المنظومة النحويّة

الخليل بن أحمد الفراهيدي

المنظومة النحويّة

المؤلف:

الخليل بن أحمد الفراهيدي


المحقق: الدكتور أحمد عفيفي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

العامة ، وعدم تمكّن عناوين هذه المخطوطات من خداع القارئ المثابر الذي يتوقع أن يجد عنوانا مخالفا للمضمون أو مضمونا مخالفا للعنوان ، أو يجد مجموعا به عدة مخطوطات وضع له عنوان لمخطوطة واحدة من هذا المجموع ، أقول : لا شك أن كل هذا يمكن أن يكشف النقاب عن الكثير من المفاجآت سلبا أو إيجابا لو كانت محاولات الكشف جادة تتسم بالصبر والدأب.

ولعل تلك المثابرة هي التي كشفت النقاب عن هذه المنظومة المنسوبة إلى الخليل. فقد وجدت عشر نسخ مخطوطة لها. كل هذه النسخ ضمن مجاميع مخطوطة ، سواء بالمكتبات الخاصة أو العامة ، وربما كان هذا مدخلا مهما للإجابة عن السؤال : لماذا لم تكتشف منظومة الخليل النحوية من قبل؟

فلقد كانت نسخ هذه المنظومة مطمورة ضمن مجاميع مخطوطة. هذه المجاميع احتوت في معظمها على نصوص مهمة ، بعضها أشعار للإمام علي بن أبي طالب والشافعيّ والبوصيريّ ، وبعضها نحويّ لقدامى النحاة وبعضها منظومات نحوية أو نصوص لغوية كمثلثات قطرب أو اللخمي .. الخ.

ومن الواضح الاهتمام بأمر المجاميع من قبل أصحابها ، والعناية بنسخها عن طريق نسّاخ متخصصين ، بل ومراجعتها أحيانا على نسخ أصلية أقدم للوصول إلى نص صحيح. والملاحظ أنني لم أجد نسخة واحدة في مخطوطة مستقلة من نص المنظومة ، على الرغم من الاهتمام بأمر الخليل بن أحمد وأعماله بشكل لافت للنظر ويبدو أن ذلك كان سببا قويا في عدم الكشف (*) عنها أو الاهتمام بأمرها حتى الآن ؛ وربما كان السبب استصغارا لحجمها (**) بالقياس للمنظومات النحوية الأخرى التي تصل إلى ألف بيت أو يزيد ، وربما كان السبب الشك في صحة نسبتها إلى الخليل بن أحمد ، إذ كيف تكون هذه المنظومة كتبت في القرن الثاني الهجريّ ، ولم تظهر للنور حتى الآن؟

__________________

(*) المنظومة معروفة ، وعدم نشرها في حينه لا يقلل من قيمتها (ن)

(**) العبرة بالكيف ، وليس بالكم ، وبالمضمون لا بالشكل (ن).

٤١

كل هذا دار في خلدى وأنا بين الإقبال مرّة والإحجام مرّات على تحقيقها إلى أن عثرت على نصّ لخلف الأحمر (١) الذي كان معاصرا للخليل ، وكانت وفاته بعد وفاة الخليل بعشر سنوات تقريبا. هذا النص يشير إلى تلك المنظومة النحوية للخليل ، بل وينقل بيتين من تلك المنظومة مستشهدا بهما على قضية نحوية نراها في نصه الذي يقول فيه تحت عنوان «باب حروف النّسق».

يقول خلف الأحمر عن هذه الحروف في كتابه «مقدمة في النحو» (٢) «فنسق بها ، فإذا أتيت برفع ثم نسقت بشيء من حروف التنسيق رددت على الأول» (أي عطفت على الأول) وكذلك إذا نصبت وخفضت ثم أتيت بحروف النسق رددت على الأول. وحروف النسق خمسة ، وتسمى حروف العطف.

وقد ذكرها الخليل بن أحمد في قصيدته في النحو ، وهي قول الشاعر :

فانسق وصل بالواو قولك كلّه

وبلا وثمّ وأو ، فليست تصعب

الفاء ناسقة كذلك عندنا

وسبيلها رحب المذاهب مشعب

وهذا البيتان يحملان رقمي ١٥٧ ، ١٥٨ من منظومة الخليل النحوية ، وإن كانت كلمة القافية في البيت الأول جاءت على أشكال متنوعة ، فمرة «تعقب» ويكون القصد منها أنّ (أو) ليست للتعقيب مثل ثم الواقعة

__________________

(١) خلف الأحمر هو أبو محرز مولى بلال بن أبى بردة راوية علامة بالأدب ، شاعر من أهل البصرة كان أبواه موليين من فرغانة. أعتقهما بلال بن أبي موسى الأشعري. حمل عنه ديوانه أبو نواس وتوفي في حدود الثمانين ومائة (١٨٠ ه‍ ـ ٧٩٦ م). عالم بالأدب يسلك الأصمعي طريقه ويحذو حذوه. له ديوان شعر وكتاب (جبال العرب) و (مقدمة في النحو) (طبع). انظر في ترجمته ، الأعلام للزركلي ج ٢ ص ٣١٠ ، وكتاب الوافي بالوفيات ٣ / ٣٥٣ ـ ٣٥٥ ، ١٤٠٤ ه‍ ـ ١٩٨٤ م دار النشر فرانز شتاير بقسبادن.

(٢) كتاب (مقدمة في النحو) لخلف الأحمر (١٨٠ ه‍) تحقيق : عز الدين التنوخي دمشق ١٣٨١ ه‍ ١٩٦١ م ص ٨٥. ٨٦.

٤٢

قبلها مباشرة ، ومرة جاء «تعصّب» وجاء التركيب «ولست تعصّب» ، أي لست متشددا عند استخدام حروف العطف هذه ، ومرة جاءت «ولست تغضّب» من الغضب .. إلخ.

وهذه كلها جاءت متغايرة باختلاف النسخ ، وكلها جاءت في شكل اختلافات يسيرة لا تمثل خللا في صلب القضية موطن الحديث ، وفي نهاية الأمر قد تأكد وجود البيتين في منظومة الخليل التي أشار إليها خلف الأحمر ، بل وجاء تحت عنوان «باب النسق» في قصيدة الخليل الذي قال تحت هذا الباب مباشرة :

وإذا نسقت اسما على اسم قبله

أعطيته إعراب ما هو معرب

وانسق وقل بالواو ....

والفاء ناسقة ....

فتقول حدثنا هشام وغيره

ما قال عوف أو حسين الكاتب

واستمر الخليل في التمثيل لحروف العطف رفعا ونصبا وجرا حتى البيت رقم ١٦٢ من المنظومة.

لعل تساؤلا يطرح نفسه بقوة أمامنا الآن ، هذا التساؤل مفاده هو كيف نعتمد على أقوال وأخبار خلف الأحمر ، وقد كثر اتهام المؤرخين له بالانتحال والوضع ونقل الأخبار غير الموثوق بصحتها؟ ألا يمكن أن يكون ذكر خلف الأحمر لهذه المنظومة النحوية ونسبتها للخليل على لسانه مثارا للشك في تلك النسبة؟ حيث يتهم في أخباره وأشعاره ونسبتها إلى أصحابها.

وللإجابة عن هذا أنه يمكن أن يكون لهذا السؤال وجاهته ومجاله لو أن الأمر كان متعلقا بأبيات أو بقصيدة لها غرض آخر ، مثل المدح أو الذم أو ذكر يوم من أيام العرب أو ذكر مثالب قبيلة ما أو إثبات صفات لبعض الأشخاص أو غير ذلك من الأشياء التي يمكن أن تكون مثارا للوضع والانتحال ، إن ثبت ذلك عن خلف الأحمر ، أما وإن الأمر متعلق بقصيدة

٤٣

نحوية ليس الغرض منها اجتماعيا أو سياسيا أو مدحا أو ذما ، فإن أمر الشك لا مجال له هنا والسؤال المقابل الذي يطرح نفسه في وجه هذا الشك هو : لماذا يتخيل أحد أسبابا غير حقيقية لخلف الأحمر كانت عاملا على نسبة هذه القصيدة للخليل بن أحمد؟ وأي أسباب هذه ، تلك التي تجعل خلف الأحمر حريصا على نسبة هذه القصيدة للخليل غير الحقيقة في وجود هذه النسبة؟.

وإذا كان هنالك من يشك في رواية خلف الأحمر للأشعار فإن هناك أيضا من يثبت له الثقة والنزاهة. يقول صلاح الدين الصفديّ عن خلف (١) «كان راوية ثقة علّامة يسلك الأصمعيّ طريقه ويحذو حذوه حتى قيل : هو معلم الأصمعي ، وهو والأصمعيّ فتّقا المعاني وأوضحا المذاهب وبينّا المعالم» بل إن الزركلي ينقل قول معمّر ابن المثنى أن خلف الأحمر معلّم الأصمعي ومعلم أهل البصرة (٢).

ولا شك أن كل هذه شهادات علمية جيدة في حق خلف. وإذا كان خلف قد انتحل الشعر على بعض العرب فربما كان ذلك في بداية حياته وكان يقلد القدماء ليحاكي ألفاظهم.

يقول الصفديّ : (٣) «ولم يكن فيه ما يعاب به إلا أنه كان يعمل القصيدة يسلك فيها ألفاظ العرب القدماء وينحلها أعيان الشعراء».

والخليل بن أحمد كان معاصرا له فقد توفي خلف عام ١٨٠ ه‍ ـ ٩٧٦ م تقريبا ـ على حد تعبير الزركلي في الأعلام ـ (٤). بالإضافة إلى أن

__________________

(١) الوافي بالوفيات ١٣ / ٣٥٤.

(٢) الأعلام ٢ / ٣١٠.

(٣) الوافي بالوفيات ١٣ / ٣٥٤.

(٤) الأعلام ٢ / ٣١٠ ، وانظر الوافي بالوفيات ١٣ / ٣٥٣.

٤٤

ألفاظ القصيدة لا تشابه ألفاظ القدماء فقد عبّرت عن الخليل خير تعبير وتساوقت مع أشعاره الأخرى في ألفاظها ومعانيها.

أما انتحال خلف للشعر الذي أشار إليه المؤرخون ، فربما قد تمّ لفترة محدودة في مقتبل حياته. أقلع عن ذلك وتنسّك وأعلن عن كل شيء انتحله ولنقرأ هذا النص المنقول عن أبي الطيب اللغوي حيث يقول (١) : «كان خلف الأحمر يصنع الشعر وينسبه إلى العرب فلا يعرف ثم نسك وكان يختم القرآن كل يوم وليلة ، وبذل له بعض الملوك العظماء مالا على أن يتكلم في بيت شعر شكّوا فيه فأبى ذلك وقال : قد مضى لي فيه ما لا أحتاج أن أزيد عليه. وكان قد قرأ أهل الكوفة عليه أشعارهم فكانوا يقصدونه لما مات حمّاد الراوية ، فلما نسك خرج إلى أهل الكوفة يعرفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس».

إن تنسكه وختمه القرآن كل يوم وليلة ورفضه لعرض بعض الملوك وإصراره على إخبار الناس بما انتحله لتوبة صادقة ، وصارت بعد ذلك حياته أقرب إلى الثقة منه الى الانتحال ، لهذا يبقى ما ورد في كتابه «مقدمة في النحو» عن نسبة المنظومة النحوية الى الخليل بن أحمد يقينا حسبما ورد في الكتاب ، إذ لو كانت القصيدة ليست للخليل لكان أعلن ذلك للناس أو حذفها من كتابه ، لأنه كان يشير إلى المنحول المسموع فما بالنا بالمكتوب لديه ، ولا أظن أن كتابه قد اشتهر وخرج إلى الناس في حياته ، ولو كان ذلك قد تم لكان قد أعلن انتحال هذه المنظومة على الخليل ، إن الانتحال في رأيي لا يكون في نسبة قصيدة نحوية لصاحبها ولا أظن أن في الأمر شيئا آخر غير الحقيقة في هذه النسبة. (٢)

__________________

(١) الأعلام ٢ / ٣١٠ ، وانظر الوافي بالوفيات ١٣ / ٣٥٣.

(٢) الوافي بالوفيات ١٣ / ٣٥٥.

٤٥

ولعل فيما يلي ـ إضافة إلى قول خلف الأحمر ـ دليلا على صحة نسبة المنظومة للخليل.

أولا ـ وجود عشر نسخ من نص المنظومة المنسوبة للخليل ، بخطوط لنسّاخ مختلفين بعضها في دائرة المخطوطات والوثائق بوزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان ؛ وفي بعض المكتبات الخاصة مثل نسخة مكتبة معالي السيد محمد بن احمد البوسعيدي ونسخة مكتبة الفاضل الشيخ سالم بن حمد بن سليمان الحارثي بالمضيرب (١) (٢).

ثانيا ـ نسبت القصيدة في النسخ السابقة إلى الخليل بن أحمد ، باستثناء النسخة (ب) التي لم يذكر ناسخها نسبتها إلى أحد ، والملاحظ أيضا أن قصيدة الخليل في النسخة (ب) لم تنسب الى غير الخليل فربما سقط من الناسخ ذكر مؤلفها نسيانا ، وعلى هذا يلاحظ أن أحدا من النساخ لم ينسبها إلى غير الخليل بن أحمد ولم يشك أحد من النسّاخ في تلك النسبة. وما ورد في نهاية النسخة (أ) من نص منظومة الخليل لا يعد من هذا حيث يقول.

تمّت قصيدة الخليل بن أحمد العروضي رحمة الله عليه وعلى جميع المسلمين والمسلمات آمين. وصلّى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم تسليما. تمّ معروضا عليّ حسب الطاقة والإمكان والله اعلم بصحته».

فقد كان الناسخ أمينا مع نفسه وكان حريصا في مجموعه الذي ضمّ منظومة الخليل أن يقول تلك العبارة أو قريبا منها في كل مخطوطة يكتبها حتى تبرأ ذمته ، بل ذكر صراحة في مرة من المرات أن مخطوطه الذي نسخه عرض على نسخة من بعض النسخ» وهذا يظهر أمانته التي اقتضت منه تلك العبارة «والله أعلم بصحته» إذ لو كان يشك في تلك النسبة ما كان قد نسب المنظومة إلى الخليل بن أحمد صراحة في أولها ، والقصد أن الله أعلم بصحة النص المقدّم الذي نقل عنه.

__________________

(١) ولاية من ولايات سلطنة عمان.

(*) المضيرب قرية بولاية القابل بالمنطقة الشرقية بسلطنة عمان (ن).

٤٦

ثالثا ـ لم أجد أحدا من النسّاخ أو من غير النسّاخ يشكك في صحة نسبة هذه المنظومة إلى الخليل بن أحمد إلا ما ورد على لسان الدكتور إبراهيم السامرائي عند ما كان يتكلم عن المصطلحات النحوية في كتابه «المدارس النحوية» ، وتوقف أمام مصطلح النسق. نجده يقول (١) : «النسق من مصطلحات الخليل ، فقد جاء في «مقدمة في النحو» (٢) أن للخليل قصيدة في النحو ، جاء فيها بيتان يتحدث فيهما عن النسق وحروفه مستعملا كلمة النسق ، وهما :

فانسق وصل بالواو قولك كلّه

وبلا وثمّ واو فليست تقعب (٣)

الفاء ناسقة كذلك عندنا

وسلبها رحب المذاهب مشعب (٤)

وإذا صحّت هذه الأبيات ـ ولا أراها تصح ـ فالذي يعنينا أن النسق قديم ، وقد التزم به الكوفيون كما استعمله البصريون ليفرقوا في (باب العطف) بين عطف البيان وعطف النسق».

ولست أدرى فيما إذا كان المقصود بصحة الأبيات عند السامرائي صحة دلالتها على القضية المستشهد لها؟ ام يكون المقصود منها ان نسبتها جاءت على سبيل حذف المضاف من كلام الدكتور السامرائي ، مع ملاحظة أنه كان من الأفضل ألا يترك هذا الأمر غامضا بحذف المضاف لما يترتب عليه من أحكام.

__________________

(١) في كتابه «المدارس النحوية» أسطورة وواقع ، عمّان الطبعة الأولى ١٩٨٧ م ص ١٣٥ ، ١٣٦.

(٢) يقصد كتاب خلف الأحمر.

(٣) نلاحظ كلمة القافية «تقعب» التي جاءت مخالفة لما جاء في كتاب خلف الأحمر وكل نسخ المخطوط.

(٤) وردت كلمة «وسلبها» بدلا من «وسبيلها» والأولى خطأ لأنها تؤدي إلى الإخلال بموسيقى البيت ، وهي أيضا مخالفة لما ورد في كتاب خلف وجميع نسخ المنظومة.

٤٧

وبتأمل كلام الدكتور السامرائي نقول : لو كان المقصد بالكلام دلالته وصحته لكان هو المسؤول عن ذلك لأنه نقل الكلام خطأ من كتاب خلف الأحمر فأدى ذلك إلى الإخلال بموسيقى البيت الثاني ، وعدم انسجام المعنى في البيت الأول (تقعب). ولو كان القصد عدم صحة نسبة الأبيات إلى الخليل فلم يقدم لنا دليلا على شكّه فما أسهل أن ينفي الإنسان شيئا دون تعليل ، علاوة على أنه استشهد بالأبيات على قضية استخدام البصريين ـ ومنهم الخليل ـ لكلمة النسق قائلا : «استعمله البصريون ليفرقوا في باب العطف بين عطف البيان وعطف النسق» وفي هذا اعتراف له بأنها قصيدة الخليل ، وكأنّ كل همّه كان في إثبات وجود مصطلح (النسق) عند البصريين ، ويبدو أن الدكتور السامرائي لم يشأ أن يتعب نفسه في التأكد من استخدام الخليل لهذا المصطلح ، ولو توجّه إلى كتاب (الجمل) الذي حققه الدكتور فخر الدين قباوه ، والذي نسب إلى الخليل لكان قد وجد هذا المصطلح يتردد كثيرا على لسان الخليل ، وسوف نفرد لذلك حديثا خاصا عند كلامنا عن مصطلحات المنظومة.

رابعا ـ لعل تعليق الاستاذ «عز الدين التنوخى» الذي حقق كتاب خلف الأحمر «مقدمة في النحو» يحمل دلالة خاصة على ما نحن فيه ، فعندما أشار خلف الأحمر إلى حروف العطف قال : «وقد ذكرها الخليل بن أحمد في قصيدته في النحو ، وهي قول الشاعر قائلا .. إلخ» حينئذ يعلق عز الدين التنوخي على «قول الشاعر» (١) : «وصواب التعبير أن يقال (وهي قوله لعودة التعبير على متقدم ولعله أراد أن يشير إلى أن الخليل كان شاعرا ، وكان بالفعل شاعرا والنحاة لا يذكرون أنّ له قصيدة في النحو ، وإن كانت كتب المصنفين

__________________

(١) هامش ص ٨٦ من كتاب مقدمة في النحو.

٤٨

لا تذكر بأجمعها في إثبات مصنفاتهم ، فعلى هذا تكون هذه القصيدة ـ إن صحّت نسبتها ـ هي من جملة ما ضاع من كتب الخليل».

هذا النص ـ على قصره ـ يكشف عما يلي :

(أ) أن كتب المصنفين لا تذكر بأجمعها في إثبات مصنفاتهم وعلى هذا فلا غرابة أن يكون للخليل تلك القصيدة النحوية دون أن تنسب إليه.

(ب) ضياع جزء كبير من مؤلفات الخليل ، وهذا واضح أيضا من خلال كتب التراجم والسير ومعاجم المؤلفين ، وبهذا يمكن أن تكون تلك القصيدة النحوية قد طمرت حبيسة المجاميع اللغوية وغير اللغوية حتى كشف عنها الستار.

(ج) تكشف هذه القصيدة عن شاعرية الخليل بن أحمد العميقة بأمثلتها الغزلية ومعانيها الرقيقة وابتعادها عن الأسلوب الجاف الذي يحكم المنظومات النحوية غالبا مما يجعلنا نكاد نسميها «قصيدة» لا «منظومة» ولعل هذا ما جعلها مطمورة ضمن أعمال الخليل الشعرية دون اهتمام من النحاة بها حيث إنها دالة على شاعريته لا على كونه ناظما أو قائلا منظومة نحوية.

خامسا ـ من الأدلة الواردة التي تثبت صحة نسبة هذه القصيدة إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي ما قاله صاحب كتاب «إتحاف الأعيان»

(١) من أن للخليل عدة أشعار منها البيتان والثلاثة ومنها أكثر من ذلك ثم قال : «ومن نظمه قصيدة في النحو أولها :

الحمد لله الحميد بمنّه

أولى وأفضل ما ابتدأت وأوجب

حمدا يكون مبلغي رضوانه

وبه أصير إلى النجاة وأقرب

__________________

(١) إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان تأليف الشيخ / سيف بن حمود البطاشي ، الطبعة الأولى ١٤١٣ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، الجزء الأول ، ص ٦٣ ، ٦٤ ، ٦٥.

٤٩

واستمر المؤلف في ذكر قصيدة الخليل حتى البيت رقم ٢٦ الذي يقول فيه :

فإذا نطقت فلا تكن لحّانة

فيظل يسخر من كلامك معرب

ثم قال بعد هذا البيت مباشرة (١) عن قصيدة الخليل النحوية : «وهي أطول من هذا ، يقول في آخرها :

النحو بحر ليس يدرك قعره

وعر السبيل عيونه لا تنضب

فاستغن أنت ببعضه عن بعضه

وصن الذي علمت لا يتشعّب

واستمر في ذكر ما جاء عن الخليل من أشعار أخرى مثل قوله :

يا ويح قلبي من داعي الهوى

إذ رحل الجيران عند الغروب

اتبعتهم طرفي وقد أزمعوا

ودمع عيني كفيض الغروب

بانوا وفيهم طفلة حرّة

تفتّر مثل أقاحي الغروب

ولعل ذكر منظومة الخليل النحوية ضمن أشعاره في المؤلفات المختلفة دليل على ما سبق وقلناه من أن ذلك كان سببا في عدم ظهور وكشف هذه المنظومة الشعرية للخليل ، وأيضا فإن النص الوارد في كتاب (إتحاف الأعيان) دليل آخر على صحة نسبة هذه القصيدة إلى الخليل بن أحمد.

__________________

(١) إتحاف الأعيان ١ / ٦٤ ، ٦٥.

٥٠

٣ ـ منهج الخليل في المنظومة

لم يكن التأليف النحويّ في عصر الخليل وقبله قد استقر أو أصبح له أصول وقواعد ، فالأمر كان في حيّز البدايات التأليفية ، والبداية عادة تجربة خاضعة للفشل أو النجاح ، والخليل في منظومته كان حريصا كل الحرص على الجانب التعليمي للمتلقي ، فجاء ذلك على حساب القواعد النحوية غير المفصلة ، وحرم النحو العربي من تفصيلات كان في حاجة إليها ، ربما كان صنيع الخليل موافقا للشادين في النحو ، الحريصين على سلامة الجملة بمعرفة أقل القواعد وأيسرها دون التعمق في تفصيلات أو فلسفات نحوية أو ذكر تقسيمات نحوية للظواهر المختلفة ، أما الدارسون الذين يطلبون النحو مفصلا ومعللا فلا يجدون ذلك عند الخليل في منظومته ، ويبدو أن الخليل كان حريصا على أن يفرق في منظومته بين مستويين :

(١) المستوى الأول : مستوى عوام الناس الذين يريدون تعلّم النحو ، ولا حاجة لهم إلى تفصيلات ، أو الولوج في أعماق هذا البحر الخضم المتلاطم الأمواج ، وعلى هؤلاء الحذر والأقتصاد في تناول المادة النحوية ، وقد أظهر ذلك في الأبيات الثلاثة الأخيرة في المنظومة.

(٢) المستوى الثاني : مستوى الدارس المتخصص ، وفي هذه الحالة لا بد من التعمق والبحث في المسائل الخلافية والعلل النحوية ، وعلى هؤلاء أن يلجوا الأعماق.

ويبدو واضحا أن المنظومة جاءت لخطاب المستوى الأول ؛ لهذا كانت سماتها تتفق وهؤلاء ، وفيما يلي نعرض لسمات التأليف النحوي عند الخليل في منظومته.

(١) جاءت المنظومة بعيدة عن المسائل الخلافية التي كانت مثار حوار

٥١

وجدل كبير بين النحويين ، ولم تعرض المنظومة رأيا مخالفا لرأي الخليل ، أو رأيا لغيره حتى ولو كان موافقا لرأيه إلا في حالة واحدة فقط عند ما ذكر (قطربا) وهذه الحالة موطن لحديث مستقل ، كذلك لم يعلل الخليل للقواعد الواردة ، مع اننا نعلم أنه كان مولعا بالعلل وذكرها والحديث عنها ، ويبدو أنه كان يدرك أن المنظومة التعليمية يجب أن تتخلى عن ذلك.

وما فعله أصحاب المنظومات النحوية فيما بعد جاء مخالفا لصنيع الخليل ، فقد كان مؤلفوها يذكرون الآراء الراجحة والمرجوحة ويعللون ويفسرون ، ويرجحون رأيا على رأي آخر مع تقديم الأسباب والمبررات.

(٢) اهتم الخليل بالقاعدة النحوية والتمثيل لها ، لكنه لم يهتم بالشاذ الخارج عن القاعدة ، فلم يذكر شاذا أو يمثل لشيء منه إطلاقا ، وهذا النهج الذي اتبعه الخليل راعى فيه أن طالب النحو في بداية أمره ليس في حاجة إلى الشاذ الخارج عن القاعدة ، فالأفضل أن يقتصر الأمر على أصل القاعدة دون خروج عنها.

(٣) لم يهتم الخليل بالجزئيات النحوية أو التفريعات والتقسيمات ، كذلك لم يهتم بتفصيل القاعدة نظريا ، وانصبّ اهتمامه على ذكر القاعدة العامة دون ذكر تفصيلاتها ، ثم التركيز بعد ذلك على التمثيل المفصّل ، وهذا النهج فيه بعض الصعوبة لطالب علم النحو إلا إذا استعان بمعلّم يفسّر ويوضح ما جاء من أمثلة تعطي كثيرا من تفريعات القاعدة ، لهذا لا بد من الاعتماد على معلّم ليضيء الملامح الخبيئة لجزئيات القاعدة النحوية.

وربما كان ذلك به بعض الصعوبة لمن ليست لديه أية معرفة بعلم النحو وقواعده.

(٤) ترك الخليل أبوابا نحوية هي من صلب النحو العربي مثل باب الحال أنواع المعارف ، الاشتغال ، التنازع ، العدد وكناياته ، أسماء الأفعال ،

٥٢

التمييز ، الإضافة ، مع أنه قد أشار إلى بعضها عرضا في بعض الأحيان مثل (التعريف والتنكير) ، أو مثّل لبعضها في سياقات أخرى مثل (الحال) لكنه لم يذكر قواعد تدل على تلك الأبواب ، وهناك بعض الأبواب ذكرت ضمنا متداخلة مع أبواب نحوية أخرى مثل : (الإعراب والبناء) ، (الإعراب الأصلي) والإعراب الفرعي بأشكاله المختلفة ، فهذه القواعد النحوية لم تذكر مفصلة ، ربما لأنها داخلة في كل الأبواب النحوية تقريبا ، وتكررت نماذحها في معظم الأبواب النحوية عند التمثيل.

(٥) جاء أسلوب الخليل سهلا ميّسرا بعيدا عن الالتواء والتعقيد ، كما جاء واضحا فيما هدف إليه من القواعد العامة ، كما جاءت أمثلته معبّرة عن معان ودلالات مقصودة.

(٦) كان الخليل بارعا عند ما صنع مقدمة لمنظومته ، استطاع من خلالها أن يمهّد نفسية المتلقي لقبول هذا العلم الذي يتسم ـ عند البعض ـ بالصعوبة كما ، ظهرت في المقدمة ثقة الخليل بنفسه عند ما قال :

إني نظمت قصيدة حبّرتها

فيها كلام مونق وتأدب

لذوي المروءة والعقول ولم أكن

إلا إلى أمثالهم أتقرّب

عربية لا عيب في أبياتها

مثل القناة أقيم فيها الأكعب

وقد ظهر في المقدمة أيضا ظرف الخليل وفكاهته ، كما ظهرت قدرته البارعة على الانتقال الهادئ السلس من المقدمة إلى الموضوع الأول عند ما قال :

فإذا نطقت فلا تكن لحّانة

فيظل يسخر من كلامك معرب

النحو رفع في الكلام وبعضه

خفض وبعض في التكلم ينصب

فقبل أن يذكر أولى قواعده طلب من المتلقي أن يكون حذرا عند النطق حتى لا يلحن فيثير سخرية الآخرين ، ثم انتقل بعد ذلك انتقالا مباشرا إلى الحديث عن القواعد النحوية ، وبدأها بداية طبيعة بمعرفة أحوال أواخر الكلم.

٥٣

كذلك كان الخليل بارعا في ختام قصيدته عند ما قال في نهاية الحديث عن القواعد النحوية :

النحو بحر ليس يدرك قعره

وعر السبيل عيونه لا تنضب

فاقصد إذا ما عمت في آذيّه

فالقصد أبلغ في الأمور وأذرب

واستغن أنت ببعضه عن بعضه

وصن الذي علمت لا يتشذب

فالخليل يشير إلى أن النحو بحر عميق وطريقه وعر وعيونه فياضة فعلى من يقترب منه أن يكون حذرا ، وعلى متعلم النحو أن يقتصد في بداية أمره حتى لا تطيح به الأمواج العاتية ، ويجب أن يأخذ منه المتلقي القدر المناسب تدريجيا وهذه سمة المعلم الحقيقي أن يكون مرشدا لطلابه في كيفية تناول القواعد لا أن يقدمها له فقط.

٥٤

ثالثا : مصطلحات الخليل

لم يكن الخليل بن أحمد أول من تكلم في النحو وبسط آراءه في قضاياه واستخدم مصطلحاته الكثيرة ، فقد سبقه من تحدث في النحو وتكلم في مسائله ، وربما من وضع مؤلفا ضاع مع ما ضاع من التراث العربي ، بدءا من الإمام علي بن أبي طالب الذي أشيع عنه أنه وضع مقدمة في النحو أخذها عنه أبو الأسود الدؤلي (١) ـ كما قيل ـ ثم بدأ في تأصيل النحو العربي ، وربما اشترك معه عبد الرحمن بن هرمز ونصر بن عاصم (٢) وهم من تلاميذه ، ومرورا ببقية تلاميذ أبي الأسود مثل ابنه عطاء وميمون الأقرن وعنبسة الفيل ويحيى بن يعمر ، ثم جاء عبد الله بن اسحاق وطبقته من أمثال عيسى بن عمر الثقفي وأبي عمرو بن العلاء ، ثم جاء الخليل بن أحمد بعد كل هؤلاء فاهما واعيا كل ما قيل من قبله وكل ما طرح من قضايا النحو العربي.

جاء الخليل مع طبقته وتلاميذه من أمثال يونس بن حبيب والأصمعي وسيبويه والنضر بن شميل وأبي مفيد مؤرج بن عمرو السدوسي ، وعلي بن نضر بن علي الجهضمي ليخطو بالنحو خطوات واسعة متنامية إلى التطور وتأصيل مصطلحاته وتأسيس قضاياه والوصول به إلى مرحلة النضج والاكتمال.

وكان الخليل على رأس من قدّم لنحو العربية هذه الدفعة القوية بتعليلاته وآرائه ، وأيضا من جعل للنحو البصري ملامح خاصة ومنهجا محددا متضح المعالم ، وبالتالي شيوع المصطلحات النحوية الدقيقة التي ما زالت تستخدم حتى الآن على ألسنة المعلمين والدارسين ، لعل استخدامه المصطلحات من خلال المنظومة ومقولاته وشروحاته الشفوية لتلاميذه وأيضا من خلال كتابه «الجمل» ، هو الذي لفت نظر تلميذه

__________________

(١) انباه الرواة للقفطي ١ / ٥.

(٢) طبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص ٢.

٥٥

سيبويه إليها لتشيع في حقل النحو العربي من خلال «الكتاب» الذي كان للخليل دور كبير فيه.

وإذا كانت هذه المنظومة النحوية للخليل هي أول منظومة ؛ في النحو العربي ، بل هي أول عمل يأتي مخطوطا محفوظا دون تشويه فإن المصطلحات والقضايا الواردة به سيكون لها دور كبير في تأصيل النحو البصري وتجسيد المصطلح النحوي لدى البصريين ، وخاصة أن ما وصلنا من مخطوطات نحوية كتبت في القرن الثاني الهجري قليل يعدّ على أصابع اليد الواحدة ، منه تلك المنظومة النحوية وكتاب الجمل في النحو العربي ، وكتاب سيبويه مما يجعلنا نقول : إنه من خلال هذه الأعمال النحوية أولا ومما ورد مع بداية القرن الثالث الهجري من أعمال نحوية مثل «مقدمة في النحو» لخلف الأحمر وغير ذلك فإننا نستطيع التأريخ للمصطلح النحوي بشكل أكثر دقة مما سبق.

ولا أبالغ إذا قلت بعدم وجود تعارض في استخدام المصطلحات النحوية بين المنظومة النحوية وما ورد على لسان الخليل في كتابه «الجمل» وما ورد عند سيبويه في (الكتاب) على لسان الخليل ، ولعل هذا ما يجعلنا مطمئنين إلى نسبة هذه المنظومة إلى الخليل أيضا.

انطلاقا مما مضى نؤكد أن الباحث لا يستطيع رصدا دقيقا وتحديدا جادا لتاريخ المصطلحات النحوية نظرا لعدم تدوين النتاج النحوي كاملا ، وخاصة لدى طبقات النحويين الأوائل الذين تكلموا في قضايا النحو العربي ، وأيضا لعدم وضوح الرؤية من خلال الغموض والابهام أو الأقوال المتضاربة لدى بعض النحويين حول جزء من المصطلحات الواردة في ثنايا علم النحو. ولهذا سنحاول التعليق على المصطلحات الواردة في المنظومة مع المقارنة بتلك المصطلحات الواردة على لسان الخليل في بعض أعماله الأخرى مثل «الجمل في النحو العربي» ومعجم «العين» وما ورد عند سيبويه منقولا عن الخليل.

٥٦

النسق :

اعتبر النحاة مصطلح «النسق» من مصطلحات الكوفيين ونسب إلى الكوفة ، مع أن المصطلح ولد على يد الخليل واستخدمه في ثلاثة مصادر :

أولا : في المنظومة النحوية

عند ما قال (١) :

١٥٦ وإذا نسقت اسما على اسم قبله

أعطيته إعراب ما هو معرب

١٥٧ فانسق وقل بالواو قولك كله

وبلا وثم وأو فليست تعقب

١٥٨ والفاء ناسقة كذلك عندنا

وسبيلها رحب المذاهب مشعب

فقد استخدم الخليل ثلاثة أشكال للكلمة وهي : نسقت ـ انسق ـ ناسقة ، بل إن العنوان الذي ورد بالمخطوطات قبل هذه الأبيات مباشرة هو : «باب النسق» وهو تعبير مباشر بالاصطلاح المصدري الذي شاع لدى الكوفيين فيما بعد ونسب إليهم. بالإضافة إلى استخدام الخليل للفعلين الماضي والأمر (نسقت ـ انسق) ولاسم الفاعل (ناسق) :

ثانيا : في معجم العين :

استخدم الخليل كلمة (النسق) في معجم العين (٢) حينما قال : «النسق من كل شئ : ما كان على نظام واحد عام في الأشياء ، ونسقته نسقا ونسقته تنسيقا ، ونقول : انتسقت هذه الأشياء بعضها الى بعض ، أي تنسّقت» وهو بهذه الدلالة له علاقة قوية بمعنى النسق باعتباره مصطلحا نحويا.

ثالثا : في كتاب الخليل الموسوم ب «الجمل في النحو العربي» :

استخدم الخليل هذا المصطلح كثيرا في كتابه (الجمل) (٣) وسأكتفي ببعض النماذج الواردة بين ثناياه تدليلا على وجوده. يقول الخليل (٤) : «وتقول : إن زيدا خارج ومحمد. نصبت زيدا بإنّ ، ورفعت «خارجا» لأنه خبره ،

__________________

(١) الأبيات من ١٥٦ ـ ١٥٨.

(٢) معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي ٥ / ٨١ مادة (نسق).

(٣) الجمل ، ص ١٢٨ ـ ١٣٠ ـ ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ـ ٣٠٢ ... الخ.

(٤) الجمل ١٢٨.

٥٧

ورفعت محمدا لأنه اسم جاء بعد خبر مرفوع ، وإن شئت نصبت محمدا ؛ لأنك نسقته بالواو على زيد».

ثم يورد الخليل عنوانا يحمل اسم المصطلح صراحة وهو : [واو العطف وإن شئت قلت واو النسق](١) ثم يقول تحت هذا العنوان : «وكل واو تعطف بها آخر الاسم على الأول أو آخر الفعل على الأول ، أو آخر الظرف على الأول ، فهي واو العطف. مثل قولك : كلمت زيدا ومحمدا ؛ ورأيت عمرا وبكرا. نصبت «زيدا» بإيقاع الفعل عليه ، ونصبت «محمدا» لأنك نسقته بالواو على زيد وهو مفعول به».

وفي موضع آخر (٢) عند ما يتكلم الخليل عن أنواع (لا) يقول : «ولا للنّسق : قولك : رأيت محمدا لا خالدا ، ومررت بمحمد لا خالد وهذا محمد لا خالد».

وهناك مواضع أخرى ذكر فيها الخليل كلمة «النسق» وما اشتق منها ، وكلها تثبت استخدام الخليل للمصطلح وتحديده الدلالي له تحديدا دقيقا ، وكذلك تؤكد وضوح الرؤية لهذا المصطلح لدى الخليل الذي أخذ عنه النحاة البصريون والكوفيون هذه المصطلحات لتشيع في حقل النحو العربي.

يضاف إلى ما سبق أن خلف الأحمر نقل عن الخليل الأبيات التي تحمل كلمة «النسق» ونسبها صراحة إلى الخليل ، بل وأشار خلف الذي كان معاصرا للخليل وتوفي بعده بسنوات قليلة إلى المصطلح الوارد عند الخليل صراحة في قوله (٣) تحت «باب حروف النسق» «فنسق بها ، فإذا أتيت برفع ثم نسقت بشئ من حروف التنسيق رددت على الأول ، وكذلك إذا نصبت وخفضت ثم أتيت بحروف النسق رددت على الاول. وحروف النسق خمسة ، تسمى حروف العطف ، وقد ذكرها الخليل بن أحمد في قصيدته

__________________

(١) الجمل ٢٨٥.

(٢) الجمل ٣٠٢.

(٣) مقدمة في النحو لخلف الأحمر ص ٨٥ ، ٨٦.

٥٨

في النحو وهي :

فانسق وصل بالواو قولك كله ... إلخ» وكلام خلف الأحمر يدل ـ دلالة واضحة ـ على شيئين :

الأول : استخدام الخليل للمصطلح.

الثاني : شيوع المصطلح لدى البصريين.

بالإضافة إلى التصريح بأن هذه المنظومة إنما هي للخليل وليست لغيره.

نستطيع بناء على ما سبق ـ تأكيد أن مصطلح «النسق» بصري النشأة ، وربما كان الخليل هو أول من استخدمه ، فلم يثبت لدينا ورود هذا المصطلح قبل الخليل عند نحاة الطبقات التي سبقته ، وأن نحاة الكوفة قد أخذوا هذا المصطلح عن البصريين فشاع على ألسنتهم ، ولعل شيوع هذا المصطلح عند الكوفيين جعل الدكتور مهدي المخزومي يشير إلى أن مصطلح (النسق) من طائفة المصطلحات الكوفية الخالصة التي لم يعرفها البصريون ، فقد وضع هذا المصطلح ضمن الطائفة السابقة حسب تقسيم ثلاثي وضعه (١) لتصنيف المصطلحات النحوية ثم قال تحت مصطلح «النسق» (٢) : «وهو عبارة كوفية ، يقابلها عند البصريين : العطف بالحرف ، كالواو والفاء وثم وغيرهن والمصطلح الكوفي (النسق) فيما يبدو لي أدق من المصطلح البصري لاختصاره وغنائه عن التخصيص والتقييد».

والشئ الصحيح في كلام الدكتور مهدي المخزومي أن مصطلح «النسق» أدق من مصطلح العطف بالحرف لاختصاره وغنائه عن التخصيص والتقييد ، ولكن من غير الصحيح أن يقال أن المصطلح كوفي ، وذلك لاستخدام البصريين له بدءا من الخليل الذي كان سابقا للمدرسة الكوفية زمنا واستخداما له. وأعتقد أن الدكتور المخزومي لو وقع على ما وقعت عليه

__________________

(١) مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو ص ٣٠٥.

(٢) مدرسة الكوفة ص ٥١٣.

٥٩

مما قدمته قبل قليل لكان له رأي آخر فيما ذهب إليه.

وإذا كان بعض المحدثين قد شكوا في نسبة هذه المنظومة النحوية للخليل ابن أحمد إلا أنهم اعترفوا في نهاية الأمر بأن المصطلح بصري خليلي يقول (١) الدكتور ابراهيم السامرائي بعد أن قدّم شكوكه ـ وقد مرّ ذلك من قبل ـ في صحة نسبة هذه المنظومة للخليل : «وشاع أيضا أن «النسق» مصطلح كوفي ، والذى عرفناه أن النسق جاء في كلام الخليل ب «العين» وذكره سيبويه في [الكتاب]» ، وأضيف إلى كلامه ورود المصطلح في منظومة الخليل النحوية وفي كتابه «الجمل».

ولعل الأدلة السابقة ترد أيضا على أحد الباحثين المحدثين (٢) عند ما أشار إلى أن نحاة الكوفة كانوا أجرأ النحاة الذين حاولوا مخالفة المصطلحات البصرية ، كما ورد عند الخليل وسيبويه ، فكأنهم رأوا أن اكتمال مذهبهم النحوي لا يتم إلا بإيجاد مصطلحات مقابلة لما وصلهم من مصطلحات البصريين وعدّ الباحث من ذلك استخدامهم لحروف النسق بدل العطف ثم قال : «على أن تلك المصطلحات الكوفية لم يعش منها إلا القليل نحو :

النعت والنسق والأدوات ، وما عدا ذلك فقد بقيت المصطلحات البصرية شائعة ذائعة ، وكتب لكثير من المصطلحات التي جاءت على لسان الخليل وتلميذه سيبويه أن تخلد وتبقى على مرّ الأيام نحو الاسم والفعل والحرف والفاعل .. إلخ» (٣).

ويبدو أن ما شاع من المصطلحات على أنه مصطلح كوفي إنما هو بصريّ النشأة والنمو ، وقد انتقل إلى بيئة كوفية ، ولعل ما ورد عند الخليل من استخدامه (النسق) دليل على ذلك ، وأيضا لاستخدامه مصطلح (النعت)

__________________

(١) المدارس النحوية ص ١٥٤.

(٢) هو الدكتور جعفر نايف عبابنه في كتابه «مكانة الخليل في النحو العربي» ص ١٧٧.

(٣) مكانة الخليل في النحو العربي ص ١٧٨.

٦٠