ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-387-1
الصفحات: ٣٠٥
الجزء ١ الجزء ٢

من سور القرآن ، التى نسميها السورة الرابعة والتسعين التى تبدأ بقوله سبحانه وتعالى : «ألم نشرح لك صدرك؟» ـ السورة السابقة تشير أيضا إلى حال حزنه. يوجد على مقربة من هذا المكان تجويف صغير فى حجر الصوان أحمر اللون ، الذى يشكل الطبقة العليا من هذا الجبل ، هذا التجويف يطلقون عليه اسم مغارة الحيرة (*). يقال أيضا إن أجزاءا أخرى عدة من القرآن نزلت على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى هذا المكان المرتفع الذى كان يأوى إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن أحدا من الموجودين لم يستطع أن يحدد لى تلك الأجزاء. خدم هذين المكانين من بدو قبيلة اللهيان.

كنت قد غادرت مكة مشيا على الأقدام بصحبة مجموعة كبيرة من الحجاج ، لزيارة هذا المكان الذى جرت العادة أن تكون فى أيام السبت ، ووصلنا قمة الجبل قبل طلوع الفجر ، وعندما طلعت الشمس ، كشف منظر مترام عن نفسه أمامنا ، وكان يمتد شمالا وغربا ، أما النقاط الأخرى فكانت تحدها الجبال. منظر المنطقة التى أمامنا موحش وقفر ، وليس فيه من الخضرة شىء ، تلال قاحلة جرداء سوداء اللون ورمادية اللون أيضا ، ووديان رملية بيضاء اللون ، هذا كله هو ما تراه عيناى ، فوق منحدر الجبل ، وعلى مقربة من قمته ، يوجد خزان حجرى صغير ، جرى إنشاؤه لتزويد الزائرين بالماء. كان ذلك الخزان جافا عندما رأيته ولم يكن مصانا صيانة جيدة.

جبل ثور. على بعد ساعة ونصف الساعة من مكة (المكرمة) ، وعلى يسار الطريق المؤدية إلى قرية الحسينية ، يوجد جبل عال يحمل هذا الاسم ، ويقال إن هذا الجبل أعلى من جبل النور ، على قمة هذا الجبل يوجد تجويف أو غار لجأ إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وصديقه أبو بكر هربا من المكيين قبل فراره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة (المنورة) كان العنكبوت

__________________

(*) فى زمن العرب الوثنيين كان الناس يطلقون على هذا الجبل اسم جبل الحيرة ، وأنا أضيف هنا أن كثيرا من جبال الحجاز ووديانها فقدت أسماءها القديمة. وهذا ما تؤكده الملاحظات الطبوغرافية الكثيرة التى أوردها الأزرقى ، وهو من مؤرخى المدينة المنورة ، وكذلك الملاحظات الطبوغرافية التى وردت أيضا عند الزمخشرى ، فى كتابه القيم المعنون الميات أو الجبال.

٢٢١

قد نسج عشه على باب ذلك الغار ، وعندما رأى مطاردوه ذلك العش تأكدوا أن الهاربين لا يمكن أن يكونا داخل هذا الغار. القرآن يشير إلى هذا الظرف فى السورة رقم ٩ لكنى لم أزر هذا المكان.

العمرة. تحدثت عن ذلك المبنى سلفا ، والعمرة عبارة عن مصلى صغير فيه صف واحد من الأعمدة على الطريق المؤدية إلى وادى فاطمة ، لكن ذلك المصلى يقع فى الجانب الأيسر بالنسبة إلى الأماكن سالفة الذكر. العمرة تحيط بها أنقاض مساكن كثيرة مدمرة ، وتوجد بئر غزيرة الماء بالقرب من العمرة ، كما نشاهد أيضا آثارا لزراعة قديمة فى الوادى. وأنا أرى أن هذه البئر هى تلك البئر التى أسماها المؤرخون المكيون «بئر تنايم».tenaym ، واستنادا إلى الفاسى Fasy نجد أن مسجد أهليلجة فى عصور الإسلام الأولى كان مقاما فى هذا المكان ، وسوف أنهى وصفى لمكة بوصف افتتاح الكعبة الذى أجلته منعا لمقاطعة وصفى للمسجد.

تفتح الكعبة ثلاث مرات فقط فى العام الواحد : فى اليوم العشرين من شهر رمضان ، وفى اليوم الخامس عشر من شهر ذى القعدة ، وفى اليوم العاشر من شهر المحرم (العاشور كما يسميه العرب) تفتح الكعبة ، بعد ساعة واحدة من طلوع الشمس ، وعندها يجرى دفع السلم ذى العجلات إلى باب الكعبة ، وما إن يلامس السلم بوابة الكعبة حتى تتدافع جماهير كبيرة على السلم ، وسرعان ما تمتلئ الكعبة بالبشر من الداخل. يكون السلم محاطا بطواشيّة المسجد الحرام على جانبيه ، والذين يحاولون حفظ النظام ، وتهوى عصيهم ثقيلة على أولئك الذين لا يضعون هبة أو عطية مالية فى أيديهم ، يجرى دهس عدد كبير من الناس بلا رحمة أو هوادة بسبب التدافع والاندفاع داخل الكعبة ، مطلوب من الزائر أن يصلّى ثمانى ركعات أو ست عشرة سجدة ، بحيث يصلى الزائر ركعتين فى كل ركن من أركان الكعبة الأربعة ، لكن بوسعنا أن نتخيل طريقة أداء تلك الركعات ، وأنه فى الوقت الذى ينحنى زائر نازلا إلى الأسفل ، يعبر من فوقه زائر آخر ، بعد الانتهاء من الصلاة ، يتعين على الزائر الاتكاء على أى جانب من

٢٢٢

جوانب الكعبة ويدعو بدعاءين دينيين. وهكذا تمتلئ الغرفة بالبكاء والعواء ، وأنا أعتقد أنى شاهدت ولاحظت كثيرا من العواطف الجياشة والتوبة الصادقة من جانب عدد كبير من الزائرين ، والدعوات التالية هى ودعوات أخرى سمعتها تتردد داخل الكعبة ، وشاهدت وجوها كثيرة مبللة بالدموع ، «يا رب البيت ، يا رب سامحنى ، واغفر لوالدى ، ولأولادي! يا رب ، أدخلنى جنتك! يا الله ، أعتق رقابنا من نار جهنم ، يا رب البيت العتيق». لم أستطع البقاء داخل الكعبة سوى خمس دقائق ، كانت درجة الحرارة مرتفعة إلى حد أنى كاد يغمى على ، بل إن كثيرا من الأشخاص جرى حملهم إلى خارج الكعبة وهم فاقدى الوعى تماما. يجلس عند مدخل الكعبة واحد من الأشراف ، حامل مفتاح الكعبة الفضى فى يده ، والذى يقدمه لكى يقبله الحاج ، الذى يدفع مبلغا نظير ذلك ، بعد الخروج من الكعبة ، تعطى النقود أيضا لواحد من الطواشيّة يجلس بجوار الشريف حامل المفتاح الفضى. هناك أيضا بعض آخر من الطواشيّة يقفون على السلم ، والعديد أيضا من العمال الذين يقومون بالأعمال الحقيرة وبعض الخدم الذين ينتقدون هذا العمل المشين انتقادا شديدا ، ويقولون : إن أقدس بقاع الأرض لا يمكن أن تكون مسرحا للجشع والطمع ، لكن المكيين لا يعيرون تلك الإهانات أى اهتمام.

تظل الكعبة مفتوحة إلى حوالى الساعة الحادية عشرة ، وفى اليوم التالى يجرى فتحها للنساء فقط. بعد زيارة الكعبة ، من الضرورى الطواف حولها.

الكعبة من الداخل مكونة من غرفة واحدة ، سقفها محمول على عمودين ، وليس بها أى مصدر للضوء سوى بابها. سقف الكعبة ، النصف العلوى من العمودين ، وكذلك الحوائط الجانبية وعلى ارتفاع خمسة أقدام من أرضية الكعبة ، مغطى بنوع من الحديد السميك أحمر اللون ، المشغول بالفضة ، والجزء السفلى من كل عمود من الأعمدة مبطن بخشب العود المحفور ، أما الجزء من الجدران الواقع أسفل الستائر الحديدية ، فهو مبطن برخام فاخر أبيض اللون ، مزين بنقوش بارزة ، والأرابيسك الجميل ، وكل شىء مصنوع بمصنعية غاية فى الروعة ، وأرضية الكعبة التى هى على مستوى واحد مع الباب ، وبالتالى يصبح على ارتفاع حوالى سبعة أقدام فوق مستوى ساحة المسجد ،

٢٢٣

مرصوف بالرخام مختلف الألوان ، فيما بين الأعمدة ، توجد مصابيح عدة ، كلها من عطايا المؤمنين وتبرعاتهم ، ويقال إنها من الذهب الخالص ، لم يقرب الوهابيون تلك المصابيح (*). فى الركن الشمالى الغربى من غرفة الكعبة توجد بوابة صغيرة ، تؤدى إلى سطح المبنى المنبسط. لم ألاحظ شيئا آخر جديرا بالملاحظة غير ذلك الذى تحدثت عنه ، لكن الغرفة شديدة الظلمة ، إلى الحد الذى يحتاج إلى شىء من الوقت كى تتكيف الأعين مع رؤية الأشياء الموجودة داخل الكعبة. الزينات الداخلية ، تتفق مع إعادة بناء الكعبة فى العام ١٦٢٧ الميلادى ، وأنا أعرف شيئا عن مسألة غسل الكعبة ، على النحو الذى ورد عليه فى أسفار على بك العباسى ؛ لقد شاهدت الطواشية وهم يقومون بهذه العملية ، التى تتم بالطريقة نفسها التى يجرى بها غسل الرصيف المحيط بالكعبة ، على الرغم من أن تاريخ العصمى يوضح أن أرضية الكعبة يجرى غسلها فى بعض الأحيان بواسطة كبار الشخصيات.

زيارة الكعبة من الداخل لا تعد جزءا من أركان الحج ، كما أن عددا كبيرا من الحجاج يغادرون مكة دون مشاهدة الكعبة من الداخل ، أما أنا فقد شاهدت الكعبة من الداخل مرتين ، مرة فى اليوم الخامس عشر من شهر ذى القعدة ، والمرة الثانية فى اليوم العاشر من شهر المحرم. وفى المرة الثانية كانت الستائر الجديدة ، التى جرى جلبها من القاهرة بواسطة محمد على باشا ، قد علقت داخل الكعبة ، كانت تلك الستائر من قماش فاخر جدا ، أفخم وأقيم من حيث الخامة من الغطاء الخارجى أسود اللون الذى يغطى الكعبة ، وجرى بعد ذلك بيع الستائر القديمة التى مضى عليها عشرون عاما أو أكثر للمؤمنين بسعر دولار واحد للقطعة التى تصل مساحتها إلى ست بوصات مربعة. كان حق بيع هذه الستائر حكرا على الشخص الذى قدم الكسوة الخارجية ، على الرغم من حدوث استثناءات فى بعض الأحيان ، وخير مثال على ذلك هو ما حدث

__________________

(*) يروى قطب الدين أن شيوخ مكة سرقوا المصابيح الذهبية المعلقة فى الكعبة ، وهربوا بها وهم يخفونها بين طيات ملابسهم الفضفاضة ، وقد أرسل السلطان سليمان كثيرا من المصابيح الذهبية إلى الكعبة.

٢٢٤

فى العام ٨٦٥ الهجرى عندما أرسل شاه روخ ملك فارس كسوة فاخرة للكعبة من الداخل (*).

أمام باب السلام يوجد دكان يبيع قطعا من الكسوة الخارجية والكسوة الداخلية للكعبة ، هذه القطع معروضة للبيع بصورة دائمة ، قطع الكسوة الداخلية هى المفضلة والمطلوبة دوما. شاهدت صدريات مصنوعة من قماش الكسوة الداخلية ، وهذا يعد شيئا ثمينا إذا ما لبسه أحد المؤمنين ، تباع فى هذا الدكان نفسه رسومات لكل من مكة والمدينة المنورة ، هذه الرسوم معدة بطريقة بدائية على الورق أو قطع من القماش ، كما توجد أيضا رسومات لأدعية صغيرة ، كما أن هناك أيضا أدعية محفورة على قطع من الخشب. اشتريت بعضا من هذه الرسوم وبعضا من هذه الأدعية ، لاستعمالها فى الأغراض نفسها التى يستعملها فيها الحجاج ، وكنت قد اشتريت أيضا بعض القوارير المملوءة بماء زمزم.

ملاحظات عن سكان مكة وسكان جدة

مكة وجدة تسكنهما طبقة واحدة من السكان ، وطابع المدينتين وعاداتهما واحدة أيضا. لقد ذكرت بالفعل أن أثرياء المكيين لهم بيوت فى جدة ، كما أشرت أيضا إلى أن الأعمال التجارية فى المدينتين متشابهة.

يمكن القول إن سكان مكة كلهم من الأجانب ، أو من نسل الأجانب ، باستثناء بعض بدو الحجاز أو أحفادهم ، الذين استقروا فى هذه المدينة وجعلوها لهم موطنا. قبيلة قريش الجائلة ، التى انقسمت إلى فرعين أحدهما جائل والآخر مستقر ، تكاد تكون انقرضت. لا يزال هناك بعض من بدو قريش فى المنطقة المجاورة لمكة ، لكن القرشيين المستقرين ، الذين كانوا يسكنون مكة فى زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان قد جرى القضاء

__________________

(*) راجع قطب الدين.

٢٢٥

عليهم ، أو نزحوا عن المدينة نتيجة الحروب المتكررة. حاليا لا يوجد فى مكة سوى ثلاث عائلات فقط ، هم أحفاد تلك القبيلة العريقة التى كانت تحمل هذا الاسم ، وعميد عائلة من تلك العائلات الثلاث هو ما يسمونه «النائب» ، أو راعى المسجد ، أما العائلتين الأخريين فهما من الفقراء ، والعائلتان أيضا مرتبطتان بخدمة المسجد. المنطقة المجاورة لسوق جدة الكبير ، المحطة السنوية التى تجىء إليها القوافل الضخمة كل عام ، هى والبيت العتيق ، انضم إليها أو التحق بها عدد كبير من الغرباء ليقوموا بالدور الذى كان الفرنسيون يقومون به. فى كل موسم من مواسم الحج يتخلف بعض الحجاج ، والمسلم إذا ما أقام واستقر بصورة دائمة فى مكان من الأماكن يجد نفسه مقتنعا بالزواج ، ويتخذ لنفسه زوجا من المكان الذى يقيم فيه ، الأمر الذى يجعله يرتبط بذلك المكان ويقيم فيه إقامة دائمة. من هنا نجد أن السواد الأعظم من المكيين هم أحفاد الأجانب جاءوا إلى مكة من مختلف أصناف الأرض ، ونجد أيضا أن هؤلاء الأحفاد اكتسبوا السلوكيات العربية ، وعن طريق الزواج من المواطنات المكيات أنجبوا عرقا لا يمكن تمييزه عن سكان الجزيرة العربية الأصليين. ونحن عندما سألنا أصحاب الدكاكين ، والتجار ، والعلماء ، والمطوفين ، بل وأناسا آخرين مختلفى المشارب ، وجدنا أنهم أبناء الأجانب أو أحفادهم أو من نسلهم ، والنسبة الكبيرة من هؤلاء السكان تنحدر عن أولئك الآباء الذين جاءوا من اليمن وحضرموت ، يلى ذلك هؤلاء الذين هم أحفاد للهنود والمصريين والمغاربة والأتراك ، هناك أيضا مكيون من أصل فارسى ، وهناك أيضا مكيون من أصل تاتارى ، وبخارى ، وكردى ، وأفغانى ، أو من كل أنحاء البلاد الإسلامية إذا ما أردنا اختصار القول. والمكى يحرص أشد الحرص على المحافظة على معارفه التى اكتسبها من بلده الأصلى. مطوفى أو مرشدى أرجع إلىّ أصله إلى تاتارى أوزبكى ، من المنطقة المجاورة لبخارى ، وعندما كان حاج يجىء من هذه المنطقة ، كان لا يفشل مطلقا فى جعل نفسه مرشدا لمثل هؤلاء الحجاج ، على الرغم من أنه يجهل تماما لغة هؤلاء القوم.

مع ذلك ، هناك فرع من سكان الجزيرة العربية القدامى لا يزال باقيا فى مكة ، هذا الفرع يتمثل فى الأشراف ، (باعتبارهم مجموعة مميزة عن أولئك الأشراف الذين

٢٢٦

انحدروا عن الأشراف الأجانب الذين استوطنوا مكة) هؤلاء الأشراف يرجع نسبهم إلى الحسن والحسين ، ولدى فاطمة الزهراء ـ رضى الله عنها ـ ، ابنة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا النسب يدعيه بعض آخر من الأشراف ، الذين تعد صفاتهم النسبية أقل أصالة. أشراف مكة يكونون طبقة كبيرة من البشر ، لا تسمح بانضمام الأجانب إليها ، وهى تنتشر فى أنحاء أخرى من الجزيرة العربية. أنا لست على معرفة جيدة بالتاريخ الخاص بهؤلاء الأشراف ، أو حتى الفترة التى بدأوا يتفرقون خلالها إلى قبائل بعينها ، وما أستطيع قوله هو أن الأشراف يشملون أنواعا كثيرة ، لكن أشراف اليمن لا يدخلون كلهم ضمن الأشراف ، كما أن هناك أشرافا آخرين فى الحجاز يمتون بصلة قرابة بعيدة إلى الأشراف الأصليين. ينقسم الأشراف فى الوقت الراهن إلى قبائل عدة ، التى ينبغى اختيار الشريف الحاكم حاليا من بين أفرادها. وهذا هو ما سوف أوضحه هنا. فى مكة يمكننا ملاحظة فارق فى الاسم الذى يعطى للأشراف ، وذلك من منطلق المهنة التى يمتهنها هؤلاء الأشراف ، الأشراف الذين يعملون أو يمتهنون الدراسة والبحث والشريعة ، ويشغلون أنفسهم بالمسجد وملحقاته هم الذين يطلق عليهم لقب سيد ، أما أولئك الذين يعملون بالجندية ، ويختلطون بشئون الدولة منهم لا يطلق عليهم سوى لقب شريف ؛ الأسياد هم أتباع الدين وأنصاره (وهم ما يمكن أن نسميهم المكيون) ، أما الأشراف فهم الجنود. من هنا نجد أن الابن يخلف والده فى مهنته. هؤلاء الأشراف المواطنون هم رؤساء المدينة ، أو كانوا كذلك ، فى أضعف الأحوال ، قبل تحطيم كبريائهم عن طريق الغزو التركى.

على الرغم من أن سكان مكة يعدون خليطا بشريا ، فإنهم يلبسون لباسا واحدا ، ولهم تقاليد واحدة ، وعلى الرغم أيضا من أنهم من أصول مختلفة ، فهم يتشبثون بلباسهم الوطنى وسلوكياتهم الوطنية فى هذه المدينة المقدسة ، أكثر منها فى أى مكان آخر. فى مصر وفى سوريا ، نجد أن الغرباء والأجانب الوافدين على هذين البلدين من سائر أنحاء آسيا يحافظون تماما على لباسهم الوطنى وأسلوب حياتهم الوطنى ، على الرغم من استقرارهم وإقامتهم الدائمة فى مكة ، هذا الظرف هو الذى يضفى على

٢٢٧

منظر السوق الشرقية أهمية كبيرة ، وذلك على العكس تماما من أى تجمع من التجمعات البشرية فى أوروبا. وعلى العكس من ذلك ، نجد أن السواد الأعظم من الزائرين الأجانب للحجاز يغيرون زيهم الوطنى بالزى الذى يرتديه المواطنون الأصليون ، كما أن أطفالهم الذين يولدون فى مكة يربون ويرتدون الثياب التى يرتديها المكيون. الهنود ، كما سبق أن أسلفت أثناء الحديث عن جدة ، يعدون استثناء من هذه القاعدة العامة ، وهم يشكلون جالية متميزة ، ويحتفظون بلغتهم الوطنية ، التى غالبا ما ينساها أطفال الأجانب الآخرين ، نظرا لأن أمهاتهم غالبا ما يكن عربيات ، أى مواطنات مكيات.

تميل بشرة المكى والجداوى إلى الاصفرار المشوب باللون البنى الذى يوحى بالمرض ، ويزداد لون البشرة أو يقل غماقة طبقا لأصل الأم ، التى غالبا ما تكون أمة حبشية. وملامح المكيين والجداويين تقترب من ملامح البدو أكثر مما لاحظته فى سكان مدن أخرى كثيرة من مدن الشرق ، وهذا يلاحظ بصفة خاصة فى الأشراف ، الذين وهبهم الله وجوها شديدة النضارة ، فعيونهم ، ووجوههم وأنوفهم مثل عيون ووجوه وأنوف البدو لكنها بضة. الطبقة الأدنى من ذلك من المكيين تميل إلى البنية القوية ، وأطراف مفتولة العضلات ، فى حين تكون الطبقات الأعلى من ذلك متميزة بأشكالها الضعيفة الهزيلة ، كما هو حال أولئك الذين يجيئون من أصول هندية أو يمانية. على الرغم من أن البدو المحيطين بمكة ، أقوى بنية من بدو داخل الصحراء الأكثر منهم ثراء ، فإن عادات هؤلاء البدو أقل انتشارا ، وربما كان ذلك أيضا راجع إلى أن هؤلاء البدو أقل تعرضا لمصاعب الرحلات الطويلة. يمكن القول بشكل عام ، إن المكى أقل قوة وحجما من السورى أو المصرى ، لكنه يفضلهما من حيث الملامح المعبرة ، وبخاصة حيوية الأعين ولمعانها وبريقها.

كل المواطنين المكيين والجداويين الذكور معلّمون بعلامة معينة ، أو إن شئت فقل بوشم محدد ، هذا الوشم يجريه الآباء لأطفالهم عندما يبلغ الواحد منهم من العمر أربعين يوما. هذا الوشم يتكون من ثلاثة شلوخ أسفل كل خد من خدى الطفل ، وشلخين على الصدغ الأيمن ، ويصل عرض الشامة الناتجة عن هذين الشلخين إلى

٢٢٨

حوالى ثلاثة خطوط أو أربعة ، وأهل مكة يطلقون على هذه العلامة اسم المشالة البدو لا يلجأون إلى هذا الإجراء لكن المكيين يتباهون به لأنه يميزهم عن غيرهم ، ويستبعد غيرهم من السكان ويحرمهم من الادعاء فى البلاد الأجنبية بأنهم من مواليد المدينتين المقدستين. هذا الوشم ينطبق فى بعض الأحيان ، إن لم يكن نادرا ، على البنات (الأطفال) المكيات. أهل برنو فى وسط إفريقيا ، عندهم علامة شبيهة بهذه العلامة على الخدين ، لكنها أخف من العلامة المكية.

ملابس الطبقات المتوسطة فى فصل الشتاء ، عبارة عن بنش من القماش ، وهم يسمون هذا البنش العباءة الخارجية ، ومن تحت هذا البنش يلبس الرجل الجبة وهى أيضا مصنوعة من القماش ، وهى مثل الجبة التى يلبسها الناس فى سائر أنحاء تركيا. كما يلبس الرجل أيضا رداء فاخرا من الحرير له حزام رقيق من الكشمير ، كما يلبس الرجل أيضا عمامة من الحرير الموسلينى الأبيض ، كما يلبس أيضا مركوبا أصفر اللون ، وبذلك يكتمل لبس الرجل. فى فصل الصيف يلبس الرجل بدلا من الساش ، أو العباءة الخارجية المصنوعة من القماش ، عباءة خارجية أخرى مصنوعة من الحرير الخفيف جدا ، من المصنوعات الهندية ، ويطلقون عليها اسم مقطر خانة.

ملابس الطبقات الراقية ، الذين يحاكون الأزياء التركية فى لباسهم ، يلبسون على رؤسهم طواقى بربرية تحت العمامة ، أما أفراد الطبقات الأخرى فيلبسون طاقية قطنية فاخرة مطرزة بالحرير ، من صنع نساء مكة ، تمثل هدية شائعة من المرأة إلى حبيبها ، مطرز عليها من أعلى وبأحرف كبيرة بعض الجمل المأخوذة من القرآن.

ملابس المهندمين من الطبقة المتوسطة تصنع عادة من الموسلين الهندى الأبيض ، بدون أية بطانة ، ويسمونها بدن ، وهى تختلف عن العنترى الشائع فى منطقة الشرق ، من حيث إنه يكون قصير جدا ، وبلا أكمام ، ولأنه أكثر برادا من العنترى ، ويلبس الرجل فوق بدن جبة من القماش الخفيف ، أو من الحرير الهندى ،

٢٢٩

يحملها الرجل على كتفيه إذا ما اشتدت الحرارة. تصنع القمصان من الحرير الهندى أو الكتان المصرى أو الأناضولى ، وفى حدود إمكانيات اللبيس الشرائية.

جرت العادة أن يرتدى أفراد الطبقات الدنيا ، فى فصل الصيف على الأقل ، لا شىء سوى قميص ، كما يلبسون بدلا من البنطال (السروال) قطعة من القماش الهندى أصفر اللون أو من الكتان المصرى المقلم يلفونها حول الردفين ، وهم يلبسون من فوق هذا الرداء ، فى فصل الشتاء ، بدن من البفتة الهندية المقلمة ، لكن بدون حزام يثبته على الجسم.

الطبقات الدنيا والطبقة المتوسطة يلبسون نعالا بدلا من الأحذية ، وهذه عادة تناسب هذا المناخ الحار ، نظرا لأن النعال تساعد على برودة القدمين. وأفضل النعال هى تلك التى تأتى من اليمن ، التى تزدهر فيها صناعة الجلود.

فى فصل الصيف ، يلبس الناس ، هم وهنود الطبقات الدنيا ، يلبسون غطاء رأس فقط بلا عمامة. العمامة المعتادة تصنع من قماش الكمبريس الهندى ، أو من الموسلين ، الذى تلفه الطبقات كلها حول الرأس بطريقة معينة. هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بالعلماء ، يتركون ذيلا للعمامة يتدلى من الخلف إلى منتصف الظهر. المكيون أنظف لباسا من أهل الشرق الذين شاهدتهم أو التقيتهم. ونظرا لأن الموسلين الأبيض ، أو الكمبريس الأبيض ، هما اللذان يشكلان القسم الرئيسى من الملابس ، فإن هذه الملابس تكون دائما بحاجة إلى الغسل بصورة مستمرة ، وهذا هو ما يجرى عمله بصورة منتظمة ، إلى حد أن يجرى بصورة دورية تغيير الملابس حتى ولو مرة واحدة كل أسبوع. خلال الأسبوع الواحد. أما الأثرياء فهم يرتدون كل يوم لباسا مختلفا ، وليس من الغرابة فى شىء أن يكون لدى كثير من الناس أربعين طاقما أو خمسين من الملابس. أهل الحجاز يفرحون بالملابس أكثر من مسلمى الشمال ، يضاف إلى ذلك أن ما تكسبه الطبقات الدنيا ينفق على الملابس. والمكى عندما يعود من دكانه إلى منزله ، أو حتى بعد مشوار صغير فى المدينة ، يسارع إلى خلع ملابسه ، ويعلقها على حبل معلق عبر المجلس ، ثم يخلع عمامته ، ويغير قميصه ، ثم يجلس على سجادة ، واضعا على

٢٣٠

رأسه طاقية خفيفة ، وهم يستقبلون الزائرين وهم على هذا الحال ، ومن يريد تحديد من هو المكى ، عليه أن يراه وهو جالس بعد أن يخلع ملابسه ، بجوار أحد النوافذ ، وفى يده مروحة مصنوعة من قصاصات سعف النخيل ، يحاول بها طرد الذباب بعيدا عنه ، وفى يده الأخرى خرطوم الشيشة الفارسية الطويل.

فى أيام العيد يستعرض المكيون والجداويون حبهم للملابس بدرجة كبيرة ، وهم من غنيهم لفقيرهم ، بل إن كل واحد منهم يتعين عليه ارتداء طاقم من الملابس الجديدة ، وإذا لم يكن قادرا على الشراء ، فإنه يستأجر من التجار طاقما من الملابس لمدة يومين أو ثلاثة أيام ، وفى مثل هذا الظرف قد يدفع المستأجر مائة قرش فى بعض الأحيان مقابل استئجار مثل هذا الطاقم الذى يبلغ ثمنه حوالى ألف وخمسمائة قرش أو ألفى قرش. وهنا لا نجد أحدا راضيا عن الثوب الذى يناسب مكانته فى الحياة ، ولكنه يرتدى ثياب من هم أعلى منه فى سلم الحياة. صاحب الدكان الذى يمضى القسم الأكبر من العام مرتديا لباسه القصير ، ومن حول خصره فوطة تستر ردفه وفخذيه ، تراه فى أيام مرتديا لباسه بنش بالساتان ، وعمامة مطرزة بالذهب ، وساش (حزام) من الحرير الخالص ، مشغول بخيوط الفضة ، وجنبيّة (خنجر) أو سكينا معقوفا ، معلق أو مغروس فى الحزام ، وجراب هذه الجنبيّة مرصع بالعملات المعدنية الفضية والذهبية ، والأطفال يلبسون أيضا ملابس غالية ، والشخص يمكن أن يستسلم لإطلاق لقب اللص عليه ، بدلا من إعطاء من هم فى منزلته حق التفوق عليه فى مسألة الملبس هذه. الناس يفضلون الألوان الغامقة بشكل عام ، والعباءة العلوية لا بد أن تكون فى تقابل مع لون الملابس التى تحتها ، يرتدى الناس أيضا الشيلان الكشميرية فى أيام العيد ، على الرغم من عدم مشاهدة تلك الشيلان فى أحيان أخرى ، لكنهم باستثناء النساء ، هن والأشراف المحبين للحرب ، ومع ذلك فإن كل واحد من المكيين الميسورين لديه فى دولاب ملابسه عدد لا بأس به من هذه الشيلان. بعد العيد يضع المكى طاقم ملابس العيد جانبا ، ويعود كل واحد إلى وضعه السابق. كل واحد من المكيين الكبار ، يحمل عصا طويلة ، هذه العصى تسمى فى الأوساط المتدنية عكاكيز ، والعالم لا يمكن

٢٣١

أن يراه الناس بلا عصا. قلة قليلة من الناس هم الذين يمشون مسلحين ، اللهم باستثناء الطبقات الدنيا ، أو الأشراف الذين يحملون خناجر أو سكاكين معقوفة مثبتة فى أحزمتهم.

نساء مكة ونساء جدة يلبسن ملابس مصنوعة من الحرير الهندى ، كما يلبسن سراويل طويلة زرقاء اللون ومقلمة ، تصل إلى كعوبهن ، وهى مطرزة من أسفل بخيوط الذهب ، وفوق هذه السراويل والثياب يلبسن رداء واسعا يسمونه الحبرة ، وهى ملاية من الحرير المقلم بالأبيض والأسود ، وتصنعها بلاد الهند ، وهن يغطين وجوههن ببرقع أبيض اللون أو أزرق خفيف ، والنساء يلبسن على رءوسهن التى تغطيها الملايات ، طواقى مثل طواقى الرجال ، وكل طاقية من هذه الطواقى تلف المرأة حولها قطعة من القماش الموسلين الملون ، التى تلف لفا جيدا حول الطاقية. يقال إن لباس الرأس أقل زينة من حيث العملات الذهبية واللؤلؤ ، والمجوهرات عن لباس الرأس عند النساء المصريات والسوريات ، لكن لباس رأس المرأة المكية يشتمل على خيط معلق فيه بعض العملات من فئة السكوين ، مكيات كثيرات لديهن قلادات من الذهب ، وأساور من الذهب ، وخلاخيل من الفضة ، أما النساء فيلبسن القميص المصرى أزرق اللون ، وبناطيل كبيرة ، مثل البناطيل سالفة الذكر ، كما يلبسن أيضا أساور من قرون الحيوانات ، أو من الزجاج أو الكهرمان.

أطفال مكة ليسوا مدللين من قبل والديهم مثل أطفال بلدان الشرق الأخرى ، والطفل منهم عندما يستطيع المشى يتركه أهله يلعب أمام باب الدار ، مرتديا ثيابا خفيفة جدا أو شبه عار ، وهم كانوا أقوياء وأحسن صحة لهذا السبب ، عن الأطفال السوريين والمصريين الذين يعتنى بهم آباؤهم عناية كبيرة والذين يمكن القول عنهم ، إنهم يراعون حتى الممات.

قلة قليلة من العائلات المكية هم الذين ليس عندهم عبيد. وتفتحت عينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على استقرار تجارة العبيد فى الجزيرة العربية ، على نحو لم يحاول إلغاءه ، وبذلك يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أكد ، ووسع هذه التجارة فى أنحاء شمالى إفريقيا ، بكل

٢٣٢

ما تنطوى عليه هذه التجارة من قوة ، إضافة أيضا إلى المصاعب التى صاحبت انتشار الإسلام. الخدم والخادمات زنوج ، أو بالأحرى نوبيون ، يجرى جلبهم عادة من سواكن ، أما المحظيات فهن عادة من الحبشيات الإماء. لا أحد من المكيين يفضل أمنه وسلامه المنزلى على إشباع احتياجاته العاطفية ؛ هذا يعنى أن المكيين لهم محظيات بالإضافة إلى زوجاتهم الشرعية ، لكن الأمة إذا ما أنجبت طفلا فإن سيدها عادة ما يتزوجها ، وإذا ما أخفق فى ذلك أصبح محطا لانتقادات المجتمع. مسألة الاحتفاظ بالمحظيات الحبشيات لا تزال أمرا شائعا فى جدة ؛ كثير من المكيين ليس لهم سوى زوجات حبشيات ، نظرا لغلو مهور المواطنات العربيات ، اللاتى لا يملن إلى التسليم بإرادة الزوج ورغباته. هذا الإجراء يلجأ إليه كثير من الأجانب الذين يقيمون فى الحجاز فترات قصيرة. هؤلاء الأغراب والأجانب يقومون فور وصولهم إلى مكة بشراء رفيقة ، برغبة بيعها عندما يرحلون عن المدينة ، لكن هؤلاء الأغراب والأجانب قد يطول مقامهم فى مكة ، وتحمل الأمة ، ويتزوجها الرجل ، ويستقر فى مكة. قلة قليلة من الرجال هم الذين من غير المتزوجين أو الذين ليس لهم إماء محظيات. هذه مسألة عامة وشائعة فى الشرق ، ولا تشيع فى أى مكان آخر أكثر مما هى عليه فى مكة. الاختلاط بالدم الحبشى هو الذى أعطى المكيين تلك البشرة المائلة إلى الاصفرار ، التى تميز المكيين عن سكان الصحراء.

الطبقات الأكثر ثراء من الطبقات السابقة ، تعد بيع الأمة أمرا مشينا ومخزيا. والأمة عندما تنجب طفلا ، ولا تكون فى عصمة سيدها أربع نساء فإنه يعقد عليها ويتزوجها ، وإذا لم تنجب منه فإنها تظل فى منزله مدى الحياة ، وفى بعض الأحيان يتزايد عدد المحظيات إلى ما يقرب من اثنتى عشرة محظية من كبار السن ومن الشابات. الطبقات الوسطى والطبقات الدنيا فى مكة ليست على شاكلة الطبقات التى تعلوها ، هذا يعنى أن هذه الطبقات الدنيا والمتوسطة يشترون الحبشيات الصغيرات عن طريق المضاربة ، ويقومون بتعليمهن فى الأسرة ، ويعلمونهن الطبخ ، والحياكة إلخ ، ثم يبيعونهن للأجانب والأغراب بأثمان غالية. لقد أبلغنى الأطباء ، والحلاقون ، وباعة

٢٣٣

العقاقير أن مسألة الإجهاض شائعة فى مكة. وأن بذور أشجار البلسم المكى هى الدواء الشائع الاستعمال فى مسألة الإجهاض. المكيون لا يفرقون بين أولادهم من الإماء الحبشيات أو من النساء العربيات الحرائر.

سكان مكة عندهم نوعين من العمالة ، التجارة ، وخدمة بيت الله ، أو إن شئت فقل : المسجد الحرام ، ولكن التجارة هى المفضلة عند المكيين ، يضاف إلى ذلك قلة قليلة من العلماء هم الذين يعملون فى المسجد الحرام ، وحتى هذه القلة القليلة من العلماء لها أيضا شئونها التجارية ، على الرغم من اعتزازهم الذى يمنعهم من ممارسة التجارة علانية ، ولعل القارئ يكون قد لاحظ فى وصفنا السابق لمكة ، كيف أن قلة قليلة من الحرفيين وأصحاب الحرف هم الذين يعيشون فى شوارع مكة ، هؤلاء الحرفيون ، هم من البنائين ، والنجارين ، والخياطين ، والغرازين ، والحدادين ، إلخ ، وأن هؤلاء الحرفيين ، أقل مهارة بكثير عن أمثالهم فى مصر. وإذا ما نحينا جانبا تلك القلة القليلة من صناع الفخار ، والمصابغ ، نجد أن المكيين ليست لديهم أية صناعات أخرى ، لكن المكيين شأنهم شأن أهل جدة يعتمدون على البلدان الأخرى فى الحصول على احتياجاتهم. من هنا ، نجد أن مكة فيها قدر كبير من التجارة الأجنبية ، التى تجرى خلال موسم الحج ، وخلال بضعة أشهر قبل ذلك الموسم ، والذى يقوم بهذه التجارة هم الحجاج الأثرياء ، الذين يجلبون المنتجات الوطنية من البلاد الإسلامية إلى جدة إما عن طريق البحر وإما عبر الصحراء من دمشق ، ويروحون يتبادلون تلك المنتجات فيما بينهم ، أو قد يتلقون من تجار مكة البضائع الهندية وبضائع الجزيرة العربية ، التى سبق أن خزنها تجار مكة فى مخازنهم. فى هذه الفترة ، تتحول مكة إلى واحدة من أكبر أسواق الشرق ، بل وأهم هذه الأسواق كلها ؛ نظرا لتباين الأمم التى تتوافد على المدينة. على كل حال ، فإن قيمة الصادرات من مكة تفوق الواردات ، الأمر الذى يتطلب مبالغ كبيرة من الواردات والسكوينات لسداد ذلك العجز وإحداث نوع من التوازن. بعض هذه الصادرات يشق طريقه إلى اليمن والهند ، ويتبقى حوالى ربع هذه الصادرات فى أيدى المكيين. هذه التجارة مربحة جدا إلى حد أن البضاعة التى يجرى شراؤها فى جدة ، من التجار

٢٣٤

الذين يشترونها من على ظهر السفن التى تصل إلى جدة قادمة من الهند ، تدر على صاحبها إذا ما بيعت بسعر الجملة ، أثناء موسم الحج ، ربحا صافيا يتردد بين عشرين فى المائة وثلاثين فى المائة ، وتدر إذا ما بيعت بالتجزئة ربحا يقدر بحوالى خمسين فى المائة. من هنا ، لا يصبح الأمر مدهشا ، إذا ما عرفنا أن أهل مكة كلهم من التجار ، وكل من يستطيع توفير بضع مئات من الدولارات يسافر إلى جدة ، ويستثمرها فى البضاعة التى يعرضها للبيع خلال موسم الحج. يحقق المكيون أرباحا كثيرة أيضا عن طريق التدليس ، معروف أن كثيرا من الحجاج يجهلون اللغة العربية ، ولذلك يقعون فى أيدى السماسرة أو المترجمين الذين يجعلونهم يدفعون أثمانا غالية نظير الخدمات ، واقع الأمر أن مكة كلها متحدة فى مسألة غش الحجاج وخداعهم.

فى الماضى ، ويوم أن كانت القوافل تتمتع بالأمن الكامل على الطريق ، كانت البضائع تنقل إلى مكة بطريق البر ، فى الوقت الراهن نجد قلة قليلة من التجار هم الذين يعرّضون ممتلكاتهم لمخاطر النقل عبر الصحراء ، يضاف إلى ذلك أن هؤلاء التجار يضحون بميزة استيراد بضاعتهم إلى مكة خالصة الجمارك ، وهذه ميزة مقصورة على القوافل ، وينقلون بضاعتهم بالبحر إلى جدة ، وهذا الطريق يدفع فيه الحجاج القادمون من إفريقيا والحجاج القادمون من تركيا رسوما مضاعفة ، ومحمد على باشا يحصل هذه الرسوم الجمركية مرة فى مصر ومرة أخرى فى جدة. فى الوقت الراهن نجد أن الحركة التجارية الصغيرة ، لا تقوم بها سوى القوافل ، التى لا تبقى سوى أيام قلائل فى مكة. وهنا نجد أن أصحاب الدكاكين وتجار التجزئة فى المدينة يحققون أرباحا كبيرة من هذه البضاعة ، هذا يعنى أن أرباح تجار التجزئة فى مثل هذه الظروف تكون أكثر من أرباح تجار الجملة. معروف أن حركة تجار الجملة تروج خلال الأشهر السابقة للحج ، وذلك بعد وصول التجار الأجانب إلى مكة عن طريق جدة ، ويكون أمامهم متسع من الوقت لتسوية أمورهم قبل دخول موسم الحج.

٢٣٥

فى زمن السلم مع المناطق الداخلية تروج التجارة رواجا كبيرا مع البدو وبخاصة مع سكان مدن نجد ، الذين يحتاجون إلى البضائع الهندية ، والعقاقير الهندية ، والملابس أيضا ، والتى يحصلون عليها إما من المدينة المنورة ، أو بسعر رخيص من مكة. والبن الذى يستخدم على نطاق واسع فى الصحراء يستورده أهل نجد بأنفسهم ، إذ يرسلون قوافلهم الخاصة بهم إلى اليمن الذى ينتج البن.

المكيون الذين ليسوا على قدر من الغنى والثراء يمكّنهم من الاتجار فى البضائع الهندية (التى تحتاج إلى مبالغ نقدية كبيرة ، والتى قد تبقى لفترات طويلة) يستثمرون رأسمالهم فى موسم الحج ، فى تجارة الحبوب والتموينات. كان ذلك الأسلوب أكثر ربحا فى الزمن الماضى عنه حاليا ، والسبب فى ذلك أن محمد على بعد أن قام باحتكار هذه السلع ، اضطر الناس إلى شراء القمح من جدة بالسعر الذى يحدده الباشا ، وأن يكونوا راضين عن تحقيق هامش ربح عندما يعيدون بيع القمح فى مكة. بعد دفع مصاريف النقل ، يتبقى لهؤلاء التجار ربح يتردد بين خمسة عشر فى المائة وعشرين فى المائة ، وهذا النوع من الاتجار يناسب تماما رءوس الأموال الصغيرة ، نظرا لتباين الأسعار ، هذا نوع من اليانصيب يمكن أن تؤدى فى بعض الأحيان إلى مضاعفة رأس المال خلال فترة وجيزة.

مع اقتراب موسم الحج ، ترتفع أسعار المؤن والتموينات كلها ، وبالتالى أيضا أسعار السلع الأخرى. وبذلك يضمن هؤلاء الذين لديهم مخازن عامرة بالقمح ، والأرز ، والبسكويت حصولهم على أرباح كبيرة. مسألة توفير الأغذية والطعام ، طوال مقامهم ، لدفق من السكان يصل إلى حوالى ستين ألفا من البشر ، ولحوالى عشرين ألف جمل ، إضافة إلى المؤن والتموينات اللازمة لهذه الآلاف المؤلفة عند العودة إلى أوطانهم ، تعد مسألة غاية فى الأهمية ، ولم يخاطر محمد على باشا بوضع أبعاد كل هذه المسألة بين يديه. والمكى الذى يمتلك حفنة دولارات ، يستثمر هذا المبلغ فى شراء نوع من التموينات يقوم بنقله على حماره مع اقتراب موسم الحج ، من جدة إلى مكة.

٢٣٦

عندما تنفتح المناطق الداخلية من الجزيرة العربية أمام القوافل ، يجىء البدو من سائر الأنحاء المحيطة بمكة لشراء مؤنهم السنوية من القمح من مكة ، التى تستقبل هى بدورها ، فى زمن السلم ، كميات كبيرة من القمح من اليمن ، وبخاصة المخواه ، تلك البلدة التى تبعد مسير عشرة أيام عن مكة ، وتقع عند السفح الشرقى لسلسلة الجبال الكبيرة ، كما تعد سوقا للعرب الذين يقومون بزراعة هذه الجبال. وعلمت أيضا أن الواردات من المخواه تقدر بنصف احتياجات مكة ، لكن هذا أمر تدور من حوله الشكوك ، على الرغم من أنى ليست لدىّ الوسائل التى تمكننى من القيام بتقدير هذه الاحتياجات تقديرا دقيقا ، وسبب ذلك أن الطريق فى الوقت الراهن ، غير مطروق ، كما أن مكة تتلقى مؤنها وتمويناتها كلها من جدة ، ويجب أن نلاحظ أن استهلاك الحبوب ، فى الجزيرة العربية أكبر بكثير من أى دولة من الدول المجاورة ، يزاد على ذلك أن السواد الأعظم من السكان يعتمدون تماما على القمح والشعير ، والعدس ، أو الأرز ، وهم لا يستعملون الخضراوات ، وإنما يستعملون مقدارا كبيرا من الزبد.

الشخص نفسه إذا لم يكن من العاملين فى مجال التجارة ، أو إذا لم يكن له صديق ألمعى بين تجار الجملة ، يصعب ، إن لم يستحل عليه ، الحصول على تفاصيل دقيقة عن هذه التجارة الواسعة التى تجرى فى مكة. وأنا هنا سوف أتحاشى مسألة إيراد بعض الملاحظات الخاطئة حول هذا الأمر ، الذى لست على دراية كاملة به ، والذى لم أعثر فى مكة على أحد يمكنه أن يشرح لى تفاصيله.

من الطبيعى أن نسلم أن مكة بلد غنى ، وسوف تزداد مكة غنى على غناها ، إذا لم تسارع الطبقات الدنيا إلى إنفاق مكتسباتها فى تلبية المطالب الشخصية. تجار الجملة أثرياء ، ونظرا لأن تجار الجملة فى مكة يعملون بنظام الدفع الفورى ، فهم بذلك يكونون أقل تعرضا للخسارة عن التجار الشرقيين الآخرين. السواد الأعظم من تجار الجملة المكيين لهم مكاتب ومؤسسات فى جدة ، وبذلك نجد أن التجارة فى المدينتين متصلة ببعضها البعض. فى زمن الوهابيين ، كانت المناطق الداخلية فى الجزيرة العربية

٢٣٧

مفتوحة أمام مكة ، لكن الواردات الأجنبية ، عن طريق البر والبحر ، أصبحت تقتصر على ما هو مطلوب لاستعمال السكان ، ونجد أيضا أن سوق الحج الكبيرة لم تعد تنعقد ، وعلى الرغم من أن بعض الحجاج الأجانب لا يزالون يزورون مكة ، فإنهم لا يعرّضون بضاعتهم لخطر الاستيلاء عليها بواسطة الوهابيين. مع مثل هذه الظروف نجد أن اهتمام المكيين الذى ينصب على المدن نفسها والبقاء فيها طلبا للأرباح الطائلة لم يعد موجودا. الذين عجزوا عن أن يكونوا أثرياء ينتظرون تجديد أو استئناف قوافل الحج ، لكن كثيرا من الفقراء الذين عجزوا عن كسب عيشهم ، تركوا مكة ، واستقروا فى جدة ، أو فى موانئ أخرى على البحر الأحمر ، وتبعهم فى تلك الموانئ عدد كبير من التجار المحترمين.

التجارة هنا تتم عن طريق السماسرة الذين منهم عدد كبير من الهنود ، واقع الأمر أن الجالية الهندية هى أغنى جاليات مكة ، وهم على اتصال مباشر بكل موانئ هندوستان ، ويستطيعون فى معظم الأحيان منافسة الغير فى الأسعار. الكثيرون منهم ، كما سبق أن قلنا ، يقيمون فى مكة ، فى حين تواصل البقية الباقية من هؤلاء الهنود التنقل جيئة وذهابا بين الحجاز والهند. هؤلاء الهنود جميعهم يحتفظون بلغتهم الوطنية ، التى يعلمونها لأبنائهم ، كما يعلمونها أيضا لكثير من تجار مكة ، إلى حد أن السواد الأعظم من تجار مكة يفهمون أو يعرفون الأعداد الهندية فى أضعف الأحوال ، فضلا عن معرفتهم أيضا للعادات الشائعة جدا المستخدمة فى البيع والشراء. الهنود يعملون فى ظل ظروف صعبة جدا يتعلمون خلالها اللغة العربية ، ولم يحدث أن رأيت مطلقا أحدا من هؤلاء الهنود ، مهما طالت إقامته فى مكة ، يتكلم العربية بطريقة سليمة ، وهم من هذه الناحية أقل من الأتراك ، الذين نعد نطقهم للغة العربية مدعاة للسخرية والتهكم فى معظم الأحيان أمام العرب. أبناء الهنود الذين ولدوا فى مكة يتكلمون العربية كما لو كانت لغتهم الوطنية ، وقد درج الهنود على كتابة اللغة العربية بأحرف هندية.

٢٣٨

يقال إن الهنود بخلاء تماما ، ومن واقع ما رأيته من الهنود فى منازل بعض تجارهم الأول ، أرى أنهم يستحقون هذا الوصف. إنهم تجار شديدى الحرص ، وطماعين ، إلى حد أنهم يفوقون العرب فى ذلك. الناس يحتقرونهم لأنهم يفتقرون إلى الإحسان ، لكنهم فيما بينهم تسود بينهم روح تضفى عليهم شيئا من الاحترام ، بل وتجعل الناس يخشونهم ويخافونهم فى مكة. كثير من الهنود لهم شركاء فى الهند ، وبالتالى فهم يحصلون على البضاعة بأثمان أرخص من الأثمان التى يشترون بها من السفن الهندية فى جدة ؛ الأمر الذى يجعل التجار الصغار ، وأصحاب الداكاكين يشترون منهم بآجال قصيرة ، بدلا من السفر إلى جدة ، التى يجرى فيها الشراء بالنقد. وباستثناء منزل أو منزلين ، نجد أن تجار مكة كلهم ، لا تصلهم البضاعة من الهند مباشرة وإنما يذهبون للشراء مباشرة من الأسطول الهندى ، وليس هنا من بين سكان مكة من هم أكثر مداومة ومحافظة على الطقوس الدينية من الهنود.

عندما يتساوم تجار الجملة فى وجود شخص يودون أن يخفوا عنه أمورهم المالية والأعمالية ، يضعون أيديهم اليمنى جنبا إلى جنب عند طرف الثوب أو عند أكمام طرف من الأطراف الموجودة ، وعن طريق لمس وصلات الأصابع المختلفة ، يستطيعون ملاحظة الأعداد وبذلك يبرمون صفقاتهم فى هدوء.

المكيون الذين لا تستهويهم التجارة ، يرتبطون بالحكومة ، أو بمؤسسة المساجد ، ولكن كما سبق أن أسلفت ، يشتركون بصورة أو بأخرى فى فرع من أفرع التجارة ، فضلا عن أن السكان جميعهم يتطلعون إلى موسم الحج ، باعتباره المصدر الرئيسى للدخل.

هؤلاء الذين يعملون فى المسجد الحرام يتلقون رواتب بصفة منتظمة ويشاركون فى الهدايا والعطايا العامة التى تقدم لبيت الله ، فيما عدا بعض العطايا والهدايا الخاصة التى تأتى من أهل الخير والمحسنين ، كما يشاركون أيضا فى التبرعات التى تأتى مع القافلتين السورية والمصرية. هذه التبرعات التى يسمونها الصرة ، (التى سبق

٢٣٩

الحديث عنها) تأتى أصلا من سلاطين إسطنبول ، الذين يحددون فور وصولهم إلى الحكم مبلغا محددا لعون التبرعات يجرى توزيعها فى المدينتين بواسطة القاضى حسبما يراه مناسبا ، لكن إذا ما حصل شخص على جزء من هذه التبرعات ، فإنه يداوم الحصول عليه مدى الحياة ، بل إن هذا الحق ينتقل إلى أطفاله. مثل هذا الشخص يحصل على بطاقة موقعة من القاضى ، ومن الشريف ، ومن كاتب الصرة ، كما يجرى إدراج اسم مثل هذا الشخص فى أحد السجلات فى مكة ، هذا السجل ترسل منه سنويا نسخة إلى إسطنبول ، حيث يجرى إدراج تلك الأسماء ضمن سجل الصرة العام ، هذه الصرة يجرى تقسيمها فى إسطنبول إلى مبالغ صغيرة يمثل كل منها اسم الشخص المرسل له مثل هذا المبلغ ، وإذا ما أرسل مبلغ إضافى لتوزيعه على المحتاجين ، فإن القاضى هو الذى يقوم بتوزيع هذا المبلغ الإضافى ، ويقوم القاضى بعد ذلك بإبلاغ مفتش الصرة فى إسطنبول باسم الشخص الذى حصل على المبلغ ، وبذلك تجرى فى العام التالى إضافة تلك المبالغ الإضافية إلى المبالغ السابقة. بعض صرر التبرعات تأتى من مصر ، لكن القسم الأكبر يأتى من إسطنبول عن طريق سوريا ، هذا القسم من التبرعات يجرى الحصول عليه بصورة منتظمة. كل قافلة لها كاتب صرتها الخاصة ، وتتمثل مهمة ذلك الكاتب فى توزيع النقود والهبات التى تدفعها القوافل لكل من البدو والعرب وهى فى طريقها إلى مكة.

يجرى توزيع صرة مكة فى المسجد الحرام ، من نوافذ منزل القاضى وتحت إشرافه ، بعد عودة الحج. هناك من يتسلم مبالغ صغيرة قد تصل إلى قرش واحد ، أما القسم الأكبر فيتراوح بين عشرة قروش وعشرين قرشا ، لكن هناك عددا قليلا جدا من الأسر التى تتسلم ما يقرب من ألف قرش كل عام. وعلى الرغم من عدم إعطاء هذه المبالغ لمستحقيها ، فإن عددا كبيرا من الأسر الفقيرة تحصل على نصيب من هذا الدعم. بطاقات هذه المعونات قابلة للتحويل ، لكن تحويل هذه البطاقة لا بد أن يكون بموافقة كل من القاضى والشريف وتوقيعهما على هذه البطاقة ، وذلك نظير هدية صغيرة تقدم لكاتب القاضى ، يجرى تسجيل الاسم الجديد وإرساله إلى إسطنبول ، فى الماضى كان

٢٤٠