أقوم بعد ذلك بزيارة بلاد فارس (وجدت أنه من المناسب عدم التطرق إلى ما أنتوى ، وبخاصة العودة إلى وسط إفريقيا).

١٠٦

سؤال : سهل الله لك طريقك! لكنى أرى أن سفرك الكثير على هذا النحو يعد نوعا من الحماقة والجنون ، دعنى أسألك ، ما ذا كانت نتيجة رحلتك السابقة؟

جواب : مصائر الناس وأقدراهم محددة ، ونحن جميعا نتبع أقدارنا. وأنا شخصيا أجد متعة فى استكشاف بلدان جديدة وغير معروفة ، وأجد متعة أيضا فى تعرف أعراق مختلفة من البشر. أنا متيم بالقيام بالرحلات من باب الإشباع الشخصى الذى أجده فى الأسفار والترحال ، وبالتالى أنا لا أعير متاعبى الشخصية اهتماما.

سؤال : هل وصلتك أخبار من أوروبا؟

جواب : وصلتنى بعض التقارير المقتضبة عندما كنت فى جدة.

وهنا حكى لى الباشا الأحداث التى أسفرت عن نفى بونابرت إلى جزيرة إلبا بعد دخول الحلفاء باريس. قال الباشا : لقد تصرف بونابرت تصرف الجبناء ، لقد كان أحرى به أن يسعى إلى الموت بدلا من بقائه معروضا فى قفص والعالم يضحك منه سخرية واستهزاء. ثم أضاف : إن الأوروبيين خونة أكثر من العثمانيين ، لقد تخلى أصدقاء بونابرت عنه ، لقد تخلى عنه كل قواده الذين هم مدينون له بثرواتهم.

كان محمد على باشا يتطلع من خلال تساؤلاته إلى معرفة العلاقات السياسية بين بريطانيا العظمى وروسيا ، ومعرفة احتمال نشوب الحرب بينهما ، بسبب نوايا روسيا العدوانية تجاه الباب العالى (كان محمد على باشا قد تلقى معلومات استخباراتية غير صحيحة حول هذا الموضوع). كانت مخاوف محمد على تتركز فى أن الجيش الإنجليزى ، الذى جرى استخدامه فى جنوب فرنسا وإسبانيا أصبح خاليا وبلا عمل ويمكن استعماله فى غزو مصر. قال محمد على «السمك الكبير يبتلع السمك الصغير ، ومصر ضرورية ومهمة لإنجلترا ، وبخاصة فى إمداد مالطة وجبل طارق بالقمح». تناقشت مع محمد على باشا نقاشا موضوعيا حول هذا الموضوع ، لكن ذلك النقاش جاء بلا طائل ، كما لاحظت أيضا أن المترجم لم يكن يترجم إجاباتى ترجمة دقيقة ، وذلك من باب التخوف من معارضة آراء سيده وأفكاره الشهيرة المعروفة للجميع. هذه

١٠٧

الآراء كانت متأصلة فى واقع الأمر وراسخة ، وجرى تعزيزها من قبل البعثة الفرنسية فى مصر. أردف محمد على قائلا : «أنا صديق الإنجليز» (هذا الكلام إذا ما صدر عن تركى إلى مسيحى ، لا يدل على شىء سوى تخوفه من ذلك المسيحى أو أنه يريد نقوده). «وأنا أصدقك القول إننا نشاهد بين كثير من عظماء الرجال قدرا كبيرا من المجاملات وشيئا قليلا جدا من الصدق والإخلاص ، وأنا آمل ألا يهجموا على مصر أثناء وجودى فى الحجاز ، وأنا لو قدر لى شخصيا أن أكون هناك ، فسوف أقاتل ، وهذا هو أضعف الإيمان ؛ كيما أكون راضيا عن مشاركتى أنا شخصيا فى القتال من أجل ممتلكاتى. أنا لا أخاف السلطان (أكد محمد على على هذه العبارة مرارا ، لكنى يراودنى شك كبير فى إخلاص الرجل وولائه) ، وأنا أعرف جيدا كيف أبزه وأتفوق عليه فى إجراءاته كلها. أى جيش يجىء من سوريا لا يمكن له أن يهاجم مصر عن طريق البر بأعداد كبيرة ، نظرا لقلة عدد الإبل ، يزاد على ذلك أن الفيالق المنفصلة أو المستقلة يمكن تدميرها بسهولة ويسر فور عبورها الصحراء».

انتهزت الفرصة وقلت لمحمد على : إنه يشبه ذلك الشاب الذى معه فتاة جميلة ، وهو على الرغم من تأكده من حبها له فإنه يغار عليها من الغرباء. أجابنى قائلا : كلامك جميل وأنا أحب مصر حبا جما ، أحبها حب العاشق لها ، وأنا إن قدر لى أن تكون لى عشرة آلاف روح ، فسوف أضحى بكل هذه الأرواح من أجل أن تبقى لى مصر».

سألنى عن الحال التى وجدت عليها الصعيد ، وهل كان ولده إبراهيم (حاكم الصعيد) محبوبا أو لا فى هذه المنطقة؟ وأجبته بلغة الحقيقة قائلا : إن رؤساء القرى كلهم يكرهون ولده (لأنه أجبرهم على التخلى عن معاملتهم القاسية مع الفلاحين) ، لكن الفلاحين أنفسهم كانوا متعلقين تماما بولده إبراهيم (واقع الأمر أن القمع مهم فى الوقت الراهن ، وبعد أن كان يجرى قبل ذلك على أيدى المماليك ، وعلى أيدى الكاشفين ، وعلى أيدى شيوخهم ، أصبح يجىء عن طريق مستبد أو طاغية واحد هو الباشا نفسه ، الذى يضع حكام المناطق تحت إمرته وسيطرته).

١٠٨

كان محمد على باشا يود أن يقف على رأيى فيما يتعلق بعدد القوات المطلوبة للدفاع عن مصر ضد أى جيش أجنبى ، وأجبته بأنى لا أعرف شيئا عن الحرب إلا بقدر قراءتى فى الكتب. رد على متعجبا : «لا ، لا ، أنتم أيها الرحالة تكونون مفتوحى الأعين دوما ، وتسألون عن كل شىء». أصر محمد على على سؤاله ، وأمام إلحاحه على إجابتى عن سؤاله قلت له : إن حوالى خمس وعشرين ألفا من القوات المنتقاة يمكن أن تصد أى هجوم. قال : «أنا لدىّ حاليا ثلاثة وثلاثون ألفا». وهذا تأكيد كاذب ، لأنى على يقين من أن عدد جنود محمد على فى ذلك الوقت لم يكن يزيد بأى حال من الأحوال عن ستة عشر ألف رجل ، موزعين فى سائر أنحاء مصر والحجار.

وهنا راح محمد على يشرح لى النظام الجديد ، الخاص بالنظم والقوانين العسكرية. قال إن جشع الرؤساء وليس استياء الجنود هو الذى عرقل إنشاء جيش عالى التنظيم فى تركيا ، واعترض أيضا على فكرة منع الضباط من فرض إتاوات على الخزانة العامة ، وأردف محمد على قائلا : «لكنى سوف أشكل فيلقا نظاميا من الجنود الزنوج». مسألة تشكيل فيلق من الزنوج هذه حاول سلفه خورشيد باشا تنفيذها لكنه لم يصب فيها نجاحا كبيرا. مسألة النظام الجديد هذه استؤنفت على الفور عقب عودة محمد على باشا إلى مصر من حملته على الحجاز ، لكن تمرد الجنود الذين سلبوا عاصمته ونهبوها اضطرته إلى التخلى عن تنفيذ فكرة النظام الجديد هذه ، التى جرى التخطيط لها بصورة سيئة. فى سياق حديثه عن الدفاع عن مصر قال محمد على : إنه ينبغى أن يركز ، فى بداية الأمر ، على خيّالته من ناحية ومدفعية الخيالة من الناحية الأخرى ، على أن تقوم الخيالة بتدمير المؤن والتموينات قبل العدو ، على غرار ما فعله الروس مؤخرا ، على أن تقوم مدفعية الخيول بمداهمة الأعداء من جميع الجوانب ، دون التوقف مطلقا.

أثناء مقامى فى الطائف وصلت رسائل من إسطنبول عن طريق الصحراء ومن خلال دمشق ، تحمل إلى الباشا ترجمة تركية لمعاهدة السلام التى أبرمت فى باريس. بعد أن قرأ الباشا هذه الترجمة مرات عدة ، أمر كاتبه التركى أن يترجمها إلى اللغة

١٠٩

العربية كلمة بكلمة. وقد استغرق ذلك منا ساعات عدة فى سكن خاص ، ثم عدت بعد ذلك إلى مجلس محمد على ، وطلب الباشا منى إبداء رأيى فى هذه المعاهدة ، وراح الباشا يشير إلى أطلس تركى منسوخ من الخرائط الأوروبية ، ومطبوع فى إسطنبول ، طالبا منى أن أوضح له الحدود الجديدة لكل من بلجيكا ، وجزر موريشيوس ، وطوباجو وموقع جنوده ... إلخ. وجدت خطأ عجيبا فيما يتعلق بموقع جنوده ، فقد سبق أن قيل لى إن بنيفاbeneva جرى ضمها إلى السويدswedes وهذا ما لم أصدقه. بعد التحرى اكتشفت أن جنيف Geneva وسويسراSwiss هما المعنيتان ، هذه المدينة وهذا البلد ، يؤسفنى القول إنهما لم يكونا داخلين ضمن المعرفة الجغرافية للحاكم التركى ، ومع ذلك وقع الخطأ بالفعل ، ذلك أن جنيف Geneva تكتب Genoua باللغة التركية ، كما أن الأتراك ينطقون السويدSweden على أنها «شويت» Shwit.

أبدى الباشا ملاحظة مفادها أن هناك الكثير الذى لا يزال يتعين عمله قبل تسوية الخلافات بين جميع الأطراف ، وقد لاحظت مدى قلق الباشا من الحرب بين الدول الأوروبية ، وأن هذه الحرب سوف تخلصه من كل المخاوف التى تتعلق بأمنه وسلامته ، فى هذا الوقت نفسه حدث طلب كبير على القمح فى الإسكندرية.

فيما يتعلق ببونابرت ، كان محمد على باشا على يقين تماما من أن الإنجليز سوف يلقون القبض عليه يوما ما فى جزيرة إلبا. تعجب محمد على متسائلا : «هل يعنى ذلك أن الإنجليز لم يجنوا أى شىء طوال عشرين عاما؟ إنهم لم يحصلوا سوى على مالطة وبعض الجزر القليلة الأخرى» ! كان محمد على متخوفا من احتمال وجود مواد سرية فى المعاهدة ، وأن تكون هذه المواد تخولهم تملك مصر والاستيلاء عليها. يزاد على ذلك أن فكرة استعداد الإنجليز لتوازن القوى فى أوروبا ، وتأكيدهم على سلامتهم واستقلالهم ، لم تخطر على بال الباشا. استطرد الباشا قائلا : «يجب أن لا يتركوا إسبانيا دون أن يدفع لهم الإسبان الثمن المناسب ، ولما ذا يتخلون الآن عن صقلية؟» لم يفهم الباشا أن الذى يحكم سياسة الإنجليز قوانين الشرق والإحساس بالصالح العام الأوروبى. قال الباشا متعجبا وبصدق شديد : «الملك العظيم ، لا يعرف شيئا سوى سيفه

١١٠

وحافظة نقوده ، وهو يستل الأول ليملأ الثانى ، والغزاة لا يعرفون الشرف!» وهذا نذير من نذر المشاعر التى يسترشد بها السواد الأعظم من الحكام الأتراك أصحاب الأفق الضيق.

كان لدى محمد على باشا بعض الأفكار عن البرلمان الإنجليزى ، فقد كان اسم ولينجتون Wellington مألوفا للرجل. قال محمد على : «لقد كان ولينجتون جنرالا عظيما ، لكنه كان يتشكك فى مسألة قيادته لقواعد وجنود أتراك سيئين ، مثلما فعل هو (الباشا) عندما استولى على مصر والحجاز». وأعرب الرجل عن قلقه البالغ على التملك المستقبلى لكل من كورفوCorfu والجزر السبعة. كان محمد على يتمنى من ناحية أن يشن الروس الحرب على الباب العالى ، ويطردوا السلطان من أوروبا ، ومن الناحية الأخرى ، كان الرجل يخشى إذا ما استولى الروس على تركيا فى أوروبا ألا يبقى الإنجليز فى موقف المتفرج ، لكنهم سيبادرون إلى أخذ نصيبهم من الإمبراطورية التركية ، التى كان على ثقة من أنها لن تكون أكثر من منطقة مصر وحدها.

أنا مازلت جاهلا برأى الباشا الحقيقى فى مسألة اعتناقى للإسلام اعتناقا حقيقيا. صحيح أنه كان يعاملنى معاملة المسلمين ، وأنا أقنعت نفسى بأن سلوكى الجرىء فى الطائف أقنعه بأنى مسلم حقيقى ، أما بالنسبة للضامن الذى كان إسطنبوليا ناصحا ، فقد كانت غالبية الناس ترى أنه موفد من قبل الباب العالى لكى يقف على ما يفعله محمد على باشا ، ثم يقوم بتوصيل المعلومات إلى السلطان ، وخطر ببالى أن سلوك القاضى تجاهى مرتبط بنية توجيه الاتهام للباشا بعد عودته إلى إسطنبول ، وأن يكون ذلك الاتهام مرتكزا على مسألة حماية محمد على باشا لأحد المسيحيين أثناء زيارته للمدينتين المقدستين ، وهذه الجريمة لا يمكن اغتفارها لأى أحد من الباشوات. كان محمد على باشا بعد عودته إلى القاهرة (التى وجدنى فيها على العكس من توقعاته ، والتى التقيته فيها مرة واحدة) يتحين الفرص مرارا ، بل إنه كان يبدو قلقا ويتطلع إلى إقناع كل من السيد سالت Salt ومعه السيد «لى» Lee ، وهما من رجال صاحب الجلالة ، ومعهم مستشارى شركة الليفانت ، وعدد كبير من الرحالة

١١١

الإنجليز المشهورين الذين مروا بالقاهرة ، كان يحاول إقناع هؤلاء أنه عندما كان فى الحجاز ، كان يعلم جيدا أنى (الشيخ إبراهيم أو إن شئت فقل بوركهارت) لم أكن مسلما ، وأن صداقته (أى محمد على) مع الإنجليز هى التى جعلته يتغاضى عن ذلك ، ويسمح لى باستغلال القاضى. كانت لدى محمد على باشا فكرة أوحى له بها بعض مستشاريه من الفرنجة فى القاهرة ، مفادها أنى فى أسفارى المستقبلية ، قد أتباهى بخداعى له واستغلالى إياه ، مثلما حدث مع على بك العباسى ، الذى كان كتابه قد وصل إلى القاهرة ، والذى يقول فيه إنه لم يخدع الباشا وحده ، وإنما خدع أيضا العلماء كلهم ، أو إن شئت فقل أهل العلم فى القاهرة. المسألة كانت أخطر بالنسبة لمحمد على من منطلق أنه لو كان أحمق فذلك لا يضير ، وإنما الأهم هو ألا يكون مسلما حقيقيا فى عيون الآخرين.

وعلى الرغم من هذه التصريحات الصادرة عن الباشا إلى أعيان الإنجليز ، والتى كانت تجرى فى الجلسات الخاصة ، والتى لم تكن مصحوبة بكلام يسىء إليه ، واصلت حياتى فى القاهرة بعد عودتى إليها باعتبارى مسلما ، دون أن يضايقنى أحد ، ، فى الحى التركى ، وأنا لا يسعنى إلا أن أشكر محمد على باشا على استقباله الطيب لى فى الطائف ، وأشكره أيضا على عدم وضع عراقيل أو عقبات فى طريق أسفارى فى الحجاز.

كنت فى مكة [المكرمة] فى شهر ديسمبر ، وفى المدينة [المنورة] فى شهر إبريل ، وهما الموعدان اللذان كان الباشا فيهما موجودا فى هاتين المدينتين ، لكنى وجدت من الصالح والمناسب لى ألا أكون معه فى أى من هذين المكانين ، اللذين لم أكن معروفا فيهما مطلقا. كانت خطتى فى الأسفار والترحال تقضى بأن ألجأ إلى العزلة قدر المستطاع ، وفيما عدا وجودى القصير فى الطائف ، التى اضطرتنى ظروفى فيها إلى الظهور بعض الشىء ، كان الناس فى الحجاز يعرفون أنى مجرد واحد من الحجاج ، رجل من أعيان مصر ، رجل لا يعرفه أحد سوى قلة قليلة من ضباط الباشا الذين التقيتهم فى الطائف.

١١٢

معلوماتى عن الطائف جد قليلة ، ولم أدونها على الورق إلا بعد مغادرتى لها ، وأنا لم تتهيأ لى فرصة الانفراد بنفسى يوم أن كنت فى الطائف. لم يكن لدىّ معارف كثيرة حتى أستقى منهم معلومات ، يزاد على ذلك أن قلة قليلة من أفراد الطبقة العالية الذين كنت أعيش بينهم ، يندر أن يخرجوا من منازلهم أثناء النهار فى رمضان.

مدينة الطائف تقع وسط سهل رملى ، يقدر محيطه بمسير حوالى أربع ساعات ، وهذا السهل تنمو فيه الأشجار الكثيفة ، وتحيط به الجبال التى يسميها الناس هنا جبل غزوان ، جبل غزوان هذا عبارة عن صخور فرعية من سلسلة رئيسية ، تمتد إلى مسافة مسير أربع ساعات أو خمس فى اتجاه الشرق ، ثم تنخفض بعد ذلك فى السهل ، والطائف عبارة عن مربع غير منتظم ، يصل محيطه إلى مسير حوالى خمس وثلاثين دقيقة بالخطوة السريعة ، كما أنها محاطة بسور وخندق أنشأه مؤخرا عثمان المضايفة ، هذا السور فيه ثلاث بوابات وتحرسه ثلاثة أبراج ، لكنه أقل صلابة من أسوار جدة ، والمدينة (المنورة) وينبع ، ويصل سمكه فى بعض أجزائه إلى ثمانى عشرة بوصة. على الجانب الغربى من السور ، من داخل المدينة ، توجد قلعة مقامة على أرض صخرية مرتفعة ، وهذه القلعة تشكل جزءا من السور. الشريف غالب هو الذى بنى هذه القلعة ، لكن لا يطلق عليها اسم القلعة ، اللهم باستثناء أنها أكبر من المبانى الأخرى التى فى المدينة (الطائف) ، وأن جدرانها الحجرية أقوى من جدران المبانى الأخرى. وعلى الرغم من أن هذه القلعة شبه مخربة حاليا ، فإن محمد على جعل منها مركزا للرئاسة. منازل الطائف صغيرة فى معظمها ، لكنها مبنية من الحجر ، غرف الاستقبال فى الطابق العلوى ، وأنا لم أر غرف استقبال فى الدور الأرضى ، كما هو الحال فى تركيا. شوارع الطائف أوسع من شوارع المدن الشرقية والمكان العام الوحيد الموجود أمام القلعة ، عبارة عن مساحة واسعة مفتوحة يستخدمها الناس سوقا.

يمكن وصف الطائف فى وضعها الراهن بأنها مخربة ، إذ إن قلة قليلة من منازلها هى التى بحالة جيدة ؛ فقد دمر الوهابيون السواد الأعظم من بيوت الطائف ومبانيها ، وذلك عندما استولوا عليها فى عام ١٨٠٢ م ونظرا لمغادرة الناس لتلك المدينة منذ ذلك

١١٣

التاريخ ، فقد بدأ كل ما فيها يتحلل وينهار. شاهدت مسجدين كبيرين ، أفضل هذين المسجدين هو مسجد الهنود. وقد قام الوهابيون بتدمير قبر العباس تدميرا كاملا ، ذلك أن هذا القبر كانت له قبة من فوقه وكان الناس يزورونه وبخاصة الحجاج. وباستثناء البنايات الأربع أو الخمس التى يسكنها موظفو الباشا ، لم أر مبنى من المبانى أكبر من الحجم الشائع هنا فى هذا البلد.

يجرى مد الطائف بالماء من بئرين غزيرتين ، إحداهما داخل الأسوار ، والأخرى من أمام واحدة من البوابات. والماء هنا عذب ، لكنه ثقيل. هذا البلد شهير فى سائر أنحاء الجزيرة العربية بحدائقه الجميلة ، التى تقع عند سطوح الجبال التى تحيط السهل الرملى. أنا لم أشاهد أية حديقة من هذه الحدائق ، بل لم أشاهد مطلقا حتى ولو شجرة واحدة داخل أسوار المدينة ، يضاف إلى ذلك أن المنطقة المجاورة لنا جرداء وخالية من الخضرة ، الأمر الذى يجعل الحزن يخيم على المنزل شأن كل المنازل الأخرى فى الجزيرة العربية. أقرب الحدائق إلينا كانت فى الاتجاه الشمالى الغربى ، على بعد مسير حوالى نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة ، فى هذا الجانب أيضا توجد ضاحية مهجورة ، مفصولة عن المدينة ببعض النخيل الموجود بين أنقاض هذه الضاحية التى هجرها أهلها قبل الغزو الوهابى.

أنا لم أزر أيا من تلك الحدائق. يوجد وسط هذه الحدائق بعض المقصورات التى يزجى أهل الطائف فيها أوقات فراغهم ، أشهر هذه المقصورات هى وادى مثنة ، ووادى سلام ووادى شمال هذه الحدائق تروى من آبار ومن أفلاج تنحدر من الجبال. أشجار الفاكهة موجودة هنا بأعداد كبيرة ، وكذلك حقول القمح والشعير. الفواكه التى تذوقتها فى الحجاز هى الأعناب ذات الأحجام الكبيرة ، والمذاق اللذيذ ، والتين ، والسفرجل ، والرمان ، لكن الأنواع الأخرى التى سبق ذكرها فى جبل قورة هى الأخرى موجودة هنا. حدائق الطائف شهيرة أيضا بوفرة الورود ، التى يجرى نقلها مثل الأعناب ، إلى سائر أنحاء الحجاز. كان كبار تجار مكة من قبل يجعلون من تلك الحدائق والبساتين منتجعا لهم فى فصل الصيف ، فى هذه الحدائق والبساتين كان

١١٤

الشريف غالب يمضى القسم الأكبر من فصل الصيف ، كان لهؤلاء التجار منازلهم ومؤسساتهم فى الطائف ، ولذلك كانت خسائرهم جسيمة ، عندما استولى الوهابيون على الطائف.

سكان الطائف المتجانسون كلهم من العرب ، أو بالأحرى من قبيلة ثقيف (*) ، وبخاصة الذين استقروا واستوطنوا الأماكن التى يعيشون فيها ، وتعود ملكية الحدائق المجاورة للبلدة هى ومحلات المؤن والتموينات التى داخل أسوار البلدة إلى العرب الذين هم من بنى ثقيف. يوجد أيضا بعض المكيين الذين استوطنوا الطائف ، لكن القسم الأكبر من السكان الأجانب هم من أصل هندى. الناس هنا فى الطائف ، كما هو الحال فى جدة ، وعلى الرغم من مولدهم فى الجزيرة العربية ، بل ومن المستقرين هنا فى الطائف ، فى بعض الأحيان ، منذ أجيال عدة ، فإنهم لا يزالون يرتدون الزى الهندى الإسلامى ، كما أن سلوكياتهم هى سلوكيات الهنود المسلمين ، بعض هؤلاء السكان من التجار ، لكن القسم الأكبر من تجار العقاقير ، الذين لتجارتهم أهمية كبيرة فى الحجاز أكثر من أى مكان آخر ، والسبب فى ذلك راجع إلى إقبال الطبقات كلها على العقاقير والعطور إلخ. ومبلغ علمى ، أنه لا يوجد تجار جملة فى الطائف. أحصيت الدكاكين فى الطائف فوجدتها خمسين دكانا. كانت الطائف قبل الغزو الوهابى مدينة تجارية ، وكان عرب المناطق المحيطة بها ، والتى تبعد مسير أيام كثيرة ، يفدون إلى الطائف طلبا لشراء الملبوسات ، فى الوقت الذى كان سكان الجبال يجلبون محصولهم من القمح والشعير ، كانت الطائف أيضا مكانا مهما من أماكن تجارة البن ، الذى كان يجلب من جبال اليمن عن طريق البدو ، وبذلك كانوا يتحاشون أو يروغون من العشور الثقيلة التى كانت تفرض عليهم فى موانئ سواحل الجزيرة العربية. كل شىء هنا يوحى بالبؤس الشديد فى هذا البلد. واردات الطائف من المناطق الداخلية فى الجزيرة العربية تتمثل فى التمور ، التى يجلبها عرب عتيبة من مزارعهم المثمرة الموجودة داخل

__________________

(*) قبائل الحمدة ، وبنى محمد ، والثمالة كلها من ثقيف ـ راجع العصمى.

١١٥

أراضيهم ، شوارع الطائف الرئيسية تعج بالشحاذين ، الذين يشكل الهنود أعدادا كبيرة منهم ، هؤلاء الهنود معرضون فى معظم الأحيان للموت جوعا ؛ ذلك أننى أثناء مقامى فى الطائف ، وجدت أن مجرد حصول فرد واحد على الخبز الذى يكفيه يوما واحدا ، يكلفه قرشين (قيمة هذين القرشين بسعر الصرف يصل إلى حوالى سدس دولار ، أو إن شئت فقل ، عشر بنسات). كانت قوافل المؤن والتموينات تصل إلى الطائف مرة واحدة فى الأسبوع ، لكن النقص فى أعداد الإبل كان هو السبب الرئيسى وراء شح الاستيراد من الساحل بغية تقليل أسعار المواد الغذائية ، وعلى الرغم من أن عامة الناس يعيشون على التمور بصفة أساسية ، وبالتالى فهم لا يستهلكون شيئا من التموينات التى يجرى إحضارها من مكة ، على الرغم من كل ذلك فقد عرفت من مصدر جيد أن التموين فى الطائف لا يكفى الجيش التركى سوى عشرة أيام.

فى زمن الشريف كان يحكم مدينة الطائف موظف معين من قبل الشريف ، اسمه حاكم وكان هو أيضا من الأشراف ، وقد نجا من سيوف الوهابيين بمعجزة ، وقد أعاد محمد على باشا ذلك الرجل إلى منصبه ، لكن هذا المنصب يعد منصبا شرفيا فى الوقت الراهن. هناك أسماء متعددة من أسر أشراف مكة ، يعيشون هنا فى الطائف ، كما أن أسلوب الحياة ، وكذلك الملبس والسلوكيات ، يبدو أنها مثل نظيراتها فى مكة ، لكن تهيأت لى فرصة إبداء بضع الملاحظات على هذا الموضوع.

الرحلة إلى مكة :

اليوم السابع من شهر سبتمبر. بدأت التحرك فى الصباح الباكر من الطائف إلى مكة ، سالكا الطريق نفسه الذى جئت منه إلى الطائف. هناك كما أسلفت ، طريق قصىّ فى الشمال ، تستخدمه القوافل تجنبا للمصاعب التى تلقاها تلك القوافل أثناء السير فى جبل قورة. أولى المحطات من مكة على الطريق هى محطة زيمة ، وبالقرب منها ، على بعد حوالى عشرة أميال ، توجد منحنيات عدة شديدة الانحدار. زيمة بحد

١١٦

ذاتها عبارة عن قلعة شبه مدمرة من الناحية الشرقية من وادى الليمون ، وفيها عيون جارية غزيرة الماء. وادى الليمون واحد من الوديان الخصبة يمتد مسير ساعات عدة فى اتجاه وادى فاطمة ، وادى الليمون عبارة عن بيارات ومزارع نخيل ، وكان الناس يزرعون أرض هذا الوادى فى الماضى ، لكن مسألة الزراعة هذه توقفت اعتبارا من الغزو الوهابى ، يزاد على ذلك أن بساتين الفاكهة فى وادى الليمون جرى تدميرها هى الأخرى. هذه هى آخر مراحل طريق الحج السورى الشرقى ، أو إن شئت فقل ، ذلك الطريق الذى يقع إلى الشرق من سلسلة جبال الحجاز الكبيرة ، التى تمتد من المدينة (المنورة) إلى مكة فى الجنوب الشرقى أو بالأحرى فى الاتجاه جنوب ـ شرق من وادى الليمون ، يوجد واد آخر خصب ، يسمونه وادى المضيق ، الذى يستوطنه بعض الأشراف ، ويمتلك الشريف غالب فيه بعض الأطيان.

اعتبارا من زيمة ، نجد أن الطريق إلى الطائف ، فى اليوم التالى ، أو بالأحرى من مكة إلى السيل ، الذى هو نهير يحمل هذا الاسم ، يمر عبر سهل خال من الأشجار ، لكنه عامر بالمراعى الكثيفة. فى السيل نجد الطريق يدخل منطقة جبلية ، يمر خلالها ممر وعر شديد الضيق يستغرق عبوره ست ساعات. محطة اليوم الثانى هى منطقة عقرب ، وهى تقع فى السهل العلوى ، على بعد مسير حوالى ثلاث ساعات من الطائف ، فى اتجاه الشمال ، وعلى مستوى ارتفاع الطائف نفسه ، وبذلك يمكن القول إن المسافر من مكة يصل الطائف فى اليوم الرابع. هذا الطريق يصعب اجتيازه فى الوقت الراهن ، اللهم باستثناء القوافل الكبيرة المحمية حماية جيدة ، والمعروف أن عرب قبيلة عتيبة كانوا يقومون فى كثير من الأحيان بغزو هذا الجانب والهجوم عليه ، كما كانوا يقومون بسلب القوافل الصغيرة ونهبها.

على مقربة من الطائف أدركت ثلاثة جنود من الأرناءوط ، كان كل واحد منهم راكبا حماره ، هؤلاء الجنود كانوا قد استبدلوا نقودهم بواقع ثلاثة عشر قرشا مصريا من سك القاهرة نظير الدولار الإسبانى ، الذى لم يكن يساوى فى جدة سوى أحد عشر قرشا. كان هؤلاء الجنود قد سفكوا محفظة واحدة قيمتها ألف دولار وسافروا جميعا من جدة إلى الطائف ، عندما كان الطريق آمنا ، كل ذلك من أجل هذا الفارق البسيط

١١٧

فى سعر الصرف. حملوا النقود معهم معبأة فى أكياس ، على حميرهم ، وبعد أن غم عليهم ونسوا مصاريف السفر ، انضموا إلىّ عندما شعروا أن جوال سفرى كان عامرا بالمؤن والتموينات ، وحملونى وحدى مسألة مصروفات الطريق ، عندما كنا نتوقف عند أكواخ القهوة. ومع ذلك كان هؤلاء الأرناءوط رفاقا طيبين ، ولذلك لم تضع تلك المصروفات هباء.

عندما وصلت وادى محرم ، ارتديت ملابس الإحرام ، باعتبار أن هذه هى أول مرة أزور فيها مكة والكعبة ، ملابس الإحرام مكونة من قطعتين من قماش الكتان الأبيض ، أو قد تكون من الصوف أو القطن ، إحداهما تلف حول العجز ، والثانية توضع على الكتفين ، بحيث يبقى جزء من الذراع الأيمن مكشوفا. يجب أن يتحرر الحاج من ملابسه المعتادة قبل ارتداء ملابس الإحرام. وأية قطعة من القماش يمكن أن تفى بالغرض ، لكن الشرع يحتم أن تكون هذه القطعة من القماش غير مخيطة ، وألا تكون من الحرير وخالية من الزينات بكل أنواعها ، واللون الأبيض هو المفضل على سائر الألوان الأخرى. وقماش الكمبريت الهندى أبيض اللون هو المستخدم عادة فى هذا الغرض ، لكن الحجاج الأثرياء يستخدمون شيلانا من الكشمير الأبيض ، بدلا من قماش الكمبريت الهندى ، هذه الشيلان الهندية تكون أطرافها خالية من الورود التى تنقش عليه.

والرأس يظل حاسرا طوال أداء الفريضة ، وليس مسموحا بحلق الرأس ، حسب العرف الشرعى ، إلا بعد التحلل من ملابس الإحرام. مشط القدم لا بد أن يكون مكشوفا ، وتأسيسا على ذلك ، فإن هؤلاء الذين يلبسون أحذية ، يقطعون جزءا من الجلد العلوى للحذاء ، أو يلبسون أحذية تصنع خصيصا لهذا الغرض ، وهى من قبيل الأحذية التى يجلبها الحجاج الأتراك معهم من إسطنبول. وأنا مثل سائر الحجيج كنت أرتدى نعلة أثناء ارتدائى ملابس الإحرام.

كبر السن والمرض أعذار تبيح للحاج تغطية الرأس ، لكن ذلك يجب التعويض عنه بتقديم الصدقات للفقراء. أشعة الشمس تتعب حاسرى الرءوس تعبا كثيرا ، وعلى الرغم من أن الشرع يحرم أى شىء يكون له اتصال مباشر بالرأس ، فإن الشرع لا يحرم

١١٨

استعمال المظلة (الشمسية) التى يتزود بها السواد الأعظم من الحجاج الشماليين ، أما الوطنيون فإنهم يتحملون أشعة الشمس ، أو قد يربطون خرقة من القماش فى عصى ، ليصنعوا بها ظلا صغيرا ، بتحويلها ناحية الشمس.

ملابس الإحرام عندما ترتدى صيفا أو شتاء لا تكون مناسبة ومؤذية للصحة وبخاصة عند حجاج الشمال ، الذين اعتادوا ارتداء الملابس الصوفية الثقيلة ، هؤلاء الحجاج يتعين عليهم عند أداء فريضة الحج التحرر من تلك الملابس الثقيلة أياما عدة ، ومع ذلك نجد أن الحماس الدينى لدى بعض من يزورون الحجاز يصل إلى حد أنهم إذا ما وصلوا إلى مكة قبل أشهر عدة من الحج ، فإنهم يقسمون على ارتداء الإحرام ، عندما يقتربون من مكة ، ولا يتحررون منه إلا بعد اكتمال حجهم فى عرفات ، وبذلك نراهم طوال أشهر عدة وهم لا يتغطون ليلا أو نهارا إلا بتلك الملابس الخفيفة (*) ، ذلك أن الشرع يحرم استعمال أى غطاء آخر أثناء الليل ؛ لكن قلة قليلة من الحجاج هم الذين يلتزمون بهذا الشرط.

كان العرب فى الجاهلية عندما يقومون بالحج إلى الأصنام التى فى مكة يرتدون أيضا ملابس الإحرام ، لكن هذا النوع من الحج كان مقصورا على مدة محددة من العام ، ويحتمل أن ذلك كان فى فصل الخريف ؛ والسبب فى ذلك أن العرب يستخدمون التقويم القمرى ، وبذلك يضيفون شهرا كل ثلاث سنوات ، وبذلك لم يكن موسم الحج يختلف مثلما عليه الحال حاليا ، ولكن القرآن حرم ذلك (**) ، وحث على أداء فريضة الحج تكريما للحى القيوم ، وليس للأصنام مثلما كان يجب فى السابق ، كما حث القرآن أيضا على أن يكون التقويم هو التقويم القمرى ، وبذلك انتظم موسم الحج مع اختلاف الفصول التى يجىء فيها ، وأمكن خلال ثلاثة وثلاثين عاما أن يتغير موسم الحج من الشتاء القارس البرودة إلى الصيف شديد الحرارة.

__________________

(*) يروى المؤرخون العرب أن هارون الرشيد هو وزوجته زبيدة أديا الحج ذات مرة سيرا على الأقدام من بغداد إلى مكة ، وأنهما لم يكونا مرتدين سوى ملابس الإحرام ، وأنه فى كل محطة من المحطات كانت هناك قلعة فيها سكن مؤثث تأثيثا جيدا ، وأن الطريق كله كان مفروشا بالسجاد الذى كانا يسيران عليه.

(**) وقد حرمه الله وهو ما يسمى «النسىء» قال تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ). (المراجع)

١١٩

الشخص الذى يرتدى ملابس الإحرام ، أو إن شئت فقل المحرم ، لا يضطر إلى الامتناع عن أطعمة بعينها ، مثلما كان يفعل سكان الجزيرة العربية القدامى ، الذين كانوا لا يأكلون الزبد هو وبعض الأطعمة الأخرى أثناء ارتداء ملابس الإحرام ، لكن المحرم مطلوب منه أن يتحشم ، ولا يسب أو يلعن ، أو يتشاجر ، وألا يقتل أى نوع من الحيوانات ، ولا حتى ذبابة عندما تحط على جسده ، وألا يتصل بالجنس اللطيف. إحرام النساء عبارة عن عباءة تلفها المرأة حول جسمها ، وقناع لا يظهر منه سوى عينيها ، وطبقا للشرع فإن أيادى النساء وأرجلهن تكون مغطاة ، لكنهن يهملن هذا الشرط.

على الرغم من أن رفاقى ، أو بالأحرى الجنود الأرناءوط ، كانوا مثلى يقصدون مكة ، فإنهم رأوا أن مسألة ارتداء ملابس الإحرام تعد أمرا غير ضرورى ، على الرغم من أن الشرع ، كما سبق أن أوضحت ، يحتم على كل من يقصد المدينة المقدسة فى أى وقت من الأوقات أن يكون مرتديا ملابس الإحرام (*).

بقينا مدة ساعة فوق قمة جبل قورة ، ثم نزلنا من فوق الجبل فى المساء. اضطرتنا زخة من زخات المطر إلى اللجوء إلى كهف واسع على جانب الطريق ، وهذا الكهف يلجأ إليه رعاة الغنم فى مثل هذه الظروف ، وهؤلاء الرعاة هم من قبيلة هذيل ، ووصلنا بعد غروب الشمس إلى كهوف القهوة ، سالفة الذكر ، الموجودة على جانب الجبل ، وهذا المكان تحط فيه قوافل مكة رحالها. شببنا نارا كبيرة ، واستأجرنا من العرب إناء فخاريا سلقنا فيه شيئا من الأرز لتناول العشاء. أدى السير الطويل ، والمطر ، وكذلك الغطاء الخفيف الذى أرتديه ، إلى إصابتى بحمى خفيفة ، لكنى أحسنت تغطية نفسى أثناء الليل وكنت فى صحة جيدة ، فى صباح اليوم التالى. أدى تغيير الهواء ، أثناء رحلتى إلى الطائف ، هو والمناخ البارد نسبيا فى ذلك المكان ، كل ذلك أدى

__________________

(*) هو رأى جانبه الصواب لأن الإحرام مقصور فقط على كل من قصد الحج أو العمرة لكن دخول مكة بدون نية الحج أو العمرة لا يستوجب الإحرام. (المراجع)

١٢٠