ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

جون لويس بوركهارت

ترحال في الجزيرة العربية - ج ١

المؤلف:

جون لويس بوركهارت


المترجم: صبري محمّد حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة: ١
ISBN: 977-437-387-1
الصفحات: ٣٠٥
الجزء ١ الجزء ٢

يقع بين هذه التلال التى هى خليط من التلال الرملية والتلال الصخرية ، وبعد أن سرنا مدة خمس ساعات ونصف الساعة توقفنا فترة قصيرة عند كوخ من أكواخ القهوة وبئر يسمونها البياضية. ماء هذه الآبار ليس عذبا. اعتبارا من هذا المكان ، وفى خلال ساعة ونصف الساعة ، (أى بعد مسير دام سبع ساعات منذ أن بدأنا الرحلة) وصلنا محطة أخرى شبيهة بالمحطات السابقة ويسمونها الفراينة ، ولحقنا عندها بقافلة من قوافل الحجاج الذين كانوا يرافقون البضائع والمؤن والتموينات المرسلة للجيش ، كانت تلك القافلة قد غادرت جدة قبلنا فى فترة المساء. أكواخ القهوة عبارة عن أكواخ بائسة مبنية من الخشب ، هذه المقاهى الكوخية لا تقدم شيئا سوى القهوة والماء. يقال إنه كان هناك حوالى اثنى عشر مقهى على ذلك الطريق ، وإن تلك المقاهى كانت تقدم المرطبات والمسليات بكل أنواعها للمسافرين من جدة إلى المدينة المقدسة ، لكن لأن الرحلة تتم أثناء الليل فى أيامنا هذه ، ونظرا أيضا لأن الجنود الأتراك لا يدفعون ثمن أى شىء إلا تحت الضغوط ، فقد تخلى أصحاب هذه المقاهى عن القسم الأكبر منها ، البقية الباقية من هذه المقاهى يقوم على أمرها بعض عرب قبيلة اللهيان ، (اللهيان فرع من عرب هذيل) ، والمطارفة الذين هم أسر بدوية ، ويعيشون مع قطعانهم بين التلال. واعتبارا من الفرانية ينفتح كل من الوادى والتلال ، ويتحولان على الجانبين ، ويتزايد ارتفاعهما تزايدا كبيرا. وبعد أن سرنا ثمانى ساعات ، ومع شروق الشمس وصلنا إلى بحرة ، وهى عبارة عن مجموعة من حوالى عشرين كوخا ، تقع فى سهل يصل طوله إلى مسير حوالى أربع ساعات ، وعرضه حوالى ساعتين ، ويمتد فى اتجاه الشرق ، فى بحرة يوجد الماء وفيرا فى الآبار ، وبعض هذا الماء عذب والبعض الآخر مالح. وفى صف من الدكاكين التى يبلغ عددها عشرة ، يباع الأرز والبصل والزبد والتمور والبن بسعر أعلى بنسبة ثلاثين فى المائة عن سعر استلام البن فى جدة ، وهذا هو ما يطلق عليه العرب اسم السوق ، وهناك أماكن أخرى كثيرة شبيهة بهذا المكان ، فى كل محطة من المحطات التى فى هذه السلسلة الجبلية إلى أن تصل اليمن. كانت هناك بعض الخيالة التركية متمركزة فى بحرة لحراسة الطريق. بعد أن مشينا مدة ساعتين أخريين فى

٨١

السهل ، توقفنا بعد عشر ساعات من جدة ، فى منطقة الهدا ، التى هى سوق مثل السوق السابقة. فيما بين بحرة والهدا ، وعلى تلّة منعزلة فى السهل ، توجد أنقاض بعد التحصينات القديمة.

اليوم الخامس والعشرون من شهر أغسطس ، هذه هى القافلة القادمة من جدة إلى مكة تنال قسطا من الراحة أثناء النهار فى بحرة أو فى الهدا ، وبذلك تتصرف تصرف عرب الحجاز الذين لا يسافرون إلا أثناء الليل. هذا يجرى صيفا وشتاء ، لا من أجل تجنب الحرارة ، وإنما لتهيئة الفرصة للإبل كى ترعى بعض الوقت ، نظرا لأن الإبل لا تأكل أثناء الليل. هذه المسيرات الليلية لا تناسب مطلقا أبحاث الرحال ، الذى يعبر البلاد فى وقت لا يستطيع فيه ملاحظة الأشياء ، وأثناء النهار يكون الإرهاق والرغبة فى النوم سببين كافيين للحيلولة دون العمل.

حططنا رحالنا فى الهدا تحت تعريشة واسعة من كهوف القهوة ، حيث وجدت جماعة متباينة من الأتراك والعرب فى طريقهم إما من مكة وإما إليها ، كان كل واحد من هذه الجماعة ممددا على سجادته الصغيرة. كان بعض التجار قد أحضروا من الطائف سلة من العنب ، وعلى الرغم من أنى كنت لا أزال استشعر الضعف من الحمى التى أصابتنى ، فإننى لم أستطع مقاومة الإغراء ، وأمسكت بقليل من حبات العنب نظرا لأن السلة ما إن فتحت حتى انهالت عليها الجماعة كلها ، وسرعان ما التهموا السلة كلها ، وجرى بعد ذلك دفع الثمن لصاحب العنب. الهدا هى ميقات الجداويين الذين ينوون الذهاب إلى مكة لأداء فريضة الحج ، هذا يعنى أنهم يرتدون ملابس الإحرام فى الهدا. الشريعة الإسلامية تحتم على كل من يذهب للحج ارتداء ملابس الإحرام ، بغض النظر عن منزلته أو مكانته بين الناس ، وهذا يعنى أيضا أن من يدخل تلك المدينة المقدسة لا بد أن يكون مرتديا ملابس الإحرام ، سواء أكان قادما للحج أم لأى غرض آخر (*) ، ولا يمكن التحرر من ملابس الإحرام إلا بعد زيارة المسجد الحرام. كثير من

__________________

(*) الإحرام فرض على الحاج والمعتمر فقط. (المراجع)

٨٢

الناس ينتهكون هذا الشرط ، لكن المكى الأصيل لا يمكن أن يذهب إلى جدة دون أن يحمل معه ملابس الإحرام ، وعند عودته من جدة يرتدى ملابس الإحرام فى الميقات المحدد. فى فترة العصر يقوم بعض الجنود الأتراك بارتداء ملابس الإحرام طبقا للطقوس سالفة الذكر ، التى تتمثل فى أداء الحاج ركعتين ، ثم التلبية ، ونظرا لأن الوقت وقت حرب ، فقد واصل الجنود حمل أسلحتهم وهم يرتدون ملابس الإحرام.

فى فترة العصر قام صاحب المقهى بتخزين المؤن التى أحضرتها معى ، والمؤن الخاصة بباقى أفراد الجماعة. حدث اضطراب كبير فى سائر أنحاء المكان ، ولم يحاول أحد منا أن ينام. عقب وصولنا مباشرة مرت على المكان جماعة من الجنود ، نصبوا خيامهم على مسافة بعيدة عنا فى السهل ، دخل هؤلاء الجنود المقاهى وأخذوا الماء العذب كله الذى جرى جلبه من بئر تبعد مسير حوالى نصف ساعة ، وجرى الاحتفاظ به فى الهدا فى جرار كبيرة. أكواخ هذا العدد الصغير من السكان البائسين ، والمعرضين لكل أنواع الخسائر والإصابات التى تترتب على الحركة الدائمة للقوات ، هذه الأكواخ يجرى بناؤها باستعمال أخشاب الأراك ، على شكل مخروط ، ولا يدخلها الضوء إلا من خلال مداخلها ، فى هذا المدخل تتكدس الأسرة كلها فى غرفة واحدة. هذه المقاهى الكوخية المتعددة عبارة عن حظائر فسيحة ، محمولة على أعمدة ، فى حين يوجد وجار القهوة فى جانب من أجناب ذلك الكوخ. هذه الأكواخ عامرة بأعداد كبيرة من الفئران التى لم أر أكثر جرأة منها فى حياتى كلها.

غادرنا الهدا عند الساعة الخامسة مساء على وجه التقريب ، واصلنا مسيرنا فى طريقنا عبر السهل ، حيث التربة رملية ومختلطة بالطين فى أجزاء أخرى ، ويسهل زراعتها عن طريق حفر الآبار. بعد مسير ساعة من الهدا شاهدنا على يسارنا فى السهل بعض النخيل ، هنا ، على حد فهمى ، ينساب نهر صغير كان يروى بعض الحقول فى الزمن القديم ، الأشجار هنا مهملة فى الوقت الراهن. تركنا السهل وانحرفنا عن مسارنا قليلا نحو الجنوب متجهين شرقا ، لندخل من جديد منطقة من

٨٣

التلال ، ووصلنا بعد ساعتين من مسيرنا من الهدا إلى كوخ آخر من أكواخ القهوة ، يطلق الناس عليه اسم الشميسة. جبل الشميسة يوجد خلف هذا الكوخ ، جبل الشميسة هذا هو الجبل الذى جلب منه ـ على حد قول مؤرخى مكة ـ الرخام الذى صنعت منه أعمدة كثيرة فى المسجد الحرام. فى هذا الجبل ، وبالقرب من كوخ القهوة توجد بئر ، ومن الشميسة سرنا بدوابنا فى واد واسع تنتشر فيه الرمال العميقة ، كما أن فيه أيضا بعض الأشجار الشوكية. وعلى بعد مسير أربع ساعات من الهدا مررنا بقهوة سالم ، كما مررنا أيضا على بئر ، وعند قهوة سالم التقينا قافلة قادمة من مكة. والجبال فى هذه المنطقة قريبة جدا بعضها من بعض ، إذ لا يفصل بينها سوى واد مستقيم ضيق جدا ، تتقاطع معه وديان عدة أخرى على بعد مسافات متباينة. واصلنا مسيرنا إلى أن وصلنا الحجالية ، والحجالية هذه عبارة عن مقهى يبعد عن الهدا مسير سبع ساعات ، وتوجد بئر كبيرة بالقرب من هذا المقهى ، ويحصل منه جمالو قافلة الحج السورية ، على الماء سواء فى رحلة الذهاب أو العودة من مكة.

لما كنت لم أنعم بالنوم ولو للحظة واحدة منذ أن غادرت جدة فقد وجدتنى أستلقى أرضا على الرمل ، ورحت فى سبات عميق إلى أن طلع النهار ، فى حين راح رفاقى يواصلون مسيرهم إلى مكة. لم يبق معى سوى مرشدى وحده ، لكن خوفه على سلامة إبله جعل عينيه لا ترى النوم. الطريق من جدة إلى مكة تتردد عليها دوما شخصيات مشبوهة ، ونظرا لأن الناس هنا يسافرون أثناء الليل فإن ذلك يسهل على اللصوص سلب الشاردين أو التائهين ونهبهم. بالقرب من الحجالية توجد بعض الأنقاض والخرائب المتبقية من قرية قديمة مبنية من الحجر ، وفى الوادى توجد آثار أو بقايا زراعة قديمة.

السادس والعشرون من شهر أغسطس ، بعد نصف ساعة من مسيرنا من الحجالية ووصلنا إلى مزرعة صغيرة من أشجار النخيل محاطة بسور. الطريق بدءا من هذه المنطقة إلى أن يصل مكة يقع على الجانب الأيمن ويدخل المدينة عن طريق الحى

٨٤

الذى يسمونه جرول. كانت لدى مرشدى تعليمات تقضى بالوصول إلى الطائف عن طريق أحد الطرق الفرعية الذى يمر بشمالى مكة ، هذا الطريق يتفرع فى منطقة الهدا ، ويعبر الطريق القادم من مكة إلى وادى فاطمة ، ـ ويتصل بالطريق الكبير القادم من مكة إلى الطائف من خلف وادى منى. قبل مغادرة الهدا مباشرة وجدت مرشدى ، الذى لم يعرف عنى شيئا أكثر من أنى صاحب مصلحة عند الباشا فى الطائف ، وأنى كنت ملتزما بكل مظاهر الحاج المسلم ، وأننى كنت كريما معه قبل أن تبدأ رحلتنا ، وجدت هذا المرشد يسألنى عن سبب صدور أوامر له بتوصيلى إلى المدينة من الطريق الشمالى ، وأجبته أنه ربما كان ذلك من منطلق أن هذا الطريق أقصر من ذاك. رد على قائلا : «هذا خطأ ، طريق مكة قصير جدا وأكثر أمنا ، وإذا لم يكن لديك مانع ، فسوف نسلكه». كان ذلك مبتغاى ، على الرغم من احتراسى لعدم ظهور أى قلق حول هذا الموضوع ، وترتب على ذلك أن سلكنا الطريق الكبير بصحبة المسافرين الآخرين. ومع ذلك ، وبدلا من أن يأخذنى من الطريق المعتاد الذى كان يمكن أن يجعلنى أمر خلال المدينة كلها ، ونظرا أيضا لأنه لم يكن حريصا على إرضائى ، فقد اقتادنى دون علم منى ، من خلال طريق قصير ، وبذلك حرمنى من فرصة مشاهدة المدينة كلها فى ذلك الوقت.

من «بيارة النخيل» الواقعة خلف الجمالية وصلنا خلال نصف ساعة السهل الذى جرت العادة أن تخيم فيه قافلة الحج السورية ، والذى أصبح الناس يسمونه الشيخ محمود ، وذلك تيمنا باسم أحد الأولياء الذى له قبر فى هذه المنطقة. هذا القبر جرى بناؤه فى وسط السهل ، والقبر تحيط به بعض الجبال المنخفضة ، وطول السهل يتردد بين ميلين وثلاثة أميال ، أما عرضه فيصل إلى ميل واحد ، وهذا السهل مفصول عن وادى مكة بسلسلة ضيقة من التلال التى جرى شق طريق فوق صخورها ، كلّف من شقوه عناء كبيرا. صعدنا من هذا الطريق ، ومررنا على قمة التل على برجين من أبراج المراقبة بنيا على جانبى الطريق بواسطة الشريف غالب. وبينما كنا ننزل على الجانب الآخر من التل حيث الطريق الممهد ، بدأ يطالعنا منظر مكة ، وبعد مسير من الحجالية

٨٥

دام ساعة ونصف الساعة دخلنا الحى الشرقى من مدينة مكة ، بالقرب من قصر الشريف غالب (المرقوم ٥٠ فى المخطط الملحق بهذا الكتاب). القسم الأكبر من مدينة مكة يقع على يميننا وهو مخبأ فى بعض أجزائه ، بواسطة انحناءات الوادى. ونظرا لأنى كنت أعلم بحتمية عودتى إلى مكة لم ألح على مرشدى فى السماح لى برؤية منظر المدينة بكاملها ، لأن ذلك كان سيحتم علينا الرجوع إلى الوراء مسافة حوالى ميلين فى الاتجاه العكسى ، وهنا تغلبت على فضولى ورحت أتبع المرشد وأنا أردد الدعاء والتكبير اللذين يرددهما كل من يدخل مكة.

تنقلت بعد ذلك مرات عدة بين جدة ومكة فى الاتجاهين. معدل سير القافلة هنا بطىء جدا ؛ إذ لا يمكن أن يتعدى ميلين فى الساعة الواحدة ، ولقد قطعت المسافة من مكة إلى جدة على ظهر حمار فى ثلاث عشرة ساعة. هذه الرحلة تقدر بحوالى ست عشرة ساعة أو سبع عشرة ساعة من المشى ، أو بما يقرب من خمسة وخمسين ميلا ، والطريق ينحرف قليلا عن الاتجاه الشمالى الشرقى.

عندما تحولنا إلى جهة اليسار ، مررنا على مسافة قصيرة ، بثكنات كبيرة للجنود التابعين للشريف غالب ، وفى ضاحية المعابدة نزلنا أمام منزل أحد الأعراب ، تصادف أن كان مرشدى يعرفه. كنا فى ذلك الوقت فى شهر رمضان ، لكن الشرع يعفى المسافر من الصيام. قامت ربة البيت التى كان زوجها غائبا عن المنزل بتقديم إفطار لنا ، دفعنا لها ثمنه ، وبقينا فى المنزل إلى ما بعد الظهر ، ثم ركبنا بعد ذلك إبلنا واتجهنا صوب منزل الشريف غالب الذى على شكل بستان ، ويقع عند الطرف الشرقى للضواحى ، ثم سلكنا بعد ذلك الطريق قاصدين وادى منى. الوديان المتعرجة صغيرة العرض أو كبيرة ، والمغطاة بالرمال ، والجرداء تماما من الحياة النباتية ، وتحيط بها التلال من الجانبين ، هذه الوديان توصل كلها إلى وادى منى. بعد مسير نصف ساعة من قصر الشريف تنفتح الأرض بعض الشىء فى الجهة اليسرى ، القناة التى تمد مكة بالماء العذب تمر بهذا المكان ، وشاهدنا على بعد مسير حوالى ميلين عند نهاية الأرض المفتوحة جبلا مخروطى الشكل ، يسمونه جبل النور ، الذى يعده الحجاج جبلا

٨٦

مقدسا ، كما سنورد فيما بعد. وبعد مسير دام ساعة ونصف الساعة تجاوزنا عن يميننا خزانا كبيرا مبنيا من الحجر ، هذا الخزان يجرى ملؤه فى موسم الحج بالماء من القناة التى تمر بالقرب منه. وأنا أظن أن هذا المكان هو ما يطلقون عليه اسم سبيل الست. هناك واد من الوديان الجانبية التى بين مكة ومنى ، يسميه الناس هنا وادى المحصب. يقول الفاسى مؤرخ مكة ، إنه كان هناك ست عشرة بئرا بين المدينة ومنى. وبعد مسير دام ساعتين ، بعد أن صعدنا قليلا عن طريق ممر مرتفع ممهد جرى شقه عبر الوادى ، وصلنا أخيرا إلى وادى منى. بالقرب من هذا الطريق المرتفع شاهدنا حقلا صغيرا ، يروى من بئر مالحة الماء ، ويزرع فيه بعض البدو البائسين البصل والكراث الذى يطلبه السوق المكى. وسوف أورد فيما بعد وصفا كاملا لوادى منى ، الذى يمضى الحاج فيه ثلاثة أيام بعد العودة من عرفات.

واصلنا مسيرنا بين منازل منى المهدمة ، وتجاوزنا الأعمدة القصيرة ، التى يرميها الحجاج ، ثم مررنا بعد ذلك على قصر الشريف غالب ، لندخل بعد ذلك إلى الأرض الواسعة المفتوحة التى يتواصل امتدادها ناحية مزدلفة ، التى تبعد عن مكة مسير ثلاث ساعات وثلاثة أرباع الساعة. اسم المزدلفة يطلق على مسجد صغير يكاد يكون أنقاضا فى الوقت الراهن ، وبالقرب منه يوجد خزان أو مستودع للماء. من هنا تلقى خطبة من فوق حلبة مرتفعة أمام المسجد على الحجاج بعد عودتهم من عرفات. يقول الفاسى المؤرخ : إن هذا المسجد بنى فى العام ٧٥٩ الهجرى. ويغلب أن يطلق على هذا المسجد اسم المشعر الحرام ، ولكن الفاسى نفسه يقول : إن هذا الاسم يطلق على تلة صغيرة فى نهاية وادى مزدلفة ، يسميها الناس أيضا القازح. هناك طريقان يؤديان من مزدلفة إلى عرفات ، الطريق الأول على الجانب الأيسر ويمتد بطول السهل أو الوادى الذى يطلق عليه هنا اسم ضب ، الطريق الثانى يمر مباشرة عبر الجبال ، ويتصل بالطريق الأول بالقرب من العلمين. واصلنا سيرنا فى الطريق الكبير فى الوادى ، وبعد مسير أربع ساعات وربع الساعة تبدأ الجبال فى التقارب من جديد ، وهنا

٨٧

يبدأ ممر ضيق يسميه الناس المزومين أو المضيق ، الذى يمر خلال الجبال لمدة نصف ساعة ينفتح المنظر بعدها على سهل عرفات ، وبعد مرور أربع ساعات وثلاثة أرباع الساعة ، مررنا فى ذلك السهل ، على خزان للماء يسميه الناس بير باسان ، وهو مبنى من الحجر ، وهناك مصلى صغير على القرب منه ، وفى هذه المنطقة تنفتح الأرض متسعة شمالا ويمينا. فى اتجاه الشرق أرى جبال الطائف ، وهذه هى المرة الأولى التى أرى فيها هذه الجبال بارتفاعها الكامل (*). بعد خمس ساعات وصلنا العلمين ، وهما عبارة عن هيكلين حجريين يقع كل واحد منهما على جانب من جانبى الطريق ، ويبعد كل هيكل منهما عن الآخر مسافة تقدر بحوالى مائتى خطوة ، ويتعين على الحجاج المرور بينهما فى الذهاب إلى عرفات وفى العودة على وجه الخصوص. هذان العلمان من الحجر الغشيم المدهون باللون الأبيض.

يقول الفاسى إن العلمين كانا ثلاثة لكن انهار منهم واحد ، ويقول أيضا إنه جرى بناؤها فى العام ٦٠٥ الهجرى ، ولم يتبق منها إلا حجر واحد كامل والثانى تحطم نصفه. بعد مرور خمس ساعات وربع الساعة مررنا وعن يميننا مسجد منعزل كبير يكاد يكون متحللا ، يسميه الناس جامع نمرة ، أو إن شئت فقل جامع (سيدنا) إبراهيم ، وقد بنى هذا الجامع بالشكل الذى هو عليه الآن السلطان قايتباى سلطان مصر. هنا كان جبل عرفات المنخفض عن يسارنا ، ويقع فى نهاية السهل ، ويبعد مسافة ميلين. واصلنا سيرنا فى السهل بدون توقف ، والسهل فى هذه المنطقة تغطيه

__________________

(*) أثناء عودتى من الطائف إلى مكة ، وعندما كنت سيدا لنفسى تماما ، دونت وصفا أكثر تفصيلا ودقة للطريق ، وذلك على العكس من الوصف الذى أوردته هنا ، لكن ضاعت منى الأوراق التى دونت فيها ذلك الوصف ، والوصف الذى أوردته هنا من الذكراة ، ومن الملاحظات المتعجلة التى دونتها وأنا فى طريقى إلى الطائف.

٨٨

أعشاب كبيرة الارتفاع وأشجار السنط المنخفضة ، هذه الأعشاب وهذه الأشجار محرم قطع أى شىء منها من منطلق أن هذه أرض مقدسة. وعندما وصلنا إلى الحدود الشرقية للسهل وصلنا عند الساعة الخامسة وثلاثة أرباع الساعة إلى قناة مكة التى تنبع من الأرض الجبلية. بالقرب من هذه القناة يوجد خزان صغير ، وبجوار هذا الخزان توجد مجموعة من أكواخ العرب ، وهذه الأكواخ شبيهة بأكواخ الهدا ، وتحمل اسم قهوة عرفات. هذه الأكواخ لا يسكنها سوى بنى قريش الذين يزرعون الخضراوات فى الوادى الذى يمتد من هذه المنطقة إلى ناحية الجنوب. نلنا هنا قسطا من الراحة لبضع ساعات ، ووصلت فى الوقت نفسه من الطائف قافلة مكونة من البغال والحمير.

اعتبارا من قهوة عرفات يصبح الطريق صخريا ، وتكاد الجبال تقترب جدا بعضها من بعض ، كما تتقاطع معه الوديان التى تعبر الطريق من مختلف الاتجاهات ، أشجار السنط غزيرة النمو فى هذا المكان. عند الساعة السابعة والنصف دخلنا من جديد أرضا رملية فى واد يسمونه وادى النومان ، توجد فى جنوبه بعض الآبار ، وبعض المزارع القليلة التى يزرعها عرب قبيلة قباقب وعرب ريشية. وعند الساعة الثامنة والنصف تجاوزنا مخيما لبدو من قبيلة هذيل ، حيث هاجمت الكلاب إبلنا مهاجمة شديدة ، إلى حد أنى عجزت عن الدفاع عن نفسى ، على الرغم من أنى كنت راكبا فوق الجمل ، عند الساعة الثامنة وثلاثة أرباع الساعة تجاوزنا مجموعة من الأكواخ والمقاهى التى يطلق الناس عليها هنا اسم شداد ، وفيها آبار ماؤها شديد العذوبة. عند الساعة التاسعة والنصف ، ونظرا لأن السماء كانت ملبدة بالغيوم والليل شديد الظلمة ، فقد ضللنا طريقنا بأن سلكنا انحناء الوادى الملتوى ، وعندما عجزنا عن استعادة الطريق الصحيح استلقينا أرضا ونمنا على الرمل لحين طلوع النهار.

اليوم السابع والعشرون من شهر أغسطس ، وجدنا أنفسنا على مقربة من الطريق ، وواصلنا المسير وبدأنا نصعد ، وفى خلال نصف ساعة كنا قد وصلنا إلى

٨٩

سلسلة الجبال العظيمة ، وبدءا من جدة إلى أن وصلنا إلى هذا المكان كان طريقنا ، على الرغم من وجوده بين التلال والجبال ، يمر بصورة مستمرة عبر أرض منبسطة ، خلال وديان فيها مطلع لا يحس به المسافر أو الرحال ، ولم يصبح ذلك المطلع أمرا واضحا للعيان إلا من خلال النظر إلى البلاد من فوق قمة الجبال الموجودة أمامنا حاليا. هذه التلال المنخفضة يندر أن يزيد ارتفاعها على أربعمائة قدم أو خمسمائة.

أقل السلاسل انخفاضا فوق جدة هى سلسلة التلال الجيرية ، لكن صخور هذه السلسلة سرعان ما تتحول إلى صخور صوّانية ، وإلى نوع من الجرانيت الذى يتخلله الشّوزل أسود اللون ، المصحوب بكتل رئيسية من الكوارتز وشىء من الرمال. هذا النوع من الصخور يلازمنا طوال الطريق ، مع شىء قليل من التباين ، إلى أن نصل إلى المنطقة الغربية من جبل النور ، فى الجانب الشرقى من مكة ، حيث يبدأ ظهور صخور الجرانيت. وفى مكة أخبرونى أنه على بعد مسافة بضع ساعات جنوبى الهدا ، يوجد جبل عامر بالرخام الفخم الذى استخدم فى تبليط المسجد الحرام. الجبال التى يتكون منها وادى منى مكونة من ذلك الجرانيت الأحمر اللون والجرانيت رمادى اللون ، وأن ذلك النوع من الجرانيت يمتد من هنا إلى السلسلة الأعلى منه ، ولكنه يختلط فى قليل من الأماكن بطبقات أخرى من صخور مختلفة. سلسلة التلال المنخفضة المتفرعة من سلسلة الصخور العالية التى كنا نرتقيها ونصعد إليها ، هذه السلسلة هى الأخرى مكونة من الجرانيت ، وعند منتصف هذه السلسلة وجدتها عامرة بالألوان كلها ، ومختلطة بطبقة من أنواع أخرى من الصخور التى وجدت بعضها متحللا ، وعند قمة تلك السلسلة الجبلية وجدت الجرانيت الأحمر يظهر من جديد ، وقد اسود سطح ذلك الجرانيت الأحمر نتيجة لأشعة الشمس.

صعدنا من طريق سيئ ، على الرغم من ترميمه مؤخرا بناء على أمر من محمد على باشا. كانت المنطقة المحيطة بالطريق برية تماما ، إذ كانت تغطيها كتل كبيرة من الأحجار السائبة التى جرفتها سيول الشتاء إلى الأسفل ، ومتناثرة هنا وهناك مع قلة قليلة من أشجار السنط وأشجار النبق ، بعد مضى ساعة وصلنا إلى مبنى من

٩٠

الحجارة السائبة يطلقون عليه اسم قبر الرفيق. وروى لى مرشدى الرواية التالية عن ذلك المبنى : فى القرن الماضى حدث أن كان بدوى عائدا من الحج ، فانضم إليه بعد بوابات مكة مسافر على الطريق نفسه الذى كان يسلكه ذلك البدوى ، وصلا سويا إلى هذا المكان ، وعندها أحس واحد منهما بالمرض الشديد الذى جعله عاجزا عن مواصلة السير أكثر من ذلك ، وفى اليوم التالى ظهر مرض الجدرى منتشرا فى سائر أنحاء جسمه. لم يكن رفيقه على استعداد لتركه فى هذا الحال أو التخلى عنه ، فقام ببناء كوخين من فروع أشجار السنط أحدهما لصديقه والآخر له ، واستمر الرجل يمرض صديقه المريض ويرعاه ، ويطلب الصدقات من المارين لذلك المريض إلى أن شفاه الله تماما. لكن فى المقابل سقط ذلك الصديق مريضا إذ أصابه الجدرى هو الآخر ، وراح ذلك الصديق المتعافى يمرض صديقه المريض بنفس العطف والحنان اللذين لقيهما من صاحبه ، على الرغم من أن الشفاء لم يكن بالقدر نفسه ، فقد مات الرجل ودفنه صديقه فى هذا المكان ، حيث يعد قبره تذكارا لكرم البدو ، ويوحى بالشفقة والإحسان إلى الرفاق العشوائيين على الطرق.

بعد حوالى ساعة ونصف الساعة من الصعود ، وصلنا إلى بعض الأكواخ المبنية بين الصخور بالقرب من عين غزيرة الماء ، هذه الأكواخ يسميها الناس هنا قهوة قورة ، وهذا الاسم مشتق من الجبال التى يطلق عليها اسم جبال قورة ، التقيت هنا أحد الجنود الأتراك كان مكلفا بنقل مؤن لجيش الباشا عبر الجبل ، ولما كان هذا هو أقصر الطرق الواصلة بين مكة والطائف ، فذلك يجعل القوافل فى حركة دائمة على هذا الطريق. هذا يعنى أن أحمال الإبل يجرى إنزالها فى هذا المكان ، ثم يجرى نقلها بعد ذلك إلى قمة الجبل باستعمال البغال والحمير ، التى يجرى الاحتفاظ بمائتين منها فى هذا المكان. إبل الجبل يجرى إعدادها لنقل الأحمال إلى الطائف ، يضاف إلى ذلك أن الطريق الشمالى البعيد المؤدى إلى الطائف ، الذى سوف أتحدث عنه فيما بعد ، طريق مطروق وصالح لسير الإبل ، لكن مشكلة هذا الطريق أن السير فيه يستغرق يوما أكثر من الطريق المعتاد.

٩١

أكواخ قورة بناها أصحابها بين الصخور ، على منحدر الجبل الذى يتعذر وجود مكان مستو عليه. سكان هذه الأكواخ هم من بدو هذيل ، فى اثنين أو ثلاثة من هذه الأكواخ لا يمكن الحصول على شىء سوى القهوة والماء. كان الجندى التركى قد استثار مؤخرا غضب الباشا واستياءه ، بعد أن سرق جملا مملوكا لامرأة من هذيل وباعه ، وكانت تلك المرأة قد سافرت مؤخرا لتقديم شكواها للباشا سيد ذلك الجندى من الطائف. عاملنى الجندى معاملة طيبة للغاية عندما علم أنى ذاهب لزيارة الباشا ، ورجانى التوسط له لدى الباشا ، ومع ذلك رفضت القيام بهذا العمل ، وقلت للجندى إننى ذاهب للتوسل إلى الباشا لتصريف همومى. بقينا فى ذلك المكان إلى فترة الظهر ، ومنظر البلد المنخفض من هذا المكان رائع وجميل ، وهذه شجرة كبيرة من أشجار النبق ، بالقرب من عين الماء الذى ينساب نازلا فوق الصخور ، وفرت لى ظلا ونسيما عليلا باردا ، خفف عنى الحرارة الشديدة التى تحملتها منذ بداية تحركنا من جدة. بعد أن غادرنا قورة وجدنا الطريق شديد الانحدار ، وعلى الرغم من ترميمه مؤخرا كان لا يزال سيئا ، إلى الحد الذى يتعذر معه على المسافر الراكب الوصول إلى القمة دون النزول عن راحلته. هذه درجات مثل درجات السلم ، جرى قطعها فى أماكن عدة ، الأمر الذى قلل من شدة منحدر الصعود أو قسوته ، وذلك عن طريق توجيه صعود المنحدر إلى منحنيات كثيرة ، وحتى يسهل الوصول إلى القمة جرى أيضا تجهيز ست محطات واسعة وفسيحة على جانب الجبل ، كى تلتقط الإبل فيها أنفاسها ، حيث لا توجد أرض مستوية تزيد مساحتها بأى حال من الأحوال عن ثمانية أقدام مربعة. هذه العين التى تناسب قادمة من قمة الجبل ، يجرى عبورها مرات عدة. التقيت عددا كبيرا من بدو هذيل ، وكانت معهم عائلاتهم وقطعان أغنامهم بالقرب من الطريق ، أعطانى أحدهم شيئا من الحليب ، لكنه رفض أن يأخذ نقودى مقابلا لذلك الحليب. هؤلاء البدو يعدون بيع الحليب فضيحة ، على الرغم من أنهم فى مكة يمكن أن يجنوا من ذلك أرباحا كبيرة ، حيث يباع رطل اللبن بقرشين. تناقشت نقاشا حرا مع الرجال ومع زوجة واحد منهم. رأيت فيهم سلالة متينة من سلالات متسلقى الجبال ، وعلى الرغم من أنهم كانوا فقراء تماما ، فإن مظهرهم كان يوحى بالقوة والشدة عن بدو الشمال ، وأنا أعزو

٩٢

هذا الفارق إلى المناخ الصحى ، وجودة الماء. بنو هذيل ، المشهورون فى تاريخ الجزيرة العربية القديم ، كانوا رعايا من الناحية الاسمية لشريف مكة الذى كانوا يعيشون على أرضه ، لكنهم كانوا حقيقة الأمر مستقلين تماما عنه ، بل كانوا فى حرب معه فى معظم الأحيان.

أمضينا ساعتين كاملتين فى الصعود من أكواخ القهوة إلى قمة الجبل ، ومن قمة الجبل شاهدنا منظرا جميلا للبلاد المنخفضة. استطعنا من هذه القمة العالية تمييز وادى منى ، لكننا لم نستطع تمييز مكة ، وشاهدنا على مد البصر ، سلاسل متعرجة من التلال ، وكأنها تنبعث من سطح منبسط فى الناحيتين الشمالية والجنوبية ، وشاهدنا أيضا شرائط من الرمل الأبيض بين هذه السلاسل المتعرجة ، لكن هذه الشرائط كانت خالية من الخضرة بكل أشكالها. شاهدنا عن يميننا بالقرب منا قمة قورة التى يسمونها ناقب الأحمر ، هذه القمة يتردد ارتفاعها بين أربعمائة قدم وخمسمائة قدم ، وهى أعلى من المكان الذى نقف عليه حاليا ، وتبدو لنا وكأنها تفوق السلسلة المحيطة بها من حيث الارتفاع. فى الناحية الشمالية كان الجبل الذى يبعد حوالى ثلاثين ميلا ، يبدو لنا وكأنه يتناقص ارتفاعه تناقصا كبيرا ، لكن هذا الجبل نفسه كان يواصل ارتفاعه فى اتجاه الجنوب ، وبعد أن أمضينا نصف ساعة ونحن ركوب ، عندما ابتعدنا عن القمة ، وصلنا قرية صغيرة تسمى رأس قورة. بعد أن وجدت نفسى متعبا قررت النوم فى هذا المكان ، ووافق مرشدى على قرارى بعد شىء من التردد ، نظرا لتلقيه أوامر تقضى بأن يسافر ويتنقل معى بهمة ونشاط.

الثامن والعشرون من شهر أغسطس ، تعد قرية رأس قورة هى والمنطقة المحيطة بها أجمل بقاع الحجاز ، هذه البقعة أجمل وأبهى وأبهج الأماكن التى وقعت عليها عيناى منذ رحيلى عن لبنان وسوريا. قمة جبل قورة عبارة عن أرض منبسطة ، لكن هناك كتلا كبيرة من صخور الجرانيت مبعثرة على هذه الأرض المنبسطة ، سطح هذه الكتل الجرانيتية شبيه بسطح الصخور الجرانيتية القريبة من الشلال الثانى فى نهر النيل ، هذا يعنى اسوداد سطح هذه الكتل الصخرية بفعل أشعة الشمس وحرارتها.

٩٣

هناك نهيرات عدة تنحدر نازلة من هذه القمة وتروى السهل الذى تغطيه حقول خضراء ، وأشجار ظليلة كبيرة على جانب الصخور الجرانيتية. هذا المشهد والهواء المنعش الذى يهب علينا هنا يستثيران دهشة هؤلاء الذين لم يعرفوا سوى الرمال الموحشة والمحرقة فى أراضى الحجاز المنخفضة. أشاهد هنا كثيرا من أشجار الفواكه الأوروبية : أشاهد أشجار التين والمشمش والخوخ والتفاح واللوز والرمان ، أشاهد أيضا أشجار الجميز المصرى ، وأشاهد هنا وبصفة خاصة الكروم التى تعد أعنابها من أفضل الأنواع. المنطقة هنا خالية من النخيل ، لكن فيها القليل من أشجار النبق. الحقول هنا تنتج القمح والشعير والبصل لكن صخرية التربة هنا تجعل هذه الحاصلات لا تجود مثل أشجار الفاكهة. كل «بلد» ، وهذا هو الاسم الذى يطلقه الناس هنا على «الحقل» ، محاط بسور منخفض ، وهو ملك لبدوى من بدو هذيل. هذا المكان جرى تدميره وتخريبه وتدمير حقوله ، عندما استولى عثمان المضايفة على الطائف من الشريف غالب ، ولم يجر إلى يومنا هذا إعادة بناء كثير من أسوار الحقول.

بعد أن تجولنا قرابة نصف ساعة فى هذه المنطقة الجميلة ، وكان ذلك مع بداية شروق الشمس ، حيث كان الندى الجميل يغطى كل ورقة وكل عود من أعواد الحشائش ، وعندما كانت كل شجرة وكل دغل من الأدغال يرسل عبيقه فى الجو لتتلقفه الأنوف ، وعندما كان المنظر الطبيعى يسر الخاطر ويسر الناظرين ، هنا توقفت بالقرب من أكبر تلك الأفلاج ، الذى ـ على الرغم من أن عرضه لم يكن يزيد على خطوتين ـ كان يغذى على ضفتيه أشجار الطرفاء الألبية شديدة الخضرة التى لا يستطيع النيل العظيم بكل عنفوانه إنتاجها فى مصر. أحضر لنا بعض العرب شيئا من حبات اللوز والزبيب ، وأعطيناهم مقابل ذلك شيئا من البسكويت ، لكن على الرغم من نضوج الأعناب ، لم نستطع الحصول على أى شىء منها ، وسبب ذلك أن تلك الأعناب يجرى شراؤها وهى على أشجارها بواسطة تجار الطائف الذين يصدرون هذه الأعناب إلى مكة ، ويقومون بحراستها بواسطة حراس من قبلهم ، إلى أن يقوموا هم بحصادها. هنا

٩٤

وجدنا جنديا تركيا يحمل لقب أغا يقيم فى خيمة ، وتتمثل مهمته فى توصيل المؤن والتموينات التى تصل إليه من محطة الطائف المنخفضة. لاحظت فى شىء من الدهشة عدم بناء أى محل من محلات تزجية وقت الفراغ على هذه الحلبة المرتفعة. فى الماضى كان لتجار مكة منازل أو مقرات فى الطائف ، هذه المقرات مهجورة ويخيم عليها الحزن ، بقدر ما يبدو هذا المكان مبهجا وفارها ، لكن أحدا من هؤلاء التجار لم يفكر مطلقا فى بناء كوخ هنا فى هذا المكان ، وهذا دليل جديد على الفكرة التى كانت تراودنى منذ زمن بعيد ، ومفادها أن الشرقيين ، وبخاصة العرب ، أقل أحساسا بجماليات الطبيعة من الأوروبيين. ماء رأس قورة شهير بعذوبته وامتيازه فى سائر أنحاء الحجاز. طوال مقام محمد على باشا فى كل من مكة وجدة كانت تصله بصورة منتظمة كميات من ماء النيل لاستخدامها فى الشرب ، كانت تلك المياه ترسل من مصر مع كل أسطول من الأساطيل التى كانت تقصد جدة. كانوا يرسلون له ذلك الماء فى أوعية كبيرة مصنوعة من القصدير والصفيح ، لكن محمد على باشا عندما مر بهذه المنطقة وجد أن ماءها جدير بأن يحل محل الماء الآخر ، وبناء عليه يأتى جمل من الطائف ليجلب كل يوم حملا من هذا الماء.

منازل هذيل أصحاب هذه المزارع ، مبعثرة فى سائر أنحاء الحقول على شكل مجموعات مكونة من أربعة منازل أو خمسة ، هذه المنازل صغيرة مبنية من الحجر والطين ، لكن بعناية وحرفية لا يمكن أن ننتظرها من هذه الأيدى الخشنة. كل منزل من هذه المنازل مكون من ثلاث غرف أو أربع ، كل واحدة منها مستقلة عن الغرف الأخرى بواسطة ردهة ضيقة مكشوفة ، تشكل ما يشبه الكوخ المنعزل الصغير. هذه الغرف لا يدخلها الضوء إلا من مداخلها فقط ، وهى مرتبة ونظيفة جدا ، وتحتوى على أثاث بدوى ، وبعض السجاد الجيد ، وجوالات مصنوعة من الصوف والجلد ، وقلة قليلة من الأطباق المصنوعة من الخشب ، وأوانى للقهوة مصنوعة من الفخار ، وبندقية فتيلية يوليها صاحبها عناية كبيرة ؛ إذ يحفظها دوما فى جراب من الجلد. أثناء الليل أخذت قسطا من الراحة وأنا مستلق على جلد بقرة كبير ومدبوغ ، أما الغطاء الذى التحفت به

٩٥

فكان عبارة عن مجموعة من جلود الأغنام الصغيرة المخيطة بعضها إلى بعض ، وهو شبيه بالأغطية المستخدمة فى بلاد النوبة. أبلغنى هذلى أنه قبل مجىء الوهابيين ، وقبل إجبارهم هذيل على دفع إتاوة عن حقولهم ، لم يكونوا يعرفون أى نوع من أنواع الضرائب التى تفرض على الأراضى المنزرعة ، بل إنهم كانوا على العكس من ذلك يتلقون هدايا سنوية من الأشراف ومن أهل مكة الذين كانوا يمرون من ذلك الطريق قاصدين الطائف. تمتد رأس قورة من الشرق إلى الغرب حوالى ميلين ونصف الميل أو ثلاثة أميال تقريبا ، أما عرضها فيصل إلى قرابة الميل. وفى الاتجاه نحو الجنوب تقطن قبائل بدوية مثل هذيل تقوم بحرفة الزراعة فى أماكن سفوح الجبال ، وهى أرض لا تقل خصوبة ولا جمالا عن ذلك المكان الذى رأيناه فى سلسلة الجبال سالفة الذكر.

غادرنا رأس قورة ، التى ستظل ذكراها فى ذهنى طوال إحساسى بروعة المناظر الرومانسية ومباهجها ، وركبنا رواحلنا مدة ساعة عبر أرض جرداء غير مستوية ، فيها ارتفاعات وانخفاضات طفيفة ، إلى أن وصلنا منحنى شديد الانحدار ، استلزم سيرنا فيه حوالى نصف ساعة ، وصعود هذا المنحنى يتطلب ضعف هذا الوقت. الصخر كله هنا من الحجر الرملى. ومن قمة ذلك المنحنى سالف الذكر ، يستطيع الرائى مشاهدة الطائف من مسافة بعيدة. وبعد مسير نصف ساعة من سطح الجبل دخلنا واديا خصيبا يسمونه وادى محرم ، يمتد من الشمال الغربى إلى الجنوب الشرقى. هذا الوادى شأنه شأن المنطقة الأعلى منه ، عامر بأشجار الفاكهة ، لكن الحقول المنزرعة القليلة تروى من آبار ، وليس من أفلاج جارية. وهذه قرية من القرى التى أتى على أغلبها الوهابيون وخربوها ، تقع على المنحدر ، وفيها برج صغير بناه أهلها ليحفظوا فيه إنتاج حقولهم.

من هنا تبدأ حدود الطائف ، وحدود أراضى قبيلة ثقيف ، الذين كانوا فى الزمن الماضى فى حرب مستمرة مع جيرانهم هذيل. والوادى يسمى وادى محرم ، بحكم الظروف ، هذا يعنى أن الحجاج فى هذه المنطقة وـ كذلك ـ الزوار المتجهين شرقا إلى

٩٦

مكة ، يتعين عليهم ارتداء ملابس الإحرام قبل أن يلاحظهم أحد ، هناك حوض (خزان) صغير مهدم بالقرب من الطريق. والمعروف أن قافلة الحج اليمنى ، التى يسمونها الحج القبصى ، والتى يقع مسارها على طول هذه الجبال ، تلتزم دوما فى هذا المكان بمراعاة طقوس دخول مكة ، ومن ثم جرى ملء هذا الخزان بالماء كى يتوضأ منه الحجاج. يجلب مزارعو وادى محرم الماء من الآبار باستخدام دلاء من الجلد معلقة من أحد أطرافها بسلسلة من الحديد ، تنزلق حول بكرة ، ويعلقون فى الطرف الآخر بقرة ، تقطع ، فى ظل عدم وجود ساقية ، مسافة كافية بعيدا عن البئر لرفع الدلو من البئر ، ثم تعاد البقرة من جديد لاستئناف هذه العملية. الأبقار التى رأيتها هنا ، شأنها شأن أبقار الحجاز كلها ، صغيرة الحجم لكنها قوية البنية وشديدة ، قرون هذه الأبقار قصيرة ، ولها ختم على ظهرها فوق الكتفين مباشرة ، ويصل ارتفاعه إلى ما يقرب من خمس بوصات وطوله حوالى ست بوصات ، وهو فى ذلك يشبه أختام الأبقار التى رأيتها على حدود النيل فى بلاد النوبة. وعلى حد قول المواطنين فإن سلسلة الجبال التى تمتد من هنا إلى الناحية الشمالية ، إلى أن تصل إلى المنطقة التى تبدأ عندها مزارع البن ، تتقاطع معها وديان أخرى منزرعة عشبية بهذا الوادى ، لكنها منفصلة بعضها عن بعض ، ولكن المساحة الوسطية التى بين هذه الوديان عبارة عن تربة صخرية جرداء.

بعد وادى محرم بدأنا من جديد نعبر أرضا جبلية غير مستوية ، عثرت فيها على الحجر الرملى ونوع آخر من الصخور. أشجار السنط تنتشر هنا فى العديد من الوديان الرملية التى تتفرع من الطريق الرئيسى. بعد أن سرنا مدة ساعتين ونصف الساعة اعتبارا من مغادرتنا لوادى محرم صعدنا إلى قمة تل من التلال ، ومن تلك القمة شاهدت الطائف أمامنا. وصلنا الطائف بعد ثلاث ساعات ونصف الساعة من مغادرتنا لوادى محرم ، بعد أن عبرنا السهل الرملى القاحل الذى يفصل وادى محرم عن التلال المحيطة به. كان معدل سيرنا بدءا من مكة ، عندما كنا وحدنا تماما فوق إبلنا وعندما كان بوسعنا ضبط ذلك المعدل حسب هوانا ، لا يقل بحال من الأحوال عن ثلاثة أميال وربع الميل فى الساعة الواحدة ، وتأسيسا على ذلك فأنا أقدر المسافة من مكة إلى

٩٧

سفح جبل قورة بما يقرب من اثنين وثلاثين ميلا ، والمسافة إلى قمة جبل قورة تقدر بحوالى عشرة أميال ، ومن قمة جبل قورة إلى الطائف تقدر بحوالى ثلاثين ميلا ، بحيث يصل إجمالى المسافة إلى اثنتى وسبعين ميلا. اتجاه الطريق من عرفات إلى الطائف يقدر بحوالى اثنتى عشرة أو خمس عشرة درجة على البوصلة ، وذلك جنوبى الطريق المتجه من مكة إلى عرفات ، لكن نظرا لعدم وجود بوصلة برفقتى لم أستطع تحديد الاتجاه تحديدا دقيقا.

الإقامة فى الطائف

وصلت إلى الطائف عند الظهر ، ونزلت عن راحلتى أمام منزل بوسارى ، وبوسارى هذا هو طبيب الباشا ، وسبق أن تعرفت عليه عندما كنت فى القاهرة. ولما كنا فى رمضان فقد كان الناس صياما ، ومعروف أن أعيان الأتراك وأغنياءهم ينامون دوما أثناء النهار ، الأمر الذى يعنى أن الباشا لا يمكن إبلاغه بوصولى إلا بعد غروب الشمس. وفى ذات الوقت ، وبعد التأكيد من جانب بوسارى على اهتمامه الكامل بمصالحى ، والتأكيد الشرقى المعتاد من جانبه أيضا على مدى صداقته الحقة معى. سألنى الرجل عن وجهات نظرى فى مجيئى إلى الحجاز ، وأجبته أن مجيئى إلى الحجاز كان بهدف زيارة مكة [المكرمة] والمدينة [المنورة] ثم العودة إلى القاهرة ، ولكن الرجل ساوره الشك فى نواياى فيما يتعلق بمصر ، ورجانى أن أكون صريحا معه بصفتى صديقا له ، وأن أقول له الحق ، بحكم أنه اعترف لى أنه كان يتشكك فى ذهابى إلى جزر الهند الشرقية ، وقد أنكرت ذلك تماما ، ولكنه ألمح خلال حديثنا أننى إذا كنت أنوى بحق العودة إلى مصر ، فالأفضل لى هو البقاء فى مركز الرئاسة معهم إلى أن يعود الباشا نفسه إلى مصر. لم يرد بيننا حديث عن مسألة النقود ، على الرغم من أن بوسارى كان جاهلا بمسألة احتياجاتى المالية فى جدة.

٩٨

فى فترة المساء ذهب بوسارى وحده إلى الباشا فى مسكن الحريم ، الذى لا يستقبل الباشا فيه أحدا سوى الأصدقاء الحميمين والمعارف المقربين له تماما. عاد إلىّ بوسارى فى غضون نصف الساعة ليقول لى إن الباشا يود لقائى فى ساعة متأخرة من هذا المساء فى مجلسه العام ، وأضاف أنه وجد قاضى مكة جالسا مع الباشا ، حيث تصادف وجوده فى الطائف بسبب ظروفه الصحية ، وأنه سمع القاضى وهو يقول عندما سمع عن رغبتى فى زيارة المدينتين المقدستين : «ليست اللحية وحدها (*) دليلا على صدق إسلام المسلم» ، ولكنه التفت إلى القاضى وقال : «أنت خير منى فى الحكم على مثل هذه الأمور». ثم أبدى القاضى ملاحظة بعد ذلك مفادها أنه ما دام المسلم هو الشخص الوحيد الذى يسمح له برؤية المدينتين المقدستين ، وأن هذا الظرف لا يمكن أن يكون جاهلا به ، فهو لا يصدق أنى يمكن أن أعلن أنى مسلم ، إلا إذا كنت كذلك فعلا. عندما علمت بهذه التفاصيل قلت لبوسارى أنه يمكن أن يعود إلى الباشا وحده ، ويقول له إنى أوذيت فى مشاعرى إيذاء كبيرا بسبب التعليمات التى أعطيت لمرشدى بعدم تنقلى فى مكة ، وإنى بكل تأكيد ينبغى ألا أذهب إلى مجلس الباشا إذا لم يستقبلنى بصفتى واحدا من الأتراك.

انزعج بوسارى من كلامى ، وحاول دون جدوى إبعادى عن ذلك الخط ، وأخبرنى أن لديه أوامر بأن يصحبنى إلى الباشا ، وأنا لا يمكن أن أخالف تلك الأوامر ، ومع ذلك تمسكت تماما بما قلته ، وعاد بوسارى مترددا إلى محمد على باشا ، الذى كان جالسا وحده بعد أن انصرف القاضى. وعندما ألقى أو أوصل بوسارى الرسالة ابتسم الباشنا ، وقال إنه يرحب بى سواء كنت تركيا أو غير تركى. فى حوالى الساعة الثامنة مساء عدت إلى القلعة ، ذلك المبنى ، أو بالأحرى المسكن البائس شبه المخرب الذى يتبع الشريف غالب ، مرتديا البذلة الجديدة التى تسلمتها فى جدة بناء على أمر من الباشا. وجدت سعادة الشريف جالسا فى صالون كبير مع القاضى الذى كان يجلس

__________________

(*) كنت أطلق لحيتى فى ذلك الوقت ، مثلما فعلت فى القاهرة ، عندما رآنى الباشا.

٩٩

بجانب الشريف من ناحية ، وحسان باشا الذى كان يجلس على الجانب الآخر من ناحية ثانية. حسان باشا هذا كان رئيسا للجنود الأرناءوط ، وكان هناك حوالى ثلاثين من كبار ضباطه أو أربعين يشكلون نصف دائرة حول الأريكة التى كانوا يجلسون عليها ، وكان هناك عدد من شيوخ البدو جالسين فى المنتصف على شكل شبه دائرة. قصدت إلى الباشا مباشرة وألقيت عليه‌السلام وقبلت يده ، وأشار إلىّ بالجلوس إلى جانب القاضى ، وراح يخاطبنى بأدب جم ، وسألنى عن حالتى الصحية ، وسألنى عما إذا كانت لدى أخبار عن المماليك فى ذلك البلد الأسود الذى سبق أن زرته ، لكنه لم يتطرق إلى أهم موضوع عندى. كان أمين أفندى المترجم العربى مع الباشا هو الذى تولى الترجمة فيما بيننا ، لأنى لا أتكلم اللغة التركية ، ونظرا لأن الباشا لم يكن يتقن العربية. وفى غضون خمس دقائق استأنف محمد على باشا الموضوع الذى كان يناقش البدو فيه ، عندما قاطعت حديثهم. بعد أن انتهى الباشا من حديثه مع البدو ، وبعد أن غادر حسان باشا الغرفة ، طلب الباشا من الجميع الخروج من المجلس ما عدا القاضى وبوسارى وأنا معهما. توقعت أن يختبرونى ، وكنت مستعدا لذلك تمام الاستعداد ولكن لم يتطرق الحديث إلى أمورى الشخصية ، بل إن محمد على نفسه لم يتطرق فى أى حوار من الحوارات التى دارت بينى وبينه فيما بعد إلى أمر من أمورى الشخصية ، اللهم إلا من تلميحه إلى أنى كنت فى طريقى إلى جزر الهند الشرقية. وعندما أصبحنا بمفردنا وحدنا ، أنا وهو ، أقحم الباشا موضوع السياسة ، فقد وصلته مؤخرا أنباء دخول الحلفاء باريس وانسحاب بونابرت إلى جزيرة إلبا ، وأن مجلات مالطية متعددة أوردت تفاصيل هذه الأحداث ، وأن هذه المجلات أرسلت إليه من القاهرة. يبدو أن الباشا كان شديد الاهتمام بهذه الأحداث المهمة ، نظرا لأنه كان يعمل فى ظل انطباع مفاده أن بريطانيا بعد سقوط بونابرت يحتمل أن تذهب إلى تدعيم القوة فى البحر المتوسط وتعضيدها ، ومن ثم القيام بغزو مصر.

بعد أن بقيت مع الباشا مدة ثلاث ساعات أو أربع فى حوار خاص ، إما بالحديث معه باللغة العربية من خلال القاضى الذى كان يعرف العربية معرفة جيدة ، على الرغم

١٠٠