ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-387-1
الصفحات: ٣٠٥
الجزء ١ الجزء ٢

شعب على ، الذى يجاور شعب المولد ، فى هذا الشعب نجد مسقط رأس (سيدنا) على. هذان الحيان أو الشارعان يطلق عليهما شعب (صنجر) ، وهما من بين أهم الأجزاء القديمة فى المدينة ، التى كان القرشيون يعيشون فيها من قبل ، هذان المكانان لا يسكنهما بصفة أساسية سوى الأشراف ، وليس فيهما دكاكين. ومنازل هذين الحيين واسعة ، وجيدة التهوية.

تنتهى المنازل السكنية خلف سوق الماشية فى الغزة ، ونجد أن الدكاكين المنخفضة هى والحظائر تحتل جانبى الشارع. هذا الجزء يسميه الناس سوق الحدادين ، فى هذه المنطقة يفتح السباكون والحدادون الأتراك دكاكينهم ، بعد ذلك بمسافة قصيرة ، نجد الشارع يتصل بما يسميه الناس هنا المعاله ، التى هى نفسها استمرار المدعة ، ويشكل الشارع هنا حاجزا بين الأجزاء الشرقية والأجزاء الغربية من مكة ، ممتدا بذلك فى اتجاه الشمال بطول المطلع الهين الخفيف للوادى. ومدعة هى والمعالة (التى معناها المكان المرتفع ، وذلك على النقيض من المسفلة ، أو الحى المنخفض) ، عامرتان بالدكاكين على الجانبين. هنا نشاهد البقالين ، وبائعى العقاقير ، وتجار الغلال ، وبائعى التبغ ، والخردجى (*) ، والغرازين (**) ، وعدد كبير من تجار الجملة فى الملابس المستعملة. يوجد فى المدعة مخزن كبير للقمح ، كان مدرسة عامة من قبل ، وهناك مخزن آخر فى المعالة. من المدعة والمعالة تبدأ قوافل المؤن والتموينات الخاصة بالجيش التركى فى الطائف ، وتنعقد المزادات العامة فى هذا المكان صباح كل يوم. يوجد فى نهاية المعالة من ناحية الشمال سوق يجلب البدو إليه من سائر الأنحاء أغنامهم للبيع. فى هذا المكان أيضا توجد دكاكين القصابين التى تباع فيها لحوم

__________________

(*) الخردجى : هو بائع السلع الصغيرة كالأرز مثلا. (المترجم)

(**) الغراز : هو الإسكافى أو مصلح الأحذية. (المترجم).

١٦١

البقر ، والضأن ، والإبل ، وفى الشارع نفسه يوجد مصلى صغير ، أو بالأحرى مسجد (*) ، يؤدى الناس فيه الصلوات اليومية ، نظرا لأن المساحة من هنا إلى المسجد الحرام تعد طويلة جدا ، لكن صلاة الجمعة تؤدى دائما فى المسجد الحرام. فى أواخر هذا الطرف الشمالى من المعالة ، وبالتحديد فى منطقة التقائها مع سوق Souk الحدادين ، تنتهى المنازل المبنية من الحجر ، ويتلوها صف واحد من الدكاكين المنخفضة والطاولات المنخفضة على كل جانب من جانبى الشارع ، هذه الدكاكين والطاولات المنخفضة تبيع للبدو الشرقيين المؤن والتموينات ، هؤلاء البدو يأتون إلى مكة طلبا لشراء الحبوب. هنا أيضا فى هذا المكان مقهى يقولون له قهوة الحشاشين ، التى تباع فيها مستحضرات الحشيش ، والبنج ، التى يجرى خلطها وتدخينها مع التبغ. هذا المقهى يرتاده رعاع المدينة ووضعائها على اختلاف أنواعهم ، وقد فرض الشريف غالب ضريبة ثقيلة على بيع الحشيش ، وذلك من باب إلغاء عمل يعد انتهاكا للشرع.

يعرف الناس «المعالة» أيضا باسم حارة النقا ، وهذا الاسم مشتق من الاسم القديم وادى النقا ، الذى أطلق على هذا الجزء من وادى مكة.

يبنى التجار الهنود الأثرياء منازلهم فى شوارع المدعة الفرعية ، وهم يستقبلون زبائنهم فى هذا المكان ، من باب التباهى بافتتاحهم الدكاكين عامة أو المخازن. من بين سكان هذا الشارع أو الحى ، هناك رجل هندى يدعى الشمسى ، وهو من سورات ، ويعد أغنى أغنياء الحجاز ، ومع ذلك كانت بضاعة هذا الرجل وشركاته التجارية أقل بكثير من بضاعة الجيلانى وشركاته. هذا الرجل ، على الرغم من امتلاكه لمئات الآلاف من الجنيهات الإنجليزية ، راح يساومنى أنا شخصيا ، قرابة الساعة ونصف الساعة حول سعر شال موسلينى لا يساوى أكثر من أربعة دولارات!

__________________

(*) أعتقد أن هذا هو المسجد الذى ورد ذكره عند المؤرخين على أنه مسجد ـ رايت. يتكلم الأزرقى عن أربعة مساجد أو خمسة أخرى فى مكة فى ذلك الزمان.

١٦٢

فى المدعة نجد سدا عاليا وعريضا جرى بناؤه عبر الوادى ، وله بوابة من الحديد ، ويقال إن الذى بنى هذا السد هو (سيدنا) عمر بن الخطاب لمقاومة السيول التى تناسب من هذا الاتجاه صوب المسجد الحرام أثناء سقوط الأمطار الغزيرة. وقد بقيت بعض أنقاض هذا السد إلى القرن الرابع عشر. الحجاج عندما يصلون إلى مكة يتمتعون بمنظر الكعبة من فوق قمة ذلك السد ، كان الحجاج يدعون من فوق قمة ذلك السد بدعاء معين ، ومن هذا العمل أخذ الشارع اسمه ، ذلك أن الاسم «مدعة» معناه «مكان الدعاء».

فيما بين مدعة ومعالة ، من جانب ، والغزة والقشاشية من جانب آخر توجد أحياء أو شوارع متعددة تضم بنايات سيئة ، ولكن الشوارع شديدة الضيق وشديدة القذارة فى هذه المنطقة ، التى لا يجرى إزالة النفايات منها مطلقا ، ولا يدخلها الهواء الطلق أبدا. هنا وجدنا الزقاق الصينى ، أو إن شئت فقل : «الشارع الصينى» ، الذى يفتح فيه صناع الذهب والفضة دكاكينهم. أعمالهم شديدة البدائية وخالية من الذوق ، لكن منتجاتهم تستخدم على نطاق كبير ، وبخاصة فى عمل الخواتم الفضية التى يلبسها الرجال والنساء ، وتلك زينات يشيع استعمالها بين العرب. إلى اليمين من هذا الحى يوجد ما يسمى بزقاق الحجر (ويسمونه أيضا زقاق المرفق) ، أو إن شئت فقل : «شارع الحجر» ، وهو يضم مسقط رأس (ستنا) فاطمة ـ رضى الله عنها ـ ابنة (نبينا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومسقط رأس أبى بكر رضى الله عنه أحد الخلفاء. هذا الشارع يشتق اسمه من كلمة «حجر» الذى اعتاد أن يحييه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحية الإسلام «السلام عليك» عند ما كان يمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا المكان عائدا من الكعبة. هذا الحجر ظل صامتا منذ أيام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكنه مازال موجودا إلى يومنا هذا ، وهو يبرز قليلا من جدار المنزل ، الذى جرى طلاؤه باللون الأبيض من باب التكريم.

نتحول الآن ناحية المعالة ، وعلى بعد مسافة قليلة ، عند نقطة التقاء المعالة بالغزة.

هنا تنتهى الدكاكين ويبدأ سهل واسع رملى ، لا يوجد فيه سوى بعض المقاهى المتباعدة عن بعضها البعض يمكن القول إن هذه هى نهاية المدينة. أما ذلك الذى يقع على بعد

١٦٣

مسافة كبيرة فى اتجاه الشمال ، فلا بد من إدخاله ضمن الضواحى. وإذا ما واصلنا السير فى السهل ، نشاهد بركا كبيرة على جانبى الطريق ، هذه البرك عبارة عن خزانات أو مستودعات للماء المطلوب لإعاشة الحجاج ، وبالذات حجاج القوافل ، هذه الخزانات يمكن تزويدها بالماء عن طريق المجرى المائى ، أو إن شئت فقل : القناة التى تمر من هذا الطريق متجهة إلى المدينة. من بين هذه البرك ، هناك بركة خاصة بالقافلة المصرية ، وبركة خاصة بالقافلة السورية ، وقد جرى بناء هذه البرك فى العام ٨٢١ الهجرى ، وهى كلها مبطنة بالحجر ، وتجرى صيانتها بصورة مستمرة. هناك آثار مماثلة من آثار السلاطين الأتراك العظام ، فى كل محطة من محطات القوافل فى طريق الحج ، بدءا من المدينة المنورة ووصولا إلى كل من دمشق وحلب. بعض هذه الآثار التى شاهدتها فى جنوبى دمشق ، كانت تبدو متينة من الناحية الإنشائية ، وذلك على العكس من برك مكة. البركة المخصصة للحجاج المصريين تصل مساحتها إلى ما يقرب من مائة وستين قدما مربعا ، وعمقها يتردد بين ثلاثين قدما وخمسة وثلاثين قدما ، هذه البركة عندما يتردد ارتفاع الماء فيها بين ثمانية أقدام وعشرة أقدام تصبح كافية لاستهلاك القافلة. هذه البرك والمستودعات يستحيل أن تمتلئ عن آخرها بالماء. سبب ذلك أن المجرى المائى يزود البركة بالماء بين الحين والآخر ، يزاد على ذلك أن هناك بعض الأفدنة بجوار منطقة البركة ، ويجرى ريها من بئر من الآبار ، وهذه الأرض تنتج الخضراوات. بالقرب من البركة أيضا ، يوجد مسجد صغير يسمونه جامع السليمانية ، وهو آيل للسقوط والتحلل ، ولا يستخدم فى أداء الصلاة ، ولكنه يستخدم حاليا مسكنا لقلة قليلة من الجنود الأتراك. هذا الجامع يتبع الحى الذى يسمونه السليمانية ، الذى يمتد من لالا القريب من الجبل الغربى ، إلى أن يصل إلى الجبانات الموجودة خلف البرك. حى السليمانية هذا لا يحتوى على منازل جيدة ، وقد بلغنى أن هذا الحى يشتق اسمه من كلمة «السليمانية» التى يطلقها المسلمون على أهل قندهار ، وأفغانستان ، وكشمير ، وبلاد أخرى متعددة على هذا الجانب من شبه القارة الهندية. يقال إن بعض أحفاد هؤلاء الناس ، الذين كانوا أول من استوطنوا هذا الجزء من مكة ، لا يزالون يسكنون هذه المنطقة مختلطين بكثير من الهنود. ومع ذلك ،

١٦٤

يكشف تاريخ قطب الدين أن السلطان سليمان أنشأ فى العام ٩٨٠ الهجرى مسجدا فى هذا الحى ، والمفترض أن يأخذ المسجد اسمه من اسم منشئه أو مؤسسه. سكان السليمانية مسلمون من أتباع المذهب الحنفى أول المذاهب الأربعة ، وليسوا أتباعا لعلى رضى الله عنه مثل الفرس ، الذين يأتى الكثيرون منهم لأداء فريضة الحج فى مكة ، إما عن طريق البحر قادمين من بومباى أو باسورة ، أو عن طريق البر متنقلين على شكل دراويش ، على طول المقاطعات الفارسية الجنوبية قاصدين بغداد ، ثم يعبرون كلا من بلاد الرافدين وسوريا وصولا إلى مصر. وأنا شاهدت ورأيت الكثيرين الذين جاءوا من هذا الطريق ، وقد رأيت فيهم أناسا ذوى شخصيات قوية مفعمة بالحيوية عن بقية الهنود.

مقابل حى السليمانية وعلى الجبل الشرقى ، وبجوار كل من الغزة وشعب على ، يوجد حى شبه مهدم ، يسمونه شعب عامر ، يسكنه الباعة الجائلون من البدو من كل من ثقيف وقريش ، كما تسكنه أيضا بعض الأسر الشريفية الفقيرة. توجد فى هذا الحى أو الشارع مجموعة من الطواحين التى تعمل باستعمال الخيول ، لحساب الوالى التركى. المدينة ، على حد تقديرى ، ليس فيها طواحين أخرى أكبر من هذه الطواحين. جرت العادة أن يستعمل الناس فيها الطواحين (الرحى) اليدوية ، التى عادة ما يقوم بتشغيلها عبيد الأسرة ، أو قد تقوم النساء فى الأسر الفقيرة بتشغيلها هنا أيضا ، وليس فى أى مكان آخر من مكة. توجد الأماكن التى تجرى فيها صناعة الأقمشة الكتانية والقطنية المصبوغة باللون الأزرق واللون الأصفر ، أما الأقمشة الصوفية فلا تجرى صباغتها فى هذا المكان.

ولما كانت أعداد من النساء الشعبيات يسكن هنا فى شعب عامر ، فإن هذا الحى لا يندرج ضمن الأحياء المحترمة فى مكة. فرض الشريف غالب ضريبة منتظمة على تلك النساء ، كما طالب كل واحدة منهن بدفع مبالغ إضافية ، لأنهن فى موسم الحج كن يتبعن الحجاج إلى جبل عرفات. هناك ضريبة مماثلة مفروضة فى القاهرة ، بل وعلى المدن والبلدان الإقليمية كلها فى مصر. ومكة تعج براغبى الانقياد نحو الجنس ، والمعروف أن ذلك يتزايد فى موسم الحج عن طريق المغامرات اللاتى يأتين من بلاد

١٦٥

أجنبية. عضوات هذه الإخوانيات أكثر زينة من النساء الشعبيات فى مصر ، ولا تظهرن فى الشارع بلا حجاب ، من بين عضوات تلك الإخوانيات أعداد كبيرة من الحبشيات الإماء ، اللاتى يشارك أسيادهن السابقون فى الأرباح التى تحققها هذه الإماء من هذه المهنة ، بعض هذه العضوات الإماء مملوكات لبعض المكيين.

شعراء الجزيرة العربية يشيرون فى كثير من الأحيان إلى شعب عامر ، وهذا هو ابن الفارض يقول :

هل شعب عامر ، ما يزال مأهولا منذ أن غادرناه؟

وهل ما يزال إلى يومنا هذا مكانا للقاء العشاق؟ (*)

إذا ما تحركنا من حى البرك شمالا عبر السهل ، نصل إلى منزل منعزل كبير الحجم والإنشاء ، مملوك للشريف وكان يسكنه بعض أهل الحظوة عند الشريف غالب ذات يوم. مقابل هذا المنزل يوجد طريق معبد يؤدى إلى التلال الغربية ، التى فيها فتحة تبدو كأنها اصطناعية. الأزرقى يسمى هذا الجزء باسم جبل الحزنة ، ويقول إن الطريق جرى شقه خلال الصخور بواسطة يحيى بن خلد بعد برمك ، على الجانب الآخر من الفتحة ، ينزل الطريق إلى سهل الشيخ محمود ، الذى سمى بذلك الاسم نظرا لوجود قبر أحد الأولياء ، الذى يخيم حوله الحجاج السوريون. وقد أقام الشريف غالب على التل ، أو بالأحرى على جانبى الطريق الضيق الذى جرى شقه على شكل درج السلم ، (سواء أكان طبيعيا أم اصطناعيا ، هذا أمر لا يمكن البت فيه). أنشأ برجين من أبراج المراقبة ، شبيهين بتلك الأبراج والتى سبق أن أتينا على وصفها. على جانبى هذا الطريق المعبد ، وفى وادى مكة ، توجد المدافن والجبانات التى فيها مقابر السواد الأعظم من سكان مدينة مكة.

__________________

(*) راجع تعليق السير وليام جونز ، على قصيدة من قصائد ابن الفارض العامرة بكثير من الإشارات إلى مكة.

١٦٦

بعد مسافة قصيرة من منزل الشريف سالف الذكر ، وعند نهاية حى المعالة ، نجد قبر أبى طالب ، أحد أعمام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووالد على رضى الله عنه. قام الوهابيون بدك المبنى الذى كان يغطى القبر وحوّلوه إلى كومة من الركام ، ولم يفكر محمد على باشا فى إعادة بناء هذا المبنى. أبو طالب هو الراعى الأكبر للمدينة ، وهناك أشخاص كثيرون فى مكة ، يخشون الحنث فى اليمين الذى أقسموه أمام الله ولا يودون إقحام اسم أبى طالب فى تأكيد حلف كاذب أو زائف. والقسم الذى من قبيل : «أقسم بالمسجد الحرام» ، «أقسم بالكعبة» ، هى أيمان يلجأ إليها المكيون بصورة دائمة لتوليد انطباعات معينة لدى الغرباء ، لكن القسم بأبى طالب يعد قسما خطيرا ، ويندر سماعه فى المناسبات التى من هذا القبيل. مقابل هذا القبر المهدم يوجد سبيل عام ، عبارة عن غدير مبنى من الحجر طوله حوالى خمسين قدما أو ستين ، يجرى يوميا ملؤه من المجرى المائى ، وبالقرب من هذا السبيل تنمو مجموعة صغيرة من الأشجار.

أنا لم أشاهد مبانى خلف السبيل ، إلى أن وصلت إلى قصر كبير من قصور الشريف ، تحيط به أسوار عالية تتخللها أبراج للمراقبة ، ويشتمل القصر فى داخل المسور على فناء فسيح. هذا القصر كانت له حامية كبيرة فى زمن الشريف غالب ، وأثناء حروبه مع الوهابيين كان يقيم فى هذا القصر ، إذ بوسعه القيام من هذا المكان بهجمات سرية دون أن تعلم المدينة أى شىء عن ذلك. هذا المبنى يستخدم حاليا ثكنة للجنود الأتراك.

شمالى هذا القصر يقع حى أو ضاحية المعابدة ، التى تتكون فى بعض أجزائها من منازل منخفضة سيئة البناء مبنية من الحجر ، والجزء الآخر عبارة عن أكواخ أنشأها أصحابها من خشب أشجار الأراك ، هذا الحى كله لا يسكنه سوى البدو ، الذين تحولوا إلى سكان مستقرين فى هذا المكان ، وهم الذين يقومون بخدمات النقل ، وبخاصة القمح والتمر والشاى ، فيما بين مكة والقبائل المحلية. لقد رأيت بين هؤلاء البدو عربا من قبل قريش ، وثقيف ، وهذيل ، وعتيبة ، وقد قيل إن أقرارا من القبائل الكبيرة فى الصحراء ، ومن نجد يوجدون بين الحين والآخر فى هذا المكان. هؤلاء البدو

١٦٧

يعيشون كما سبق أن لاحظت عند ما كنت أتحدث عن أولئك الذين يحتلون جزءا آخر من مكة ، معيشتهم كما لو كانوا فى الصحراء. منازل هؤلاء البدو ليس فيها من الأثاث سوى ذلك الذى يمكن أن نشاهده داخل خيام الأثرياء من البدو. هؤلاء البدو ، نظرا لوجودهم على بعد مسافة كبيرة من المسجد الحرام ، قاموا بتسوير قطعة أرض مربعة الشكل بأسوار منخفضة ، ليؤدوا صلاتهم فيها على الرمل كما هى طبيعة أهل الصحراء. معروف أن البدو يتظاهرون بالمداومة على الصلاة (مع أن ذلك أمر نادر الحدوث بينهم).

توصل والى مكة التركى إلى عدم صلاحية وضع أية قوات أو جنود من جنوده فى هذا الجزء من المدينة ، والحى مدين للوالى بهذه المسألة. والمعابدة ، بحكم موقعها واهتمامات ساكنيها ، المنفصلين انفصالا كبيرا عن المدينة ، إلى حد أن أية امرأة من نساء هذا الحى لم تقم بزيارة المدينة على امتداد السنوات الثلاث الأخيرة ، وذلك من واقع كلام واحدة من النساء ، وذلك على الرغم من أن نساء البدو يتجولن بحرية فى سائر أنحاء الوادى.

وادى مكة له مخرجان : مخرج على الجانب الشمالى وهو عبارة عن ممر ضيق ، يحميه برجان من أبراج المراقبة ، هذا المخرج يؤدى إلى وادى فاطمة. فى الناحية الشرقية ينتهى وادى المعابدة بحديقة ومنزل من منازل الشريف غالب ، الذى يمضى فيه ساعات الظهيرة. الحديقة مسورة بأسوار عالية ، وأبراج عالية ، وتشكل موقعا حصينا أمام المدينة. هذه الحديقة تحتوى على نخيل وأشجار النبق ، والقليل من أشجار الفاكهة التى تعطى خضرة وفيرة وظلا ظليلا. فى زمن الشريف غالب ، كان المدخل مفتوحا دوما أمام أهل مكة ، المنزل مبنى بطريقة سيئة ، لقد تمكن الوهابيون من الاستيلاء على هذا المنزل عقب حرب خاضوها ضد قوات الشريف غالب ، الذين كانوا يتمركزون فى القصر المجاور أو إن شئت فقل : الثكنة التى فى الناحية اليمنى ، والذين بثوا لغما وفجروه لنسف جزء من الأسوار ، الأمر الذى اضطر الوهابيين وأجبرهم على التراجع. قام الشريف غالب بعد ذلك بإصلاح التلف. بعض الجنود الأتراك يعيشون حاليا فى

١٦٨

ذلك المنزل ، بعد أن خربوا نصفه بأيديهم. فى جانب من جوانب الحديقة يوجد سبيل من أسبلة الماء العذب ، هذا السبيل لم يعد يستعمل بعد ، وعليه قبة جميلة من فوقه. على الجانب الآخر من الحديقة هناك بئر كبيرة مالحة الماء ، وتنتشر فى المعابدة آبار كثيرة من هذا القبيل.

الطريق من مكة والمتجه شرقا ناحية عرفات والطائف يمر على هذا المنزل ، على بعد مسافة قصيرة خلف هذا المنزل يبدأ الوادى فى الاتساع ، وفى هذا المكان نجد الحج المصرى يقيم مخيمه ، وجزء من هذا المخيم يمتد عبر السهل فى اتجاه البركة. فى الماضى ، درجت قافلة الحج السورية على التخييم فى هذا المكان. فيما بين المنزل والحديقة والقصر ، أو بالأحرى الثكنة العسكرية سالفة الذكر نجد أن مجرى مكة المائى يظهر فوق سطح الأرض إلى مسافة مائة خطوة ، فى قناة من الحجر ، مبطنة من الداخل ، وترتفع حوالى أربعة أقدام فوق السطح ، وهذا هو المكان الوحيد فى مكة الذى يظهر فيه مجرى مكة المائى فوق سطح الأرض.

بعد تجاوزنا لهذه الأطراف الخارجية لمدينة مكة ، نجد الصحراء أمامنا ، الشوارع المؤدية إلى المدينة ليس فيها حدائق أو أشجار ، أو استراحات ، ومدينة مكة محاطة من جميع الجوانب بوديان رملية قاحلة وجرداء ، وتلال جرداء أيضا. الغريب الذى يوجد على الطريق الكبير المؤدى إلى الطائف ، وعند منعطف التل ، القريب جدا من استراحة الشريف ، سرعان ما يحسب نفسه بعيدا عن المجتمع البشرى كما لو كان فى وسط الصحراء النوبية ، لكن هذا كله يمكن أن يعزى إلى فتور السكان وعدم مبالاتهم ، وعدم اهتمامهم أيضا بالمسائل الزراعية. انتشار العديد من الآبار فى سائر أنحاء المدينة يثبت أن الماء يمكن جلبه بسهولة من أعماق تصل إلى ثلاثين قدما تحت سطح الأرض.

فى الجزيرة العربية ، وحيثما توفر الماء لرى الأرض نجد الرمال تتحول إلى حقول منتجة ، هذا يعنى أن الجهد الذى يمكن أن يبذل خلال سنوات قلائل يمكن أن يحول مكة والمناطق المحيطة بها إلى مكان شهير بالحدائق والمزارع ، وذلك على العكس من

١٦٩

الجدب والقحولة التى هى عليها الآن. الأزرقى المؤرخ يتحدث عن حدائق فى هذا الوادى ، كما يصف الرجل عيونا مائية عدة ، وآبارا لم يعد لها وجود ، وربما تكون السيول هى التى ردمت تلك الآبار والعيون. الفاسى هو الآخر يؤكد أن المدينة فى أيامه كانت تحتوى على ما لا يقل عن ثمانية وخمسين بئرا. لكن فى المراحل المبكرة من تاريخ الجزيرة العربية ، نجد أن هذا المكان كان قاحلا تماما ، والقرآن يؤكد هذا الوصف عند ما يقول : «واد غير ذى زرع» يقول الأزرقى أيضا إنه قبل إنشاء المنازل هنا بواسطة القوصاى ، كان الوادى عامرا بأشجار السنط ومختلف الأشجار الشوكية.

لا شىء أشق وأصعب من مسألة إحصاء سكان مدينة من مدن الشرق إحصاء دقيقا ، نظرا لأن هذه المدن لا تملك سجلات ، هذا فى الوقت الذى لا يمكن فيه التأكد من عدد المنازل. الحكم بالمظهر ، وعن طريق المقارنة مع المدن والبلدان الأوروبية ، التى تعرف فيها أعداد السكان معرفة دقيقة ، قد يكون من باب الخيال. المنازل الخاصة فى الشرق (مع استثناء الحجاز من هذه القاعدة) كلها تتكون من طابق واحد ، ومن ثم فهى تشتمل على عدد قليل من الساكنين ، وذلك على العكس من المساكن الأوروبية. من ناحية أخرى ، نجد أن شوارع المدن الشرقية ضيقة جدا ، وليس فيها ميادين أو أسواق كبيرة ، إضافة إلى أن ضواحى هذه المدن تعد أماكن شديدة البؤس ومع ذلك فيها من السكان أعداد أكبر من المدن نفسها ، وبخاصة الشوارع الرئيسية والمفضلة. والرحالة عندما يمرون مرورا سريعا عبر هذه المدن ، قد ينخدعوا ، لأنهم لا يرون أو يشاهدون سوى الأسواق وبعض الشوارع التى يتجمع فيها العدد الأكبر من السكان الذكور أثناء النهار. من هنا يتصادف أن تعلن السلطات الحديثة المحترمة أن عدد سكان حلب يقدر بحوالى مائتين وخمسين ألف نسمة ، وأن عدد سكان دمشق ، يقدر بحوالى أربعمائة ألف نسمة ، وأن سكان القاهرة يقدرون بحوالى ثلاثمائة ألف نسمة. وأنا أقدر سكان المدن السورية الثلاث على النحو التالى : دمشق ، مائتين وخمسين ألف نسمة ، حماه (التى يجب أن أتحدث عنها بحرص بالغ) من ستين ألف نسمة إلى مائة ألف نسمة ، وحلب ، الآخذة فى التدهور والتحلل بصورة يومية ، أقدر عدد سكانها بما يتردد بين

١٧٠

ثمانين ألف نسمة وتسعين ألف نسمة. وأقدر سكان القاهرة بما لا يزيد على مائتى ألف نسمة. أما مكة التى شاهدتها قبل الحج وبعده ، وأعرفها معرفة جيدة خلافا لسائر مدن الشرق كلها ، فإن نتائج أبحاثى وتدقيقى تجعلنى أقدر عدد سكانها بما يتردد بين خمسة وعشرين ألف نسمة وثلاثين ألف نسمة للسكان المقيمين فى كل أحياء المدينة وضواحيها ، هذا بالإضافة إلى ما يتراوح بين ثلاثة آلاف حبشى وعبد أسود إلى أربعة آلاف ، ومساكن مكة كافية لاستيعاب ضعف هذا العدد ثلاث مرات. فى زمن السلطان سليم الأول (وذلك نقلا عن قطب الدين فى العام ٩٢٣ الهجرى) جرى عمل إحصاء للسكان فى مكة ، وذلك قبل توزيع منحة من القمح عليهم ، ووجدوا أن عدد السكان حوالى اثنى عشر ألف نسمة ، رجالا ، ونساء ، وأطفالا. قطب الدين يوضح أيضا أن عدد السكان فى الأزمان المبكرة كان أكبر من ذلك بكثير ، والسبب فى ذلك أن أبو ظاهر ، زعيم القرامطة (مذهب مهرطق من المذاهب الإسلامية) عندما هاجم مكة وسلبها فى العام ٣١٤ الهجرى جرى قتل ثلاثين ألفا من سكان المدينة على أيدى جنوده المتوحشين الطغاة.

وصف بيت الله فى مكة

يقع المسجد الحرام فى ذلك الجزء من الوادى الذى يتسع على نحو أكبر من سائر أنحاء الوادى الداخلية فى مدينة مكة ، هذا المسجد الحرام يسميه الناس أيضا بيت الله أو الحرم ، الذى هو مبنى شهير فقط بسبب الكعبة الموجودة داخله ، مع أن هناك مساجد أخرى متعددة فى أماكن أخرى تتساوى مع بيت الله فقط من ناحية الحجم ، وتفوقه من حيث الجمال.

تقع الكعبة فى ميدان بيضاوى الشكل ، طوله حوالى مائتين وخمسين خطوة وعرضه حوالى مائتى خطوة ، وأضلاعه ليس فيه ضلع واحد مستقيم ، على الرغم من أن الموقع يبدو للوهلة الأولى وكأنه شكل منتظم. هذا الميدان المكشوف محاط من الجانب الشرقى ببهو من الأعمدة : الأعمدة الحاملة فيها تقف على شكل صف من مجموعات رباعية ، هذا الصف من الأعمدة الحاملة مكون على الجانب الآخر من مجموعات ثلاثية ،

١٧١

وترتبط تلك الأعمدة الحاملة ببعضها البعض عن طريق عقود بارزة ، يحمل كل أربعة منها قبة صغيرة ، مكسوة ومدهونة باللون الأبيض من الخارج. هذه القباب ، فى رأى قطب الدين ، يصل عددها إلى مائة واثنين وخمسين قبة. على امتداد بهو الأعمدة ، من الجوانب الأربعة تتدلى المصابيح من العقود. بعض هذه المصابيح يضاء يوميا أثناء الليل ، أما المصابيح كلها فلا تضاء إلا فى ليالى رمضان. الأعمدة الحاملة يزيد ارتفاع الواحد فيها على عشرين قدما ، يتراوح قطر الواحد منها بين قدم ونصف القدم ، وقدم وثلاثة أرباع القدم ، لكن مسألة الانتظام بين هذه الأعمدة لم تؤخذ تماما بعين الاعتبار. بعض هذه الأعمدة من الرخام الأبيض ، أو الجرانيت أو من أحجار أخرى ، لكن السواد الأعظم من هذه الاعمدة مصنوع من الأحجار المعتادة التى فى جبال مكة. يقول الفاسى إن عدد هذه الأعمدة يقدر بخمسمائة وتسعة وثمانين عمودا ، ويقول : إن كل هذه الأعمدة من الرخام فيما عدا مائة وستة وعشرين عمودا ، هى المصنوعة من الحجر الشائع فى مكة ، وثلاثة أعمدة فقط عبارة عن تركيب. يقول قطب الدين إن عدد الأعمدة هو خمسمائة وخمسة وخمسين عمودا ، منها على حد قوله ، ثلاثمائة وأحد عشر عمودا من الرخام ، وبقية الأعمدة من الحجر الذى يجرى جلبه من الجبال المجاورة لجدة ، لكن أيا من هؤلاء المؤلفين لم يمتد به العمر ليرى الإصلاحات التى طرأت على المسجد ، بعد الدمار الذى أصابه بسبب سيل من السيول الجارفة فى العام الميلادى ١٦٢٦ ، فيما بين كل ثلاثة أعمدة أو أربعة يوجد عمود مثمن (ذو ثمان زوايا) يصل سمكه إلى حوالى أربعة أقدام. وعلى الجانب الشرقى يوجد عمودان صغيران من الجرانيت الذى يميل لونه إلى الاحمرار ، على شكل قطعة واحدة ، وعمود آخر فيه قراميد من الحجر الأبيض. وعلى الجانب الأيسر يوجد عمود واحد من الجرانيت الأحمر وعمود آخر من حجر فيه بعض الحبيبات الحمراء ، هذه الأعمدة ربما تكون الأعمدة التى يقول قطب الدين عنها ، إنها جرى جلبها من مصر وبالذات من منطقة أخميم ، عندما قام الرئيس المهدى بتوسيع الحرم فى العام ١٦٣ الهجرى. من بين الأربعمائة وخمسين عمودا ، والخمسمائة عمود ، التى تشكل المسور بكامله ، لم أجد عرفين متماثلين من أعراف هذه الأعمدة أو قاعدتين متماثلتين من قواعد هذه الأعمدة : أعراف ، أو إن شئت

١٧٢

فقل : رءوس الأعمدة كلها من الطراز الإسلامى الجاف ، بعض هذه الأعمدة التى خدمت واستعملت فى مبانى سابقة ، تسبب جهل العمال فى تركيب هذه الأعمدة مقلوبة رأسا على عقب. لاحظت حوالى سته قواعد رخامية جرى تركيبها بمصنعية يونانية جيدة. قلة قليلة من الأعمدة هى المزينة بنقوش عربية أو كوفية ، قرأت بها التاريخ الموافق للعام ٨٦٣ الهجرى ، والعام ٧٦٢ الهجرى أيضا. وهذا عمود على الجانب الشرقى يحمل نصا كوفيا قديما ، غير واضح إلى حد ما ، ولم أستطع قراءة هذا النص أو تدوينه. الأعمدة المصنوعة من الأحجار المكية الشائعة ، التى جرى قطعها بصفة أساسية من جانب الجبل القريب من حى الشبيكة ، مكونة من ثلاث قطع ، لكن الأعمدة الرخامية مكونة من قطعة واحدة. بعض الأعمدة جرت تقويتها بحلقات حديدية ، أو أحزمة حديدية ، كما هو الحال فى المبانى الإسلامية الأخرى فى سائر أنحاء الشرق. هذه الحلقات أو الأحزمة الحديدية استعملت هنا لأول مرة بواسطة الظاهر برقوق ملك مصر ، عندما أعاد بناء المسجد الحرام ، بعد أن دمره الحريق الذى شب فى العام ٨٠٢ الهجرى.

دمر المسجد الحرام فى أحيان كثيرة وجرى إصلاحه وترميمه إلى حد أنه لا يمكن الوقوف حاليا على البقايا الوترية القديمة فيه. على الجانب الداخلى من السور الكبير الذى يحيط ببهو الأعمدة يوجد نقش عربى واحد ، مدون بحروف كبيرة ، كله لا يحتوى سوى على اسم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلى ، واسم الجلالة المدون بأحرف كبيرة ، مكتوب فى أماكن عدة. على الجانب الخارجى ، وفوق البوابات ، التى تحدث عنها باستفاضة وبالتفصيل كل مؤرخى مكة. النقش الموجود على الجانب الأيمن ، فوق باب إبراهيم ، شديد الوضوح ، هذا الجانب كله أعاد بناءه السلطان الغورى ، سلطان مصر فى العام ٩٠٦ الهجرى. فوق باب على وباب عباس يوجد نقش طويل ، مكتوب أيضا بالخط الثلث ، وقد وضعه السلطان مراد بن سليمان فى العام ٩٨٤ الهجرى بعد أن أعاد ترميم المبنى كله. وقد أورد قطب الدين هذا النقش بكامله ، هذا النقش يشغل صفحات عدة من تاريخ قطب الدين ، وهو يعد أثرا من الآثار

١٧٣

التى يتباهى بها السلطان. هذا الجانب من المسجد بعد أن نجا من الدمار فى العام ١٦٢٦ الميلادى ، لا يزال باقيا إلى يومنا هذا ولم يصبه التلف.

الجدران فى بعض أجزائها مدهونة بالألوان البهيجة على شكل خطوط بيضاء وحمراء ، وزرقاء ، وهذا هو أيضا حال مآذن الحرم. الرسوم التى على شكل زهور ، فى الفن الإسلامى المعتاد ، لا وجود لها فى أى مكان من الحرم ، أرضية أبهاء الأعمدة ممهدة باستخدام الأحجار الكبيرة الملصقة إلى بعضها البعض باستعمال الأسمنت وبطريقة سيئة للغاية.

هناك سبع طرقات ممهدة تؤدى من أبهاء الأعمدة إلى الكعبة ، أو البيت الحرام فى المنتصف. هذه الطرقات تكفى الواحدة منها لمرور أربعة أشخاص جنبا إلى جنب ، وهم على ارتفاع يقدر بحوالى تسع بوصات فوق سطح الأرض. فيما بين هذه الطرقات الممهدة ، المفروشة بالرمل والزلط ، تظهر الحشائش التى تنمو فى أماكن عدة بفعل ماء زمزم التى تأتى من تسرب الماء من جرار ماء زمزم الموضوعة على أرضية المسجد على شكل صفوف طويلة طوال اليوم. المنطقة المقام عليها الحرم تنخفض عن مستوى سائر الشوارع المحيطة بالمسجد. هناك منحدر يقدر بحوالى ثمانى درجات أو عشر عن مستوى بوابات المسجد الحرام فى الناحية الشمالية حيث يوجد بهو الأعمدة ، وهناك منحدر أيضا يقدر بحوالى ثلاث درجات أو أربع عن مستوى بوابات المسجد الحرام فى الناحية الجنوبية.

تقع الكعبة فى منتصف هذه المساحة ، وهى تبعد مسافة مائة وخمس عشرة خطوة من ناحية بهو الأعمدة الشمالى ، وثمانية وثمانين خطوة من ناحية بهو الأعمدة الجنوبى. الافتقار إلى التوازى هنا مرده إلى أن الكعبة سابقة الوجود على المسجد نفسه ، بمعنى أن الكعبة وجدت قبل المسجد ، هذا يعنى أن المسجد بنى حول الكعبة ، وجرى توسعته وتكبيره فى فترات مختلفة. الكعبة عبارة عن هيكل بيضاوى ضخم طوله حوالى ثمانى عشرة خطوة ، وعرضه أربع عشرة خطوة ، وارتفاع هذا الهيكل يتردد بين خمسة وثلاثين قدما وأربعين قدما. حاولت تحديد سطح الارتكاز

١٧٤

لجانب من جوانب المسجد الطويلة ووجدته شمال شمال غرب ٢ / ١ غرب. هذا الجانب مبنى من الحجر المكى رمادى اللون ، مختلف الأحجام ، والملصقة إلى بعضها البعض بطريقة غشيمة جدا ، وباستعمال نوع سيئ من الأسمنت. هذا المسجد الحرام أعيد بناؤه بالشكل الذى كان عليه فى العام ١٦٢٧ الميلادى : كان السيل فى العام السابق لذلك العام ، قد هدم ثلاثة جوانب من المسجد الحرام ، وأثناء التحضير لإعادة بناء تلك الجوانب ونقلا عن العصمى المؤرخ جرى هدم الجانب الرابع ، بعد التشاور مع العلماء فى هذه المسألة ، ألا وهى السماح للبشر الفانين بتدمير أى جزء من المبنى المقدس دون أن يكون ذلك انتهاكا لحرمة المسجد الحرام.

الكعبة مبنية على قاعدة ارتفاعها حوالى قدمين ، تمثل مستوى مائلا ميلا حادا ، ولما كان سطح الكعبة مستويا ، فإنه يظهر من بعد وكأنه مكعب. والباب الوحيد ، الذى يشكل مدخلا للكعبة ولا يفتح سوى مرتين أو ثلاث مرات فى العام ، موجود فى الجانب الشمالى من الكعبة ، ويرتفع عن الأرض حوالى سبعة أقدام. عند الدخول إلى الكعبة ، يجرى استعمال سلم من الخشب. سوف أتحدث عنه فيما بعد. ومع ذلك ، وفى عصور الإسلام الأولى ، عندما أعيد بناء الكعبة فى العام ٦٤ الهجرى ، بواسطة ابن الزبير ، رئيس مكة ، وابن أخ السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ ، كان لها بابين عند مستوى الدور الأرضى من المسجد. أما الباب الحالى الذى جلب على حد قول الأزرقى ، من إسطنبول فى العام ١٦٣٣ (الميلادى) فهو مغطى بقشرة من الفضة ، وفيه كثير من الزينات الذهبية. وعلى عتبة ذلك الباب ، يجرى كل ليلة إشعال مجموعة متباينة من الشموع المضاءة ، وأوعية العطور ، المليئة بعطر المسك ، وكذلك بخور العود إلخ.

فى الركن الشمالى الشرقى من الكعبة المشرفة ، وبالقرب من بابها ، يوجد «الحجر الأسود» الشهير ، هذا الحجر يشكل جزءا من الزاوية الحادة للمبنى ، على ارتفاع يتردد بين أربعة أقدام وخمسة أقدام فوق سطح الأرض. هذا الحجر الأسود عبارة عن شكل بيضوى غير منتظم ، قطره حوالى سبع بوصات ، وسطح غير مستو ، مكون من حوالى اثنى عشر حجرا من الأحجار الصغيرة مختلفة الأحجام والأشكال ، ملتصقة ببعضها

١٧٥

البعض بكمية صغيرة من الأسمنت ، والحجر شديد النعومة ، يبدو الحجر كما لو كان مكسرا إلى قطع صغيرة بفعل ضربة قوية ، ثم جرى توحيد هذه القطع مرة ثانية. من الصعوبة بمكان أن تحدد تحديدا دقيقا نوعية هذا الحجر ، الذى تأكل إلى سطحه الحالى بفعل لمسات ملايين الأيدى وملايين القبل التى انهمرت عليه. بدا الحجر لى وكأنه حجر بركانى ، يحتوى على جسيمات غريبة صغيرة ومتعددة ، من مادة تميل إلى البياض ومادة أخرى تميل إلى الاصفرار. لون الحجر الأسود حاليا بنى غامق يميل إلى الاحمرار ، ويميل إلى السمرة ، هذا الحجر محاط من جميع الجوانب بإطار مصنوع من مادة أرى أنها خليط من الأسمنت والزفت والزلط ، الذى هو من مادة مشابهة ، لكنها ليست اللون المائل إلى اللون البنى. هذا الإطار يساعد على تقوية الأجزاء المنفصلة ، عرض الإطار يتراوح بين بوصتين وثلاث بوصات ، وهو يرتفع قليلا عن مستوى سطح الحجر. كل من الحجر والإطار محاط بحزام معدنى ، أوسع من الأسفل عن الأعلى ، ومن الجانبين ، مع وجود انتفاخ من الخلف ، كما لو كان جزء من الحجر جرى إخفاؤه تحت الحجر ، الجزء السفلى من الإطار مثبت بمسامير من الفضة.

الركن الجنوبى الشرقى من الكعبة المشرفة ، أو ما يسميه العرب ، بالركن اليمانى ، فيه حجر آخر ، يرتفع عن الأرض حوالى خمسة أقدام ، وطوله قدم ونصف القدم وعرضه حوالى بوصتين ، مبنى متجها نحو الأعلى ، وهو من الحجر العادى فى مكة. هذا الحجر يلمسه الطائفون حول الكعبة باليد اليمنى ، ولا يقبلونه.

على الجانب الشمالى من الكعبة المشرفة ، وبالقرب من بابها ، وعلى مقربة أيضا من الجدار يوجد تجويف خفيف فى الأرض ، مبطن بالرخام ، ويسمح بجلوس ثلاثة أشخاص فيه. ومن الخير أن يصلى الطائف فى هذا المكان. هذا التجويف يطلقون عليه اسم المعجن ، وهو المكان الذى عجن فيه (سيدنا) إبراهيم وولده إسماعيل الحجر الجيرى والطين اللذين استخدماهما فى بناء الكعبة ، بالقرب من هذا المعجن ، يقال إن (سيدنا) إبراهيم وضع الحجر الكبير الذى وقف عليه عندما كان يقوم بعملية البناء.

١٧٦

وعلى أساس الكعبة المشرفة ، وفوق المعجن مباشرة ، يوجد نقش كوفى قديم ، لكنى لم أستطع قراءة ذلك النص ، ولم تتهيأ لى فرصة تدوينه. ولم يأت أحد من المؤرخين على ذكر هذا النقش.

على الجانب الغربى من الكعبة المشرفة وعلى بعد حوالى قدمين من قمتها نحو الأسفل ، يوجد ميزاب شهير ، ينصرف من خلاله ماء المطر الذى يتجمع فوق سطح الكعبة ، لكى يسقط على الأرض ، طول هذا الميزاب يقدر بحوالى أربعة أقدام ، وعرضه حوالى ست بوصات ، وهذا على حد رؤيتى له من الأسفل ، وحواف هذا الميزاب تتساوى مع عرض الميزاب من حيث الارتفاع. عند مقدمة الميزاب ، يتدلى جزء يسمونه ذقن الميزاب ، وهو عبارة عن لوح يسقط عليه الماء. هذا الميزاب أرسل من إسطنبول إلى هنا فى العام ٩٨١ الهجرى ، ويقال إنه من الذهب الخالص. الرصيف الموجود حول الكعبة المشرفة ، أسفل الميزاب ، جرى بناؤه فى العام ٨٢٦ الهجرى ، وهو مكون من أحجار مختلفة الألوان ، تكون فى مجملها نوعا رائعا من المنمنمات. هناك بلاطتان من الرخام المعرق فى الوسط ، هاتان البلاطتان على حد قول المقريزى (*) ، أرسلتا إلى هنا على شكل هدية من القاهرة فى العام ٤٢١ الهجرى. هذا هو المكان الذى يقول الحديث الشريف ، إنه دفن فيه إسماعيل ، ولد (سيدنا) إبراهيم ويصح فيه أيضا إبراهام ، وأمه هاجر ، وهنا من الخير للحاج أن يصلى ركعتين. هذا الجانب الغربى فيه جدار شبه دائرى ، طرفاه على خط واحد من جانبى الكعبة المشرفة ، ويبعدان عنها مسافة ثلاثة أقدام أو أربعة ، ويتركان فتحة تؤدى إلى المكان الذى دفن فيه (سيدنا) إسماعيل. الحائط هنا يسميه الناس الحطيم ، والمساحة التى يضمها هذا الحطيم ، يسمونها الحجر ، أو بالأحرى حجر إسماعيل ، من منطلق انفصالها عن بناء الكعبة المشرفة ، الجدار نفسه يطلق عليه هذا الاسم فى بعض الأحيان ، أما الاسم الحطيم فيطلقه

__________________

(*) راجع كتاب المقريزى ، الفصل المعنون «امتيازات مصر».

١٧٧

المؤرخون على الأرض الفضاء التى بين الكعبة والجدار من ناحية ، وبير زمزم ومقام إبراهيم من ناحية أخرى. المكيون الحاليون يطلقون الاسم «الحطيم» على الجدار فقط.

يروى فى التراث أن الكعبة (المشرفة) كانت تمتد فى يوم من الأيام إلى الحطيم ، وأن هذا الجانب بعد أن سقط فى موسم الحج ، طلبت نفقات ترميمه من الحجاج ، تحت زعم أن إيرادات الحكومة لم يحصل عليها من حلال خالص يسمح باستخدامها فى غرض مقدس من هذا القبيل ، فى حين إن نقود الحجاج تحقق الطهارة والنقاء. ثبت أن المبلغ الذى جرى جمعه من الحجاج لم يكن كافيا ، وكل ما أمكن عمله فى ذلك الوقت هو مجرد إقامة جدار ، هو بمثابة علامة على المساحة التى كانت عليها الكعبة من قبل. هذا الموروث الشائع بين المطوفين لا يتطابق مع التاريخ ، الذى يقول : إن الحجر جرى بناؤه بواسطة بنى قريش ، الذين قلصوا أبعاد الكعبة ، وإن الحجّاج هو الذى ضم الحجر إلى الكعبة ، وإن ابن الزبير هو الذى فصل الحجر من جديد عن الكعبة. والفاسى يؤكد أن جزءا من الحجر ، بالشكل الذى هو عليه حاليا ، لم يحدث أن ضم إلى الكعبة مطلقا. والشرع يعد الحجر جزءا من الكعبة ، من منطلق أن من الخير للطائف وغيره الصلاة فى الحجر وفى الكعبة نفسها ، والحجاج الذين لا تتهيأ لهم فرصة دخول الكعبة ، يسمح لهم بالحلف بأنهم صلوا فى الكعبة ، على الرغم من أنهم قد يكونون قد ركعوا فقط داخل مسور الحطيم. الجدار مبنى من الحجر الصلد ، الذى يصل ارتفاعه إلى حوالى خمسة أقدام ، وسمكه أربعة أقدام ومجلد من الخارج بالرخام الأبيض ، ومنقوش عليه دعاء وتوسلات ، منحوتة نحتا أنيقا على الحجر بأحرف حديثة. هذه النقوش هى والتجليد الرخامى من أعمال الغورى ، سلطان مصر ، فى العام ٩١٧ الهجرى ، وذلك طبقا لما ورد عند قطب الدين. الطواف حول الكعبة يكون من خارج جدار الحطيم ، وكلما اقترب الطائف منه كان ذلك أفضل.

١٧٨

الأركان الأربعة للكعبة مغطاة بجريد أسود اللون ، يتدلى نحو الأسفل تاركا سطح الكعبة عاريا (*) ، هذه الستارة ، أو الغطاء يسمونه كسوة ، ويجرى تجديد هذه الكسوة كل عام فى موسم الحج ، إذ يجرى إحضارها من القاهرة ، التى يجرى صنعها فيها لحساب الباب العالى (**) ، الكسوة مطرز عليها أدعية عدة من لون القماش نفسه ، وبالتالى يصبح من الصعب جدا قراءة تلك الأدعية. فوق منتصف الكسوة ، ومن حول المبنى كله يوجد خط مماثل من النقوش ، المصنوعة من الخيوط الذهبية. ذلك الجزء من الكسوة الذى يغطى الباب مطرز بالفضة تطريزا كثيفا. يوجد فى الكسوة فتحات للحجر الأسود والحجر اليمانى الموجود فى الركن الجنوبى الشرقى ، الذى يظل مكشوفا. شكل الكسوة ثابت دوما من حيث الشكل والطراز ، الكسوة التى رأيتها على الكعبة عند زيارتى الأولى للمسجد الحرام ، كانت متحللة ومليئة بالثقوب. فى اليوم الخامس والعشرين من شهر ذى القعدة يجرى رفع الكسوة القديمة ، وتظل الكعبة بلا كسوة طوال خمسة عشر يوما. ويقال بعد ذلك إن الكعبة تحرم «بمعنى أن الكعبة ترتدى ملابس الإحرام ، ويستمر ذلك إلى اليوم العاشر من شهر ذى الحجة ، يوم عودة الحجاج من عرفة إلى وادى منى ، وهو اليوم الذى يجرى فيه وضع الكسوة الجديدة على الكعبة ، فى الأيام الأولى ، يجرى رفع الغطاء الجديد بواسطة حبال مثبتة فى السقف ، حتى يظل الجزء الأسفل من المبنى مكشوفا : وبعد أن تظل الكعبة مكشوفة هكذا بضعة أيام ، يجرى إنزال الكسوة لتغطى البناية كلها ، إذ يجرى ربط الكسوة إلى حلقات من النحاس الأخضر مثبتة فى الأرض. رفع الكسوة القديمة عن الكعبة كان يجرى بطريقة غير لائقة ، وكان الحجاج يتصارعون هم وأهل مكة حول هذا الموضوع ،

__________________

(*) كان الوهابيون خلال عامهم الأول فى مكة قد غطوا الكعبة بكسوة حمراء جرى صنعها فى الأحساء من القماش نفسه الذى تصنع منه العباءات العربية الفاخرة.

(**) فى القرن الأول الإسلامى لم يكن يجرى رفع الكسوة القديمة مطلقا ، وإنما كان يجرى وضع الكسوة الجديدة فوق القديمة لكن المكيين بدءوا يخشون من أن تنوء الكعبة بحمل هذه الأثقال من الكسوة ، وقام الخليفة المهدى أبو عبد الله بإزالة هذه الاغطية فى العام ١٦٠ الهجرى. (راجع المقريزى).

١٧٩

هذا الصراع نفسه كان يدور بين الكبار والصغار ، من أجل الحصول على مجرد قطع صغيرة من تلك الكسوة. الحجاج يجمعون أيضا التراب والغبار الذى يعلق بجدران الكعبة ، من تحت الكسوة ، ويبيعونه ، عند عودتهم إلى بلادهم باعتبار ذلك تذكارا مقدسا. فى اللحظة التى يجرى فيها تغطية الكعبة ، وعندما تكون عارية تماما (عريان Ureyan على حد قولهم) ، تتجمع مجموعة من النساء حول الكعبة ، وهن «يزغردن».

اللون ايلأسود للكسوة التى تغطى هذا المكعب الكبير الذى يقع فى منتصف ميدان واسع ، يضفى على الكعبة ، منذ الوهلة الأولى ، مظهرا فريدا وجليلا ، ونظرا لعدم تثبيث ذلك الغطاء من الأسفل تثبيتا محكما ، فإن أقل حبات النسيم تجعل الغطاء يتحرك على شكل تموجات بطيئة ، يحييها الجمهور المصلين المتجمعين حول المبنى بالدعاء والابتهال ، باعتبار أن ذلك الاهتزاز دليل على وجود الملائكة ، الذين تتسبب حركة أجنحتهم فى اهتزاز غطاء (كسوة) الكعبة. هناك سبعون ألف ملك يحرسون الكعبة ، وهم مأمورون بنقلها إلى الجنة ، يوم أن ينفخ فى الصور.

مسألة كسوة الكعبة عادة قديمة منذ أيام العرب الوثنيين. يقول الأزرقى : إن الكسوة الأولى قام بوضعها على الكعبة أسد توبا ، أحد ملوك حمير فى اليمن. قبل مجىء الإسلام كان للكعبة غطاءان أو كسوتان إن صح التعبير ، إحداهما للشتاء والثانية للصيف. فى عصور الإسلام الأولى ، كانت الكسوة بيضاء فى بعض الأحيان وحمراء فى أحيان أخرى ، وكانت تصنع من أفضل الأقمشة المقصبة أو المطرزة. فى الأزمان التى تلت ذلك كان سلاطين بغداد ، أو مصر ، أو اليمن هم الذين يقدمون الكسوة فى ضوء نفوذهم على مكة ، ذلك أن كسوة الكعبة كانت تعد دوما إشارة إلى السيادة على الحجاز ، وقد استأثر قلاوون ، سلطان مصر ، هو ومن جاءوا بعده بذلك الحق ، وورثه عنهم سلاطين إسطنبول ، وقد خصص قلاوون ريع القريتين

١٨٠