ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-387-1
الصفحات: ٣٠٥
الجزء ١ الجزء ٢

وإنما تحت اسم «احتياجات الرجل». يجرى استيراد خراطيم الشياش الفارسية من بلاد اليمن ، أما ثمار جوز الهند فيجرى جلبها من جزر الهند الشرقية ، ومن ساحل جنوب إفريقيا الشرقى ، ومن بلاد الصومال ، ويمكن الحصول على هذه الثمار وهى طازجة تماما وبأسعار منخفضة خلال فترة الرياح الموسمية ، ويبدو أن أهل جدة ومكة مغرمون بتجارة جوز الهند. الحبات الكبيرة من جوز الهند يجرى استعمالها فى صناعة البوارى ، وإن شئت فقل الشيشة الفارسية الشعبية ، أما حبات جوز الهند الصغيرة فيستعملونها فى صناعة علب السعوط.

يأتى الصابون من السويس التى يجلب إليها من سوريا ، وهى التى تمد ساحل البحر الأحمر كله بالصابون. تجارة رائجة ، والقسم الأكبر منه فى أيدى تجار حبرون ، التى (التى يطلق العرب عليها اسم الخليل) الذين ينقلون الصابون إلى جدة ، إذ إنها المكان الذى يوجد فيه هؤلاء التجار بصفة دائمة. اللوز والزبيب يأتيان من الطائف ، ومن جبال الحجاز ، ويجرى تصدير كميات كبيرة منه إلى جزر الهند الشرقية. اللوز من نوعية ممتازة ، وحبوب اللوز صغيرة وسوداء اللون ، لكنها حلوة المذاق. ويجرى صناعة مشروب سكرى من كل من الزبيب واللوز.

ثمانية عشر محلا للعقاقير ، أصحاب هذه المحلات كلهم من جزر الهند الشرقية ، والغالبية العظمى منهم من سورات فى الهند. هذه المحلات تبيع إلى جانب كل أنواع العقاقير : الشموع والورق والسكر والعطر والبخور ، وأهل الحضر يستخدمون كميات كبيرة من البخور الذى تستعمله الأسر المحترمة فى تعطير الغرف يوميا وبخاصة فى الصباح ، والمستكة هى وخشب الصندل يجرى وضعهما على الفحم النباتى المشتعل طلبا لتعطير أجواء الغرف ، والتوابل بكل أنواعها هى والعقاقير الباعثة على الدفء يشيع استعمالها فى الحجاز ، ويندر شرب القهوة فى المنازل دون خلطها بالهيل أو القرنفل ، كما أن الفلفل الأحمر الذى يجلب من الهند أو من مصر يدخل فى كل الأطباق هنا. وهناك سلعة تجارية مهمة تدخل ضمن ما يبيعه بائعو العقاقير فى جدة ومكة ، هى زر الورد الذى يجرى جلبه من بساتين الطائف. أهل الحجاز ، وبخاصة

٦١

النساء منهم ينقعن زر الورد فى الماء ليستخدمن الماء بعد ذلك فى وضوئهن ، هن أيضا يغلين هذه الورود الصغيرة مع السكر ، ليصنعن منها شرابا طيب الرائحة. السكر الذى يباع فى محلات بيع العقاقير يجرى إحضاره من الهند ، هذا السكر يميل لونه الأبيض إلى الاصفرار ، وهو شديد النقاء لكنه على شكل مسحوق. يجرى استيراد كمية صغيرة من السكر من مصر ، لكن الناس هناك لا يستلطفون السكر المصرى ، الناس هنا يفضلون بشكل عام كل ما يأتى من الهند ، ظنا منهم أن المنتجات الهندية أجود ، هذا تماما مثلما يحدث للمنتجات البريطانية التى تفضلها سائر دول القارة الأوروبية. بائعو العقاقير الذين من أصل هندى هنا يملكون ثروات كبيرة ، وتجارتهم مربحة جدا ، ولا يمكن للعرب منافستهم فى هذا المجال. فى كل من مكة وأيضا فى الطائف والمدينة المنورة وكذلك فى ينبع نجد أن باعة العقاقير كلهم ينحدرون من أصل هندى ، وعلى الرغم من استقرار هؤلاء الباعة فى البلاد منذ أجيال عدة ، وعلى الرغم أيضا من تطبيع حياتهم تطبيعا كاملا ، وعلى الرغم من أنهم يميزون أنفسهم ببعض العادات البسيطة عن العرب ، فإنهم لا يستلطفونهم بشكل عام ، ويتهمونهم بالجشع والخداع.

هناك أيضا اثنا عشر دكانا تبيع بضائع صغيرة من صناعة الهند ، من قبيل أطقم الخزف ، رءوس الشياش ، والملاعق الخشبية ، وحبات السبح المصنوعة من الزجاج ، والسكاكين والمسابح والمرايا وأوراق اللعب ، إلخ. هذه الدكاكين مملوكة للهنود ، وغالبيتهم من بومباى. قليل جدا من البضاعة هى التى تشق طريقها إلى هنا ، فيما عدا الإبر والمقصات والشغال الذى يستعمله الخياطون ، وكذلك المبارد ، يمكن القول إن الأشياء الأخرى التى من هذا القبيل تأتى كلها من الهند. زد على ذلك أن الأوانى الفخارية المصنوعة فى الصين تحظى هنا بقبول كبير فى الحجاز. السكان الأثرياء هنا يستعرضون مجموعات قيمة من الخزف الصينى الفاخر ، وهم يعرضون مثل هذه الأوانى الخزفية على رفوف فى غرف الاستقبال ، وهذا هو ما يحدث فى سوريا. لقد شاهدت فى كل من مكة وجدة ، أطباقا من الخزف توضع على المائدة قطر الواحد منها

٦٢

لا يقل عن قدمين ونصف القدم ، ويحمل الواحد منها شخصان ، وفى كل طبق منها خروف مشوى كامل. السبح أو حبات السبح الزجاجية يجرى تصديرها من جدة إلى كل من سواكن والسوق الحبشية ، هذه الحبات منها ما يصنع فى مدينة البندقية ومنها ما يصنع فى مدينة حبرون (الخليل). بدويات الحجاز يلبسن هذه العقود الزجاجية أيضا ، على الرغم من أنهن يستعملن الأساور المصنوعة من القرون سوداء اللون ، والعقود المصنوعة من الكهرمان. هذه الدكاكين هى التى تبيع حبات العقيق ، التى يطلق الناس هنا عليها اسم الريش (*) التى تأتى من بومباى فى الهند ويجرى استعمالها فى أعماق إفريقيا. هناك أيضا حبات حمراء اللون تصنع من الشمع ، أشاهدها هنا بكميات كبيرة. هذه الحبات الحمراء تأتى من الهند ، وغالبا ما تكون مخصصة للحبشة. تباع هنا أيضا تشكيلة كبيرة من المسابح ، منها ما هو مصنوع من اليسر (**) وهو الأغلى ، واليسر هذا نوع من المرجان الذى ينمو فى البحر الأحمر ، وأفضل أنواع ذلك المرجان هو النوع الذى يزرع بين جدة والقنفذة ، ولونه أسود غامق ، ويجرى تلميعه بنوع من الورنيش ، والخيط المعلق فيه مائة حبة من حبات اليسر يباع بما يتراوح بين دولار واحد وأربعة دولارات طبقا لحجم الحبة ، والذين يصنعون حبات اليسر هذه هم الصناع المهرة فى جدة ، والطلب كبير على مسابح اليسر فى الملايو. هناك مسابح أخرى (يجرى جلبها من الهند) تصنع من مادة الكالمباك طيبة الرائحة ، أو من خشب الصندل ، والطلب كبير على هذا النوع من المسابح فى كل من مصر وسوريا. قلة قليلة من الحجاج هم الذين يغادرون الحجاز ولا يشترون بعضا من تلك المسابح من المدينتين المقدستين ، وذلك على سبيل الهدايا لأصدقائهم فى بلادهم.

__________________

(*) راجع كتاب أسفار فى بلاد النوبة ، المقال المعنون : شندى.

(**) حوش اليسر ، وهو اسم الحارة الرئيسية فى جدة ، مأخوذ من كلمة «يسر».

٦٣

أحد عشر دكانا للملابس ، يجرى فيها كل صباح بيع مختلف الملابس بطريقة المزاد العلنى. القسم الأكبر من تلك الملابس عبارة عن طرز (موديلات) تركية ، يبيعها تجار الطبقتين الأولى والثانية ، مع إحداث بعض التعديلات الطفيفة فى قصات الملابس. طوال موسم الحج يتردد الناس على هذه الدكاكين لشراء الحرام أو الإحرام ويقصد به ملابس الإحرام ، التى هى عبارة عن ذلك الرداء الذى يرتديه الحاج والذى يتكون من قطعتين من قماش الشراشف الهندى أبيض اللون. يأتى بدو الحجاز إلى هذه الدكاكين أيضا لشراء العباءات الصوفية ، أو إن شئت فقل عباءات البدو التى تجلب من مصر ، والتى يعتمدون عليها فى هذه السلع ، ومن هنا يبدو هؤلاء البدو متكاسلين تماما مثل باقى أهل الحجاز ؛ فقد جرت العادة أن تقوم زوجات البدو بصناعة العباءات الخاصة بهن وبأزواجهن. هذه الدكاكين تجلب إلى جدة أيضا بعضا من السجاد التركى من الأصناف الرديئة ، والذى يشكل جزءا أساسيا من تأثيث خيمة شيخ القبيلة ، هذه الدكاكين تبيع أيضا بالتجزئة الواردات الأخرى كلها التى تجىء من مصر ، والتى تدخل ضمن الملبوسات مثل الملاءات ، والمفارش المصنوعة من القطن والكتان الذى تصنع منه القمصان ، والقمصان المصبوغة باللون الأزرق والتى يلبسها الفلاحون ، والنعال صفراء اللون (البلغ) التى يلبسها التجار والسيدات أيضا ، والطواقى حمراء اللون ، وكل أنواع الملبوسات ، وشيلان الكشمير المستعملة وشيلان الموسلين ... إلخ.

هناك أيضا ستة محلات هندية تبيع الأشياء بالقطع والنسيج بالأطوال المحددة ، هذه الدكاكين تبيع القماش الفرنسى ، وشيلان الكشمير ... إلخ ، هذه السلع مملوكة لتجار كبار ولكن وكلاءهم يبيعونها بالتجزئة. كل التجار الكبار تقريبا يقومون فى منازلهم بتجارة التجزئة ، فيما عدا كبار التجار الهنود المقيمين فى جدة بصفة دائمة ، هؤلاء التجار لا يتاجرون إلا فى البضائع الهندية التى تباع بالقطعة أو بالأطوال المحددة. تجار مكة الآخرون يعملون فى أفرع التجارة كلها. شاهدت ذات مرة شقيق التاجر الجيلانى وهو يتشاجر مع بائع ينبعى جائل حول سعر واحدة من الملاءات ،

٦٤

التى يصل سعرها إلى حوالى خمسة عشر شلنا ؛ لكن هذا هو الحال نفسه فى مصر وفى سوريا ، حيث يقوم أثرياء التجار المواطنين بالبيع بالتجزئة فى منازلهم ، وبالتالى يدخلون فى أدق تفاصيل المال والأعمال ، ومع ذلك لا يحتفظ الواحد من هؤلاء التجار بمجموعة كبيرة من الكتبة أو المساعدين ، الذين لا يشكل وجودهم أهمية كبيرة. التاجر التركى لا يمسك أكثر من دفتر حسابى واحد ، وهو يدون فى هذا الدفتر ، من واقع دفتر الجيب ، مبيعاته ومشترياته الأسبوعية أيضا. هؤلاء التجار ليست لديهم تلك المراسلات الواسعة التى يحافظ عليها التجار الأوروبيون ويداومون عليها. تجار جدة أقل تدوينا من التجار الأوروبين ، ولهم صديق فى كل مدينة من المدن التى يتعاملون معها ، وهم يجرون حسابا ختاميا مع هذا الصديق فى نهاية العام. التجار الأتراك ، باستثناء أولئك الذين يعيشون فى الموانئ البحرية ، لا يعملون إلا فى فرع واحد من أفرع التجارة ، وهم لا يتعاملون سوى مع المدينة التى يحصلون منها على بضاعتهم من ناحية ، والمدينة التى يرسلون إليها هذه البضاعة من ناحية ثانية. من هنا ، وعلى سبيل المثال ، نجد أن كبار تجار بغداد الحلبيين ، وهم أناس يتراوح رأسمال الواحد منهم بين ثلاثين ألف جنيه إنجليزى وأربعين ألفا ، يتسلمون بضاعة من أصدقائهم فى بغداد ، ثم يرسلون تلك البضاعة من حلب إلى إسطنبول. وأنا أعرف الكثيرين من هؤلاء التجار الذين ليس لديهم كتبة ، ولكنهم يصرفون أمورهم بأنفسهم. فى القاهرة تجد التجار السوريين يتاجرون فى السلع الدمشقية والحلبية ، ولا صلة بينهم وبين التجار المغربيين ، أو السوريين ، أو حتى تجار جدة.

المعاملات التجارية هنا أبسط بكثير من مثيلاتها فى أوروبا ، نظرا لأن التجار هنا يستخدمون رأسمالهم الخاص ، فضلا عن أن مسألة العمولات هنا أقل بكثير منها فى أوروبا. التاجر هنا عندما يشحن مجموعة من البضائع إلى مكان بعينه يرسل معها أحد شركائه ، أو قريبا من أقربائه إذا لم يكن له شريك مقيم فى المكان الذى يتاجر معه. يزاد على ذلك أن المعاملات البنكية وكذلك الحوالات المالية غير معروفة هنا بين التجار الوطنيين ، وهذا بحد ذاته يوفر الكثير من المتاعب. فى المدن التى توجد فيها

٦٥

مصانع أوروبية ، قد توجد الحوالات والكمبيالات ، لكنها ليست شائعة بين المواطنين الذين لم يألفوا سوى التنازلات.

يزاد على ذلك أن الإجراء الذى يتخذه كل من التجار المسلمين ، والتجار المسيحيين ، وكذلك التجار اليهود والذى يقضى بعدم سحب أى رصيد مطلقا من رأس المال ، يعد سببا آخر من الأسباب التى لا تجعل التركيز على تفاصيل إمساك الدفاتر أمرا ضروريا كما هو الحال فى أوروبا. ولما كان البدوى لا يحصى مطلقا خيام قبيلته ، أو عدد أغنامه ، وكما أن الرئيس العسكرى لا يحصى عدد جنوده ، وكما أن الحاكم لا يقوم باحصاء سكان مدينته ، فإن التاجر بدوره لا يحاول مطلقا التأكد من المقدار الصحيح لثروته ، كل ما يتطلع إليه مثل هذا التاجر هو تقدير تقريبى لتلك الثروة أو الممتلكات ، وهذا ناتج عن اعتقاد مفاده أن إحصاء الثروة يعد مظهرا من مظاهر المباهاة ، وأن الله يعاقب من يفعل ذلك بإنقاص تلك الثروة.

يندر أن يدخل الشرقى فى مضاربات خطرة ، ولكنه يقصر تعاملاته على حدود رأسماله. مسألة الحصول على ائتمانات كبيرة لا تتم إلا بعد كثير من المصاعب ، وسبب ذلك أن أمور الأفراد هنا تكاد تكون معروفة للناس كلهم ، وذلك على العكس من أوروبا. هذا يعنى أن مسألة الفشل فى رد الائتمان يعد أمرا نادرا ، وعندما يصاب تاجر بالحرج نتيجة الفشل فى المضاربة ، أو نتيجة الخسائر الحتمية ، نجد أن دائنيه يمتنعون عن الضغط عليه أو مطالبته ، ويجرى سداد ديونهم بعد سنوات بما يحول بين الرجل وبين النتائج المترتبة على الإفلاس.

وعلى الرغم من ذلك نجد أن التجار الشرقيين معرضون ، من ناحية أخرى ، لإلصاق تهمة الشك فى مدفوعاتهم بهم ، وبخاصة تلك المدفوعات التى يسددها هؤلاء التجار بعد فوات أوانها. زد على ذلك أن التجار المحترمين لا يترددون فى تأخير سداد ديونهم عدة أشهر ، ويمكن القول إن تلك قاعدة سارية فى مصر وسوريا ، أن الديون المحددة المواعيد لا يجرى سدادها إلا بعد ما يقرب من ضعف الموعد المحدد ، لكن هذا التصرف ـ على حد قول العارفين هنا ـ لم يحدث إلا خلال السنوات العشرين الأخيرة

٦٦

فقط ، وإن ذلك جاء نتيجة للكساد التجارى على مستوى العالم من ناحية ، وتناقص رأس المال فى الليفانت من الناحية الأخرى ، وعلى قدر ما شاهدته فى جدة ، فإن الصفقات كلها تقريبا تكاد تكون بالنقد وليست بالأجل.

ثلاثة دكاكين تبيع مواعين من النحاس الأحمر ، إذ توجد فى كل مطبخ من مطابخ الجزيرة العربية تشكيلة كبيرة من الأوانى المصنوعة من النحاس الأحمر ، البدو أيضا لديهم غلاية من النحاس الأحمر فى كل خيمة من الخيام ، هذه الغلايات تأتى من مصر. أهم هذه المصنوعات النحاسية هو ما يسميه الناس الإبريق الذى يستخدمه المسلمون فى الوضوء ، ولا يمكن لأحد من الحجاج الأتراك الوصول إلى الحجاز دون أن يكون معه إبريق ، أو يشترى لنفسه واحدا من جدة فى أضعف الأحوال. توجد فى السوق أيضا بعض الأوانى النحاسية الصينية التى يجلبها أهل الملايو إلى جدة ، لكن هذه الأوانى النحاسية الصينية ليست مطروقة ، وعلى الرغم من أن خام النحاس يكون أفضل من مثيله فى الأناضول ، والذى يجلب من القاهرة ، فإنه لا يحظى برضا أهل جدة.

أربعة دكاكين للحلاقة. الحلاقون هم الجراحون والأطباء فى هذا البلد ، إنهم يعرفون كيف يستنزفون الدم ، كما يعرفون أيضا طريقة تركيب بعض الأدوية ، قلة قليلة من أهل الجزيرة العربية الذين لهم لحى أطول وأكثر كثافة من لحى إخوانهم المواطنين الآخرين يلاقون مصاعب كبيرة فى تشذيب تلك اللحى ، حتى لا تطول شعرة عن الأخرى ، الناس هنا يقصون شواربهم بصفة دائمة ، ولا يسمحون لشواربهم أن تلامس شفاههم ، وهم فى ذلك يختلفون عن أتراك الشمال ، الذين يندر أن يجعلوا المقص يضرب شواربهم الكثيفة. دكاكين الحلاقين يتردد عليها صعاليك الطبقات الدنيا الذين يلجأون إلى تلك الدكاكين لصيد الأخبار ، ولتسلية أنفسهم بالحوار والمناقشات. عثرت فى واحد من دكاكين الحلاقين على واحد من أولئك الذين يقطعون الأختام ، وكان فارسى الأصل ، كانت مهنة ذلك الرجل رائجة ؛ ذلك أن الحاج بعد أن ينتهى من زيارة الأماكن المقدسة يقوم بإضافة كلمة «الحاج» إلى ختمه.

٦٧

أربعة محلات للخياطين. هناك خياطون كثيرون آخرون يعيشون فى سائر أنحاء جدة ، هؤلاء الخياطون معظمهم من الأجانب. كان ترزى البلاط عند طوسون باشا من المسيحيين ، وكانت له سلطة على باقى الخياطين الآخرين فى المدينة ، والذين كانوا يشكون مر الشكوى ليس من مجرد خضوعهم لسب ذلك الخياط ولعنه لهم ، وإنما لعصاه التى كانت تنالهم فى معظم الأحيان.

خمسة صناع للنعال ، ليس هناك صانع أحذية واحد فى الحجاز ، هؤلاء الذين يرتدون أحذية أو نعالا يشترونها من التجار الذين يستوردونها من مصر.

يختلف شكل النعال المستعملة فى الجزيرة العربية من منطقة إلى أخرى ، ويمكن أن نضيف للنعال التى أتينا على ذكرها عشرات من الأنواع الأخرى ، هناك بعض النعال الخاصة بطبقة معينة من البشر. التاجر على سبيل المثال يرفض أن يلبس النعل الذى يستعمله. وهذا هو حال الأحذية فى تركيا ، إذ إن كل منطقة بل وكل طبقة من طبقات المجتمع لها حذاؤها الخاص بها. ومصر والحبشة توردان الجلود السميكة التى تصنع منها النعال.

ثلاثة دكاكين يجرى فيها بيع القراب (قراب الماء) وإصلاحها التى تجلب من سواكن ومن مصر. يجرى تزويد القسم الأكبر من الحجاز بقراب الماء التى يجلبها التجار من سواكن فى السودان ، والطلب كبير على هذه القراب ؛ نظرا لخفة وزنها ولإخاطتها بطريقة أنيقة. قربة الماء التى تجلب من سواكن تستعمل يوميا لمدة حوالى ثلاثة أشهر أو أربعة.

خراطان يثقبان الأنابيب ويصنعان الخرز .. إلخ.

ثلاثة دكاكين تبيع مركزات العطور ، الزبّاد (*) والعود والبلسم المكى وماء الورد الذى يأتى من الفيوم فى مصر. الزبّاد ، والبلسم المكى يندر شراؤهما

__________________

(*) نوع من الطيب.

٦٨

نقيين ، اللهم إلا إذا كان ذلك من المنتج شخصيا. التجار الأحباش يحضرون الزبّاد فى قرون الأبقار ، وهم يبيعونه بواقع أربعة قروش للجرام الواحد ، كان ذلك فى العام ١٨١٤ الميلادى. العنبر يباع أيضا فى هذه الدكاكين ، وأفضل أنواع العنبر يباع بدينارين للمثقال الواحد. والذى يشترى العنبر هنا هم الحجاج الهنود والحجاج الفارسيون.

ساعاتى واحد ، وهو تركى الأصل. كل تجار مكة وجدة يحملون ساعات ، والكثير من تلك الساعات من النوع الإنجليزى جيد الصنع ، هذه الساعات تجلب من الهند أو قد يأتى بها الحجاج من إسطنبول ، ونظرا لأن الحجاج الأتراك قد يحتاجون إلى المال فى الحجاز ، فهذا يضطرهم إلى التفريط فى أشيائهم الثمينة ، وغالبا ما تكون الساعة أول ما يفرط فيه الحاج التركى ، ثم بعد ذلك المسدس ، ومن بعده الخنجر المعقوف ، وأخيرا الغليون الفاخر ، ثم بعد ذلك طبعته المفضلة من القرآن. هذه السلع والأدوات غالبا ما توجد بكثرة فى أسواق المزاد فى كل من جدة ومكة.

دكان واحد يبيع غلايين التبغ التركية والفارسية. الغلايين الفارسية تأتى رأسا من بغداد ، والأثرياء من الناس يتباهون فى غرف جلوسهم بمجموعة كبيرة من النرجيلات الفاخرة ، كل واحدة من هذه النرجيلات تكلف حوالى مائة دولار.

سبعة دكاكين للصرافة. هؤلاء الصيارفة يجلسون فوق مقاعد فى عرض الشارع ، وأمامهم صندوق يحتوى على النقود ، فى الماضى كان كل هؤلاء الصيارفة من اليهود ، والحال لا يزال على ما كان عليه ، اللهم إلا باستثناء بعض الحالات فى كل من القاهرة ودمشق وحلب ، لكن بعد أن طرد الشريف سرور اليهود من الحجاز ، راح أهل جدة أنفسهم يمارسون هذه المهنة التى يميلون إليها بطبيعتهم ، على كل طاولة من طاولات الصيارفة توجد مجموعة من الأشخاص لا يقلون عن ستة أفراد. وممارسة هذه المهنة تحتاج إلى مبالغ نقدية كبيرة ، ومع ذلك فهى مهنة مربحة. قيمة النقود هنا سريعة التغير عن سائر أنحاء الشرق الأخرى التى أعرفها. أسعار الدولار والسكوينات تكاد تتغير كل يوم ، ويحرص الصيارفة على أن يكونوا هم الرابحون دوما. طوال فترة بقاء

٦٩

الأسطول الهندى فى الميناء ترتفع قيمة الدولار ارتفاعا كبيرا جدا. عندما كنت فى جدة ارتفع سعر الدولار ليصل إلى اثنى عشر قرشا ، وبعد رحيل الأسطول الهندى وبعد أن يقل الطلب على الدولار ينخفض السعر. فى شهر يناير من العام ١٨١٥ الميلادى كان سعر الدولار تسعة قروش. تختلف قيم العملات الذهبية فى ضوء اختلاف قيمة الدولار.

فيما قبل كانت العملات المعدنية السائدة فى الحجاز هى السكوين البندقى والسكوين المجرى والدولار الإسبانى والنقود المسكوكة فى إسطنبول. كانت العملات المصرية كلها مستبعدة (*) ، لكن اعتبارا من وصول قوات محمد على باشا أصبحت كل عملات القاهرة المعدنية يجرى تداولها بطريقة قسرية ، يضاف إلى ذلك أن النقود الفضية المصرية تحتل المرتبة الثانية بعد الدولار الإسبانى. أساء باشا مصر ، الذى له حق سك النقود ، أساء مؤخرا استعمال هذا الحق ؛ فى العام ١٨١٥ الميلادى أصدر الباشا أوامر لدار سك النقود بسك مبلغ يقدر بحوالى ٧ ملايين قرش أى ما يعادل حوالى مائتى ألف جنيه إنجليزى ـ حسب سعر الصرف ـ ، وأجبر الناس على دفع ثمانية قروش نظير الدولار ، على الرغم من معرفة الجميع أن الدولار يساوى اثنين وعشرين قرشا أو ثلاثة وعشرين. فى الحجاز لم تكن لدى باشا مصر وسائل تمكنه من فرض إجراءاته التعسفية المستبدة ، وقد تصادف أن كان الدولار فى المناطق الداخلية من الحجاز ، التى تتمركز فيها القوات التركية ، يساوى ما يتردد بين ثمانية عشر قرشا وتسعة عشر. يزاد على ذلك أن البدو يرفضون التعامل بالقروش المصرية ، حتى لو انخفضت قيمتها ، ويرفضون قبول أى شىء سوى الدولارات ، هذا التصميم أجبر الباشا على الاستسلام أمامه فى كثير من الأحيان.

__________________

(*) نقلا عن مؤرخى مكة ، يبدو أن الأشراف كان لهم امتياز حق سك العملات الخاصة بهم تحت اسم سلطان إسطنبول ، كان ذلك فى أواخر القرن السابع عشر ، لكن هذا الامتياز لم يعد قائما فى الوقت الحالى.

٧٠

البارة ، أصغر العملات المعدنية التركية (الناس هنا فى جدة يسمونها الديوانى) هى القطعة المعدنية الشائعة فى سائر أنحاء الحجاز ، وعليها طلب كبير ، باعتبارها أكثر ثباتا من الناحية القيمية عن القرش ، وذلك على الرغم من أنها (البارة) تسك هى الأخرى فى القاهرة. القرش يساوى ٤٠ بارة ، لكن فى موسم الحج ، عندما يكثر الطلب على الفكة الصغيرة اللازمة للتنقلات اليومية للحجاج فإن الصيارفة يصرفون القرش بخمس وعشرين بارة. هناك بعض الروبيات الهندية فى سوق جدة ، لكن هذه الروبيات لا يجرى صرفها أو فكها ، لم يحدث مطلقا أن التقيت أو شاهدت عملات معدنية مسكوكة بأوامر من إمام اليمن.

فى هذا الشارع الرئيسى نفسه توجد عشرة دكاكين كبيرة أو بالأحرى عشر وكالات عامرة دائما بالغرباء والبضائع ، كانت تلك الدكاكين أو الوكالات ملكا للشريف ، لكن حاليا أصبحت من ممتلكات الباشا الذى يفرض إيجارا سنويا على التجار. فى سوريا يطلق على هذه الوكالات اسم خانات ، وفى الحجاز يسمونها حوش ، وهى بالعامية المصرية تعنى «فناء».

فى شارع مجاور للشارع الرئيسى تعيش قلة قليلة من الحرفيين : الحدادين وسباكى الفضة والنجارين وبعض القصابين .. إلخ ، والسواد الأعظم منهم من المواطنين المصريين.

سوف يلاحظ القارئ من الصفحات السابقة ، أن جدة تعتمد اعتمادا كليا فى وارادتها ، أو بالأحرى على تلك الواردات التى تأتى من مصر أو من جزر الهند الشرقية ، وهذا هو أيضا حال معظم السلع التافهة. الافتقار إلى الأيدى العاملة ، وارتفاع أسعار العمل اليدوى ، وكذلك التكاسل وعدم الجد الكامن فى المواطنين فى الحجاز ، كل ذلك حال بين هؤلاء المواطنين وبين إقامة أى نوع من أنواع الصناعة ، اللهم إلا باستثناء السلع التى لا غنى عنها ، من هنا نجد أن سكان الحجاز على طرفى نقيض من العرب السوريين والعرب المصريين ، الذين يتميزون بالجد ، والذين ـ على الرغم من الصعاب التى تعترض طريقهم بفعل الحكومة ـ أقاموا العديد من الصناعات

٧١

التى تجعلهم فى بعض أجزاء البلاد مكتفين تماما عن الواردات الأجنبية ... سكان الحجاز يبدون وكأنهم ليس لهم سوى حرفتين : التجارة ورعى الماشية. التجارة تشغل بال الحضر جميعهم ، ولا يستثنى من ذلك العلماء ، أو أولى العلم. كل واحد من الحضر يحاول استخدام رأس المال الذى بحوزته أيا كان ، فى تجارة مفيدة ، كما يتمكن من العيش دون بذل مجهود بدنى كبير ، والسبب فى ذلك أن أهل الحجاز يعارضون المجهود البدنى مع أنهم يتحرقون شوقا لتحمل كل القلق والمخاطر التى لا تنفصل عن التجارة. يصعب أيضا العثور على أشخاص يقومون بالعمل العام الذى يؤديه الحمالون .. إلخ. أما هؤلاء الذين لهم مهن شبيهة بتلك المهن فهم أصلا من الأجانب ، أو بالأحرى من مصر أو سوريا ، ومن الحجاج الزنوج ، العرق الوحيد من أعراق الجزيرة العربية الذى وجد أفراده مجدّون خلافا لبقية الأعراق الأخرى هم أهل حضرموت ، أو الحضارمة كما يقول لهم الناس. كثير من هؤلاء الحضارمة يعملون خدما فى بيوت التجار وبوابين ومراسلين ، وحمالين ، وهم مفضلون فى هذه الحرفة على غيرهم نظرا لأمانتهم وجدهم. كل مدينة كبيرة من مدن الشرق لها جنسية خاصة ، أفرادها هم الذين يقومون بأعمال الحمالين ، فى حلب نجد أن من يقومون بأعمال الحمالين هم الأرمن الذين يجيئون من جبال آسيا الصغرى ، والطلب عليهم كبير فى هذه المهنة ، فى دمشق نجد أن سكان جبل لبنان هم الذين يقومون بأعمال الحمالين ، فى القاهرة نجد البرابرة النوبيين هم الذين يقومون بهذه الأعمال ، وفى مكة وجدة يقوم الحضارمة بهذا العمل. هؤلاء الحضارمة شأنهم شأن السوريين يعدون متسلقين ممتازين للجبال. معروف أن مؤهلات شبيهة هى التى أهلت أبناء بلدى متسلقى جبال الألب لأن يقوموا بالدور نفسه فى باريس. هناك تشابه واضح بين مواطنى هذه البلاد كلها. جرت العادة أن يعود مثل هؤلاء الناس إلى مواطنهم ومعهم مكاسبهم ، ليمضوا بقية حياتهم مع أسرهم. على الرغم من هذا المصدر هناك حاجة ماسة إلى الخدم فى الحجاز ، لا أحد من أولئك الذين ولدوا فى المدن المقدسة على استعداد للعمل بالأعمال الوضيعة ، إلا إذا كان دافعه إلى هذا العمل هو الخوف من الموت جوعا ، وما إن يتحسن حال مثل هذا المواطن حتى يتوقف عن العمل ، ويتحول إلى بائع جائل أو إلى

٧٢

شحاذ. عدد الشحاذين فى كل من مكة وجدة كبير جدا ، وتجار جدة كلهم يعلمون أن الجداوى لا يمكن أن يلجأ مطلقا إلى العمل طالما كان قادرا على الإبقاء على رمق الحياة فيه عن طريق الشحاذة وسؤال الناس. التسول أمر يشجع عليه الحجاج الذين يبالغون فى استعراض إحسانهم فور نزولهم على هذا الجزء من الأرض المقدسة.

فيما يتعلق بأهل جدة وطبيعتهم ، أجد أن الفرصة مهيأة لإبداء بعض الملاحظات على وصفى لسكان مكة الذين يشبهون سكان جدة. واقع الأمر أن الأسر المحترمة لها منازل فى المدينتين ، وغالبا ما تنتقل تلك الأسر بين هذه المنازل.

جدة يحكمها باشا بثلاثة شرائط ، ويجىء فى مقدمة السواد الأعظم من الباشوات الآخرين ، وسبب ذلك هو ارتباط ذلك المكان بالأراضى المقدسة ، لكن حكومة جدة لا تعد تكريما أو تشريفا من وجهة نظر الأعيان من الأتراك ، الذين ينظرون إلى جدة دوما باعتبارها منفى وليست مكانا مفضلا ، وغالبا ما كان حكم جدة يسند إلى السياسيين أصحاب السمعة السيئة. والباشا لا يعد نفسه مجرد وال على جدة أو حاكما عليها ، وإنما هو حاكم أو وال على سواكن وعلى الحبش ، ومن باب تعزيز ذلك اللقب يحاول الباشا التحكم فى موظفى الجمارك الذين كانوا يعتمدون ، قبل حكم محمد على باشا ، اعتمادا كليا على الشريف.

أدت سلطة شريف بك إلى التقليل إلى حد كبير من أهمية باشوية جدة ، وتحول اللقب إلى مجرد تمييز من الناحية الشرفية ليس إلا لحامل ذلك اللقب ، فى الوقت الذى كان يقيم فيه فى إحدى المدن التركية أو فى إسطنبول ، دون أن يحاول تولى سلطة الحكم. كان هناك استثناء فى العام ١٨٠٣ الميلادى ، عندما جلا الفرنسيون عن مصر ، إذ سافر شريف باشا إلى جدة ومعه قوة مكونة من أربعمائة جندى أو خمسمائة ، لكنه مثل من سبقوه أصبح مجرد أداة للشريف غالب ، وفى العام ١٨٠٤ الميلادى انتهى مستقبل شريف باشا العملى بعد أن لقى ربه بصورة مفاجئة ، وكان ذلك مصير كثير من الباشوات الذين سبقوه فى جدة وفى مكة.

٧٣

بناء على أوامر من السلطان الذى جرى الاعتراف بسلطته الاسمية على الحجاز إلى أن حدث الغزو الوهابى الأخير ، كان الدّخل الناتج عن الجمارك التى يجرى تحصيلها من جدة يتم تقسيمها بالتساوى بين الباشا وشريف مكة ، فى حين يتولى الباشا حكم المدينة كلها. وعندما بدأ الأتراك فى إخضاع آسيا كان الشريف يحصل على ثلث ذلك الدّخل فقط ، ولم يحصل الشريف على نصف هذا الدخل الجمركى إلا فى العام ١٠٤٢ الهجرى (*) ، وعقب ذلك مباشرة لم يغتصب الشريف غالب حكم جدة فقط ، وإنما حصل الجمارك لحسابه الشخصى ، وأصبح الباشا يعتمد على ما يعطيه الشريف غالب إياه.

عقب وفاة شريف باشا مباشرة اضطر الشريف غالب إلى تسليم مكة للوهابيين ، بعد أن حاصره سعود فى جدة فى العام السابق ، وسرعان ما أعلن الشريف غالب على الملأ ولاءه واتباعه للمذهب الوهابى ، على الرغم من أنه كان لا يزال مسيطرا على جدة كلها ، وعلى المداخيل التى تأتى من جماركها ، والتى كانت تشكل المصدر الرئيسى لدخل هذا الرجل. لم يدخل الوهابيون المدينة التى أعلنت على الملأ اتباعها لمذهبهم الدينى ، وهنا اضطر الجنود الأتراك إلى التراجع فى اتجاه مصر ، أو أى مكان آخر ، واعتبارا من ذلك التاريخ وإلى العام ١٨١١ الميلادى جرى استبعاد السلطة التركية استبعادا تاما عن الحجاز.

فى العام ١٨١١ الميلادى بدأ محمد على باشا عملياته ضد الوهابيين ، بإرسال مجموعة من الجند بقيادة ولده طوسون بك الذى انهزم فى المنطقة ما بين اليمن والمدينة المنورة ، كانت الحملة أو العملية الثانية التى وقعت فى العام ١٨١٢ الميلادى أكثر نجاحا من سابقتها ، ففى الوقت الذى استولى فيه طوسون بك فى شهر سبتمبر من ذلك العام على المدينة المنورة ، واصل مصطفى بك صهر محمد على باشا ، سيره مباشرة بالخيالة التى كانت تحت قيادته إلى كل من جدة ومكة ثم الطائف ،

__________________

(*) راجع العصمى ، تاريخ الحجاز.

٧٤

واستسلمت المدن الثلاث دون إراقة الدماء. كان الشريف غالب ، اعتبارا من لحظة تخوفه من احتمال نجاح الحملة التى يقوم بها مصطفى بك ، قد سارع إلى الدخول فى مراسلات سرية مع مصر ، الأمر الذى جعله يعلن على الملأ أنه صديق للأتراك الذين دخلوا جدة دخول الأصدقاء ، وسرعان ما أسبغ الباب العالى لقب باشا جدة على طوسون ولد محمد على ، وذلك نظير خدماته التى قدمها للباب العالى. سوف آتى على ذكر تفاصيل هذه الحرب فى موضع آخر ، ولذلك لن أتطرق هنا إلا إلى الحقيقة التى مفادها أنه بعد دخول العثمانيين ـ أو إن شئت فقل الأتراك ـ جدة نشبت مشاجرة بين الباشا والشريف غالب حول الجمارك التى كان قد تقرر تقسيمها بينهما ، لكن نظرا لأن الباشا كان هو صاحب القوة الأكبر ، فقد احتفظ بالجمارك كلها لنفسه ، وألقى القبض على الشريف غالب وأرسله أسيرا إلى تركيا. واعتبارا من ذلك التاريخ أصبحت المدينة كلها تحت تصرفه وإمرته ، ولم يكن الشريف الجديد المدعو يحيى سوى موظف على كشوف مرتبات طوسون باشا.

كانت جدة فى زمن الشريف غالب تحكم بواسطته عندما يقيم فيها ، أو بواسطة موظف يدعى الوزير عندما كان الشريف غالب يتغيب عن المدينة ، فى حين جرى إسناد تحصيل الجمارك إلى موظف آخر ، كانوا يطلقون عليه اسم الجمركى كما أسند شرطة الميناء إلى أمير البحر وأمير البحر هذا لقب يساوى مدير الميناء ، فيما بعد أصبح الوزير عبدا أسود من عبيد الشريف غالب ، وكان الناس يكرهونه لتعاليه وكبريائه وأسلوبه الاستبدادى. كانت إقامة الشريف غالب فى جدة مسألة جد نادرة ، وسبب ذلك أن مؤمرات الرجل المستمرة مع البدو ، وكذلك تآمره على القبائل الوهابية حتمت عليه البقاء فى مكة ، ذلك الموقع المركزى المهم.

لم يغير العثمانيون شكل الحكم الذى كان سائدا فى زمن الشريف غالب. وتصادف أن طوسون باشا لم يستطع الإقامة فى عاصمته إلا نادرا ؛ نظرا لأنه كان دوما تحت إمرة والده الذى كان يتلقى من الباب العالى التعليمات والتوجيهات الكاملة

٧٥

الخاصة بحرب الحجاز والتصرف فى موارد ذلك البلد. وقد جرت الإفادة من طوسون عن طريق تجواله بالقوات التى كانت تحت قيادته إلى أن عاد إلى القاهرة فى خريف العام ١٨١٥ الميلادى واعتبارا من العام ١٨١٢ الميلادى أصبح الآمر (القائد) العسكرى يقيم فى جدة بصورة دائمة ، ومعه حامية قوامها مائتا رجل أو ثلاثمائة رجل ، التى حرص الباشا على تغييرها كل ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر ، هذا الآمر العسكرى كان اسمه سيد على أو جقلى ، وقد أوكل إليه تحصيل الجمارك ، وتنظيم شئون الحياة المدنية ، والمراسلات مع كل من القاهرة ومكة ، ونقل الجنود ، والمخزونات والمستودعات ، وكذلك التجارة الحكومية بين مصر وجدة ، كما أوكلت إلى ذلك الرجل أيضا مسئولية خزانة الباشا. كان والد سيد على أوجقلى ، من آسيا الصغرى ، وكان من الفيلق الإنكشارى (الأوجاك) ، الأمر الذى أضفى على ولده لقب أوجقلى ، وتجار جدة يكرهون هذا الأوجقلى ، نظرا لأنهم ما زالوا يتذكرون ذلك الرجل عندما كان يبيع المكسّرات فى الشارع قبل عشرين عاما. فى زمن حكم الشريف غالب كان يستخدم ذلك الرجل فى أعماله التجارية الخاصة ، ونظرا لأن سيد أوجقلى كان صاحب مواهب كثيرة ونشاط كبير ، إضافة إلى معرفته الجيدة للغة التركية ، لم يكن أمام محمد على باشا رجل آخر يمكن وضعه فى ذلك المنصب الذى يحتله هذا الرجل حاليا. دخل جدة العام يتمثل فى المتحصلات التى تأتى من الجمارك بصفة أساسية ، وهذه الجمارك يطلق عليها هنا اسم العشور ، هذه العشور فى ضوء ما قيل لى تعادل عشرة فى المائة يجرى تحصيلها على البضائع المستوردة بكل أنواعها ، لكن فى ضوء العبث الذى سار زمنا طويلا جرى رفع هذه النسبة إلى ما هو أعلى من عشرة فى المائة على بعض السلع ، فى حين كانت السلع الأخرى تدفع أقل من ذلك. فى أواخر حكم الشريف كانت الجمارك على قنطار البن بواقع خمسة دولارات للقنطار الواحد ، وهذا ما يعادل ما يتردد بين خمسة عشر فى المائة وعشرين فى المائة من ثمن القنطار ، التوابل تدفع جمركا يقل عن عشرة فى المائة ، البضائع الهندية التى تباع بالقطعة أو بالأموال تدفع

٧٦

جمارك أكثر من ذلك. هذا يعنى أن هناك تباينات كبيرة فى فرض الجمارك ، كما أن مسئول الجمارك بوسعه محاباة أصدقائه ومعارفه دون أن يتعرض للمساءلة.

بعد اعتناق الشريف للمذهب الوهابى تناقص دخله تناقصا كبيرا ، وسبب ذلك أن سعود رئيس الوهابيين أصر على حتمية مرور بضاعة أتباعه بلا رسوم جمركية ، الأمر الذى أدى إلى إعفاء القسم الأكبر من تجارة البن من الرسوم الجمركية. بلغنى من شخص من أولئك الذين يطلعون على الحقائق ، أن الرسوم الجمركية التى جرى تحصيلها فى جدة فى العام ١٨١٤ الميلادى قدرت بحوالى أربعة آلاف دولار ، وهو ما يساوى ثمانية آلاف كيس ، أو ما يقرب من أربعة ملايين قرش ، يمكن أن تغطى واردات سنوية مقدارها أربعة ملايين دولار ، وهذا المبلغ يقل عن الواقع كثيرا ، الجمارك يجرى فرضها بنفس النسبة المعمول بها فى بوابتى المدينة التى تسمى إحداهما باسم باب مكة والثانية باب المدينة (المنورة) ، وأن هذه الرسوم تفرض على كل أنواع المؤن والتموينات التى ترد من داخل البلاد ، وبخاصة الماشية والزبد والتمور وبخاصة فى وقت السلم ، عندما لا يتوقف الاتصال مع داخل البلاد. أهل المدينة لا يدفعون أى نوع آخر من العشور غير هذه الرسوم الجمركية.

طوال مقامى فى الحجاز كانت جدة بمثابة مستودع رئيسى للجيش التركى ؛ فقد كان فيها مخزن كبير للقمح تابع للباشا ، وكان ذلك المخزن يستقبل إمدادات يومية من مصر ، وكان يجرى يوميا إرسال قوافل إلى كل من مكة والطائف ، وتزايدت تجارة جدة تزايدا كبيرا بسبب احتياجات الجيش ومنسوبيه. وجرى تنظيم الشرطة فى جدة تنظيما جيدا ، وكان الباشا قد أصدر تعليمات صارمة لقواته تقضى بحتمية عدم ارتكاب المخالفات أو إساءة المعاملة ، نظرا لأنه كان يعرف جيدا أن أهل الجزيرة العربية من أصحاب الذهن الصافى لا يمكن أن يستكينوا لسوء المعاملة مثلما يفعل المصريون ، وعندما كانت تحدث مشاجرات بين العرب والأتراك كان العرب ينصفون بشكل عام ، ولم يمارس الظلم أو القهر تحت أى مسمى من المسميات على الأفراد ، فيما عدا استيلاء الباشا على مجموعة قليلة جدا من المنازل الفاخرة ، التى استخدمها

٧٧

مساكن لزوجاته. ومع ذلك عانى التجار كثيرا من المصاعب ، مثلما كان الحال فى زمن الشريف غالب ، حيث عانوا من الرسوم الجمركية التعسفية ، كما عانوا أيضا من حتمية شرائهم كل أنواع البضائع من الباشا فى كثير من الأحيان ، الباشا الذى كان يشغف ـ عندما يكون فى الحجاز ـ بالتجارة شغفه بأعماله العسكرية ، لكن بعد تقييم مزايا نظام الحكم وعيوبه ، نستطيع القول إن أهل جدة كسبوا الكثير من العثمانيين ، وليس من الغرابة فى شىء القول إن أحدا من العرب ، سواء كان غنيا أو فقيرا ، لم يكن مرتبطا بسادته الجدد أو محبا لهم ، وكان الناس جميعا نادمين على إنهاء حكم الشريف غالب. ولا يمكن عزو هذا كله إلى جماهير الدهماء الذين يوجدون بين رعايا الباب العالى أكثر مما يوجدون بين رعايا أية أمة من الأمم الأوروبية. الحكام العثمانيون أو بالأحرى الباشوات يتغيرون بصورة مستمرة ، وكل واحد منهم يتحول إلى حاكم أعلى ، الأمر الذى يولد الشكوى والكراهية والاستياء بين الناس ، وإذا كان التتابع السريع للحكام (الباشوات) يوحى للناس بأمل سرعة التخلص من المستبد الحاكم ، ويتطلعون لحدوث ذلك بكل الفرح والسرور ، فإنهم يفعلون ذلك من معرفتهم بأن الأشهر الأولى من حكم الباشا الجديد تتسم عادة بالرحمة والعدل.

أهل الجزيرة العربية فخورون بأنفسهم ، وهم أمة ذات روح معنوية عالية ، وهذا القول ينسحب أيضا على سكان المدن ، على الرغم من ذيوع الطابع البدوى الفاسد بين هؤلاء السكان الذين ينتمون إلى ذلك العرف المتفسخ والمنحل. هؤلاء الناس يحتقرون الأمة التى لا تتكلم العربية ، أو التى تختلف سلوكياتها عن سلوكياتهم ، وقد اعتادوا منذ زمن طويل النظر إلى الأتراك باعتبارهم أناسا منحطين ، حيث كانوا يرتجفون رعبا من الشريف كلما كانوا يدخلون الحجاز. يزاد على ذلك أن مراسم البلاط التركى الاحتفائية لم يجر تكييفها لتناسب العادات والأفكار الراسخة عند رعايا محمد على باشا الجدد ، وكان الشريف بكل قوته شبيها بشيخ بدوى كبير ، يخضع لمن يتكلم بجرأة ويستعمل لغة خشنة فى معظم الأحيان. الباشا التركى يجرى التقرب منه بأبشع أشكال العبودية والذلة ، قال أحد تجار الحجاز وهو يتكلم معى : «إن الشريف غالب

٧٨

عندما كان يريد قرضا ، كان يرسل فى طلب ثلاثة منا أو أربعة ، ونجلس نتحادث معه على امتداد ساعتين ، ويصل الأمر إلى حد العراك بصوت عال ، وكنا ننجح دوما فى تقليل المبلغ إلى ما هو أقل من المطلوب ، وعندما كنا نذهب إلى الشريف فى الأمور العادية كنا نتحدث إليه مثلما أتحدث أنا معك الآن ، أما الباشا فكان يجعلنا نظل وقوفا أمامه بطريقة مهينة ، شأننا فى ذلك شأن العبيد من الأحباش ، وكان ينظر إلينا كما لو كنا مخلوقات أدنى منه». ويخلص التاجر من كلامه قائلا : «أنا أفضل دفع غرامة للشريف بدلا من دفعها للباشا التركى».

معرفة الأتراك الضئيلة للغة العربية ونطقهم السيئ لهذه اللغة ، حتى وهم يقرأون القرآن ، وجهل الأتراك بالجزيرة العربية وعاداتها التى لا يراعونها فى تصرفاتهم وأعمالهم ، تعد من بين الأسباب المتعددة الأخرى لكراهية أهل الجزيرة العربية للأتراك واحتقارهم إياهم. الأتراك يبادلون ذلك الاحتقار باحتقار مماثل وكراهية أكثر ، ومن لا يتكلم لغة الجندى التركى أو يحاكيه فى اللباس يدخل فى عداد الفلاحين ، ذلك المصطلح الذى درج الأتراك على إطلاقه على الفلاحين المصريين ، باعتبارهم مخلوقات فى أحط درجات العبودية والقمع. كراهية الأتراك للعرق العربى أكبر وأشد ، وسبب ذلك أن الأتراك لا يستطيعون الانغماس فى نزعتهم الاستبدادية والبذاءة وسلاطة اللسان مثلما يفعلون فى مصر ، وذلك لقناعة هؤلاء الأتراك بحكم الخبرة والتجربة أن مواطن الجزيرة العربية سوف يضرب إذا ما ضرب. أهل الجزيرة العربية يرمون الأتراك بالخيانة ، فقد ألقوا القبض على الشريف غالب وأرسلوه إلى تركيا بعد أن أعلن استسلامه للباشا ، وبعد أن سمح للجنود الأتراك باحتلال جدة ومكة ، هؤلاء الجنود يقرون ويؤكدون أنه لو لا مساعدة الشريف لما استطاعوا التقدم فى الجزيرة العربية ، ولما أصبح لهم موطئ قدم فيها.

مصطلح «خائن» يطلق على كل الأتراك الذين فى الجزيرة العربية ، فى ظل ما يشتهر به العرب من التباهى بالثقة بالنفس والتفوق ، وقد اكتشفت الطبقات الدنيا من العرب تأكيدا خياليا للاتهام الذى يوجهونه للأتراك ، اكتشفوا ذلك من اللقب

٧٩

 «خان» الذى هو من بين الألقاب التى يمنحها الباب العالى. كلمة «خان» واحدة من كلمات التتار القديمة ، هذه الكلمة تعنى فى العربية «الخيانة» ، أو بالأحرى هى الفعل الماضى للفعل المضارع «يخون» ، وهم يدعون أن أحد أسلاف السلطان بعد أن خان ابقا لجأ إليه ، أطلق عليه نعت هو «السلطان خان» وأن هذا اللقب احتفظ به من جاءوا بعده لجهلهم باللغة العربية.

وإذا ما تدهورت قوة الأتراك فى الحجاز ، وسوف يحدث ذلك عندما لا يجرى توجيه موارد مصر إلى تلك النقطة بواسطة محمد على الذى يمتلك مصر بلا منازع ، فإن العرب سيثأرون لأنفسهم من الخضوع الذى يعيشون فيه ، وسوف ينتهى الحكم العثمانى فى الحجاز بكثير من المشاهد الدموية.

الطريق من جدة إلى الطائف (*)

فى اليوم الرابع والعشرين من شهر أغسطس من العام ١٨١٤ الميلادى ، (المصادف للحادى عشر من شهر رمضان من العام ١٢٣٠ الهجرى) بدأت تحركى من جدة فى ساعة متأخرة من مساء ذلك اليوم ، وبصحبتى مرشد وعشرين جمالا من قبيلة حرب ، كانوا يحملون النقود من جدة قاصدين خزانة الباشا فى مكة. بعد أن تركنا حدود مدينة جدة التى يمر الطريق عندها ببعض التلال الرملية ، والتى توجد بينها مقبرة السكان ، سرنا خلال سهل رملى شديد الجدب ، يرتفع ارتفاعا متدرجا فى اتجاه الشرق ، هذا الطريق خال من الشجر ومشبع تماما بالملح على بعد حوالى ميلين من المدينة. وبعد مسير دام ثلاث ساعات دخلنا منطقة عامرة بالتلال فيها مقهى على شكل كوخ بالقرب من بئر يدعونها رغام. واصلنا مسيرنا فى واد رملى واسع عامر بالرمال

__________________

(*) لم أستطع أن آخذ معى متعلقاتى فى هذه الرحلة ، والسبب فى ذلك أن البوصلة الوحيدة التى كانت معى والتى خدمتنى طوال رحلتى فى النوبة أصبحت عديمة النفع ، ولم تتهيأ لى فرصة استبدال بوصلة أخرى إلا فى شهر ديسمبر من هذا العام ، عندما حصلت على بوصلة أخرى بها من سفن بومباى التى وصلت إلى جدة.

٨٠