ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-387-1
الصفحات: ٣٠٥
الجزء ١ الجزء ٢

فى الصفحة التالية نورد بعض الملاحظات المقتضبة التى دونها المؤلف على ورقة مستقلة ، لكن من الواضح أنه كتب هذه الملاحظات لتكون مقدمة. من هنا يمكن القول إن كتاب أسفار فى الجزيرة العربية سيظهر بالشكل الذى أراده بوركهارت ، وهذا هو ما وضعه المعد نصب عينيه طول الوقت.

وليام كيسلى

٢١
٢٢

مقدمة المؤلف

اقتبست الكثير من صفحات هذه اليوميات عن بعض مؤلفات المؤرخين العرب ، وهذه الكتب التى اقتبست عنها موجودة فى حوزتى ، ويؤسفنى أنى لم تكن معى تلك المخطوطات فى الحجاز. أول مؤلّفين من تلك المخطوطات اشتريتهما من القاهرة ، فور عودتى من الجزيرة العربية.

هذه المؤلفات ، أو إن شئت فقل «المخطوطات» هى :

١ ـ تاريخ مكة ، الذى يعنونه مؤلفه أخبار مكة ، وهو كتاب مكون من أربعة مجلدات ، لمؤلفه أبى الوليد الأزرقى الذى اشتهر فى العام ٢٢٣ الهجرى ، وتتبع حوليات موطنه التاريخية إلى تلك الفترة. هذا الكتاب مهم جدا فى ضوء ملاحظاته الطبوغرافية ومعرفة المؤلف الوثيقة بأحوال الجزيرة العربية قبل الإسلام. والمخطوط يبدو من الخط المستعمل فى تدوينه كأن عمره حوالى سبعمائة عام.

٢ ـ تاريخ مكة ، المعنون العقد الثمين وهو يقع فى ثلاثة مجلدات ، وهو من تأليف تقى الدين الفاسى ، الذى كان هو نفسه قاضيا لمكة. هذا الكتاب التاريخى يصل إلى العام ٨٢٩ الهجرى ، وهو متضمن فى المجلد الأول ، المجلدان الآخران يحتويان على نتف طريفة من سير مواطنى مكة البارزين.

٣ ـ تاريخ المسجد المكى ، الذى يشتمل أيضا على تاريخ المدينة نفسها ، وعنوان الكتاب هو : الإعلام هى أعلام بلد الله ويقع فى مجلد واحد. ومؤلف هذا الكتاب هو قطب الدين المكى ، ويغطى الكتاب الفترة الممتدة إلى العام ٩٩٠ الهجرى.

٢٣

٤ ـ تاريخ الحجاز أو بالأحرى تاريخ مكة لمؤلفه العصمى. وليس لدىّ من هذا الكتاب سوى المجلد الثانى ، الذى هو مخطوط كبير ، يشتمل على تسجيلات تاريخية من أيام بنى أمية إلى العام ١٠٩٧ الهجرى. ولم أتمكن من تأكيد عنوان هذا الكتاب الزاخر بالكثير من المعلومات الثمينة. كان العصمى مؤلف الكتاب مواطنا من أهل مكة.

٥ ـ تاريخ المدينة المنورة ومسجدها. عنوان هذا الكتاب هو خلاصة الوفا ، لمؤلفه نور الدين على بن أحمد السمهودى (*) ، وهو عبارة عن مجلد واحد ، ويصل بتاريخ المدينة المنورة ومسجدها إلى العام ٩١١ الهجرى.

__________________

(*) بوركهارت يرجع إلى هذا المؤلف ويشير إليه فى صفحة ٣٢٣ بالأحرف التى تفيد «الرجوع إلى السمهودى».

٢٤

الوصول إلى جدة

كان وصولى إلى الحجاز محفوفا ببعض الظروف غير المواتية. وعندما دخلت مدينة جدة ، فى صباح اليوم الخامس عشر من شهر يوليو من العام ١٨١٤ الميلادى ، قصدت منزل شخص سبق أن حملت إليه خطاب توصية جرى تسليمه إلىّ ، عندما رحلت عن القاهرة ، فى شهر يناير من العام ١٨١٨ الميلادى ، فى الوقت الذى لم أكن قد قررت تجديد ترحالى ليشمل الجزيرة العربية. وقد لقيت من ذلك الشخص استقبالا باردا ؛ يبدو أن الخطاب كان بتاريخ قديم ، مما جعله غير جدير بالاهتمام ، ويبدو أن مظهرى المهلهل ربما يكون قد أثار الحذر فى نفس هذا الشخص حول مسألة التزامه أمام مراسليه ، بأن يدفع لى مبلغا كبيرا من المال لحساب هؤلاء المراسلين. يزاد على ذلك أن الكبيالات وخطابات الائتمان يجرى العبث بها فى المعاملات المتبادلة بين التجار الشرقيين. من هنا فقد تلقيت من ذلك الرجل رفضا قاطعا ، مصحوبا بعرض للسكن عنده. وقد قبلت ذلك العرض لليومين الأولين فقط ، ظنا منى أن المعرفة الحميمة قد تقنع الرجل أننى لم أكن أفّاقا أو محتالا ، لكنى عندما وجدت ذلك الرجل متشددا وغير مرن انتقلت إلى خان من الخانات العامة المنتشرة فى المدينة ، وكان كل ما لدىّ من مال عبارة عن دولارين وبضع سكوينات كنت أحفظها فى محفظة كنت أحملها على ذراعى ، لم يكن أمامى متسع من الوقت لكى أندب الحال الذى كنت عليه ، وسبب ذلك أنى فى اليوم الرابع لوصولى إلى جدة أصابتنى حمى عنيفة ، وقد تصادف ذلك مع انغماسى التام فى أكل الفاكهة الطازجة التى كانت تملأ أسواق جدة فى ذلك الوقت ، هذه الحماقة التى أعتبرها ذنبا لا يغتفر ، نظرا لنظام غذائى المعتدل طوال اثنى عشر شهرا ، كما ترتبت على تلك الحماقة أيضا نتائج أكثر

٢٥

سوءا عندما أصابنى الهذيان أياما عدة ، وكان يمكن لصحتى أن تتدهور تماما ، لو لا عون القبطان اليونانى الذى كان زميل سفر لى ، اعتبارا من بلدة سواكن فى السودان. لقد شملنى ذلك القبطان برعايته فى فترة من أشد فترات مرضى ، وقام الرجل بناء على طلبى ، بإحضار حلاق ، أو بالأحرى طبيب الأرياف ، الذى شلّح مواضع جسمى لاستنزاف كمية كبيرة من الدم ، على الرغم من تردده ورفضه ، لأنه كان يرى أن علاجى الوحيد البديل عن استنزاف الدم ، هو محلول من الخل وجوزة الطيب والقرفة. وخلال أسبوعين أصبحت قادرا على الحركة ، ولكن الضعف الذى اعترانى والوهن الذى رافق الحمى لم يستسلما للجو الحار الرطب فى جدة ، وأنا أعرف أن شفائى التام كان بفضل مناخ الطائف المعتدل ؛ والطائف تقع فى الجبال الواقعة خلف مكة ، وقد انتقلت بعد ذلك إليها.

سوق جدة يشبه إلى حد ما الأسواق الزنجية ، التى يمكن فيها شراء مؤن وتموينات تكفى أسبوعين أو ثلاثة أسابيع بدولار واحد فقط ، وهذه المؤن تقتصر على الذرة والزبد. أسعار السلع هنا ارتفعت ارتفاعا كبيرا إلى مستويات غير عادية ؛ نظرا لتوقف الواردات التى تأتى من داخل الجزيرة العربية توقفا تاما هنا ، فى الوقت الذى يكسب السكان كلهم بما فيهم أرباب الأسر المحترمة ، طوال مقامهم فى الحجاز ، عن طريق العمل اليدوى ، لكنى قبل اللجوء إلى هذا الملاذ الأخير كنت قد فكرت فى تجربة الانتقال إلى مكان آخر. واقع الأمر أنى كنت قد أحضرت معى رسالة تقديم وتزكية من محمد المحروقى (*) ، التاجر الأول فى القاهرة ، إلى عربى الجيلانى ، أغنى تجار جدة ، لكنى كنت أعلم أن تلك الرسالة كانت عديمة الجدوى ، نظرا لأنها لم تكن خطاب ائتمان ؛ ولذلك آثرت عدم تقديم الرسالة لذلك الجيلانى (**). قررت مؤخرا التحدث إلى الباشا ، محمد على نفسه. كان محمد على باشا قد وصل إلى الحجاز فى أواخر

__________________

(*) الشيخ المحروقى هو شيخ مشايخ التجار فى القاهرة. (المراجع)

٢٦

فصل الربيع من العام ١٨١٣ الميلادى ، وكان مقيما فى الطائف فى ذلك الوقت ، والطائف هو المكان الذى أنشأ فيه محمد على مركز رئاسته الخاص بالجيش ، الذى كان ينتوى استخدامه فى الهجوم على معاقل الوهابيين. كان قد سبق لى مقابلة الباشا مرات عدة فى القاهرة قبل سفرى إلى الوجه القبلى ، وكنت قد أبلغته بهوسى وولعى الشديد بالسفر (وهذا هو منطلق الوصف الذى وصفنى به فى الطائف بعد ذلك). وهنا ينبغى أن أسوق ملاحظة مفادها. ، أنه نظرا لفقر تجار الوجه القبلى بشكل عام ، فلا يرحب أحد منهم بكمبيالة أو صك يفيد السداد الفورى ، فقد تحتم علىّ أثناء مقامى هنا ، ومن باب تسهيل حصولى على المال ، أن طلبت إلى مراسلى فى القاهرة أن يدفع المبلغ الذى طلبته إلى خزانة الباشا ، وأن آخذ منه إذنا مسحوبا على ولده إبراهيم باشا ، الذى كان حاكما على الوجه القبلى فى ذلك الوقت ، بأن يعيد دفع المبلغ إلىّ أنا شخصيا. ونظرا لأنه كانت لى بعض المعاملات المالية مع الباشا فقد خطر ببالى تجديد تلك التعاملات فى الحجاز دون أن أسبب للرجل ضيقا أو حرجا ، وليتنى أفعل ذلك ، خاصة أن محمد على سبق أن أعرب عن رضاه عنى شخصيا وعن اهتماماتى. وبعد أن انتهت الحمى الشديدة وانحسرت ، كتبت رسالة لطبيب الباشا ، وهو أرمينى اسمه بوسارى Bosari ، كان وقتئذ مرافقا لسيده فى الطائف. رجوت ذلك البوسارى أن يضع حالى التعيس أمام الباشا ، وأن يبلغه أن خطابى الائتمانى المسحوب على جدة لم يحظ بالقبول ، وأن يسأل الباشا عما إذا كان مستعدا لقبول كمبيالة له مسحوبة على مراسلى فى القاهرة ، وأن يأمر مسئول خزانته فى جدة بدفع الكمبيالة له إلىّ.

وعلى الرغم من أن الطائف لا تبعد مسير خمسة أيام عن جدة ، فإن حال البلاد لم يكن يسمح إلا نادرا للمسافرين الخصوصيين بعبور الجبال فيما بين مكة

__________________

(**) تعرفت بعد ذلك على ذلك الجيلانى فى مكة ، وما بدر منه أقنعنى بأنى لم أكن مخطئا فى تقييمى له فى مسألة مساعدتى باعتبارى غريبا فى بلده.

٢٧

والطائف ، يضاف إلى ذلك أن القوافل التى كانت تنقل رسائل الناس كانت تتحرك على فترات تتردد ما بين ثمانية أيام وعشرة أيام ، من هنا لم أكن أتوقع وصول رد على رسالتى قبل عشرين يوما. طوال هذه الفترة كنت أشغل وقت فراغى فى جدة فى تدوين محتويات أسفارى عن بلاد النوبة لكنى أحسست بشدة الحرارة فى ذلك الفصل من العام ، وبخاصة فى ظل حال الضعف الذى كنت عليه ، الأمر الذى جعلنى ألوذ بعد الساعات القلائل الصباحية بالظل الوارف الناتج عن بوابة الخان الكبيرة ، ذلك الخان الذى كنت مقيما فيه ، فى ظلال تلك البوابة كنت أمضى القسم الأكبر من النهار ، مسترخيا على مقعد من الحجر. كان مراسل بوسارى فى جدة ، الذى أرسلت من خلاله رسالتى إلى الطائف ، قد أتى على ذكر اسمى أمام يحيى أفندى طبيب طوسون باشا ولد محمد على باشا ، الذى كان فى ذلك الوقت حاكما لجدة ، وقبل ذلك كان طوسون حاكما للوجه القبلى ، يوم أن كنت أنا فى الوجه القبلى ، لكنى لم ألق طوسون باشا عند ما كنت فى الوجه القبلى. هذا الطبيب سمع اسمى يتردد عندما كان فى القاهرة ، صار يتطلع شغفا للقائى ، وطلب إلى صديقى بوسارى أن يقدمنى إليه. استقبلنى الرجل بأدب جم ، ودعانى مرات كثيرة إلى منزله ، ومن خلال المزيد من الشروح والتفسيرات أصبح الرجل على علم باحتياجاتى ، وبالخطوات التى أتخذها لعلاج مسألة الاحتياجات هذه. تصادف أن كان ذلك الرجل يستعد فى ذلك الوقت للقيام برحلة إلى المدينة المنورة بصحبة طوسون باشا ، وكان الرجل يعيد كل أمتعته غير الضرورية إلى القاهرة ، ومع هذه الأمتعة المعادة إلى القاهرة كان الرجل يود أن يحول لأسرته مدخرات العام الماضى التى تقدر بحوالى ثلاثة آلاف قرش (حوالى ١٠٠ جنيه إنجليزى) ، كما كان الرجل عطوفا جدا عند ما عرض علىّ إعطائى المبلغ بناء على إذن مالى مسحوب على القاهرة ، يدفع فورا عند الاطلاع ، وتلك ميزة كان هو يعرفها جيدا ؛ نظرا لأن تجار جدة لا يأمنون مطلقا لأولئك الذين يأخذون منهم أوامر الدفع أو الكمبيالات ، العرض الذى من هذا القبيل لا يترتب عليه أى التزام فى البلدان التجارية الأوروبية ، لكن فى الشرق وفى ظل الظروف التى كانت تحيط بى ، كان ذلك العرض يعد أمرا غير عادى. وأضاف يحيى أفندى ، أن بعضا من أصدقائه

٢٨

كانوا قد رسموا لى شخصية جذابة عند ما كنت فى القاهرة ، ومن ثم فإنه لن يخامره الشك فى قدرتى على الوفاء بالدين ، أو احترامى الذى تأكد منه بعد أن قرأ خطاب الائتمان الذى أحضرته معى. ولما كانت مسألة تقدمى للباشا فى الطائف أمرا غير مؤكد ، فقد حدا ذلك بى على قبول عرض يحيى أفندى ، وعلى الفور جرى دفع المبلغ لى مباشرة وجرى سحب الإذن ، بعد ذلك بأيام قلائل رحل صديقى العزيز بصحبة طوسون باشا إلى المدينة المنورة ، حيث سعدت بلقائه هناك للمرة الثانية فى مطلع العام التالى.

أصبح بحوزتى عندئذ مبلغ من المال لدرء كل مخاوفى من الفقر قبل أن تصل إلىّ إمدادات مالية جديدة من القاهرة (مصر) ، بغض النظر عن مطالبى من الباشا ، لكن المؤسف أن يحيى أفندى كان موجودا ، ومع ذلك وصلنى رد على الرسالة التى سبق أن أرسلتها إلى الطائف. يبدو أن بوسارى ، لم يكن يرغب فى إعلام الباشا بمطلبى ، وربما كان بوسارى خائفا مما يمكن أن يلحق بى لو أنى لم أوف بما وعدت به. كان الباشا قد علم قبل ذلك بوجودى فى جدة ، وقد جاء ذلك العلم عن طريق شخص ثالث كان ضمن حاشية الباشا ، وكنت قد التقيت به فى جدة ، ثم حضر بعد ذلك إلى الطائف ، وعند ما علم الرجل أنى أتجول فى أسمال مهلهلة ، قام على الفور بإيفاد مراسل ومعه جملين إلى محصل الجمارك فى جدة ، المدعو سيد على أو جقلى ، والذى كان يتولى إدارة شئون المدينة كلها ، وطلب إليه تزويدى بطاقم من الملابس وكيس نقود يحتوى على خمسمائة قرش على سبيل بدل سفر ، وطلب منه ضرورة عودتى على الفور إلى الطائف بصحبة المراسل نفسه الذى حمل إليه الرسالة.

الدعوة الموجهة من باشا تركى تعد أمرا مهذبا. وعليه ، ومهما كان ترددى فى الذهاب إلى الطائف فى ذلك الوقت ، لم يكن أمامى خيار سوى الالتزام بما يريده الباشا بدلا من القرض ، ولم يكن بوسعى رفض الملابس والنقود دون الإساءة إلى كبرياء الرئيس واستثارة غضبه ، وبخاصة أنى كنت فى ذلك الوقت فى مسيس الحاجة

٢٩

إلى الحصول على نعمه ورضاه (*). وأنا أفهم معنى الحاشية ، على الرغم من أن سيد على لم يكن على علم بفحوى تلك الحاشية ، ولكنى فى هذا المسألة قررت أن أكون ندا للباشا ورجاله.

نظرا لأن الدعوة كانت أمرا ملحا وعاجلا ، فقد اضطررت إلى مغادرة جدة فى مساء اليوم الذى وصل فيه المراسل إليها ، وذلك بعد تناول العشاء مع سيد على ، بصحبة عدد كبير من الحجاج الذين جاءوا من سائر أنحاء العالم ؛ وكان شهر رمضان قد دخل بالفعل والناس هذا يكشفون فى شهر رمضان عن أقصى ما لديهم من كرم ضيافة ، وبخاصة فى مائدة الإفطار بعد غروب الشمس. ولما كنت أتشكك فى بعض نوايا الباشا ، فقد ارتأيت أن أحمل معى إلى الطائف كيسا مليئا بالنقود. من هنا ، كنت قد غيرت ثلاثة الآلاف قرش التى أخذتها من يحيى أفندى إلى ذهب ، ووضعت قطع الذهب فى حافظة حزامى. الشخص عند ما يكون لديه المال لا يخشى من وجوده بين العثمانيين ، اللهم باستثناء خسارة مثل هذه النقود أو ضياعها ، لكن خطر ببالى أنى قد أكون بحاجة إلى ما معى من مال ، لدفعه على سبيل الرشوة أو لتسهيل رحيلى عن الطائف. ومع ذلك كنت مخطئا فى هذين الزعمين.

__________________

(*) يرى بعض الناس أن قبول الهدايا من الباشوات إنما هو نوع من التشريف ، ولكنى أنظر إلى هذا الأمر نظرة مختلفة ، أنا أعرف أن الهدف الحقيقى لأى تركى من الأتراك من وراء تقديم الهدايا هو إما الحصول على ضعف هذه الهدية (وهذا لم يكن حالى) أو إشباع فخره وتباهيه أمام حاشيته بالكرم والسخاء مع شخص ينظر هو إليه باعتباره أدنى منه كثيرا من حيث المكانة أو القيمة. وأنا بنفسى شاهدت بعينىّ نظرات ذلك المعطى ونظرات أفراد شعبه فى مثل هذه الظروف ، بل إنهم يعبرون عن مشاعرهم فى مثل هذه المناسبات بقولهم «انظر لقد رمى بكسرة خبز إلى ذلك الكلب!» قد لا يتفق معى فى ذلك سوى قلة قليلة من الأوروبيين ، لكن معرفتى تسمح لى بتقديم هذا الرأى ، والنصيحة الوحيدة التى يمكن تقديمها هنا للرحالة الذين لا يريدون الحط من قدرهم أمام أعين الأتراك ، هى أن يكونوا دائما مستعدين وفى المناسبات التى من هذا القبيل لإعادة الجميل المقدم مضاعفا. وفيما يتعلق بى شخصيا ، لم تتح لى فرصة تقديم الهدايا إلا نادرا خلال أسفارى ، وكانت تلك الهدية الوحيدة التى أجبرت على قبولها.

٣٠

سأورد هنا بعض الملاحظات عن كل من جدة وسكانها. جدة مقامة على أرض مرتفعة ارتفاعا طفيفا ، وأكثر جوانب جدة انخفاضا هو ذلك الجانب الذى يلامسه البحر ، ومن ناحية شاطئ البحر نجد أن طول ذلك الجانب يصل إلى حوالى ألف وخمسمائة خطوة ، فى حين أن العرض لا يزيد فى أى جانب من جوانب جدة على نصف هذه المسافة ، أى ما يقرب من حوالى سبعمائة وخمسين خطوة. وجدة محاطة من ناحية البر بسور تجرى صيانته بشكل أو بآخر لكنه ليس قويا. هذا السور جرى بناؤه منذ سنوات قلائل فقط ، عن طريق الجهد المشترك بين السكان أنفسهم الذين كانوا يعون أنهم ليسوا فى مأمن من الوهابيين فى وجود ذلك السور القديم شبه المهدم ، والذى بنى فى العام ٩١٧ الهجرى بواسطة قنصوه الغورى سلطان مصر (*). السور الحالى يعد حاجزا أمام العرب الذين ليست لديهم مدفعية ، وعلى مسافة حوالى أربعين خطوة أو خمسين ، تجرى تقوية السور بأبراج للمراقبة وبداخل الأبراج توجد بعض البنادق التى علاها الصدأ. وجرى حول ذلك السور حفر خندق ضيق ، من باب تقوية دفاعات المدينة. من هنا نجد أن جدة تتمتع فى الجزيرة العربية بذيوع صيتها على أنها قلعة يصعب اختراقها أو اقتحامها. على شاطئ البحر ومن أمام المدينة نجد أن السور القديم لا يزال باقيا على ما كان عليه من قبل ، لكنه اعتراه التحلل والقدم. فى الطرف الشمالى وبالقرب من المنطقة التى يلامس البحر عندها السور الجديد نشاهد مبنى أو منزل حاكم المدينة ، وفى الناحية الجنوبية توجد قلعة صغيرة ، مركب فيها ثمانى بنادق أو عشر. وإلى جانب ذلك ، هناك بطارية لحراسة مدخل البلدة من ناحية البحر ، وللسيطرة على الميناء كله. هنا فى هذا المكان نجد قطعة من المدفعية القديمة كبيرة الحجم ، مركبا عليها دانة على شكل كرة تزن حوالى ٥٠٠ رطل ، ويذيع صيت هذه القطعة فى سائر مناطق البحر الأحمر إلى الحد الذى يجعل من هذه الشهرة الذائعة حماية لبلدة جدة نفسها.

__________________

(*) راجع قطب الدين فى كتابه المعنون : تاريخ مكة.

٣١

يجرى الوصول إلى جدة من ناحية البحر عن طريق رصيفين ، تقوم القوارب الصغيرة بنقل شحنات السفن الكبيرة إليهما ؛ نظرا لاضطرار تلك السفن الكبيرة إلى الرسو فى المياه العميقة التى تبعد قرابة ميلين عن الشاطئ ، والقوارب صغيرة الحجم التى يطلقون عليها اسم السّاى (وهى أصغر القوارب التى تبحر فى البحر الأحمر) هى الوحيدة التى تقترب من الشاطئ ، هذان الرصيفان يغلقان يوميا عند غروب الشمس. هذا يعنى أن الاتصال يتوقف أثناء الليل بين البلدة وحركة الملاحة.

جدة من ناحية البر لها بوابتان : البوابة التى يقال لها باب مكة وتوجد فى الجانب الشرقى ، والبوابة التى يطلقون عليها اسم بوابة المدينة وهى فى الجانب الشمالى ، وقد جرى مؤخرا إحداث بوابة صغيرة فى السور الجنوبى. المساحة التى يطوقها السور الجديد (والتى يقدر محيطها بحوالى ثلاثمائة خطوة) هو والبحر ليست كلها مغطاة بالمبانى ، هناك قطعة عريضة من الأرض المفتوحة تمتد بطول السور الداخلى ، كما أن هناك إلى جانب ذلك مساحة كبيرة من الأرض الخراب بالقرب من باب المدينة ، وفى الطرف الجنوبى من جدة. ولما كنت قد عبرت تلك الأرض الفضاء أثناء قدومى من البوابة ، فقد دخلت الضواحى التى ليس فيها سوى أكواخ بناها أصحابها من البوص والغاب والأخشاب وأغصان أشجار الأراك ، وهذه الأكواخ التى تطوق المدينة من الداخل عبارة عن بنايات من الحجر. هذه الأكواخ لا يسكنها سوى البدو أو الفلاحين والعمال الفقراء الذين يعيشون هنا حياة البدو ، هناك أحياء أو ضواح شبيهة بهذه الضاحية يعيش فيها أناس بالمواصفات نفسها فى سائر أنحاء الجزيرة العربية.

جدة من الداخل مقسمة إلى أحياء مختلفة ، أهل سواكن الذين يترددون على هذا المكان يسكنون بالقرب من باب المدينة ، ويسميها الناس حارة السواكنى. الناس هنا يعيشون فى منازل قليلة متواضعة ، لكنهم يعيشون فى أكواخ بصفة أساسية ، والطبقة الدنيا من البشر هم الذين يلجأون إلى مثل هذه الأكواخ ، كما تسكن فى تلك

٣٢

الأكواخ أيضا نساء شعبيات كثيرات ، كما يسكن الأكواخ أيضا تلكم النساء اللاتى يبعن ذلك المشروب المسكر الذى يسمونه البوظة. أما السكان المحترمون أصحاب الجاه فيسكنون بالقرب من البحر ، حيث يوجد شارع طويل يمتد موازيا للشاطئ ، وفيه صفوف من الدكاكين ، وفيه أيضا حانات كثيرة لا يتردد عليها بصورة دائمة سوى التجار ، بل وتكاد تكون مقصورة عليهم.

جدة مبنية بطريقة جيدة ، وهى أفضل من أى مدينة تركية أخرى مساوية لها فى الحجم من بين المدن التى سبق أن شاهدتها. شوارع جدة غير ممهدة ، لكنها واسعة ومتجددة الهواء ، والمنازل عالية وكلها مبنية بالحجر الذى يحضرون القسم الأكبر منه من شاطئ البحر ، والمكوّن من المرجان المتشعّب والحفريات البحرية الأخرى. كل منزل من منازل جدة مكون من طابقين وبه نوافذ كثيرة صغيرة ، ولكل نافذة شيش من الخشب يشكل استعراضا جميلا لصناعة خشبية يدوية. عند مدخل كل منزل من المنازل توجد صالة أو ردهة فسيحة ، يجرى فيها استقبال الغرباء ، هذه الردهة تكون رطبة بصورة مستمرة. توزع الغرف فى منازل جدة يكاد يكون هو التوزع نفسه فى المنازل المصرية والسورية ، ولكن بفارق واحد هو أن جدة ليس فيها شقق كثيرة فارهة كما هو الحال فى كل من مصر وسوريا ، اللتين ليس فيهما سوى منازل قليلة جدا مكونة من طابقين ، فى حين تكون الغرف الموجودة فى الطابق الأرضى مرتفعة تماما عن مستوى الأرض ، وبذلك يحدث فى كثير من الأحيان أن غالبية منازل الحجاز تكون حارة ، اللهم إلا باستثناء ردهة المدخل. فى هذه الردهة ، وفى وقت الظهيرة ، يجلس رب البيت ومعه مساعدوه وخدمه أو عبيده لقضاء فترة القيلولة (*). ونظرا لارتفاع تكلفة البناء فى جدة ، فإن الاهتمام بالشكل الخارجى للمبنى لا يعول عليه كثيرا ، إذ يعتمد على الأعمال الشبكية والنوافذ المنخفضة ، هذه المنازل والنوافذ يجرى دهانها بألوان مبهرجة

__________________

(*) على الرغم من أن النسيم العليل لا يهب إلا من ناحية الشمال لا يحاول أهل الجزيرة العربية الاستفادة من ذلك فى منازلهم كما هو الحال عند المصريين الذين يخططون لأن تفتح الغرف الرئيسية على الشمال.

يزاد على ذلك أن فتحات التهوية التى يحدثها المصريون فى شرف منازلهم كى توزع الهواء على المنزل بكامله ، هذه الفتحات غير معروفة فى الحجاز.

٣٣

من الداخل والخارج. فى كثير من المنازل نجد أن الزوجة الأصلية تعيش فى جزء من المنزل ، أما إماء الزوج الحبشيات فيسكنّ فى مساكنهن الخاصة بهن ، هذا يعنى أن صلاحية المسكن هى التى يركز عليها أصحاب المنازل بدلا من الحجم أو الجمال ، ومع ذلك ، نجد فى مصر كثيرا من المنازل العادية فيها غرف متسعة وأنيقة.

التنسيق المعمارى أمر غير وارد فى جدة. بعض المنازل يبنيها أصحابها من الأحجار الصغيرة ، والبعض الآخر يبنى باستعمال الأحجار الكبيرة مربعة الشكل ، بحيث يكون السطح الأملس ناحية الخارج أما الداخل فيجرى حشوه بالطين. وفى بعض الأحيان قد تبنى الجدران كلها من الحجر ، وكثير من المنازل يضع الناس فيها ، على ارتفاعات تقدر بحوالى ثلاثة أقدام ، طبقات من الألواح فى الجدار ظنا منهم أن هذه الألواح تزيد من قوة المبنى عند ملط الجدران بالجبس ، يترك المملط الخشب بلونه الطبيعى ، الذى يضفى على المبنى مظهرا بهيجا يسر الخاطر ، كما لو كان المبنى بعدد كبير من الأحزمة. ولكن لون الحوائط الأبيض البراق يؤذى العين أثناء سطوع الشمس. السواد الأعظم من البوابات لها عقود مدببة ، قلة قليلة من هذه العقود هى التى لها الشكل المستدير ، وهذه العقود المستديرة لا ترى إلا فى بوابات المنازل الخاصة فى كل جزء من أجزاء مصر. جدة لا تراعى فيها طرز المبانى القديمة ، والمعروف أن طبيعة المشبكات سرعان ما تتحلل إذا ما تعرضت للمطر والجو الرطب السائد هنا فى جدة (*). يضاف إلى ذلك أن كثيرا من المساجد الصغيرة موجود فى جدة ، ومن بين هذه المساجد مسجدان كبيرا الحجم ، وقد بنى الشريف سرور واحدا منهما. منزل الحاكم الذى ينزل فيه الشريف فى معظم الأحيان ، عبارة عن بيت

__________________

(*) يمكن القول بشكل عام إن جدة بلدة حديثة ، وسبب ذلك أن أهمية جدة بوصفها سوقا للبضائع الهندية يرجع إلى بداية القرن الخامس عشر ، على الرغم من أن جدة كانت تعرف منذ قديم الأزل فى التاريخ العربى على أنها ميناء لمكة المكرمة.

٣٤

حقير ، وبيت جابى الجمارك نفسه من هذا القبيل أيضا. فى جدة أيضا بعض الخانات العامة جيدة البناء ، وهذه الخانات تقدم إعاشات جيدة ، والتجار الأجانب يقيمون فى تلك الخانات أثناء مقامهم القصير فى جدة ، بعض الميادين الكبيرة المفتوحة التى فيها ممرات ذات عقود ، توفر ظلا باردا للتجار طوال الجزء الأكبر من النهار. وإذا ما استثنينا فترة الرياح الموسمية ، نجد أن زائر جدة يستطيع الحصول على سكن خاص فى الأحياء النائية من المدينة ، وسبب ذلك أن جدة تزدحم بالسكان فى فترة الرياح الموسمية. أفضل المساكن الخاصة فى جدة تملكها مؤسسة الجيلانى التجارية ، هذا الجيلانى يعيش هو وأسرته فى ميدان صغير خلف الشارع الرئيسى. هذا الميدان ، أو المربع السكنى مكون من ثلاث بنايات كبيرة ، وهى تشكل أعلى المساكن الخاصة وأكثرها راحة فى الحجاز كله. كل منزل من هذه المنازل له خزانه المائى الخاص به ، ولكن نظرا لعدم انتظام المطر أو وفرته على النحو الذى يكفى لملء هذه الخزانات من أعالى سطوح المنازل (كما هو الحال فى سائر أنحاء سوريا) فإن تلك الخزانات يجرى تزويدها بالماء من الآبار التى تتكون مياهها من الأمطار خارج المدينة.

ماء هذه الخزانات لا يكفى استهلاك جدة مطلقا ، ومن ثم يعد الماء شيئا عزيزا فى جدة. القسم الأكبر من ماء الشرب فى جدة يجرى جلبه من بعض الآبار التى تبعد عن المدينة ميلا ونصف الميل فى الناحية الجنوبية من المدينة. واقع الأمر أن الماء يمكن العثور عليه على عمق خمسة عشر قدما ، لكنه ليس طيب المذاق ، بل غير صالح للشرب فى بعض الأماكن. بئران فقط هما اللتان توفران ماء يمكن أن يقال عنه إنه عذب ، لكن هذا الماء يعد ماء ثقيلا ، وإذا ما قدر له أن يبقى أربعا وعشرين ساعة فى إناء ، فإنه يصبح عامرا بالحشرات. ونظرا لأن بئرا من هاتين البئرين عزيز ونادر ، فهو يصعب الحصول عليه دون مساعدة صديق قوى ، واقع الأمر أن عدد الأفراد اللازمين لجلب الماء من هاتين البئرين يتردد بين مائتى شخص وثلاثمائة شخص ، أما بقية سكان المدينة فيرضون لأنفسهم بالماء الذى يجرى جلبه من آبار أخرى ، وسبب

٣٥

اعتلال صحة الناس فى جدة ربما يكون راجعا إلى الماء. ونظرا لأن جدة تحمل اسم إحدى القلاع التركية ، فنحن يحق لنا القول إن الآبار كانت تجرى حمايتها بقلعة من القلاع ، لكن الأتراك أهملوا هذا التحوط ، وعند ما خشى الناس فى شهر ديسمبر عام ١٨١٤ م. تقدم الوهابيين على جانب بلدة القنفذة ، سارع حاكم جدة بملء خزانات المياه التابعة للمنازل الحكومية بمياه الآبار ، ومنع استعمال السكان لتلك الضرورة من ضروريات الحياة أياما عدة ؛ نظرا لأن الرجل كان يستخدم إبل جلب الماء كلها لمصلحته هو. عدد كبير من تلك الآبار يدخل فى إطار الملكية الخاصة وتعود على أصحابها بدخول كبيرة.

جدة بلد بلا حدائق أو حياة نباتية من أى نوع كان ، اللهم إلا باستثناء بعض النخيل الذى يجاور مسجدا من المساجد. وحتى خارج المدينة ترى الأرض كلها جرداء تغطيها قشرة ملحية من ناحية شاطئ البحر ، وعلى المستوى الأعلى من ذلك تجد رمالا ، هنا فى هذه الرمال توجد بعض الشجيرات وبعض أشجار السنط المنخفضة. تتزايد أعداد الآبار حول المدينة ، والماء الذى يجلب منها يستخدم فى أغراض الرى ، لكن سكان جدة يعدون إقامتهم فى البلد مسألة مؤقتة ، وهم مثل سائر سكان الحجاز ، يكرسون كل اهتماماتهم للتجارة وجمع الثروات. وهم من هذا المنطلق لا يميلون إلى الترويح أو العمل بالمهن الريفية أكثر من أية سلالة أخرى من سلالات المسلمين الذين سبق أن عرفتهم.

فيما وراء باب مكة وبالقرب من المدينة ، توجد أكواخ عدة يمر فى وسطها الطريق المؤدى إلى مكة. هذه الأكواخ يسكنها الجمالة الذين يتنقلون فى عملهم ما بين مكة وجدة ، ويسكن هذه الأكواخ أيضا البدو الفقراء الذين يتعيشون من جمع الحطب من مسافات بعيدة فى الجبال ، كما يسكنها أيضا الحجاج الزنوج الذين يتعيشون من هذه المهنة نفسها أثناء مقامهم فى جدة. فى هذا المكان ينعقد سوق الماشية الحية والخشب والفحم النباتى والفواكه والخضراوات ، وكل ذلك يباع بالجملة لا بالقطعة. البن أيضا يباع هنا فى دكاكين صغيرة ، لا يتردد الناس عليها إلا لفترة

٣٦

قصيرة فى ساعة مبكرة من النهار ، والذين يترددون على هذه الدكاكين التى تبيع البن هم الطبقة المتدنية من التجار ، الذين يجيئون إلى هنا لتصيد الأخبار القادمة من مكة ، التى يحملها البريد كل صباح بعد شروق الشمس مباشرة. بعد هذه الأكواخ بميل واحد ، وفى الناحية الشرقية من المدينة ، يوجد مدفن جدة الرئيسى الذى يضم مقابر شيوخ متعددين ، لكن هناك جبانات صغيرة محاطة بأسوار. وعلى بعد مسافة ميلين شمالى جدة يوجد قبر جدتنا حواء أم البشر ، القبر على حد ما قيل لى عبارة عن حفرة فى الحجر طولها حوالى أربعة أقدام ، وارتفاعها حوالى قدمين أو ثلاثة أقدام ، وعرضها حوالى قدمين أو ثلاثة أقدام أيضا ، وبذلك يكون قبر حواء شبيها بقبر نوح الذى شاهدته فى سهل البقاع فى سوريا.

أثناء سيطرة الوهابيين على جدة كانت المدينة تمر بمرحلة تدهور ؛ فقد تحولت بنايات كثيرة فيها إلى خرائب ، ولم يبن أحد منزلا جديدا واحدا ، وكسدت التجارة فى ضوء توقف مجىء الحجاج من تركيا ، وعزوف التجار عن إحضار بضاعتهم لبيعها فى جدة. وبعد تعافى المدينتين المقدستين ، وبعد استعادة مواكب الحج ووصول الجنود يوميا إلى المدينة ، وبعد عودة بعض التجار وأفراد الجيش ، أدى ذلك إلى الإسراع فى استعادة مدينة جدة لحالها الذى كانت عليه من قبل. ويقدر عدد سكان جدة بحوالى اثنى عشر ألفا أو خمسة عشر ألفا فى الأشهر السابقة للحج ، ثم بعد ذلك فى شهور الصيف التى تصادف موسم الرياح الموسمية ، يحدث تدفق وتدافع من الأغراب على المدينة ، الأمر الذى يجعل العدد يزداد ليبلغ ما بين ثمانية عشر ألفا ، واثنين وعشرين ألفا ونصف الألف.

سكان جدة شأنهم شأن سكان كل من مكة [المكرمة] والمدينة [المنورة] يكادون يكونون جميعا من الأجانب. هذا يعنى أن أحفاد العرب القدامى الذين سكنوا هذه المدينة ، قد اندثروا على أيدى الحكام ، أو أنهم عادوا إلى بلدانهم ومناطقهم. هؤلاء الذين يمكن وصفهم بأنهم وطنيون قلة قليلة من عائلات الأشراف ، وكلهم من أصحاب العلم ، ومرتبطون بالمساجد أو المحاكم ، الجداويون الآخرون جميعهم من الأجانب

٣٧

أو أحفاد لهم. هؤلاء الأحفاد منهم الحضارمة ومنهم اليمنيون الذين يمثلون القسم الأكبر من سكان جدة. هناك جاليات من كل بلد من بلدان حضرموت واليمن مستقرة فى جدة ، وتربطهم تجارة رائجة بمساقط رءوسهم فى بلادهم. هناك ما يزيد على مائة أسرة هندية (وهى أصلا من سورات ومجموعة قليلة من بومباى) ، كل هؤلاء مقيمون فى جدة ، ويمكن أن نضيف إلى هذه الجاليات بعضا من أهل الملايو وبعضا آخر من أهل مسقط. هناك أيضا المقيمون من كل من مصر وسوريا وبارباى ومن تركيا الأوروبية ومن الأناضول ، صور كل من هؤلاء وسماته يمكن أن يراها المتفحص فى وجوه أحفادهم الذين تحولوا إلى كتلة عامة مختلطة ، ويعيشون بالطريقة العربية ويرتدون أيضا ثيابهم بالطريقة العربية. الهنود فقط هم الذين بقوا عرقا مميزا من حيث السلوكيات والملابس والعمالة. ليس هناك مسيحيون مقيمون فى جدة ، لكن هناك قلة قليلة من اليونانيين الذين يأتون من أرخبيل الجزر اليونانية بين الحين والآخر ، ويحضرون معهم من مصر بضاعة لبيعها فى سوق جدة. فى زمن الأشراف كان هؤلاء اليونانيون يجبرون على ارتداء ملابس محددة ، ومحرم عليهم الاقتراب من بوابة مكة ، لكن بعد أن أصبح الأتراك سادة على الحجاز ألغوا هذه القيود ، وأصبح بوسع المسيحى الآن التمتع بالحرية المطلقة هنا فى جدة ، وإذا ما توفى المسيحى فإنه لا يجرى دفنه على الشاطئ (باعتبار هذه أرض مقدسة داخلة ضمن المدينة المقدسة أيضا) ، وإنما يجرى دفنه فى جزيرة من الجزر الصغيرة الموجودة فى خليج جدة كان اليهود فى الأزمان السابقة يعملون سماسرة ووسطاء فى جدة ، ولكنهم طردوا منها قبل أربعين عاما على أيدى سرور ، الحاكم الذى جاء قبل الشريف غالب ، وجاء ذلك نتيجة سوء تصرف البعض من هؤلاء اليهود. تراجع هؤلاء اليهود إلى اليمن أو إلى صنعاء. خلال موسم الرياح الموسمية يقوم بعض البنيانيين بزيارة جدة فى سفن هندية ، لكنهم يعودون دوما مع تلك السفن ولا يبقى منهم أحد للإقامة فى جدة.

٣٨

هذا الخليط من الأعراق فى جدة ناتج عن الحج الذى يقوم خلاله التجار الأثرياء بزيارة الحجاز ومعهم صفقات كبيرة من البضاعة. بعض هؤلاء التجار يعجزون عن التعجيل بتحصيل مديونياتهم وتسوية حساباتهم ، مما يضطرهم إلى البقاء عاما آخر ، خلال هذه الفترة يسكن هؤلاء ، حسب تقاليد البلاد وأعرافها ، مع بعض الإماء الحبشيات اللاتى سرعان ما يتزوجونهن ، وعند ما يجد هؤلاء التجار أنفسهم بصحبة أسرة يقتنعون بالبقاء فى جدة والإقامة فيها. وبذلك نجد أن كل موسم من مواسم الحج يضيف أعدادا جديدة إلى السكان لا فى جدة وحدها ، وإنما فى مكة أيضا ، وهذا أمر ضرورى نظرا لأن معدل الوفاة فى المدينتين أعلى بكثير من معدل المواليد.

أهل جدة يكادون يكونون جميعا يعملون بالتجارة ، ولا يمارسون أى نوع من الصناعات أو الحرف اللهم إلا باستثناء الأشياء الملحة من تلك الصناعات أو الحرف.أهل جدة جميعا على وجه التحديد إما يعملون فى البحر ، أو فى حرف البحر ، أو يعملون فى حركة النقل فقط بالسفن مع الجزيرة العربية. وجدة تستمد أهميتها لا من كونها ميناء لمكة [المكرمة] ، وإنما لأنها ميناء لمصر ، أو الهند ، أو الجزيرة العربية كلها ؛ فكل صادرات هذه الدولة المتجهة إلى مصر تمر أول ما تمر من خلال أيدى تجار جدة. من هنا نجد أن جدة أغنى من أى مدينة مماثلة لها فى الممتلكات التركية. الاسم العربى لجدة معناه «الثراء أو الغنى» ، وبذلك فهو اسم على مسمى بحق. وأهم تاجرين فى جدة هما : الجيلانى والسكّات ، وهما من أصل مغربى (*) ، وقد استقر جداهما هنا فى جدة ، ومعروف أنهما يمتلكان ما يتردد بين مائة وخمسين ألف جنيه إنجليزى ومائتى ألف. هناك عديد من الهنود الذين جمعوا رءوس أموال مساوية لتلك التى سبقت الإشارة إليها ، وهناك ما يزيد على اثنى عشر منزلا (بيتا) يمتلك كل واحد من أصحاب هذه البيوت ما يتردد بين أربعين ألف جنيه إنجليزى وخمسين ألفا. تجارة الجملة تجرى هنا بسهولة ويسر وتحقق أرباحا كبيرة ، ويقل

__________________

(*) مغربيين ، بمعنى «سكان الغرب» ، وهذا الاسم يطلقه عرب الشرق على مواطنى دول الباربارى.

٣٩

فيها الغش والخداع عن أى مكان آخر من أماكن الليفانت التى سبق أن قمت بزيارتها ؛ والسبب الرئيسى وراء كل ذلك هو أن الصفقات كلها يجرى دفع أثمانها نقدا ، وأن نسبة الفائدة قد تكون معدومة أو قليلة جدا. ويجب عدم تفسير ذلك على أنه راجع إلى شخصية التجار المشهورين بفساد ذممهم وثرواتهم الكبيرة ، ومع ذلك فإن طبيعة التجارة ، والعادات الثابتة المتأصلة ، كل ذلك هو الذى يجعل التجارة هنا أقل متاعب وتآمرا عنها فى أى بلد آخر من بلدان الشرق.

يمكن تقسيم تجارة جدة إلى فرعين رئيسيين هما : تجارة البن ، والتجارة الهندية ، وتجارة مصر لها علاقة بهذين الفرعين. السفن المحملة بالبن تأتى من اليمن على مدار العام دون الالتزام بفصل بعينه ، وطوال الرحلة تحاول تلك السفن الإبحار بالقرب من الساحل ، حتى تتمكن من الاستفادة من ميزة نسيم البر خلال الموسم الذى تسود فيه الرياح الشمالية ، التى تجعل الإبحار فى منتصف المجرى أمرا صعبا. هذه السفن تتخلص من حمولتها نظير مبالغ من الدولارات ، التى هى بمثابة السلعة الوحيدة التى يأخذها التجار اليمنيون مقابل ذلك البن. تجارة البن هذه تتعرض لتقلبات كثيرة ، ويمكن اعتبارها شكلا من أشكال اليانصيب الذى لا يقبل عليه سوى هؤلاء الذين لديهم رءوس أموال كبيرة تحت تصرفهم ، والذين يقوون على تحمل الخسائر الكبيرة بين الحين والآخر. كما كانت أسعار البن فى جدة يجرى تحديدها ، بناء على توجيهات ونصائح من القاهرة ، فإن هذا السعر يتباين مع وصول السفن التى تجىء من السويس. أسعار البن فى السويس تعتمد على طلب بن المخا فى تركيا ، وبذلك يكون ذلك السعر متقلبا أيضا. عند ما وصلت إلى جدة كانت أسعار البن خمسة وثلاثين دولارا للوزنة التى مقدارها مائة ثقل ، وبعد ذلك بثلاثة أسابيع انخفضت أسعار البن إلى أربع وعشرين دولارا ، تأسيسا على معاهدة السلام بين إنجلترا وأمريكا ، وعلى إثر توقع استيراد البن من غربى الهند بكميات كبيرة فى كل من سمرناSmyrna وإسطنبول. الطبيعة الخطرة لتجارة البن تحتم وجود كثير من التجار الذين لا يورطون أنفسهم فيها ، اللهم إلا إذا كانوا يقومون بدور العملاء الوكلاء

٤٠