ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-387-1
الصفحات: ٣٠٥
الجزء ١ الجزء ٢

فلن يكون هؤلاء العاملون والخدم فى ضيق من افتقارهم إلى ضروريات الحياة أو مباهجها.

المسئول الأول فى الحرم هو ما يسمونه نائب الحرم ، أو حارس الحرم ، وهو الذى يحمل مفاتيح الكعبة. ويجرى وضع المبالغ التى تهدى للمبنى بين يدى هذا الحارس وهو الذى يقوم بتوزيع المبالغ هذه مع القاضى. وتجرى صيانة المسجد الحرام وإصلاحاته تحت إشراف حارس الحرم. (*) لقد أكدوا لى ، لكنى لا أعرف مدى صدق ذلك ، أن حسابات حارس الحرم السنوية ، التى يحصيها كل من الشريف والقاضى ، والتى كانت ترسل إلى إسطنبول ، تقدر بحوالى ثلاثمائة صرة كل عام ، للصرف منها على الإصلاحات الضرورية ، والإضاءة ، والسجاد ، إلخ ، وإعاشة الطواشيّة. المنتسبين إلى المسجد. حارس الحرم هذا تصادف فى هذه الأيام أن يكون واحدا من عمداء الأسر الرئيسية الثلاث المنحدرة عن قريش القديمة ، والذى لا يزال مقيما فى مكة. بعد حارس الحرم فى المنزلة ، يجىء أغا الطواشى ، أو كما يسمونه أغا الطواشية هؤلاء الطواشية يقومون بأعمال ضباط الشرطة فى المسجد (**) ، كما أنهم مسئولون عن منع الإخلال بالنظام ، وعن مسائل الكنس والتنظيف اليومى ، باستخدام مقشات كبيرة ، وتنظيف الرصيف المحيط بالكعبة وكنسه. وقد شاهدت مياه المطر ، فى موسم سقوط الأمطار متجمعة فوق الرصيف إلى ارتفاع قدم تقريبا ، وفى المناسبات التى من هذا القبيل يساهم حجاج كثيرون فى إزالة هذا الماء عن طريق فتحات متعددة موجودة فى الرصيف ، يقال إنها تؤدى إلى تجاويف كبيرة أسفل الكعبة ، وذلك على الرغم من أن مؤرخى مكة ومؤرخى المسجد الحرام لا يأتون على ذكر هذه التجاويف.

__________________

(*) شرف الاحتفاظ بمفاتيح الكعبة ، والأرباح الناتجة عن ذلك ، كان دوما محلا للصراع بين القبائل العربية القديمة.

(**) استخدام العبيد أو الطواشيّة فى هذا المسجد له تاريخ قديم ؛ معاوية بن أبى سفيان ، بعد وفاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوقت قصير أمر باستخدام العبيد فى الكعبة. راجع الفاسى.

٢٠١

هؤلاء الطواشية يرتدون الكاوك الاسطنبولى ، ومن فوقه روب واسع ، مربوط بحزام ، ويحمل كل واحد منهم عصا طويلة فى يده. الوصف الذى أورده «د. أوهون» عن هؤلاء الطواشية صحيح تماما ، وقد قارنت ما كتبته عن هذا الموضوع مع ما أورده هذا الرحال (*). عدد الطواشية فى المسجد الحرام حاليا يزيد على أربعين طواشيا. وهؤلاء الطواشية يجرى إرسالهم إلى المسجد الحرام بواسطة الباشاوات والأعيان الآخرين ، وهم يرسلون هؤلاء الطواشية ، على سبيل الهدية ، إلى المسجد الحرام ، عندما يكونون صبية صغارا ، ويرسل مع كل طواشىّ من هؤلاء الطواشية مبلغ مائة دولار على سبيل التجهيز. وقد قدم محمد على باشا عشرة طواشية للمسجد الحرام. فى الوقت الراهن يوجد عشرة طواشية كبار ، وعشرين طواشيا من الصبية الصغار ، هؤلاء الصبية الصغار يعيشون سويا فى بيت واحد إلى أن يجرى تدريبهم وتعليمهم على نحو يسمح لهم بأن يصبحوا تحت رعاية إخوانهم الكبار ، الذين يبقون معهم مدة سنوات قليلة ، ثم يقومون بعد ذلك بتأسيس منشأتهم الخاصة. على الرغم من أن الأمر قد يبدو شاذا وغريبا فإن الطواشية الكبار يتزوجون من إماء سوداوات ، ويحتفظون فى منازلهم بكثير من العبيد والإماء على سبيل الخدم فى منازلهم. هؤلاء الطواشية يشكلون أهمية كبيرة ، وفى حال حدوث مشاجرات أو اضطرابات ، يقوم هؤلاء الطواشية بتطويق المتشاجرين أو مثيرى الشغب ويتعاملون معهم بعصيهم. كثير من أفراد الطبقات الدنيا فى مكة يقبلون أيدى هؤلاء الطواشية عندما يقتربون منهم. رئيس ، أو أغما الطواشية يجرى اختياره من بينهم ، هذا الرئيس عبارة عن شخصية قوية ، ومن حقه أن يكون موجودا فى حضرة الباشا والشريف. الطواشية لهم دخل كبير يأتيهم من مداخيل المسجد الحرام ، ومن التبرعات الخاصة التى تأتى من الحجاج ، هؤلاء الطواشية يتلقون أيضا

__________________

(*) هذا الكتاب الممتاز هو المصدر الكامل الوحيد للمعلومات الخاصة بقوانين الإمبراطورية التركية ودستورها ، لكن يجب ألا يغيب عن البال أن الممارسات التى كانت سارية فى المقاطعات كانت تتضارب ، من سوء الطالع ، تضاربا شديدا مع نص القانون وروحه ، على حد تفسير المؤلف.

٢٠٢

حوافز دورية من إسطنبول ، كما يحصلون أيضا على ربح من الأعمال التجارية ، وسبب ذلك ، أن الطواشية شأنهم شأن بقية أفراد الشعب المكى ، بل ومثل كبار رجال الدين ، يعملون بالتجارة بشكل أو بآخر ، يزاد على ذلك أن الجهد الذى يبذلونه سعيا إلى الكسب التجارى ، أكبر بكثير من الجهد الذى يبذلونه فى القيام بأعمالهم الرسمية ، هذا الجهد الذى يبذلونه من أجل الكسب التجارى يتساوى تماما مع الجهد الذى يبذلونه سعيا إلى اكتساب صداقة الحجاج الأثرياء.

السواد الأعظم من هؤلاء الطواشية من الزنوج ، قلة قليلة منهم من الهنود الذين لبشرتهم لون النحاس. يجرى فى بعض الأحيان إرسال واحد من الطواشية السود ، إلى بلاد السودان لجمع الهدايا للكعبة ، وقد حكى بروس Brouc فى كتابه عن المصير الذى آل إليه واحد من هؤلاء الطواشية. قبل سنوات عدة حصل أحد الطواشية على إذن بالعودة إلى السودان ، بعد أن قدم شخصا آخر بدلا عن نفسه للمسجد الحرام. وعاد الرجل إلى برجو ، غربى دارفور ، وهو حاليا الحاكم القوى لهذه المنطقة.

عندما يأتى الحجاج الزنوج إلى مكة ، لا ينسون مطلقا زيارة الطواشية وتقديم فريضة الطاعة والولاء لهم ، والطواشىّ بعد أن يلحق بخدمة الكعبة ، التى تسبغ عليه لقب طواشى النبى ، لا يمكن أن يلتحق بأى عمل آخر.

فى شهر رمضان ، (أمضيت الأيام الأخيرة منه فى مكة وكان ذلك فى العام ١٨١٤ الميلادى) يتلألأ المسجد الحرام تلألؤا فريدا. كان الحجاج فى ذلك الوقت ، (المصادف لأشد أوقات العام حرارة) ، يؤدون الصلوات الثلاث اليومية الأولى فى منازلهم ، لكنهم يتجمعون بأعداد كبيرة فى المسجد الحرام ، لأداء صلاة المغرب والعشاء. كل واحد من هؤلاء الحجاج يحمل معه فى غترته قليلا من التمر ، وشيئا من الخبز والجبن ، أو شيئا من العنب ، يضعه أمامه انتظارا لانطلاق أذان المغرب ، ثم يبدأ فى فك صيامه. طوال فترة الانتظار هذه يتبادلون فى أدب مع جيرانهم جزءا من وجبتهم ويأخذون جزءا مثيلا. بعض الحجاج ، ومن منطلق ذيوع صيتهم فى الإحسان ،

٢٠٣

يتنقلون من رجل إلى رجل ، ويضعون أمام كل واحد منهم قطعا قليلة من اللحم ، ومن خلفهم الشحاذون ، الذى يقومون بدورهم ، بتلقى هذه القطع من أولئك الحجاج الذين وضعت أمامهم. وعقب نداء الإمام الموجود أعلى بئر زمزم قائلا : «الله أكبر» ، يسارع الجميع إلى الشرب من جرار ماء زمزم ، على أن يشرب كل واحد من جرته الخاصة به ، ويأكل شيئا مما أمامه قبل أداء صلاة المغرب ، وبعد صلاة المغرب يعود الجميع إلى بيوتهم لتناول العشاء ، ثم يعودون بعد ذلك إلى المسجد لأداء صلاة العشاء. فى ذلك الوقت تكون الساحة ، هى والأبهاء المعمدة قد أضيئت بآلاف المصابيح ، يضاف إلى ذلك أن كل حاج يأتى ومعه فانوسه الخاص ليضعه أمامه. روعة هذا المنظر ، والنسيم العليل الذى يعم صحن المسجد أو ساحته ، يغرى جموعا كبيرة بالبقاء فى المسجد طوال الليل. هذه الساحة هى الساحة الوحيدة الواسعة والمكشوفة فى المدينة كلها ، وهى تسمح للنسيم العليل بالاندفاع قادما من بواباتها ، هذا النسيم العليل يعزوه المكيون إلى حفيف أجنحة الملائكة الذين يحرسون المسجد الحرام. شاهدت حماس حاج من دارفور ، وصل إلى مكة فى الليلة الأخيرة من رمضان بعد أن قطع ذلك الرجل رحلة طويلة عبر صحار جرداء قاحلة ، هذا الحاج عندما دخل إلى المسجد المضاء ، اندهش كثيرا لمنظر المسجد ، وانبهر أيضا بالكعبة السوداء ، إلى حد أنه خر ساجدا بالقرب من المكان الذى كنت أجلس فيه ، وبقى على هذه الحال فترة طويلة ، ثم نهض الرجل بعد ذلك ، وانهمرت دموعه ، وفى ذروة انفعاله ، وبدلا من أن يدعو بالدعاء المعتاد راح يقول متوسلا : «يا رب ، اقبض روحى ، لأن هذا جنة!»

انتهاء موسم الحج يضفى على المسجد الحرام مظهرا مختلفا تماما. الأمراض والوفيات التى تنتج عن هذه الرحلة المضنية ، أو الناتجة عن ملابس الإحرام الخفيفة ، وكذلك السكن غير الصحى فى مكة ، وكذلك الطعام السيئ ، والفقر والحاجة فى بعض الأحيان ، كل ذلك يؤدى إلى امتلاء المسجد الحرام بجثث الموتى ، التى تحمل إلى داخل الحرم للصلاة عليها ، أو المرضى الذين إذا ما اشتد مرضهم ودنا أجلهم يجرى إحضارهم إلى الأبهاء المعمدة ، على أمل أن يشفوا بسبب النظر إلى الكعبة ، أو الرضا

٢٠٤

ـ فى أضعف الأحوال ـ بأن يموتوا فى المكان المقدس. الحجاج الفقراء الذين أرهقهم المرض والجوع ، تراهم يجرجرون أجسادهم الواهنة على امتداد الأعمدة ، وعندما يعجزون عن مد أيديهم طلبا للإحسان ، يقومون بوضع إناء يتلقون فيه الصدقات بالقرب من الحصير الذى يرقدون عليه ، وعندما يحسون اقتراب لحظاتهم الأخيرة ، تراهم يغطون أنفسهم بخرقهم المهلهلة ، وقد يمضى يوم كامل قبل أن يكتشف الناس أنهم قد فارقوا الحياة. وعلى امتداد شهر كامل بعد انتهاء موسم الحج ، كنت أشاهد كل يوم تقريبا ، جثث الحجاج الذين فارقوا الحياة ممددة على الأرض فى المسجد ، وقد قمت أنا وحاج يونانى ، ساقته المصادفة إلى هذا المكان ، قمنا بإغماض عينى حاج مغربى فقير ، الذى زحف إلى أن أصبح على مقربة من الكعبة ، ليلفظ نفسه الأخير ، على حد قول المسلمين «بين يدى الرسول والملائكة الحارسين للمسجد» وأشار لنا أنه يرغب فى نثر بعض من ماء زمزم على وجهه ، وبينما كنا نفعل ذلك صعدت روح الرجل إلى بارئها ، وبعدها بنصف ساعة جرى دفن جثته. هناك العديد من الأشخاص الذين يعملون فى خدمة المسجد ، وبخاصة غسل تلك الأماكن التى يلفظ فيها مثل هؤلاء الناس أنفاسهم الأخيرة ، كما يقومون أيضا بدفن الفقراء ، ومن لا أصدقاء لهم وتوافيهم المنية فى مكة.

ملاحظات تاريخية

فيما يتعلق بالكعبة ، المسجد الحرام ، أورد هنا بعض المقتطفات من أعمال الأزرقى ، والفاسى ، وقطب الدين ، والعصمى ، نظرا لأن هؤلاء المؤلفين هم الذين أتيت على ذكرهم فى مقدمة الكتاب.

يؤكد الدين الإسلامى أن الكعبة أنشئت فى السماء قبل أن يخلق الله الكون بألفى عام ، وأن الملائكة كانوا يتعبدون فيها ، عندما أمرهم الله بالطواف أو السير حولها. آدم أول المؤمنين ، هو الذى أقام الكعبة على الأرض ، فى موقعها الحالى ، الذى يقع

٢٠٥

أسفل المكان الذى كانت تشغله فى السماء. جمع آدم ـ عليه‌السلام ـ الأحجار التى استعملها فى بناء الكعبة من الجبال الخمسة الشريفة ، جبل لبنان ، طور سيناء (جبل سيناء) ، والجودى (الاسم الذى يطلقه المسلمون على الجبل الذى رست عليه سفينة نوح بعد انحسار الطوفان) ، وجبل الحرة ، أو بالأحرى جبل النور ، وجبل طور زيت (ذلك الجبل الذى ورد ذكره فى السورة الخامسة والتسعين من القرآن). جرى تعيين عشرة آلاف ملك لحماية بيت الله الحرام من الأحداث ، لكن يبدو أن هؤلاء الملائكة ، من واقع تاريخ الحرم نفسه ، كانوا غير متقنين لعملهم. أبناء آدم رمموا الكعبة ، وبعد الطوفان ، أمر (سيدنا) إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بعد أن تخلى عن عبادة الأصنام التى كان عليها أسلافه ، من قبل المولى عزوجل بإعادة إنشاء الكعبة. وكان ولده (سيدنا) إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ ، الذى كان يسكن بالقرب من مكة منذ طفولته ، يساعد والده الذى جاء من سوريا من باب الطاعة لله سبحانه وتعالى وعندما بدأ الحفر عثرا على الأساس الذى وضعه آدم عليه‌السلام. ولما كانا بحاجة إلى حجر يضعانه فى زاوية المبنى ليكون بمثابة إشارة لبدء الطواف حول الكعبة ، فقد ذهب (سيدنا) إسماعيل يبحث عن حجر. وأثناء مسيره فى اتجاه جبل قبيص ، التقى (سيدنا) جبريل ، وقد أمسك بيده حجرا أسود. كان لون الحجر فى ذلك الوقت براقا ولامعا ، لكنه تحول إلى اللون الأسود ، على حد قول الأزرقى ، نظرا لتعرض ذلك الحجر مرارا ، قبل ظهور الإسلام وبعده. يقول بعض آخر من المؤرخين إن لون الحجر تغير بفعل خطايا أولئك الذين لمسوه ، وفى يوم القيامة سيشهد ذلك الحجر لصالح كل أولئك الذين لمسوه بقلوب صافية وسوف يرى ويتحدث ذلك الحجر.

بعد حدوث بئر زمزم على سبيل المعجزة ، وقبل أن يبدأ (سيدنا) إبراهيم بناء الكعبة ، كانت قبيلة بنى جرهم ، الذين هم فرع من الأمالكة ، تقيم فى هذه المنطقة ، بإذن من (سيدنا) إسماعيل وأمه ، اللذين كانا يعيشان بين أفراد هذه القبيلة ، كان (سيدنا) إسماعيل يعتبر بئر زمزم ملكا له ، لكنه بعد أن تزوج من قبيلة جرهم ، قام بنو

٢٠٦

جرهم ، بعد وفاة (سيدنا) إسماعيل باغتصاب ملكية كل من بئر زمزم والكعبة. أثناء مقامهم فى هذا الوادى ، قاموا بترميم الكعبة أو إعادة بنائها لكن بئر زمزم انسدت بفعل السيول العاتية ، واستمر ذلك الانسداد على امتداد ألف عام ، ثم قامت قبيلة خزاعة بعد ذلك بالاستيلاء على الكعبة لمدة ثلاثمائة عام ، ثم قام هؤلاء الذين جاءوا بعد خزاعة ، وهم من قبيلة قصى بن كلاب ، بإعادة بناء الكعبة ، ونظرا لأن الكعبة كانت معرضة دوما للدمار من قبل السيول ، فقد كانت دوما بحاجة إلى الترميم والإصلاح. كانت الكعبة فى ذلك الزمان مكشوفة من أعلى ، ولكن بنى قصى قاموا بسقف الكعبة ، واعتبارا من ذلك التاريخ أصبحت الكعبة غير معرضة لمخاطر الهدم.

هناك عربى من بنى قصى ، يدعى عمر بن لاهاى ، أول من أدخل عبادة الأوثان بين إخوانه المواطنين ، وهو الذى أحضر الصنم المدعو هبل من حيث فى بلاد الرافدين (*) ووضعه فى الكعبة. وهنا بدأت عبادة الأوثان تنتشر انتشارا سريعا ، ويبدو أن كل قبيلة عربية اختارت إلاهها الخاص بها ، أو صنمها الخاص بها ، ولما كانت الكعبة تعد بانثيونا (**) عاما لهذه الأصنام كلها ، فقد راح الناس يترددون عليها فى موسم الحج. يقول الأزرقى إن النخلة التى يسمونها عزّا كانت تعبدها قبيلة خزاعة ، أما بنو ثقيف فكانوا يعبدون الصخرة المسماة اللات ، وهناك شجرة كبيرة يسمونها ذات آروات ، كانت قريش تعبدها ، يزاد على ذلك أن الأماكن المقدسة مثل منى ، والصفا ، والمروة كلها كانت أشباه آلهة ، والمؤرخون يوردون قوائم طويلة بآلهة أخرى كثيرة. وتزايد عدد الأصنام ، إلى حد أن أصبح فى كل بيت صنم ، بل فى كل خيمة من الخيام المنصوبة فى هذا الوادى ، وكانت الكعبة مزينة بثلاثمائة وستين صنما ، بعدد أيام السنة.

__________________

(*) راجع الأزرقى.

(**) بانثيون : هيكل عام للآلهة (المترجم).

٢٠٧

كانت قبيلة قصى أول من بنى منازل حول الكعبة ، كانوا يعيشون فى تلك المنازل فى فترة النهار ، لكنهم كانوا يعودون إلى خيامهم فى فترة المساء التى كانوا ينصبونها على الجبال المجاورة. كان بنو قريش الخلف الذين جاءوا بعد بنى قصى إلى مكة ، أو بكة (الاسم الذى كانوا يطلقونه على مكة فى ذلك الوقت) ، فى ذلك الوقت على وجه التقريب دمرت الكعبة بفعل حريق ، وقام القرشيون بإعادة بناء الكعبة من الخشب ، ولكن حجمها كان أصغر من الحجم الذى كانت عليه فى زمن بنى قصى ، لكنهم جعلوا من حائط أو جدار الحجر (الذى سبق ذكره) حدا من حدودها السابقة ، وجرى إسناد السقف من الداخل بواسطة ستة أعمدة ، أما تمثال هبل ، المريخ Jupiter ، فقد جرى وضعه فوق بئر ، كانت موجودة داخل الكعبة فى ذلك الوقت. حدث ذلك يوم أن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى سنى شبابه ، وجرى نقل الأصنام إلى المبنى الجديد ، ويورد الأزرقى بشهادة رأى العين لأناس يحظون باحترام كبير ، ليثبت حقيقة مهمة (لم يلاحظها أحد فى ذلك الوقت) ، مفادها أن شكلا لمريم البتول ، وفى حجرها (سيدنا) عيسى عليه‌السلام ـ هذه الصورة جرى نحتها بوصفها من الآلهة ـ على عمود من الأعمدة الستة بالقرب من بوابة الكعبة.

كان عبد المطلب بن هاشم ، جد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أعاد حفر بئر زمزم قبل حرق الكعبة بوقت غير طويل.

عندما دخل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلد أجداده منتصرا ، دمر كل الصور والتماثيل التى فى الكعبة ، وألغى عبادة الأصنام التى كان يمارسها بنو وطنه ، وراح مؤذن الرسول ، بلال الزنجى يؤذن فى الناس (المسلمين) من فوق الكعبة لأداء الصلاة.

كانت قريش قد بنت بلدة صغيرة حول الكعبة ، وقد عبدوا هذه البلدة إلى حد أنهم كانوا يرفضون أن يقوم أى أحد بتعلية سقف بيته عن سقف هذه البلدة المقدسة ، وقد أكد الإسلام على الحج إلى ذلك الضريح الشريف ، الذى بناه العرب الوثنيون.

كان عمر بن الخطاب أول من بنى مسجدا حول الكعبة فى العام ١٧ الهجرى ، وبعد شراء المنازل الصغيرة المحيطة من القرشين ، وبعد بناء جدار حول المنطقة ، قام

٢٠٨

عثمان بن عفان فى العام ٢٧ بتوسعة الميدان ، وفى العام ٦٣ الهجرى عندما جرت محاصرة يزيد المهرطق المتمرد فى مكة بواسطة عبد الله بن الزبير ، ابن أخت السيدة عائشة ، جرى تدمير الكعبة عن طريق الحرق ، هناك من يقولون إن ذلك كان من قبيل المصادفة ، وهناك أيضا من يقول مؤكدا إن ذلك حدث عن طريق المنجنيق الذى وجهه إليها يزيد من فوق جبل قبيص الذى اتخذ منه موقعا له. بعد طرد يزيد ، قام ابن الزبير بتوسعة محيط السور عن طريق شراء المزيد من المنازل من المكيين ، وإضافة أرض هذه المنازل بعد هدمها ، إلى السور كما قام ابن الزبير أيضا بإعادة بناء الكعبة على نطاق كبير ، وزاد ارتفاعها من ثمانية عشر رمحا (ارتفاع الكعبة فى زمن القرشيين) إلى سبعة وعشرين رمحا ، أو إلى ما يقرب من ارتفاعها الذى كانت عليه فى زمن إبن قصى. فتح ابن الزبير بابين فى الكعبة ، وكان البابان فى مستوى سطح المنطقة ، كما أنشأ للكعبة سقفا مزدوجا ، محمولا على ثلاثة أعمدة بدلا من ستة أعمدة. كان طول الكعبة الجديد يقدر بخمسة وعشرين قدما أما عرضها فكان عشرين قدما من أحد الأجناب وإحدى وعشرين قدما من الجانب الآخر. فى داخل الكعبة ، كانت البئر الجافة المسماة بير أهسف ، لا تزال موجودة ، وكان يجرى فيها الاحتفاظ بالكنوز والهدايا ، وبخاصة الأوعية والأوانى الذهبية التى جرى تقديمها للكعبة ، الذى يقال إنه مشتق من كعب ، بمعنى مكعب ، وهو الشكل الذى عليه الكعبة فى الوقت الحاضر. كان اسم الكعبة قبل ذلك (بيت الله) ، أو البيت العتيق ، وهو لا يزال يطلق على الكعبة.

بعد عشرين عاما من التاريخ سالف الذكر ، قام الحجاج بن يوسف الثقفى ، الذى كان حاكما على مكة فى ذلك الزمان ، والذى لم تعجبه توسعة الكعبة ، بتقليل أبعاد الكعبة إلى ما كانت عليه فى زمن قريش ، بأن اقتطع من طولها ستة رماح ، كما أعاد الحجاج الجدار الذى يسمونه الحجر ، الذى كان ابن الزبير قد أضافه إلى المبنى. كان الحجم الذى عليه المبنى فى ذلك الوقت هو الحجم الذى هو عليه فى الوقت الراهن ، وأصبح يجرى الالتزام به فى الإصلاحات والترميمات التى جددت بعد ذلك.

٢٠٩

فى أواخر القرن الأول الهجرى ، كان الوليد بن عبد الملك أول من أقام أعمدة فى المسجد. وهو الذى أمر بتغطية رءوس الأعمدة بطبقة من الذهب ، وهو الذى أنفق كثيرا على زينات المسجد وزخرفاته ، ويروى أن الزينات الذهبية كلها ، التى أهداها الوليد بن عبد الملك للمسجد جاءت من طليطلة فى إسبانيا ، وجرى نقلها على ظهور البغال عبر كل من إفريقيا والجزيرة العربية.

فى العام ١٣٩ الهجرى ، قام أبو جعفر المنصور بتوسعة الجانبين الشمالى والجنوبى من المسجد الحرام ، وجعله ضعف الحجم الذى كان عليه من قبل ، الأمر الذى جعل المسجد يشغل حاليا مساحة طول ضلعها سبعة وأربعين رمحا ونصف الرمح. كما أمر أبو جعفر المنصور برصف الأرض المجاورة لبئر زمزم بالرخام.

أضاف الخليفة المهدى إلى حجم المسجد فى فترتين مختلفتين ، كانت الإضافة الأخيرة فى العام ١٦٣ الهجرى ، وقد اشترى الخليفة المهدى الأرض اللازمة لهاتين الإضافتين ، أو إن شئت فقل : التوسعتين من المكيين ، بأن دفع لهم خمسة وعشرين دينارا عن كل رمح مربع. والخليفة المهدى هو الذى جلب الأعمدة من مصر ، كما سبق أن قلت. هذه التحسينات التى بدأها الخليفة المهدى ، أكملها ولده الهادى ، وجرى عمل السقف الخاص بالبهو المعمد من الخشب الهندى ، وجرى إنزال الأعمدة التى جلبت من مصر على بعد مسافة مسير يوم واحد عن جدة من ناحية الشمال ، لكن بسبب بعض المشكلات التى ثارت لم يجر نقل الأعمدة كلها إلى مكة ، فقد جرى ترك بعض من هذه الأعمدة على الرمل على شاطئ البحر. وأنا أشير إلى ذلك لتنوير الرحالة المستقبليين ، الذين إذا ما وجدوا هذه الأعمدة ، لا يحسبونها بقايا مستوطنة أو مستعمرة مصرية أو يونانية قديمة.

يبدى مؤرخو مكة ملاحظة ، وفى شىء من الاندهاش ، مفادها أن الخليفة هارون الرشيد ، على الرغم من زيارته الكعبة مرات عدة ، فإنه لم يضف أى شىء إلى المسجد الحرام ، اللهم باستثناء منبر جديد.

٢١٠

فى العام ٢٢٦ الهجرى ، وأثناء حكم الخليفة المعتصم بالله جرى تغطية بئر زمزم من أعلى ، كانت البئر من قبل قد جرى إقامة سور من حولها ، لكن لم يجر تغطية ذلك السور أو سقفه.

فى العام ٢٤١ الهجرى جرى رصف المنطقة فيما بين حجر إسماعيل والكعبة بالرخام الجميل. فى ذلك الوقت كانت هناك بوابة تفضى إلى المساحة الموجودة داخل مسور الحجر.

فى العام ٢٨١ الهجرى ، قام الخليفة المعتضد بترميم المسجد الحرام كله ؛ فقد أعاد بناء جدران المسجد كله ، وأنشأ بوابات جديدة ، وأطلق عليها أسماء جديدة ، كما وسع المبنى من الجانب الغربى بأن أضاف إليه المساحة التى كانت تشغلها من قبل دار الندوة ، ودار الندوة هذه واحدة من البنايات القديمة فى مكة ، والشهيرة فى تاريخ العرب الوثنيين ، من منطلق أن دار الندوة هذه كانت المجلس العام لشيوخ مكة ، ويقال إن دار الندوة تقع بالقرب من المقام الحنفى الحالى.

فى العام ٣١٤ الهجرى ، أو العام ٣٠١ الهجرى ، على حد قول مؤرخين آخرين لقيت مكة والمسجد الحرام هزائم كثيرة ؛ فقد قام جيش القرامطة المهرطقين ، بقيادة رئيسهم أبو طاهر القرموطى بغزو الحجاز ، واستولوا على مكة ، وجرى قتل خمسين ألفا من سكان مكة أثناء السطو على مكة وسلبها ونهبها ، وجرى تجديد الكعبة هى والمسجد الحرام من الزينات الثمينة كلها. وبعد البقاء فى مكة مدة واحد وعشرين يوما ، رحل العدو عنها حاملا معه جوهرة مكة الثمينة ، ألا وهو الحجر الأسود الموجود فى الكعبة ، وخلال الحريق الذى أضرم فى الكعبة فى زمن ابن الزبير كانت النار قد قسمت الحجر الأسود إلى ثلاثة أجزاء ، جرى ضمها إلى بعضها البعض فيما بعد ، ووضعت فى مكانها السابق وأحيطت بإطار من الفضة ، وقام هارون الرشيد بتجديد هذا الأطار وتقويته.

٢١١

حمل القرامطة الحجر إلى الحجر (*). التى هى بقعة خصبة فى الصحراء ، على طريق الحج السورى ، شمالى المدينة المنورة التى اختارها القرامطة لتكون موطنا من مواطن إقامتهم. كان القرامطة يأملون أن يأتى المسلمون كلهم لزيارة ذلك الحجر ، وبالتالى يصبح من حقهم الحصول على الثروة التى يجلبها الحجاج معهم من سائر أنحاء الأرض إلى مكة ، فى ظل هذا الانطباع ، رفض أبو طاهر القرموطى عرضا مقداره خمسين ألف دينار فدية للحجر الأسود ، لكن بعد وفاة أبو طاهر القرموطى ، أعاد القرامطة فى العام ٣٣٩ الهجرى عن طيب خاطر ، الحجر الأسود ، اقتناعا من خبرة مفادها أن توقعاتهم للثروة ، من وراء امتلاك الحجر ، لم تكن قائمة على أساس سليم ، وأن قلة قليلة من المسلمين هم الذين جاءوا إلى الحجر بغية تقبيل الحجر. فى ذلك الوقت كان الحجر الأسود قطعتين ، إذ انقسم الحجر جراء ضربة أصابته من أحد القرامطة يوم أن كانوا يسلبون مكة وينهبونها.

بعد سبعين عاما من إعادة الحجر الأسود إلى مكانه القديم ، كابد الحجر انتهاكا آخر ، فقد أوفد الحاكم بأمر الله ، ملك مصر المجنون ، وصاحب النوايا السيئة فى إعادة بعض الأمجاد السماوية لنفسه ، أوفد فى العام ٤١٣ الهجرى مصريا مع قافلة الحج إلى مكة لتدمير الحجر الأسود. واستعمل ذلك المصرى عكازا حديديا خبأه فى طيات ملابسه ، واقترب الرجل من الحجر الأسود ، وقال متعجبا : «إلى متى سيظل الناس يعبدون الحجر ويقبلونه؟ «وليس هناك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو على رضى الله عنه حتى يمنعانى من القيام بذلك ، وأنا اليوم سوف أدمر هذا المبنى!» ثم ضرب ذلك المصرى الحجر ثلاث مرات بعكازه الحديد. كانت هناك مجموعة من الخيالة ، من ضمن القافلة التى سافر معها إلى مكة ، وكانت تلك المجموعة من الخيالة مستعدة لتقديم يد العون والمساعدة

__________________

(*) يقول العصمى إن الحجر تم نقله إلى الأحساء ، بالقرب من الخليج الفارسى ، وهى مدينة بناها مؤخرا أبو طاهر القرموطى. وقد عثرت فى رحلات ابن بطوطة على بلدة فى منطقة الأحساء يسمونها الحجر.

٢١٢

لذلك المارق ، فور الانتهاء من مهمته ، لكن هذه المجموعة لم تستطع حماية ذلك المصرى من غضب السكان. وجرى قتله بخنجر أحد المواطنين اليمنيين ، وجرى مطاردة الخيالة ، وجرى سلب القافلة المصرية ونهبها فى تلك المناسبة.

بعد تفحص الحجر ، وجد أن ثلاث قطع فى حجم ظفر الرجل ، قد قطعت من الحجر الأسود بفعل الضربات ، هذه القطع الثلاث جرى طحنها وأخذ الرماد الناتج عنها ، وتم عجنه بالأسمنت ثم جرى ملء الكسور بتلك العجينة. واعتبارا من ذلك التاريخ ، لم يواجه الحجر بعد ذلك أية مساوئ اللهم باستثناء العام ١٦٧٤ الميلادى ، حيث اكتشف الناس فى صباح أحد الأيام تلطيخ الحجر الأسود بالأقذار ، هو وباب الكعبة ، الأمر الذى جعل هؤلاء الذين يقبلون على تقبيله بالتراجع اشمئزازا ، مؤلف هذه النكتة المدنسة للمقدسات ، جرى البحث عنه دون جدوى ، وحامت الشكوك حول بعض الفارسيين ، لكن لم يتم إثبات ذلك الاتهام الموجه إلى الفارسيين (*).

مسألة قداسة الحجر الأسود تبدو كأنها محل نقاش كبير من جانب واحد من أهم دعائم الإسلام. وها هو الأزرقى يورد شهادة كثير من الشهود ، الذين سمعوا عمر بن الخطاب وهو يقول متعجبا عندما كان يقف أمام الحجر الأسود : «أنا أعرف أنك حجر ليس إلا ، وأنك لا يمكنك أن تضرنى أو تنفعنى ، ولا ينبغى أن أقبلك ، لو لا أنى رأيت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يفعل الشىء نفسه».

فى العام ٣٥٤ الهجرى ، بنى الخليفة المقتدر مدخلا بالقرب من باب المسجد ، الذى يسمونه باب إبراهيم ، هذا المدخل يبرز إلى ما وراء الخط المستقيم المكون من الأعمدة ، وضم إلى هذا المدخل بوابتين قديمتين هما باب بنى جومة ، وباب الخياطين. واعتبارا من ذلك الوقت لم تحدث أية تحسينات على امتداد قرون عدة.

__________________

(*) راجع العصمى للمزيد عن هذه التفاصيل.

٢١٣

فى العام ٨٠٢ الهجرى ، دمر حريق الجانبين الشمالى والغربى من المسجد الحرام ، وبعد ذلك بعامين ، أعيد بناء هذين الجانبين على حساب الناصر الفراج ابن الظاهر برقوق ، سلطان مصر ، وجرى نقل الخشب المطلوب لهذا الغرض من مصر ومن الطائف إلى حد ما ، حيث يوجد شجر العرار ، الذى هو نوع من الصنوبر ، الذى يعد من الأخشاب الجيدة.

فى العام ٩٠٦ الهجرى ، أعاد قنصوه الغورى ، سلطان مصر ، بناء القسم الأكبر من الجانب المسمى باب إبراهيم. والحجاز مدين لقنصوه الغورى بإنشاء مبان عامة أخرى متعددة.

فى العام ٩٥٩ الهجرى ، أثناء حكم سليمان بن سليم الأول ، سلطان اسطنبول ، جرى تجديد سقف الكعبة.

فى العام ٩٨٠ الهجرى ، أعاد السلطان نفسه بناء ذلك الجانب من المسجد الحرام فى اتجاه شارع المسعى ، كما أمر أيضا ببناء القباب التى تغطى سقف البهو المعمد. أمر سليمان بن سليم الأول بوضع الرصيف الموجود حاليا حول الكعبة ، كما جرى أيضا عمل رصيف حول الأبهاء المعمدة.

فى العام ٩٨٤ الهجرى ، قام مراد ولد سليمان بن سليم الأول بترميم وإعادة بعض أجزاء الجوانب الثلاثة ، التى لم يرممها والده.

فى العام ١٠٣٩ ، (أو المصادف للعام ١٦٢٦ من زمننا) انهمر سيل قادم من جبل النور إلى المدينة ، وسرعان ما غمر المسجد الحرام ، مما أدى إلى غرق كل هؤلاء الذين كانوا فى المسجد فى ذلك الوقت ، وقد أدى ذلك إلى تدمير كل الكتب ، والنسخ الفاخرة من القرآن ، التى تركت فى الشقق السكنية الموجودة فى أسوار المبنى ، كما جرف السيل أيضا جزءا من الجدار الموجود أمام الكعبة ، المسمى حجر إسماعيل ، كما جرف أيضا ثلاثة جوانب من جوانب الكعبة نفسها ، وتسبب ذلك السيل فى وفاة خمسمائة نفس من الأنفس التى كانت تعيش فى المدينة. وفى العام التالى جرى

٢١٤

إصلاح تلك الأضرار ، وأعيد بناء الكعبة بعد انهيار ذلك الجانب الذى كان قد نجا من السيل.

فى العام ١٠٧٢ ، جرى إقامة المبنى الذى فوق بئر زمزم ، بالشكل الذى هو عليه حاليا ، وفى العام ١٠٧٤ جرى بناء المقامات الأربعة من جديد.

لم يأت المؤرخون على ذكر أية إصلاحات أو ترميمات تمت بعد هذا التاريخ فى المسجد الحرام ، ومبلغ علمى أنه لم تحدث أية إصلاحات أو ترميمات فى القرن الثامن عشر. من هنا يمكن القول : إن المسجد الحرام بالشكل الذى هو عليه حاليا ، يمكن أن يعزى كلية إلى رعاية سلاطين مصر المتأخرين وعنايتهم ، ومن جاءوا بعدهم ، وإلى سلاطين إسطنبول العثمانيين ، اعتبارا من القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

فى خريف العام ١٨١٦ الميلادى جرى استخدام حرفيين ، وعمال متعددين جاءوا من إسطنبول ، إلى الحجاز ، فى إصلاح كل الأضرار التى نتجت عن الوهابيين فى مساجد الأولياء الذين فى هذا البلد ، وفى القيام بالترميمات والإصلاحات الضرورية فى مساجد كل من مكة (المكرمة) والمدينة (المنورة).

وصف أماكن أخرى مشرفة متعددة يزورها الحجاج في كل من مكة

والمنطقة المجاورة لها

فى زمن الوهابيين لم يجرؤ أحد على زيارة هذه الأماكن دون تعريض نفسه لعداء هؤلاء الناس ، وقد قام الوهابيون بتدمير المبانى كلها التى جرى إنشاؤها فى هذه الأماكن ، أو بالأحرى دمروا القباب فى أضعف الأحوال.

فى مدينة مكة كان يجرى ما يلى :

مولد النبى ، مسقط رأس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فى الحى الذى سمى بهذا الاسم. فى زمن الفاسى كان هناك مسجد مقاما بالقرب من هذا المكان ، وكان يسمى مسجد

٢١٥

المخطبة. أثناء مقامى فى مكة ، كان العمال مشغولين بإنشاء المبنى المقام فوق المولد فى موقعه السابق نفسه ، كان المبنى يتكون من مبنى مستدير تعلوه قبة ، وكانت أرضية ذلك المبنى تنخفض بحوالى خمسة وعشرين قدما عن مستوى الشارع ، وكان هناك درج (سلم) يؤدى إلى المبنى. وهناك حفرة صغيرة واضحة فى أرضية المبنى ، كانت والدة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجلس فيها أثناء ولادته ، ويقال إن ذلك كان منزل عبد الله والد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

مولد ستنا فاطمة ، أو مسقط رأس فاطمة ، ابنة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو عبارة عن مبنى جيد من الحجر ، ويقال إنه كان منزل والدتها خديجة فى الشارع المسمى زقاق الحجر. وهناك درج (سلم) يؤدى إلى أرضية هذا المبنى ، الذى هو أيضا تحت مستوى الشارع مثل المولد السابق. هذا المبنى الصغير يشتمل على مكانين مشرفين : فى أحدهما حفرة شبيهة بالحفرة التى فى المولد السابق ، أو بالأحرى فى مولد النبى ، هذه الحفرة تبين المكان الذى ولدت فيه (ستنا) فاطمة ، وبجوار هذه الحفرة توجد حفرة أخرى ، أقل عمقا من الحفرة الأولى ، تحدد المكان الذى كانت تدير فيه رحاها ، بعد أن شبت عن الطوق. وفى مسكن قريب من هذا المكان ، توجد خلوة ضيقة ، كان من عادة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجلوس فيها وهو يتلقى من جبريل سور القرآن المنزل من السماء. هذا المكان يسميه الناس هنا قبة الوحى.

مولد الإمام على ، فى الحى المسمى شعب على رضى الله عنه. هذا المولد عبارة عن مصلّى صغير توجد فى أرضيته حفرة تحدد مسقط رأس على ، ابن عم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على حد قول الناس.

مولد سيدنا أبو بكر ، عبارة عن مصلّى صغير مقابل الصخرة التى سلمت على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلة «سلام عليكم» كلما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر عليها. هذا المكان خلو من الأماكن المقدسة ، لكن أرضية هذا المكان مفروشة بسجاجيد فارسية فاخرة.

٢١٦

هذه الموالد كلها جرى ترميمها ترميما كاملا بعد انسحاب الوهابيين ، فيما عدا مولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذى كان العمال لا يزالون مشغولين بالعمل فى ترميمه واصلاحه. هناك عائلات متعددة تقوم على رعاية هذه الأماكن ، وبخاصة الأشراف ، الذين يرعون هذه الأماكن بالتناوب هم ومجموعة من الخدم المرافقين لهم. فى كل ركن من أركان هذه الأماكن المشرفة تفرش المناديل البيضاء ، أو السجاجيد الصغيرة ، التى ينتظر من الزائرين أن يلقوا عليها ببعض النقود ، يزاد على ذلك أن النساء يجلسن على أجناب البوابات ، انتظارا لأن يعطيهن الحجاج شيئا من النقود. توزيع ما قيمته شلن واحد من البارات فى كل مولد من تلك الموالد ، يعد استجابة كاملة لمطالب هؤلاء النساء الجشعات المعوزات.

مولد أبى طالب ، فى معالة ، قد دمّر تدميرا كاملا ، كما سبق أن قلت ، والأرجح أنه لن يعاد بناؤه.

قبر ستنا خديجة ـ قبر خديجة ـ زوج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد هدم الوهابيون قبة ذلك القبر ، ولم يجر بعد بناء هذه القبة ، هذا القبر يزوره الحجاج بصورة منتظمة ، وبخاصة أيام الجمعة فى الصباح. هذا القبر يقع فى منطقة مدافن المعالة ، عند منحنى السلسلة الغربية ، ويحيط بهذا القبور سور مربع الشكل ، وليس فيه أى شىء غريب أو مثير للفضول سوى شاهد القبر ، الذى يحمل نقشا بالخط الكوفى ، مكون من بعض الآيات القرآنية ، مأخوذة من سورة الكرسى. ونظرا لأن أحرف النقش ليست أحرف كوفية قديمة ، فأنا يراودنى شك مفاده أن هذا الشاهد ، لم يكن مقصودا له تغطية هذا القبر : النقش خال من التواريخ. كان الشريف سرور ، الذى خلف الشريف غالب ، متباهيا ، فقد أصدر أوامر بدفنه بعد وفاته بالقرب من قبر السيدة خديجة ، فى المسور نفسه الموجود حاليا. وعلى مقربة من هنا يوجد قبر آمنة أم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا القبر جرت تغطيته بلوح من الرخام ، عليه نقش كوفى ، بأحرف أقدم من أحرف النقش سالف الذكر. كسّر الوهابيون ذلك النقش ، وأزالوا القطعتين ، تعبيرا عن استيائهم من الزيارات التى يقوم بها الناس (الحجاج) إلى مستودعات عظام الأموات ، الأمر الذى يعده الوهابيون شكلا من أشكال عبادة الأوثان. عند هذه القبور أيضا وجدت نساء سمح لهن بفرد مناديلهن استجداء لصدقات الزائرين.

٢١٧

عندما تجولت بين هذه الجبانات الواسعة ، عثرت على كثير من شواهد القبور الأخرى التى تحمل نقوشا كوفية ، لكنها ليست بأحرف كوفية قديمة. لم أستطع فك شفرة أى تاريخ سابق للقرن الساس الهجرى (المصادف للقرن الثانى عشر الميلادى) ، لكن السواد الأعظم من هذه النقوش عبارة عن مجرد دعوات وأدعية ، دون ذكر اسم المتوفى أو التاريخ. القبور هنا ، تتكون بشكل عام من أربعة أحجار كبيرة موضوعة على شكل مستطيل ، مع وجود حجر عريض عمودى على نهاية القبر يحمل نقشا. لم أشاهد قبورا ضخمة ، أو محفورة فى الحجر ، أو أية زينة من الزينات المستخدمة فى أجزاء أخرى من آسيا. قامت الأسر المكية الأولى بإحداث بعض البنايات الصغيرة القليلة ، وقد أحدثوا تلك البنايات بغية تسوير قبور أقاربهم ، هذه المسورات مرصوفة أو ممهدة من الداخل ، لكنها بلا سقف ، كما أنها عبارة عن إنشاءات بسيطة للغاية. فى اثنين أو ثلاثة من هذه المسورات عثرت على بعض الأشجار المزروعة ، والتى يجرى ريها من خزانات موجودة داخل المسور لاستقبال مياه المطر ، هنا يقضى أصحاب هذه المسورات جزءا من نهار اليوم. قام الوهابيون أيضا بتدمير مبان متعددة عليها قباب ، وتحتوى على رفات رجال اشتهروا بعلمهم. هؤلاء الوهابيون المتشددون لم يلمسوا القبور نفسها ، كما احترموا أيضا رفات الموتى فى كل مكان ، من بين هذه القبور نجد قبورا أيضا لباشوات متعددين من سوريا ومن مصر ، شيدت بلا زينة أو بهرجة.

عند نهاية كل قبر ، ومقابل شاهد القبر نفسه ، وجدت عشبا منخفضا ، نوع من أنواع الصبار ، جرى زرعه فى الأرض ، هذا النوع من الصبار دائم الخضرة ، ولا يحتاج إلا إلى القليل من الماء ، شأنه شأن اسمه العربى «الصبار» ، وقد جرى اختيار هذا النبات لاسمه ولأنه يشير إلى الصبر الذى يتحتم الصبر عليه إلى يوم الحشر. على كل حال ، هذه الجبانة مخربة ، ويقال إن التخريب الذى طالها جاء من الوهابيين ، لكنى أرى أن ذلك ناتج عن اقتحام المكيين القليل للقبور.

المزارات الموجودة خارج المدينة هى التى تحتوى على رفات أقاربهم وأصدقائهم.

٢١٨

جبل أبو قبيص ؛ هذا واحد من أعلى الجبال القريبة من مدينة مكة ، ويشرف على المدينة من ناحية الشرق. والحديث (الشريف) يقول : إن جبل أبو قبيص هو أول جبل خلق على سطح الأرض ، هذا الاسم موجود فى كتب التاريخ العربى كلها وعند معظم الشعراء ، الحجاج يزورون مكانين مختلفين على قمة هذا الجبل ؛ المكان الأول يسمونه مكان الحجر الذى اعتاد (سيدنا) عمر بعد أن تولى الخلافة ، أن يدعو الناس منه إلى أداء الصلاة ، خلال سنوات الإسلام الأولى ، يوم أن كان السواد الأعظم من القرشيين ، أو إن شئت فقل : سكان مكة ، يعبدون الأصنام ، هنا فى هذا المكان يوجد تجويف محفور فى إحدى الصخور ، يشبه قبرا صغيرا ، يقال إن الله سبحانه وتعالى أمر ملائكته ، أثناء الطوفان ، أن يضعوا الحجر الأسود فى ذلك التجويف ، ذلك الحجر الذى كانوا يوقرونه ويجلونه قبل أن يبنى (سيدنا) إبراهيم الكعبة بزمن طويل ، وإن الله سبحانه وتعالى جعل الصخرة تنطبق على ذلك الحجر ، حتى لا يمسه الماء ، وإن جبريل بعد انحسار الطوفان فلق الصخرة ، وأعاد الحجر ثانية إلى موقع الكعبة. المزار الثانى ، يوجد عبر واد ضيق ، على بعد مسافة قريبة من المزار الأول ، وعلى قمة جبل أبو قبيص أيضا ، هذا المزار يسمونه شق القمر المكى ، أو إن شئت فقل المكان الذى انشق فيه القمر ـ إحدى معجزات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومع ذلك ، نجد أن قصة انشقاق القمر هذه يرويها المكيون بطريقة مختلفة ، وهم يقولون : إنه عندما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّى هنا فى وقت الظهيرة ، جاءه القرشيون الأوائل الكفار وطلبوا إليه أن يقنعهم على الفور ببعض معجزاته (*) ، التى تثبت فعلا أنه نبى الله. رد عليهم قائلا : «ما ذا تريدوننى أن أفعل كى أجعلكم مؤمنين صادقين؟ قالوا : اجعل الشمس تغرب ، واجعل القمر والنجوم تظهر ، اجعل القمر يهبط إلى الأرض ، ويجىء إلى هذا الجبل ، ويدخل فى كم من أكمام جلبابك ، ويخرج من الكم الآخر ، ثم يعود إلى السماء ، ثم اجعل ضوء النهار يطلع

__________________

(*) يسجل المؤرخون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بناء على رغبة بعض القرشيين الكفار ، جعل البدر يظهر كما لو كان منشقا ، لدرجة أن نصف القمر كان مرئيا خلف جبل أبو قبيص ، والنصف الثانى مرئيا فى الجانب المقابل من العالم (الكون) فوق جبل قيقعان.

٢١٩

علينا من جديد». وهجع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعا الله سبحانه وتعالى بدعاء قصير ، وحدثت المعجزة كلها ، وعلى أثرها تحول القرشيون كلهم إلى الإسلام ودخلوا فيه. هذه الحكاية وحكايات أخرى يرويها الرواة لا تؤيدها أو تساندها الأحاديث المتواترة عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أهل مكة يجيئون إلى هذا المكان ، لاستطلاع هلال شهر رمضان ، وهلال شهر شوال. بين هذين المزارين ، وعلى مقربة منهما من ناحية الشرق ، توجد أنقاض بناية قديمة ، لم يتبق منها سوى بعض الجدران ، ويقال إن هذا المكان كان من قبل سجنا رسميا من سجون أشراف مكة. فى هذا المكان توجد بعض الأبراج الشبيهة بالزنازين ، وربما كان قلعة بناها على جبل أبو قبيص ، مقذر الهاشمى ، أحد رؤساء مكة فى العام ٥٣٠ الهجرى أو العام ٥٤٠ ، أو قد يكون هذا المزار مسجدا سمى باسم مسجد إبراهيم ، الذى وجد ، على حد قول الأزرقى ، فى هذا المكان فى القرن السابع الميلادى. يظن العامة من أهل مكة ، أن من يأكل رأس خروف مطهو فوق جبل أبى قبيص لا تصيبه أوجاع الرأس مدى الحياة.

جبل النور ـ يقع فى شمال مكة (المكرمة) ـ المار على منزل الشريف وحديقته على الطريق المؤدى إلى عرفات ، يدخل بعد مسافة قصيرة من منزل الشريف ، واديا يمتد فى اتجاه الشمال الشرقى ثم الشمال ، وينتهى ذلك الوادى بالجبل مخروطى الشكل. كان قد جرى من قبل نحت درج فى ذلك المطلع الجبلى المنحدر ، لكن هذا الدرج لم يعد له وجود حاليا ، واستغرق وصولنا إلى قمة ذلك الجبل ثلاثة أرباع الساعة وجهدا مضنيا. هنا فى أرضية أحد المنازل الصغيرة الذى دمره الوهابيون ، يوجد شق فى أرضية المنزل الصخرية ، طول هذا الشق أو الفلق يساوى طول الرجل المعتاد وعرضه يساوى أيضا عرض الرجل المعتاد. يقال إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن ضاق ، وحزن لتأكيدات أعدائه ، هم وأتباعه من المكيين المتشككين ، بعد أن أشاعوا أن الرب (الله) قد تخلى عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تراجع إلى هذا الجبل ، ومدد نفسه فى ذلك الفلق أو الشق طالبا العون والمساعدة من أعلى ، وأرسل إليه جبريل حاملا إليه تلك السورة القصيرة

٢٢٠