ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-387-1
الصفحات: ٣٠٥
الجزء ١ الجزء ٢

شيوخهم ، وأتباعه ، يضاف إلى ذلك أن الشريف كان يلتزم التزاما صارما بقوانين الحرب السارية فى الصحراء. كان برفقة الشريف غالب حوالى ستة آلاف بدوى أو ثمانية آلاف ، انضموا إليه ، كما لو كانوا ينضمون إلى شيخ آخر ، ووقفوا إلى جانبه فى حملاته الأخيرة التى جردها على الوهابيين ، ولم ينتظر هؤلاء البدو من الشريف أجرا على الخدمات التى قدموها له ، سوى أتباعهم لشيوخهم الذين اشترى الشريف غالب ولاءهم واهتمامهم عن طريق تقديم الهدايا.

تشكل حكومة مكة من هؤلاء الذين ليست لهم دراية بسياسة الصحراء ، مجموعة من الأشياء الفريدة ، لكن الأمور يسهل شرحها والوقوف عليها إذا أخذنا بعين اعتبارنا أن الشريف غالب ليس سوى شيخ بدوى ، سمحت له الثروة والسلطة أن يكون له صولجان عرفى ، هذا الشريف هو حاكم عثمانى فى ظاهره ، لكنه ملتزم التزاما تاما بعاداته وتقاليده القديمة. فى الماضى كان عمداء عائلات الأشراف فى مكة ، يمارسون السلطة والنفوذ الذى كان الآباء يمارسونه فى المخيمات البدوية ، ولكن سلطة الشيخ الكبير هى التى أصبح لها الغلبة فى النهاية ، الأمر الذى اضطر الآخرين إلى الخضوع لهذه السلطة ، لكنهم ظلوا ، فى كثير من الأحوال ، يحتفظون بحقوق آبائهم. كانت الأطراف المتصارعة تنظر إلى المكيين من غير البدو ، على أنهم مستوطنون خاضعون لسيطرتهم وهيمنتهم ، تماما مثل القبائل البدوية التى تحارب من أجل القرى التى تدفع لها إتاوة ، والتى تنظر إلى سكان هذه القرى باعتبارهم من منزلة أدنى من منزلة هذه القبائل البدوية. ومع ذلك لم يكتب للمكيين أن يعاملوا معاملة بلدان مقاطعات شمالى تركيا ، كان المكيون يشاركون فى الصراعات التى كانت تجرى بين الأشراف ، كما كانوا يشاركون أيضا فى النفوذ والسلطة التى كانت تتحقق لرعاياهم. عندما أصبح لكل من غالب وسرور سلطة واسعة وغير محدودة ، وذلك على العكس ممن جاءوا قبلهم ، راح بقية الأشراف يتوحدون بصورة أوثق مع المكيين ، وظلوا إلى وقت قريب يشكلون هيئة محترمة تتسم بالطابع الحربى ، وهذا هو ما وقفنا عليه فى المشاجرات والمنازعات المستمرة التى دارت بين الأشراف ، ووقفنا على ذلك أيضا فى مقاومة هذه الهيئة

٢٨١

للحكومة ، عندما أثرت إجراءاتها على حياة أفراد هذه الهيئة أو أعضائها ، وذلك على الرغم من تقليم أظافر هذه الهيئة على نحو يجعلها لا تثور أو تتمرد إلا عندما يجرى الهجوم أو الاعتداء على أموالها وممتلكاتها.

كانت حكومة الشريف غالب حكومة متساهلة وحريصة على الرغم من الابتزاز المالى الذى كانت تمارسه ، كان الشريف غالب يحترم كبرياء المكيين ، ولم يحاول الاعتداء مطلقا على سلامة الناس أو ثرواتهم ، على الرغم من ترعرع هؤلاء الأفراد فى ظل تلك القواعد التى كان لها تأثير جماعى على الناس كلهم. سمح الشريف غالب لأعدائه اللدودين بالعيش بين أهليهم وعائلاتهم ، كما سمح للناس أيضا بالدخول فى معارك دموية فيما بينهم ، الأمر الذى كان يفضى إلى الثأر ، أو إثارة الأحقاد التى ملأت صدور الناس فى مختلف المناطق ، ضد بعضهم البعض ، وقد وصل الأمر إلى حد اقتتال هؤلاء الناس طوال أسابيع عدة ، مع بعضهم البعض ، مستخدمين فى ذلك ، العصى ، والحراب ، والخناجر ، دون اللجوء إلى الأسلحة النارية.

هؤلاء الأشراف ، أحفاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المقيمون فى مكة وفى المنطقة المجاورة لها ، والمولعون بالسلاح ، ويدخلون فى صراعات مدنية فى معظم الأحوال ، درجوا على إرسال الطفل الذكر ، بعد ثمانية أيام من مولده ، إلى خيمة من خيام البدو المجاورين ، لينشأ مع أطفال الخيمة ، ويتعلم أن يكون بدويا بحق وحقيقة لمدة ثمانى سنوات أو عشر ، أو إلى أن يصبح الطفل قادرا على ركوب الفرس ، وهنا يأخذه والده مرة ثانية ، ولا يسمح للطفل طوال هذه الفترة بزيارة والديه ، أو الدخول إلى البلدة اللهم باستثناء الشهر السادس ، عندما تأخذه الأم البديلة فى زيارة قصيرة إلى أسرته ، لتعود به بعد ذلك مباشرة إلى قبيلتها. هذا يعنى أن الطفل لا يبقى بين يدى أمه ، تحت أى ظرف أكثر من ثلاثين يوما ، يتعين بعدها أخذه إلى القبيلة ، وقد يطول مقام هذا الطفل بين البدو إلى أن يبلغ الثالثة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره ؛ بذلك يتألف الطفل مع كل أخطار الحياة البدوية وتقلباتها ، وهنا يعتاد جسد مثل هذا الطفل على التعب والحرمان ، ويكتسب لغة البدو النقية السليمة ، كما يكتسب أيضا منهم تأثيرا تكون له أهمية كبيرة

٢٨٢

فى حياته فيما بعد. هؤلاء البدو لا يوجد بينهم شريف ، بدءا من الشيخ وانتهاء بأفقر فقرائهم ، لأنهم جميعهم تربوا ونشأوا بين البدو ، يضاف إلى ذلك أن الكثيرين يتزوجون من فتيان بدويات. أبناء الشريف الموجود حاليا فى الحكم نشأوا وتعلموا فى قبيلة عدوان ، هؤلاء العدوان شهيرون بالشجاعة والكرم ، لكن هؤلاء العدوان جرى تقليم أظافرهم من ناحية بفعل الحروب الطاحنة التى خاضوها إلى جانب الأشراف ، ومن الناحية الأخرى بفعل الغزو الذى قام به محمد على باشا مؤخرا ، الأمر الذى اضطر هؤلاء العدوان إلى التعجيل بالتخلى عن أراضى الحجاز ، والبحث عن ملجأ وملاذ لهم فى مخيمات قبائل السهل الشرقى. عثمان المضايفة نفسه ، ذلك الشيخ الوهابى الشهير ، والأداة الرئيسية التى يستخدمها سعود فى إخضاع الحجاز ، هو نفسه شيخ من شيوخ العدوان ، والشريف غالب تزوج شقيقة عثمان المضايفة. كان الأشراف الآخرين يرسلون أطفالهم إلى مخيمات قبائل هذيل ، وثقيف ، وبنى سعد ، وقبائل أخرى ، بعض آخر من هؤلاء الأشراف كانوا يرسلون أطفالهم إلى قريش أو حرب.

الخيمة التى يتربى فيها شريف من الأشراف تحظى منه بمعاملة تقوم على احترام أهلها كما لو كانوا والديه وإخوانه ، مثل هذا الشريف ينادى ربها على أنه والده ، وربتها على أنها أمه وأبناؤها على أنهم إخوته ، وهو نفسه يحظى منهم بتسميات مماثلة. وهم عندما يجيئون إلى مكة يقيمون فى منزل تلميذهم ، ولا يغادرون هذا المنزل إلا وهم محمّلين بالهدايا. طوال فترة تلمذة هذا الشريف ، تراه يطلق الاسم إرهام على أقاربه البعيدين من الأسرة البدوية ، وبخاصة أولئك الذين من حقهم مصادقته واهتمامه بهم ، يضاف إلى ذلك أن هذا الشريف ، يعد نفسه طوال حياته ، منتميا إلى ذلك المخيم الذى أمضى فيه السنوات الأولى من حياته ؛ تراه يصف سكان هذا المخيم بقوله : «ناسنا» ، أو «عائلتنا» ويهتم اهتماما كبيرا بكل ما يحدث لهم ، ويزورهم كلما سمح وقته بذلك وبخاصة فى شهور الربيع وفى بعض الأحيان قد يرافقهم فى ترحالهم وتجوالهم وأيضا فى حروبهم.

٢٨٣

كان الشريف غالب يحافظ بصورة دائمة على أن يكون مقبولا عند والديه البدويين ، وعندما كان والداه البديلان يزورانه كان يقف من مقعده ويحتضنهما ، على الرغم من عدم اختلاف ملبسهما عن ملبس بقية سكان الصحراء. حدث فى كثير من الأحيان أن رفض أبناء الشريف غالب ، الاعتراف بأبويهما الفعليين وكانوا يهربون ، فى بعض الأحيان ، وينضمون أو يلحقون أصدقاء الطفولة ، البدو الذين يعيشون فى الصحراء.

هذه العادة التى أتيت على وصفها هى واحدة من العادات القديمة فى الجزيرة العربية لقد تربى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الأجانب والأغراب ، فى قبيلة بنى سعد ، والمكيون يضربون به صلى‌الله‌عليه‌وسلم المثل إذا ما تكلموا فى مثل هذا الأمر ، الذى لا يزال ساريا بين الأشراف ، لكن الأشراف هم الوحيدون من بين سكان الجزيرة العربية كلها ، الذين ينهجون هذا النهج ، البدو الذين يطلق عليهم اسم الموالى (*) ، والذين كانوا يشكلون قبيلة قوية فى يوم من الأيام ، والذين يرعون قطعانهم فى المنطقة المجاورة لحلب ، هم الوحيدون الذين عثرت بينهم على شىء من هذا القبيل. عند الموالى نجد أن ولد شيخ القبيلة يجب أن يتربى وينشأ عند فرد آخر من أفراد القبيلة نفسها ، وغالبا ما يكون ذلك فى مخيم مختلف ، إلى أن يكبر ويصبح قادرا على العناية بنفسه ، بقية حياته.

يستقى الأشراف مزايا عديدة من تربيتهم البدوية ، وهم لا يكتسبون مجرد القوة والبنية القوية ، وإنما يكتسبون أيضا بعضا من تلك الطاقة ، وحرية التصرف والجرأة التى يتميز بها سكان الصحراء ، إضافة إلى تقديرهم الكامل لحسن النية ، وقوة الإيمان ، والكرم على نحو يختلف تماما عما لو كانوا قد تربوا ونشئوا فى مكة.

__________________

(*) هذه القبيلة هى أصلا من الحجاز : كانت تلك القبيلة تقيم فى منطقة قريبة من المدينة المنورة ، ويأتى كثير من مورخى المدينة المنورة على ذكر هذه القبيلة ، خلال القرن الأول الذى تلا وفاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٨٤

أنا لم ألتق كثيرا من الأشراف. ومن بين الأشراف الموجودين حاليا فى مكة يجرى استخدام البعض منهم ـ وذلك أثناء مقامى فى مكة ـ فى العمل مرشدين وأدلاء مع جيش محمد على باشا ، أو بدمجهم ، بواسطة محمد على ، مع بعض البدو ليشكل منهم فيلقا صغيرا ، يقوده الشريف راجح ، الذى هو واحد من أبرز رجال الأشراف ، أو قد يجرى توظيفهم لخدمة الشريف يحيى ، الذى أوفدهم فى مهمة إلى المواقع المتقدمة فى اتجاه اليمن. تقاعد البعض من هؤلاء الأشراف بعد أسر الشريف غالب ، وعادوا إلى الوهابيين أو إلى اليمن ، فى حين لم يتبق منهم فى مكة سوى قلة قليلة. هؤلاء الذين سنحت لى الفرصة بمقابلتهم ، كانوا يتميزون بكثير من السمات التى توحى وتعبر عن أصلهم النبيل ، إضافة إلى أن ظاهرهم جميعا يوحى ويدل على أنهم من البدو ، هؤلاء الأشراف أحرار ، جسورين ، صرحاء ، أصدقاء حميمون ، أعداء ألداء ، ينشدون الشهرة ، وفى داخلهم فضيلة الفخر والكبرياء ، التى تضعهم على حد زعمهم فوق مستوى أعلى من مستوى سلطان اسطنبول. وأنا لم أر رجلا فى مستوى أناقة الشريف راجح ، الذى أتيت على ذكره عندما كنت أتحدث عن حملة محمد على باشا ، وكيف أن وقفاته ومواقفه المحترمة ستذيع شهرته بين الآلاف ، ولا يمكن لامرئ أن يتخيل وجها صبوحا يفيض حيوية وذكاء مثل وجه الشريف غالب. الشريف يحيى ، الحاكم الحالى ، صاحب بشرة شديدة السواد مثل والده تماما ؛ كانت أمه أمة حبشية تميل بشرتها إلى اللون البنى الغامق.

المكيون لا يثنون كثيرا على أمانة الأشراف. وأنهم غالبا ما كانوا يكشفون عن تقلب كبير فى الشخصية والسلوك ، لكن الأمر يختلف عن ذلك تماما إذا ما أخذنا بعين اعتبارنا المكان والزمان اللذين عاش فيهما هؤلاء الأشراف : تعليم هؤلاء الأشراف البدوى هو الذى جعلهم متميزين ومفضلين ، من نواح كثيرة على عامة المكيين.

هناك قاعدة بين الأشراف مفادها أن بنات الشريف الحاكم لا يمكن أن يتزوجن ، بينما يقوم أشقاؤهن باللعب فى الشارع مع أندادهم الذين لا يتميزون عنهم من حيث

٢٨٥

الملبس ، أو وقار المظهر ، نجد أن البنات التعيسات يبقين محبوسات فى منزل والدهن. لقد رأيت ولدا من أبناء الشريف غالب ، وكان والده من بين الأسرى المحتجزين فى سالونيكا ، رأيته وهو يلعب أمام باب المنزل. لكنى عرفت وسمعت أنه عندما يعود أبناء الشريف الحاكم من الصحراء ، ويكونون لم يبلغوا بعد الحد الذى يظهرون معه على الملأ وقد تحلوا بمظهر الرجولة ، فإنهم يجرى الاحتفاظ بهم فى منزل والدهم أو فى فنائه ، ولا يراهم أو يتصل بهم إلا أهل البيت من أفراد العائلة ، ولا يظهرون على الملأ للمرة الأولى إلا وهم ركوب على ظهور الخيل ، ويسيرون إلى جانب والدهم ، واعتبارا من تلك اللحظة يصبحون فى سن تؤهلهم للزواج على الفور ، ويبدأون المشاركة فى الشئون العامة.

القسم الأكبر من أشراف مكة ، وبخاصة هؤلاء الذين فى سدة الحكم فى الوقت الراهن أو بالتحديد ذوى زيد ، تدور من حولهم الشكوك ، بأنهم مسلمون ملّيون ينتمون إلى الزيود ، وبخاصة الجبال المحيطة بمدينة صعداء. على كل حال ، الأشراف لا يقرون هذا المذهب أو يتبعونه ، وإنما هم يلتزمون بالمذهب الشافعى ، الذى ينتمى إليه السواد الأعظم من المكيين ، لكن الأشراف الذين يعيشون خارج البلاد لا ينكرون هذا المذهب ، وعند مناقشة النقاط التى فيها اختلاف شرعى وتحمل على ما يعتقده الزيود ، ويختلفون فيه عن أهل السنة ، ترى الأشراف دوما لا يتخذون موقفا إيجابيا فى النقاش الذى يكون من هذا القبيل.

مبلغ علمى أن الزيود ينقسمون إلى مذاهب عدة. زيود اليمن ومكة الذين يعترفون بالإمام الهادى للحق يحيى بن الحسين مؤسسا لهذا المذهب ، الذى يرجع نسبه إلى الحسن بن على رضى الله عنه. وقد ولد الإمام يحيى فى مدينة الرس ، فى منطقة القصيم ، فى العام ٢٤٥ الهجرى وظهر أول مرة داعيا للدين فى بلدة صعداء ، فى اليمن فى العام ٢٨٠ الهجرى ، حارب الإمام يحيى مع العباسيين ، واستولى على صنعاء ، التى طرد منها ، ثم هاجم القرامطة بعد ذلك ، وتوفى مسموما فى صعداء فى العام ٢٩٨ الهجرى. بعض آخر يردون أصل هذا المذهب إلى ما هو أعلى من ذلك ، أى

٢٨٦

إلى زيد بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب ، الذى قتل فى الكوفة فى العام ١٢١ الهجرى بأيدى جماعة الخليفة هشام. يبدو أن الزيود يوقرون عليا ـ رضى الله عنه ـ توقيرا كبيرا ، لكنهم فى الوقت ذاته لا يسبون أو يلعنون أبا بكر أو عمر ـ رضى الله عنهما ـ. هؤلاء الزيود لديهم أفكار غير التى لدى السنة فيما يتعلق بولاية الأئمة الاثنى عشر ، لكنهم يتفقون مع السنة فى الأمور الأخرى ، هذا يعنى أن نقاط الائتلاف بين الزيود والسنة أكثر من نقاط الاختلاف مع الفرس. زيود اليمن الذين ينتمى إليهم إمام صنعاء ، يعدون أنفسهم أصحاب المذهب الخامس من المذاهب الإسلامية ، وأن هذا المذهب الزيدى يجىء بعد المذاهب الأربعة : الأحناف ، والشافعية ، والمالكية ، والحنابلة ، ولهذا السبب فهم يطلقون على أنفسهم أهل المذاهب الخمس ، هؤلاء الزيود يذيعون معتقداتهم على الملأ ، وفى مكة يخفون هذه المعتقدات. بلغنى أن من بين معتقداتهم الرئيسية ، ذلك المعتقد الذى مفاده أن الصلاة إذا ما كانت فى المسجد أو المنزل ، يجب ألا تحتوى على أية تعبيرات أخرى غير تلك التعبيرات الواردة فى القرآن ، أو التعبيرات التى يجرى تشكيلها من مقتطفات من ذلك الكتاب.

المكيون ينظرون إلى الزيود باعتبارهم مهرطقين ، ويؤكدون أن الزيود ، شأنهم شأن الفارسيين ، لا يحترمون الخلفاء الذين خلفوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مباشرة. تتردد بعض القصص التى مفادها أن زيود اليمن يكتبون اسم معاوية على أقذر الأماكن فى منازلهم ، وذلك من باب الاحتقار لذلك الرجل ، لكن هذه المفاهيم لا يجاهر بها هؤلاء الزيود ، وأن الأشراف يتفقون ظاهريا مع كل ما يقول به أهل السنة ، وذلك بغض النظر عن آرائهم الخاصة.

سبق أن قلت إن قاضى مكة يوفد سنويا من إسطنبول ، طبقا أو تمشيا مع الإجراءات الحكومية التركية المعتادة فيما يتصل بالمدن الكبرى فى الإمبراطورية التركية. وقد بدأ ذلك النظام بالأباطرة الأوائل ، الذين ظنوا أنهم إذا ما حرموا الحكام المحليين من إقامة العدل ، ووضعوا إقامة العدل هذه بين أيدى عالم يوفد من إسطنبول

٢٨٧

بين الحين والآخر ، ويكون مستقلا تماما عن الحكام ، يمكن أن يمنعوا الحكام من ممارسة أى نفوذ لا لزوم له على المحاكم ، ويصبح بوسعهم أيضا تحاشى الأحكام التى يمكن أن تترتب على بقاء قاض فى منصبه فترة من الزمن. لكن السلوكيات فى الإمبراطورية تغيرت وتباينت عما كانت عليه قبل ثلاثة قرون من الزمن. القاضى حاليا ، فى أية مدينة من المدن يكون تحت نفوذ الحاكم مباشرة وسيطرته ، هذا الحاكم يستبد كما يشاء ، شريطة أن يرسل الإعانات التى يتحتم إرسالها إلى الباب العالى ، أو يدفع رشوة للقاضى ، الذى يتقاسمها مع الحاكم ، أو قد يتغاضى عنها الحاكم مقابل أن يراعى القاضى مصالح الحاكم فى بعض القضايا الأخرى. وقد ارتفعت أيضا رسوم التقاضى ارتفاعا كبيرا ، ووصلت إلى حد الربع من المبلغ محل التقاضى ، هذا فى الوقت الذى تتغاضى فيه المحكمة عن أوضح الحقوق وأجلاها ، إن لم يكن ذلك مدعوما بهبات كثيرة وكبيرة للقاضى من ناحية ، ولمجموعة الموظفين والخدم المحيطين به من الناحية الأخرى. هذه الاضطرابات على مرأى ومسمع من الباب العالى ، هذا يعنى أن منصب القاضى كان يباع لأعلى سعر ، من باب أن القاضى يعرف أنه سيعوض ما دفعه من خلال الأجور الإضافية التى ستحصل عليها إدارته.

فى تلك البلدان التى يتدافع العرب فيها على المحكمة ، نجد أن القاضى ، الذى جرت العادة ألا يعرف سوى القليل جدا من اللغة العربية ، يكون بين يدى مترجمه ، والمترجم هذا وظيفته دائمة ، وهو الذى يعرف كل قاض من القضاة الجدد بأساليب الرشوة السائدة فى المكان ، ويحصل لنفسه على نصيب وافر من حصاد هذه العملية. هذه المظالم السافرة والرشوة المخزية ، التى تحدث فى المحاكم وقاعات العدل كل يوم قد تبدو للأوروبى بصفة عامة والإنجليزى بصفة خاصة أمورا لا يصدقها العقل.

بذلك يكون قاضى مكة قد لقى مصير إخوانه القضاة فى سائر أنحاء الإمبراطورية العثمانية ، عندما أصبح خاضعا لنفوذ الشريف ، الذى أصبحت القضايا كلها تقدم إلى محكمته ، مما أدى إلى تزجية وقته فى أشياء وأمور لا نفع منها. لقد

٢٨٨

أبلغنى القاضى نفسه ، أن الباب العالى ، وهو يقدر الموقف منذ سنوات مضت ، رأى أن يدفع كل عام لقاضى مكة ، من خزانته ما قيمته مائة كيس (صرة). بعد الغزو الذى قام به محمد على باشا بدأ القاضى يستعيد أهميته ، مواكبا بذلك انحسار نفوذ الشريف. عندما كنت فى مكة ، كانت القضايا كلها يجرى البت فيها فى المحاكم. لم يحدث أن تدخل محمد على فى عمل المحاكم ، مستهدفا بذلك اكتساب رضا العرب ، ويبدو أن القاضى نفسه تلقى من محمد على باشا أوامر تقضى بتوخى الحذر فى العمل ، الأمر الذى أدى إلى إقامة العدل فى ذلك الوقت ، قياسا على المحاكم الأخرى فى أضعف الأحوال ، يزاد على ذلك أن السكان لم يكونوا معارضين للنظام الجديد. قاضى مكة هو الذى يعين شاغلى المناصب القضائية فى كل من جدة والطائف ، وهؤلاء المعينين يكونون من العرب وليسوا من الأتراك. يضاف إلى ذلك أن أئمة المذاهب الأربعة لهم رأيهم أيضا فى القضايا الشرعية المهمة.

يأتى دخل الشريف بصفة خاصة من الرسوم الجمركية التى يجرى تحصيلها فى جدة ، هذه الرسوم ، كما سبق أن أوضحت لا يجرى اقتسامها ، بناء على أوامر الحكومة ، بين الشريف وباشا جدة. زد على ذلك أن جمارك جدة التى تتساوى وتتفق مع الجمارك فى سائر أنحاء الإمبراطورية العثمانية ، قام الشريف غالب بزيادتها زيادة كبيرة ، لتصبح بذلك السبب الرئيسى وراء معارضة التجار لذلك الرجل. استأثر محمد على باشا لنفسه بجزء كبير من التجارة. كانت هناك ثمانى سفن من طراز الدهو ، تابعة لمحمد على باشا وتعمل فى تجارة البن بصورة مستمرة بين اليمن ، وجدة ، ومصر ، وعندما كان سوق البن يصاب بالكساد كان محمد على يجبر التجار على شراء شحناته نقدا بسعر السوق ، لكى يسارع بإرسال دولاراته إلى اليمن. قامت سفينتان من كبريات سفنه (إحداهما إنجليزية الصنع جرى شراؤها من بومباى ، وحمولتها أربعمائة طن) برحلة إلى جزر الهند الشرقية وكانت هذه الرحلة تتكرر كل عام ، وكان يجرى بيع حمولات هاتين السفينتين إما للحجاج فى مكة ، أو تقسيم تلك الحمولات بين تجار جدة الذين كانوا يجبرون على شراء هذه البضائع.

٢٨٩

أخضع محمد على باشا ميناء ينبع ـ شأنه شأن ميناء جدة ـ للظروف نفسها على الرغم من أن الشريف كان قد عين حاكما (محافظا) لذلك الميناء. كما فرض محمد على ضريبة أيضا على الماشية والمؤن والتموينات التى كانت تنقل من داخل البلاد إلى جدة ، كما فرض ضرائب أيضا على الماشية والمؤن والتموينات التى تنقل إلى كل من مكة ، والطائف ـ واستثنى من ذلك البضائع والماشية والمؤن والتموينات التى تأتى بصحبة قافلتى الحج الكبيرتين اللتان تأتيان من الشمال ، وذلك فى جميع الأماكن والمحطات التى تمر عليها هاتان القافلتان. لم يكن سكان مكة أو جدة يدفعون أية ضرائب أخرى غير تلك التى سبق الإشارة إليها ، فقد كانت بيوتهم ، وأشخاصهم وممتلكاتهم معفاة من الضرائب بكل أشكالها ، سكان مكة وجدة لم يعترفوا أو يقروا بهذه الميزة ، لأنهم لم يقارنوا أنفسهم بالمحيطين بهم فى كل من سوريا ومصر. كانت أفرع مداخيل الشريف الأخرى تتمثل فى الأرباح التى كان يجنيها من وراء بيع المؤن والتموينات فى مكة ، والتى لم يكن يحتكرها لنفسه مثل محمد على باشا ، وإنما كان لديه رصيد حاضر كبير من هذه المؤن والتموينات ، الأمر الذى كان يمكنه من التأثير على الأسعار اليومية لهذه الأشياء. مصدر آخر من مصادر مداخيل الشريف ، كان يتمثل أيضا فى ضريبة الرءوس التى كانت تفرض على الفرس الذين يصلون عن طريق البر قادمين من بغداد ، وعن طريق البحر الأحمر واليمن ، وهناك مصدر آخر كان يتمثل فى الهدايا الكبيرة التى كانت تأتيه عن طيب خاطر أو بالغصب من أثرياء الحجاج الذين يفدون من مختلف البلاد (*).

كان الشريف يقتطع لنفسه مبلغا كبيرا من النقود التى كانت ترسل من إسطنبول إلى المدينة المقدسة ، ويقال إن الشريف كان يحصل لنفسه على نصيب من الهدايا التى

__________________

(*) فى الماضى ، وعندما كان الأشراف أقوى مما هم عليه حاليا ، كانوا يفرضون إتاوة على قافلتى الحج الكبيرتين ، وكانت تلك الإتاوة مساوية لتلك التى كان البدو يجبونها على الطريق. كان أبو نيمه ، فى العام ٦٥٤ الهجرى يجبى ثلاثين درهما على كل حمل من أحمال القافلة اليمنية ، وخمسين درهما على كل حمل من أحمال القافلة المصرية.

٢٩٠

كانت ترسل للمسجد الحرام. كانت لدى الشريف أملاك عقارية كبيرة. هذا يعنى أن كثيرا من البساتين المحيطة بالطائف ، وكثير من المزارع التى كانت فى وادى الحسينية ، ووادى فاطمة ، ووادى الليمون ، ووادى مضيف ، كانت من ممتلكات ذلك الرجل. كان له فى جدة أيضا من المساكن التى كان يجرى تأجيرها للأجانب ، وبذلك كان شبيها إلى حد كبير بمحمد على الذى جاء بعده ، أى أنه كان يعول على الربح والأرباح مهما كانت تافهة ، كان انتباه الشريف غالب منصبا على جمع الثروة. كان دخل الشريف السنوى ، يوم أن كان فى أوج قوته ، يصل إلى حوالى ثلاثمائة وخمسين ألف جنيه إنجليزى ، لكن بعد غزو الوهابيين الحجاز لم يكن دخل الرجل يتجاوز نصف هذا المبلغ.

لما كان الشريف غالب تاجرا ومالكا للأرض ، ولما كان أيضا يجلب السلع الاستهلاكية بسعر المصنع ، فإن إعاشته وأهل بيته وحاشيته ، ونسائه وعبيده ، لا تحتاج ـ على حد تخيلى ـ إلى أكثر من عشرين ألف جنيه إنجليزى كل عام. فى زمن السلم ، يحتفظ الشريف بقوة عاملة ، لا يزيد قوامها على خمسمائة رجل ، منها حوالى مائة فرد فى حامية جدة ، وخمسين فردا فى الطائف ، وخمسين فردا فى ينبع ، والباقى فى مكة ، كانت هذه القوة تضم أيضا ثمانمائة خيّال ، إضافة أيضا إلى أفراد أسرته وأهل بيته. يزاد على ذلك أن عددا كبيرا من الجنود كانوا عبيدا للشريف غالب ، لكن القسم الأكبر من هذه القوة كانوا من البدو من أجزاء مختلفة من الجزيرة العربية ، وكان العدد الأكبر من هؤلاء البدو. يجيئون من اليمن ، ومن جبال عسير ، ومن نجد. كان الواحد منهم يتقاضى أجرا شهريا يتردد بين ثمانية دولارات واثنى عشر دولارا ، وكانوا يعملون تحت قيادة الأشراف ، الذين كانوا يطيعونهم مثلما يطيع البدو قائدهم أثناء الحرب ، هذا يعنى أن هؤلاء الجنود ، بحكم عدم تدريبهم تدريبا نظاميا ، كانوا يرافقون الشريف كلما كان يقوم بجولة خارج المدينة ، وأنهم كانوا يفتحون نيران بنادقهم عند العودة ، طبقا لأعراف الجزيرة العربية وتقاليدها ، التى تخول لهم القفز والجرى هنا وهناك. كان جنود المشاة مسلحين ببنادق فتيلية ، وخنجر معقوف ، أما

٢٩١

الخيالة فكانوا مسلحين بالحراب والرماح. عندما كان الشريف غالب يدخل حربا من الحروب ، كانت تلك القوة تتزايد عن طريق دخول أشراف كثيرين آخرين فى الحرب ومعهم أتباعهم ، هؤلاء الأشراف لا يحصلون على أجر اللهم إلا باستثناء الهدايا التى كانت تقدم لهم بين الحين والآخر ، فضلا عن أنصبتهم من الغنائم ، كانت هذه الحروب موجهة ضد القبائل البدوية ، التى كانت ماشيتها هى بيت القصيد من الغزو. فى المناسبات التى من هذا القبيل ، كان بدو آخرون ينضمون إلى الشريف غالب ثم يعودون إلى منازلهم مع شيوخهم فور انتهاء الحملة أو الغزو. مع بداية الحرب الوهابية ، وعندما بدأ الوهابيون القيام بهجمات ناجحة على الحجاز ، وجد الشريف غالب أن من الضرورى زيادة عدد جيشه النظامى ولذلك أضاف إلى هذا الجيش بعضا من العبيد السود ، ليصل عدد الجيش إلى ثمانمائة رجل ، مهتديا فى ذلك بمن سبقوه ، الذين كانوا ينظرون إلى عبيدهم بمنظار أنهم أخلص الناس لهم (*) ، كما أضاف الشريف غالب مزيدا من البدو إلى جيشه ، الأمر الذى أوصل عدد جيشه خلال ذلك الصراع إلى ما يتردد بين ألفين وثلاثة آلاف رجل ، وظن الرجل أن هذا العدد كان لحماية مدنه. كان الرجل كلما خطط لهجوم على الوهابيين ، يجمع حلفاءه من بين البدو ، ويتقدم مرات عدة صوب نجد ومعه قوة متحدة (موحدة) قوامها عشرة آلاف رجل. وعندما اضطر هؤلاء الحلفاء مرارا ، إلى الاستسلام للغزاة ، وعندما انكسر بدو الجنوب الذين كان غالب يعتمد عليهم بصورة أساسية أمام الجهود الكبيرة والقتال والنشاط الكبير من جانب عثمان المضايفة ، وجد الشريف غالب نفسه وحيدا ، بصحبة قواته القليلة جدا وعاجزا عن مواصلة القتال ، وسرعان ما جرى طرده بعد ذلك إلى أصقاع بعيدة ، واضطر إلى الاستسلام على الرغم من احتفاظه بمجموعة من القوات كان يتكفل بدفع أجورها ، بعد أن أحكم سعود قبضته على الحجاز ، وأدار شئونه على نحو يضمن استمرار سلطته ، واحترام الوهابيين.

__________________

(*) ظل أشراف مكة طوال القرن الماضى يحتفظون بجماعات صغيرة من المماليك الجورجيين باعتبارهم حرسا خاصا لهم.

٢٩٢

كانت تكاليف زيادة قوات الشريف غالب أثناء الحرب الوهابية كبيرة تماما ، وكان من الضرورى تقديم الهبات والعطايا لكل من الشريف والبدو حتى يمكن جعل البدو يراعون مصالح الشريف غالب ، لكن تصادف أن كانت مصالح الشريف هى مصالح البدو أيضا ، وعلى الرغم من أن البدو لا يكلون أو يملون السؤال وطلب الهدايا ، فإنهم يرضون بالقليل. وهنا يمكن لنا القول : إن الشريف غالب لم يحدث طوال سنى حكمه أن عاش فى حدود مداخيله وموارده ، ومع ذلك كان أهل الحجاز يعرفون جيدا أن الشريف غالب طوال سنى حكمه السبعة والعشرين ، قد كدس كنزا هائلا من الأموال. بعد أن ألقى محمد على باشا القبض على الشريف غالب ، كان إجمالى ثروة الشريف غالب فى كل من مكة وجدة يقدر بحوالى مائتى ألف جنيه إنجليزى أو مائتين وخمسين ألف جنيه ، وقيل إن الشريف غالب إما أن يكون قد أخفاها فى قلعته ، أو أنه سلمها إلى أصدقائه فى الهند فى الوقت الذى كان محمد على باشا يستعد للهجوم عليه ، والمرجح أن الشريف غالب لجأ إلى الطريقتين ؛ أى إخفاء الثروة المالية ، وبذلك يكون هو الآخر قد زاد المبالغ الكبيرة التى يجرى تخبئتها كل يوم فى بلاد الشرق ، بواسطة أولئك الذين يتولون الحكم فى بلاد الشرق ، أو عن طريق أشخاص معينين. هذه هى واحدة من الطرق السنية التى يلجأ إليها حكام الشريف عندما يخفون ثرواتهم ، الأمر الذى لا يجعل أكثر الناس ثراء يعانى كثيرا جراء هذه الخسارة. (*)

__________________

(*) شيوع مسألة إخفاء الثروات فى تركيا وأسباب هذه المسألة يمكن الوقوف عليها من الحادث التالى الذى وقع فى العام ٨١٣ الميلادى فى القاهرة. بعد أن طلب محمد على باشا مبلغا يقدر بحوالى ١٥٠٠٠ كيس (صرة) من الأقباط المستخدمين فى المالية المصرية ، قسموا هذا المبلغ فيما بينهم ، ورفض المعلم فلتؤس ، ذلك الرجل العجوز ، الذى كان كبيرا للممولين دفع مبلغ يساوى ألف صرة ومائتى صرة ، أى ما يقرب من ١٨٠٠٠ جنيه إنجليزى ، رفض المعلم فلتؤس دفع هذا المبلغ مدعيا الفقر ، وأرسل الباشا فى طلبه ، وهدده وعندما وقف على عناده ، أمر بضربه ، وبعد أن تلقى المعلم فلتؤس خمسمائة ضربة بالعصا وبعد أن أشرف على الوفاة ، أقسم بأنه لا يستطيع دفع سوى مائتى كيس. ظن محمد على أن الرجل كان يقول الحق ، ولكن إبراهيم باشا ، ولد محمد على ، الذى تصادف وجوده فى ذلك الوقت ، قال إنه على يقين من أن المعلم فلتؤس لديه مال أكثر من ذلك. وتلقى فلتؤس ثلاثمائة ضربة إضافية ، اعترف بعدها أن لديه المبلغ المطلوب ووعد بدفع المبلغ المطلوب ، وسمح له بالعودة إلى منزله بعد ذلك ، وبعد مضى أسبوعين ، وبعد أن تعافى من آثار الضرب وأصبح يقوى على المشى ، جرى إرسال المبعوثين إليه من قبل الباشا ـ ـ

٢٩٣

مناخ كل من مكة وجدة وأمراضهما

مناخ مكة شديد الحرارة والرطوبة وغير صحى ؛ الصخور التى تطوق وديان مكة تحجب عنها الريح وتعترض مرورها ، وبخاصة الرياح التى تهب من الشمال ، كما تعكس هذه الصخور أشعة الشمس الأمر الذى يضاعف من درجة الحرارة. تصل الحرارة إلى أقصى مدى لها فى أشهر أغسطس وسبتمبر وأكتوبر. أثناء مقامى فى مكة سادت الجو ريح خانقة استمرت خمسة أيام من شهر سبتمبر والأمطار فى مكة متقطعة ، كما هو الحال فى البلدان الاستوائية الأخرى ، إذ لا تسقط الأمطار هنا إلا على فترات تتراوح بين خمسة أيام وستة أيام ، لكنها تسقط بعد ذلك بشكل غزير وعنيف ، وزخات المطر تسقط بين الحين والآخر ، حتى فى فصل الصيف ، والمكى يقول : إن السحب التى تأتى من على ساحل البحر هى التى تغمر الأرض بمائها ، أما السحب التى تأتى من الشرق ، أو من الجبال العالية ، فهى التى تنتج عنها زخات المطر الخفيفة ، أو إن شئت فقل : الوابل الخفيف. لقد بلغنى أن المطر الغزير قد يستمر طوال أربع سنوات متتالية وهذا أمر جد نادر ، ولربما كان ذلك هو السبب الرئيسى وراء فقر البدو اللذين يعيشون فى المناطق المجاورة لمكة ، إذ غالبا ما يسفر الجفاف الشديد عن نفوق القسم الأكبر من ماشيتهم بسبب نقص المرعى.

هواء مكة جاف جدا بشكل عام. ويبدأ الندى فى التساقط اعتبارا من شهر فبراير ، بعد سقوط نوبات غزيرة من المطر. جدة على العكس من هذا تماما ، حيث

__________________

ـ وجرى استدعاء بعض العمال ، ونزل فلتؤس مع الجميع إلى مرحاض منزله ، ورفع العمال عند أسفل المرحاض ، حجرا كان يغطى ممرا طويلا فى قبو على شكل قبة ، فيه صندوقين من الحديد ، عند فتح الصندوقين ، جرى العثور على ألف كيس من السكوينات ، أخذ الباشا منها ألفا ومائتى كيس ، وترك الباقى لفلتؤس الذى توفى بعد ذلك بثلاثة أشهر ، لا بسبب الضربات التى تلقاها وإنما بسبب حزنه على النقود. لو تمكن ذلك الفلتؤس من نقل الكنز سرا ، لفعل ذلك ، ويا ليتهم لم يعينوا عليه حارسا عقب الوعد الذى قطعه على نفسه بدفع المبلغ ، كان الباشا على يقين من أن المبلغ مخبأ فى مكان ما طبقا للعرف الذى كان ساريا فى الشرق فى ذلك الوقت.

٢٩٤

يكون الجو شديد الرطوبة فيها ، حتى مع ارتفاع درجة الحرارة ، وهذا ناتج عن بخار ماء البحر والمستنقعات المتعددة الموجودة على ذلك الشاطئ المنخفض. تصل رطوبة الجو فى جدة حدا ، جعلنى أحس ، ونحن فى شهر سبتمبر ، والجو حار والسماء صافية ، أن ردائى الخارجى قد ابتل تماما ، نظرا لوقوفى مدة ساعتين فى الهواء الطلق. الندى يكون غزيرا جدا أيضا أثناء الليل ، فى شهرى سبتمبر وأكتوبر ، كان الضباب الكثيف يظهر على الشاطئ وساحل البحر ، فى المساء والصباح. أثناء شهور الصيف تهب الريح عادة فيما بين الشرق والجنوب ، ونادرا ما تنحرف غربا ، لكنها قد تنحرف شمالا فى بعض الأحيان. فى شهر سبتمبر ، تهب الرياح الشمالية وتستمر طوال فصل الشتاء ، وفى الحجاز كما هو الحال على ساحل البحر فى مصر تهب الرياح الشمالية الشرقية الأكثر رطوبة عن سائر الرياح الأخرى ، أثناء هبوب الرياح الشمالية الشرقية ، تبدو الأرصفة الداخلية فى المنازل وكأنها مغطاة بالندى.

الأمراض المنتشرة فى المدينتين تكاد تكون واحدة ، ويدخل ساحل الحجاز ضمن بلدان الشرق غير الصحية. تشيع فى المدينتين الحمى المتقطعة بكل أشكالها ، كما تنتشر فيها أيضا الدوسنتاريا ، التى غالبا ما تنتهى بتورمات فى البطن ، وغالبا ما تفضى إلى الموت. قلة قليلة من البشر هم الذين يمضى عليهم عام دون الإصابة بهذه الأمراض ، ولا يستوطن أجنبى كلا من مكة أو جدة ، دون أن يصاب فى بداية إقامته بواحد من هذه الأمراض ، وهذه الحقيقة جرى التأكد منها ، فى الجيش التركى بقيادة محمد على باشا. حمى الالتهابات بكل أنواعها تعد أشياء نادرة الحدوث فى جدة عنها فى مكة ، لكن جدة يشيع فيها نوع من حمى العفن التى قد تبدو معدية ، على حد قول السكان ، وقيل إن خمسين شخصا ماتوا متأثرين بهذه الحمى فى يوم واحد ، وفى الأعوام ٧٤٩ ، ٧٩٣ ، ٨٢٩ ، نقل أشخاص آخرون العدوى إلى المدينة ، وفى العام التالى لهذه العدوى توفى ألف شخص بفعل هذه الحمى. ومع ذلك ، لا تجد هؤلاء المؤلفين يأتون على ذكر الطاعون ، ولا يذكر الطاعنون فى السن أن الطاعون ظهر ذات مرة فى الحجاز ، ومن هنا سرى اعتقاد بين الناس مفاده ، أن المولى سبحانه وتعالى يحمى هذه

٢٩٥

المنطقة من غضبه ، لكن فى ربيع العام ١٨١٥ الميلادى ، انتشر الطاعون انتشارا واسعا وعنيفا على النحو الذى سوف أتناوله فى موضع آخر ، الأمر الذى جعل مكة وجدة تخسران سدس سكانهما.

الرمد شىء نادر الحدوث فى الحجاز. وأنا لم أر سوى حالة واحدة لشخص أبرص بين البدو ، فى بلدة الطائف. مرض الفيل والدودة الغينية أمور شائعة هنا ، وبخاصة مرض الفيل الذى شاهدت حالات كثيرة منه هنا فى جدة ومكة. يقال أيضا إن حصوة المثانة من الأمور الشائعة فى مكة ، وربما كان ذلك ناتجا عن نوعية المياه ، التى يعزو الكثيرون أمراضا كثيرة إلى رداءتها. بلغنى أن الجراحين الوحيدين الذين يعرفون كيف يجرون عملية استخراج الحصوة من المثانة هم بدو قبيلة بنى سعد ، الذين يعيشون على بعد ثلاثين ميلا من بلدة الطائف. فى زمن السلم يأتى بعض جراحى بنى سعد إلى مكة لإجراء هذه العملية التى يقولون إن أسرار عملها مقصورة على بعض عائلات قبيلة بنى سعد ، ويقال إنهم يستعملون موسى عادية وتنجح العملية بشكل عام.

تقرحات القدمين ، مرض شائع تماما فى كل من مكة وجدة ، وبخاصة تورمات عظمة الساق الأكبر ، ولكن هذا المرض يزيد بشكل أكبر فى جدة نظرا لأن رطوبة الجو تجعل علاج هذا المرض أمرا صعبا ، واقع الأمر أن أصغر خدش فى هذا المناخ الرطب ، أو أية لسعة من لسعات الحشرات يمكن إذا ما أهملت أن تتحول إلى قرحة ، وسرعان ما تتحول بعد ذلك إلى جرح مفتوح ، ومن الشائع جدا هنا أن نرى تقرحات على أرجل الناس وهم سائرين فى الشوارع ، هذه التقرحات إذا ما أهملت قد تؤدى إلى انكشاف عظمة الساق. ولما كان علاج هذه التقرحات يحتاج إلى شىء من الصبر ، والراحة قبل كل شىء فإن الطبقات الدنيا يندر أن تتنبه إلى ذلك منذ البداية ، وعندما يصبح علاج هذه التقرحات أمرا لا مفر منه ، يعجز الناس عن العثور على الجراح الجيد ، ويعقب ذلك إصابة المريض بالحمى ويموت كثير من المرضى بسبب هذا الإهمال. مبلغ علمى أن ربع سكان جدة يعانون من قرح فى أرجلهم ، ويتزايد خطر هذا المرض مع استعمال الماء المالح فى الوضوء.

٢٩٦

أثناء مقامى فى مكة لم أنعم أبدا بالصحة الجيدة ، فقد داهمتنى الحمى مرتين ، وبعد رحيل قافلة الحج السورية أصابتنى نوبة إسهال حاد ، نجوت منها عندما شرعت فى السفر إلى المدينة المنورة. فى تلك الأيام وعندما كنت خاليا من المرض ، كنت أستشعر الكسل والتراخى ، والاكتئاب ، وفقدان الشهية. طوال أيام الحج الخمسة ، كنت بصحة جيدة ، على الرغم من تخوفى من النتائج المترتبة على خلع ملابس الإحرام. تضاءلت قوتى ، وتطلبت منى جهدا كبيرا ، كلما كنت أود الخروج من غرفتى.

عزوت مرضى إلى عدم صلاحية المياه ، وقد تعلمت من تجاربى السابقة أن جسمى شديد الحساسية لنقص الماء الخفيف أو غيابه ، مادة الحياة الأولى فى بلدان الشرق. الماء المالح فى الصحراء قد يحظى برضا وتحية الرجّالة. وعلى الرغم من ارتفاع درجة حرارتهم بسبب الرحلة ، وعلى الرغم من عملهم تحت ضغوط العمل ومعوقاته الناجمة عن نوعية الطعام الذى يتناولونه على الطريق ، فإن الماء المالح يعد ملينا لطيفا ، وبالتالى فهو يعمل عمل الجرعات الطبية ، لكن الوضع على العكس من ذلك إذا ما استعمل هذا الماء المالح أثناء الإقامة المستقرة لفترة طويلة ، مما يجعل المعدة تتعود على هذا النوع من الماء. لو كنت فى صحة أفضل ، وروح معنوية أفضل ، فلربما قمت بزيارة بعض الوديان القريبة من الجنوب ، أو أمضيت أشهرا معدودة بين البدو الحجازيين ، لكن النتائج التى تترتب على اعتلال الصحة ، تشكل نوعا من القلق والإزعاج للرحال ويروح يرافقه ، هو والمخاوف التى تستحوذ على ذهنه ، والأخطار التى قد لا يدركها الرحال فى ظل مثل هذه الظروف.

أسعار المؤن والتموينات فى مكة كانت على النحو التالى فى شهر ديسمبر

من العام ١٨١٤ :

قرش

بارة

رطل لحم بقرى

٢

١٠

رطل لحم الضأن

٢

٠

رطل لحم جملى

١

٠

٢٩٧

رطل من الزبد

٥

٠

رطل من الجبن الطازج غير المملح

٣

٠

دجاجة

٦

٠

بيضة واحدة

٠

٨

رطل من الحليب

٢

٠

رطل من الخضراوات : الكراث ، السبانج ، اللفت

الفجل ، الكوسة ، الباذنجان ، البصل الأخضر ... إلخ

٠

٣٠

رغيف صغير مستدير من الخبز

٠

٢٠

رطل من البسكويت الجاف

٠

٣٢

رطل من زبيب الطائف

٠

٢٠

رطل من التمر

١

٢٥

رطل من السكر (هندى)

٠

١٠

رمانة

٠

١٥

برتقالة

٠

١٥

ليمونة فى حجم اللوزة (من نوعية الليمون المصرى)

١٠

رطل من التبغ السورى الجيد

رطل من التبغ العادى

٦

٠٠

رطل من التمباك ، أو تبغ للشيشة الفارسية

١

٣٠

كلية قمح

٣

٠

١ دو من الدقيق

١ دو من الأرز الهندى

٣

٠

١ دو من العدس المصرى

٣

٢٠

١ دو من الجراد المجفف

٣

٠

قربة ماء

٣

٣٠

حطب لطبخ طبقين

٢

٠٠

٢٩٨

عامل لمدة يوم

٣

٠

عامل للذهاب إلى وسط البلد

١

٠

مسافة نصف ميل

أجور عامة الخدم (*) ، إضافة

٣٠

٠

إلى الملبس والطعام لمدة شهر

أجور الحرفيين ، مثل الحدادين ، والنجارين ، باليوم ، إضافة إلى الطعام

٥

٠

ملاحظة مهمة : كان الدولار الإسبانى يساوى فى ذلك الوقت ما يتردد بين ثمانية قروش واثنى عشر قرشا ، طوال إقامتى فى مكة ، كما كان صرف الدولار يتغير من يوم لآخر. كان سعر صرف القرش يساوى أربعين بارة أو ديوانى حسبما يسمى أهل الحجاز البارة. الرطل المكى فيه مائة وأربعة وأربعون درهما. والإردب المصرى يساوى حوالى خمسة عشر بوشل إنجليزى وهو يقسم إلى خمسين كيلة ، والكيلة هنا مكيال من المكاييل. فى المدينة المنورة يقسم الإردب المصرى إلى ست وتسعين كيلة. ورطل جدة يساوى ضعف رطل مكة.

__________________

(*) المكيون ليس لديهم سوى عبيد ، لكن كثيرا من المصريين على استعداد للعمل فى خدمة الحجاج. أشهر الخدم من الأسر المكية هم الأبناء صغار السن أو بعض الأقارب.

٢٩٩
٣٠٠